المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : اسطرة التاريخ و تأصيل اللغة في تجربة ابراهيم درغوثيالروائية



ابراهيم درغوثي
03/10/2007, 06:28 PM
أسطرة التاريخ وتأصيل اللغة في تجربة
إبراهيم درغوتي الروائية

الحبيب الدائم ربي / المغرب


يمكن القول، ومن دون مجازفة كبيرة، بأن الكاتب التونسي إبراهيم درغوتي ينتمي إلى تيار التأصيل الروائي العربي، الذي مثل الأديب الراحل محمود المسعدي أحد رواده الكبار بتونس، قبل أن يوسع مجراه إميل حبيبي وجمال الغيطاني وسواهما من الكتاب، المجايلين والتابعين ،على امتداد الوطن العربي. وتتلخص سمات هذا التيار في استيحاء التراث العربي الإسلامي- بوجه عام- لتشييد معمارية روائية "حداثية" تحاول ربط حاضر الفن الروائي بالجذور الحكائية العربية القديمة، الممثلة في السير والملاحم والمغازي والمرويات.ولاشك أن الكتابة بالتراث،أي توظيف التراث كآلية من آليات إنتاج الأشكال والخطابات السردية ، طرح ويطرح استشكالات عديدة تسائل هوية الكتابة الروائية العربية وتجنيسها ووظيفتها معا. من منطلق سعيها إلى نشدان الحداثة عبر التراث والعبور إلى المستقبل بواسطة الموروث مع ما في ذلك من مغامرات محسوبة وغير محسوبة أحيانا.
ومن يتأمل تجربة درغوثي في الكتابة الروائية- بدءا بروايته الأولى " الدراويش يعودون إلى المنفى"(1992) مرورا بـ"القيامة...الآن" (1994) و"شبابيك منتصف الليل"(1996) و"أسرار صاحب الستر" (1998) و"وراء السراب...قليلا" (2002)... إلى آخر ماكتبه من سرود ومجاميع قصصية، سيتبدى له هذا النزوع التأصيلي المرتكز على أسطرة التاريخ البعيد والقريب و إعادة إنتاج اللغة المعتقة ، بغرض تشخيص مفارقات التاريخ القريب واليومي – حالا بحال - وبناء منجز سردي له خصوصياته النوعية.
وإذا ما اقتصرنا على التمثيل بروايتي"أسرار صاحب الستر" و"وراء السراب ...قليلا"- وهما فيما نظن تمثلان بجلاء التوجه العام الذي يحدد رؤية الكاتب درغوثي إلى الكتابة وإلى العالم- سنلمس بوضوح كيف يتحول التاريخ إلى تمثل أسطوري وكيف تنهض اللغات القديمة والمحكيات من أقمطتها لتؤدي أدوارا جديدة منضافة إلى سابق أدوارها. بحيث يغدو المتن الحكائي المستلهم من التراث، بشخوصه وفضاءاته ولغاته، مجرد استعارة يتم الاتكاء عليها لتعرية الواقع الحالي أو الماضي الذي لمّا يدفن بعد. بل هي تورية ذات منحيين دلاليين: منحى قريب ينحصر في المنطوق المتني بما يزخر به من تغريب وتعجيب، ومنحى بعيد- وهو المتغيأ بالأساس- يروم فضح "الأسرار" ونزع نظارات " السراب" عن العيون والعقول.
فـرواية "أسرار صاحب الستر" تقوم في جزء هام منها على استعادة السيرة الذاتية المفترضة لـ"صاحب ستر الخليفة" أمير المؤمنين الوليد بن يزيد الأموي. وتتحدد وظيفة "صاحب الستر"، أو الحاجب، في كونه كان موكلا بالستارة التي كان الخليفة يجلس وراءها،في أسماره ولياليه الساهرة، متخفيا عن الدهماء من المغنين والقيان والمهرجين. إنه صلة الوصل التي عبرها تمرر رغبات الخليفة إلى جوقة المغنين. ما لم نقل إنه صوت سيده وعينه وأذنه التي لاتنام مفردا وجمعا. والعنصر الدرامي في هذه السيرة، المستدخلة ضمن الرواية، يتمثل في ما سيفشيه" المؤتمن على السر" من أسرار خطيرة تهم نزوات الخليفة وشؤون الدولة وأمنها العام! بحيث سيماط اللثام، وبقسوة دالة، عن عري" ثياب الإمبراطور" التي كان يرتديها الخليفة الوليد ومن قبله ارتداها والده يزيد (الذي تيم بـ"حبابة" إلى درجة أنه ترك دار الخلافة وذهب إلى قصر " في بادية الشام محملا بالأطعمة والخمور وحبابة "(ص.42) طالبا من البنائين أن يسدوا عليه وعلى معشوقته كل منافذ القصر، وحين ماتت بين يديه ظل يحضنها غير مصدق، ليموت في الأخير كمدا عليها ويدفن بجانبها)، تاركا أمر الخلافة للقلاقل والفتن بين أنصار ابنه المستهتر الشرّيب الوليد وبين خصومه. وتتناسل الحكايات و الفضائح الفاضحات – والتي لم يحل دون ذيوعها مال ولا سيف- حول جور الولاة و الخلفاء ونزواتهم. فهذا والي الخليفة في الكوفة ينحر أضحيته على المنبر غب صلاة العيد في محفل رهيب، ولم تكن الأضحية سوى الفقيه الجعد بن درهم . وذاك الخليفة هشام بن عبد الملك يأمر بأن يقطع لسان غيلان الدمشقي ويمزق إربا بعدما لم ينفع معه حوار.. وما أكثر الأسرار التي تعرضها الرواية: "أسرار الأرواح المجنحة"(ص.69) و"سر الدوران عكس اتجاه الشمس" (ص.71)، و"سر عسل الجنة" (ص.75)،و"سر الدير" (ص.78)،و"سر إغلاق أبواب القصر دون المتقاضين لدى أمير المؤمنين" (ص.82)، و"سر حرارة غناء ابن عائشة"(ص.84)،و"سر الجارية التي صلت بالمؤمنين صلاة الصبح بالمسجد الجامع" (ص.88)، و"سر البركة المملوءة خمرا" (ص.90)، و "سر الرجل النازل من السماء" (ص.94)،و"سر السجدات الثلاث " (ص.99)،و"سر حزن الخليفة على الثائر يحي بن الوليد" (ص.102)، و"سر الطشت الفارغة" (ص.104)، و"سر نار المجوس" (ص.108)، و"سر الصندوق"(112)..هذا فضلا عن الأيام التي يشيب لسماع أخبارها الولدان، كـ"أيام النكد"(ص.115) التي تشمل "يوم الغضب الأكبر"(ص.116)، و"يوم الندامة"(119)،و"يوم القصاص"(ص.121)، و"يوم المؤامرة" (ص.114)....عدا الأخبار والنوادر والمغربات التي ترسم للتاريخ وجها أسطوريا، بل ومأساويا بصورة لا تقبل التصديق.
وليست سيرة " الوليد" سوى نواة لحكاية إطار بطلها عالم آثار غريب الأطوار،جاء من تونس العاصمة متقفيا التحف والآثار في "بلاد الجريد"(مسقط رأس الكاتب)،نابشا تحت الأساسات القديمة، قبل أن تودي به لعنة المخطوطات ، التي عثر عليها في صندوق تحت منبر الجامع الكبير. وطبعا تشكل سيرة الخليفة " الوليد" أحد أسرارها(الضمير هنا يعود على المخطوطات)...
****
وفي سياق تاريخي آخر تستعيد رواية : "وراء السراب... قليلا" فترة بداية الاحتلال الفرنسي لتونس،وما روج له المستعمر من وعود بتحسين مستوى عيش الأهالي، سيما مع اكتشاف الفوسفاط وجلب العمالة لأشغال الحفر من مختلف أنحاء بلدان المغرب العربي.إلا أن تبخر الآمال لدى العمال،واشتداد الأزمات،وكثرة الحيف والظلم سرعان ما فسحت المجال للأقاويل والخرافات التي تفسر أسباب تفشي الجوائح والأوبئة والانهيارات المتوالية في أنفاق جبال الفوسفاط، بتونس. من ذلك حكاية "الجواد الأبلق الذي طار بألف جناح ليطوف براكبه حول الكرة الأرضية..." (ص.25)، و حكاية " الساحر الرومي الذي حول الذهب إلى تراب" (ص.77)، وحكاية" مغارة علي بابا ... والأرواح الهائمة في أنفاق الجبل...ورجال برؤوس بغال وبغال برؤوس آدمية" (107)، وحكاية "الملائكة التي نزلت من السماء" (ص.103)، وحكاية "سلاطين الجن الذين أنجدوا جيش فرنسا فانتصرت على الألمان في الحرب الكبرى الأولى" (ص.162)....
وكما في رواية "أسرار صاحب الستر" فإن رواية "وراء السراب... قليلا" تنطلق من معطيات تاريخية معلومة لتبني متخيلها السردي، مالئة فجوات التاريخ بالتفاصيل والموتيفات الحكائية التي تجعله رغم واقعيته غرائبيا...والغرابة هنا لا تكمن في تحميل الوقائع التاريخية ما لا تحتمل، وإنما في استيحاء بعضها طازجة، حافية من أي لمسات قد تلطف من وقعها الصادم حد الإدهاش .بل لربما يكون الواقع المستوحى أكثر غرائبية من ممكنات اللغة الواصفة، من ثم كانت إعارة اللغات المفارقة القديمة أحد رهانات الكاتب للإمساك بانفلاتاته(أي انفلاتات الواقع). فالتاريخ الأقصى، أو التجسيد الأسطوري للواقع في لحظات معينة من التاريخ لا تحتويه سوى لغة لا تاريخية!
وكما تمتح الحكاية لدى درغوثي من معين تاريخي له تحققه في الزمان والمكان، إذ غالبا ما تستند على حامل بالوسع التأكد من حدوثه(في عمومياته) ضمن كتب الأخبار والحوليات، فإن الصوغ الحكائي بدوره يسير وفق المنطق ذاته، حين يستحضر أشكالا حكائية عتيقة لانبنائه.أشكال دارسة لكنها تحتفظ بوهج إعادة الاستعمال في محاكاة تقتدي بالنمط لتؤسس خصوصية الكتابة. مع ما قد يقود إليه هذا المسعى من مجازفات تشبه مسعى بطل جورج لوكاش الإشكالي الباحث عن قيم أصيلة بوسائل منهارة وغير أصيلة. وليس في هذا التشبيه أي حكم قيمي مادام الغرض من إيراده هو لفت النظر لما يطبع كتابة درغوتي وأضرابه - عبر توظيف التراث التاريخي واللغوي- من تناف وتنازع هما أصلا من خصائص الديالوجية والبوليفونية في الكتابة الروائية. فتقنيات التضمين والتقوير(الحكاية داخل الحكاية) والحكايات المتناسلة، هي من دون ريب متحدرة من إرث "ألف ليلة وليلة" العظيم.أليست الحكايات العجائبية المروية عبر ألف ليلة وليلة ما هي سوى ذرائع سردية لحكاية واحدة هي حكاية شهرزاد مع شهريار في حدها الحد بين الواقعي والأسطوري..كذا الأسرار والأيام والعجائب والغرائب- أيضا- في رواية درغوتي"أسرار صاحب الستر" ليست شيئا آخر إلا ما احتواه صندوق المخطوطات الغامضة الذي تم العثور عليه في حفريات المسجد الأعظم .
وقد يكون الأمر شبيها بهذا في رواية" وراء السراب... قليلا" ففي مقدمة كل باب منها هناك تلخيص للأحداث الموالية وتعرية لمقاصد الكتابة لدى الكاتب، على غرار المصنفات والكتب القديمة. إذ نجد ، مثلا، "الباب الأول وفيه حديث عن عودة "عزيز أمه" إلى عتيقة التي غادرها وهو شاب..."(ص.9)،"الباب الثاني وفيه حديث عن الجدة التي أقسمت أن لا يأكل الدود جثة ابنها فصنعت له "قيامة" خاصة (ص.25)،"الباب الثالث، وفيه حكاية الرجال ذوي القرون وما جرى لهم من غرائب" (ص.31)... ويستمر هذا على امتداد خمسة عشر بابا كل باب يتصدره إفشاء لمحتواه. إلا أنه إفشاء يكشف كل شيء ويحجب الأساسي كما يقول المثل الفرنسي، وفقا لقاعدة الكشف والحجب، الجلاء والتخفي .وتجدر الإشارة هنا أن الروائي جمال الغيطاني سبق له أن سار على النهج نفسه، وخاصة في روايته" خطط الغيطاني"(1981) وكذلك ما اعتمده خيري عبد الجواد في" العاشق والمعشوق". وهذا للتمثيل لا للحصر.
إن نقل أحداث التاريخ عند درغوثي، أو على الأصح إعادة تركيب فسيفسائها من الوقائع الصغيرة يتم عبر استحضار اللغات واللهجات والقوالب المسكوكة، من أجل خلق تشاكل بين المتخيل والتاريخ، بين الحكاية الروائية والمأثور التاريخي. وبقدرما يوهم الحقل الدالي والمعجمي بتاريخية الوقائع المروية بقدرما يخلق تحاكيا يجعل من الحاضر مادة للتشخيص والتمثل. فاللغة القديمة،بحمولاتها وإيحاءاتها،تتخلى عن جزء من دلالاتها لتغدو دالا في خدمة دليل جديد تفرضه عليها استراتيجيات الكتابة الروائية، بما هي نشاط كتابي له جمالياته النوعية وخوارزمياته النوعية و الخاصة.
والخلاصة أن الكاتب إبراهيم درغوتي بقدرما يعتمد على لغة متقادمة وتواريخ" منتهية الصلاحية" بقدر ما يقبض على وهج اللحظات المتوهجة المحكومة بقانون العود الأبدي. ولاشك رهان الكتابة عنده وإن بدا مشدودا إلى التعالي على التاريخ و نفي الاحتمالية عن الأفعال المسندة إلى شخوصه الروائية فإن هاجسه الأول والأخير هو توحد الكتابة بروح التاريخ ووقائعه.

ابراهيم درغوثي
03/10/2007, 06:28 PM
أسطرة التاريخ وتأصيل اللغة في تجربة
إبراهيم درغوتي الروائية

الحبيب الدائم ربي / المغرب


يمكن القول، ومن دون مجازفة كبيرة، بأن الكاتب التونسي إبراهيم درغوتي ينتمي إلى تيار التأصيل الروائي العربي، الذي مثل الأديب الراحل محمود المسعدي أحد رواده الكبار بتونس، قبل أن يوسع مجراه إميل حبيبي وجمال الغيطاني وسواهما من الكتاب، المجايلين والتابعين ،على امتداد الوطن العربي. وتتلخص سمات هذا التيار في استيحاء التراث العربي الإسلامي- بوجه عام- لتشييد معمارية روائية "حداثية" تحاول ربط حاضر الفن الروائي بالجذور الحكائية العربية القديمة، الممثلة في السير والملاحم والمغازي والمرويات.ولاشك أن الكتابة بالتراث،أي توظيف التراث كآلية من آليات إنتاج الأشكال والخطابات السردية ، طرح ويطرح استشكالات عديدة تسائل هوية الكتابة الروائية العربية وتجنيسها ووظيفتها معا. من منطلق سعيها إلى نشدان الحداثة عبر التراث والعبور إلى المستقبل بواسطة الموروث مع ما في ذلك من مغامرات محسوبة وغير محسوبة أحيانا.
ومن يتأمل تجربة درغوثي في الكتابة الروائية- بدءا بروايته الأولى " الدراويش يعودون إلى المنفى"(1992) مرورا بـ"القيامة...الآن" (1994) و"شبابيك منتصف الليل"(1996) و"أسرار صاحب الستر" (1998) و"وراء السراب...قليلا" (2002)... إلى آخر ماكتبه من سرود ومجاميع قصصية، سيتبدى له هذا النزوع التأصيلي المرتكز على أسطرة التاريخ البعيد والقريب و إعادة إنتاج اللغة المعتقة ، بغرض تشخيص مفارقات التاريخ القريب واليومي – حالا بحال - وبناء منجز سردي له خصوصياته النوعية.
وإذا ما اقتصرنا على التمثيل بروايتي"أسرار صاحب الستر" و"وراء السراب ...قليلا"- وهما فيما نظن تمثلان بجلاء التوجه العام الذي يحدد رؤية الكاتب درغوثي إلى الكتابة وإلى العالم- سنلمس بوضوح كيف يتحول التاريخ إلى تمثل أسطوري وكيف تنهض اللغات القديمة والمحكيات من أقمطتها لتؤدي أدوارا جديدة منضافة إلى سابق أدوارها. بحيث يغدو المتن الحكائي المستلهم من التراث، بشخوصه وفضاءاته ولغاته، مجرد استعارة يتم الاتكاء عليها لتعرية الواقع الحالي أو الماضي الذي لمّا يدفن بعد. بل هي تورية ذات منحيين دلاليين: منحى قريب ينحصر في المنطوق المتني بما يزخر به من تغريب وتعجيب، ومنحى بعيد- وهو المتغيأ بالأساس- يروم فضح "الأسرار" ونزع نظارات " السراب" عن العيون والعقول.
فـرواية "أسرار صاحب الستر" تقوم في جزء هام منها على استعادة السيرة الذاتية المفترضة لـ"صاحب ستر الخليفة" أمير المؤمنين الوليد بن يزيد الأموي. وتتحدد وظيفة "صاحب الستر"، أو الحاجب، في كونه كان موكلا بالستارة التي كان الخليفة يجلس وراءها،في أسماره ولياليه الساهرة، متخفيا عن الدهماء من المغنين والقيان والمهرجين. إنه صلة الوصل التي عبرها تمرر رغبات الخليفة إلى جوقة المغنين. ما لم نقل إنه صوت سيده وعينه وأذنه التي لاتنام مفردا وجمعا. والعنصر الدرامي في هذه السيرة، المستدخلة ضمن الرواية، يتمثل في ما سيفشيه" المؤتمن على السر" من أسرار خطيرة تهم نزوات الخليفة وشؤون الدولة وأمنها العام! بحيث سيماط اللثام، وبقسوة دالة، عن عري" ثياب الإمبراطور" التي كان يرتديها الخليفة الوليد ومن قبله ارتداها والده يزيد (الذي تيم بـ"حبابة" إلى درجة أنه ترك دار الخلافة وذهب إلى قصر " في بادية الشام محملا بالأطعمة والخمور وحبابة "(ص.42) طالبا من البنائين أن يسدوا عليه وعلى معشوقته كل منافذ القصر، وحين ماتت بين يديه ظل يحضنها غير مصدق، ليموت في الأخير كمدا عليها ويدفن بجانبها)، تاركا أمر الخلافة للقلاقل والفتن بين أنصار ابنه المستهتر الشرّيب الوليد وبين خصومه. وتتناسل الحكايات و الفضائح الفاضحات – والتي لم يحل دون ذيوعها مال ولا سيف- حول جور الولاة و الخلفاء ونزواتهم. فهذا والي الخليفة في الكوفة ينحر أضحيته على المنبر غب صلاة العيد في محفل رهيب، ولم تكن الأضحية سوى الفقيه الجعد بن درهم . وذاك الخليفة هشام بن عبد الملك يأمر بأن يقطع لسان غيلان الدمشقي ويمزق إربا بعدما لم ينفع معه حوار.. وما أكثر الأسرار التي تعرضها الرواية: "أسرار الأرواح المجنحة"(ص.69) و"سر الدوران عكس اتجاه الشمس" (ص.71)، و"سر عسل الجنة" (ص.75)،و"سر الدير" (ص.78)،و"سر إغلاق أبواب القصر دون المتقاضين لدى أمير المؤمنين" (ص.82)، و"سر حرارة غناء ابن عائشة"(ص.84)،و"سر الجارية التي صلت بالمؤمنين صلاة الصبح بالمسجد الجامع" (ص.88)، و"سر البركة المملوءة خمرا" (ص.90)، و "سر الرجل النازل من السماء" (ص.94)،و"سر السجدات الثلاث " (ص.99)،و"سر حزن الخليفة على الثائر يحي بن الوليد" (ص.102)، و"سر الطشت الفارغة" (ص.104)، و"سر نار المجوس" (ص.108)، و"سر الصندوق"(112)..هذا فضلا عن الأيام التي يشيب لسماع أخبارها الولدان، كـ"أيام النكد"(ص.115) التي تشمل "يوم الغضب الأكبر"(ص.116)، و"يوم الندامة"(119)،و"يوم القصاص"(ص.121)، و"يوم المؤامرة" (ص.114)....عدا الأخبار والنوادر والمغربات التي ترسم للتاريخ وجها أسطوريا، بل ومأساويا بصورة لا تقبل التصديق.
وليست سيرة " الوليد" سوى نواة لحكاية إطار بطلها عالم آثار غريب الأطوار،جاء من تونس العاصمة متقفيا التحف والآثار في "بلاد الجريد"(مسقط رأس الكاتب)،نابشا تحت الأساسات القديمة، قبل أن تودي به لعنة المخطوطات ، التي عثر عليها في صندوق تحت منبر الجامع الكبير. وطبعا تشكل سيرة الخليفة " الوليد" أحد أسرارها(الضمير هنا يعود على المخطوطات)...
****
وفي سياق تاريخي آخر تستعيد رواية : "وراء السراب... قليلا" فترة بداية الاحتلال الفرنسي لتونس،وما روج له المستعمر من وعود بتحسين مستوى عيش الأهالي، سيما مع اكتشاف الفوسفاط وجلب العمالة لأشغال الحفر من مختلف أنحاء بلدان المغرب العربي.إلا أن تبخر الآمال لدى العمال،واشتداد الأزمات،وكثرة الحيف والظلم سرعان ما فسحت المجال للأقاويل والخرافات التي تفسر أسباب تفشي الجوائح والأوبئة والانهيارات المتوالية في أنفاق جبال الفوسفاط، بتونس. من ذلك حكاية "الجواد الأبلق الذي طار بألف جناح ليطوف براكبه حول الكرة الأرضية..." (ص.25)، و حكاية " الساحر الرومي الذي حول الذهب إلى تراب" (ص.77)، وحكاية" مغارة علي بابا ... والأرواح الهائمة في أنفاق الجبل...ورجال برؤوس بغال وبغال برؤوس آدمية" (107)، وحكاية "الملائكة التي نزلت من السماء" (ص.103)، وحكاية "سلاطين الجن الذين أنجدوا جيش فرنسا فانتصرت على الألمان في الحرب الكبرى الأولى" (ص.162)....
وكما في رواية "أسرار صاحب الستر" فإن رواية "وراء السراب... قليلا" تنطلق من معطيات تاريخية معلومة لتبني متخيلها السردي، مالئة فجوات التاريخ بالتفاصيل والموتيفات الحكائية التي تجعله رغم واقعيته غرائبيا...والغرابة هنا لا تكمن في تحميل الوقائع التاريخية ما لا تحتمل، وإنما في استيحاء بعضها طازجة، حافية من أي لمسات قد تلطف من وقعها الصادم حد الإدهاش .بل لربما يكون الواقع المستوحى أكثر غرائبية من ممكنات اللغة الواصفة، من ثم كانت إعارة اللغات المفارقة القديمة أحد رهانات الكاتب للإمساك بانفلاتاته(أي انفلاتات الواقع). فالتاريخ الأقصى، أو التجسيد الأسطوري للواقع في لحظات معينة من التاريخ لا تحتويه سوى لغة لا تاريخية!
وكما تمتح الحكاية لدى درغوثي من معين تاريخي له تحققه في الزمان والمكان، إذ غالبا ما تستند على حامل بالوسع التأكد من حدوثه(في عمومياته) ضمن كتب الأخبار والحوليات، فإن الصوغ الحكائي بدوره يسير وفق المنطق ذاته، حين يستحضر أشكالا حكائية عتيقة لانبنائه.أشكال دارسة لكنها تحتفظ بوهج إعادة الاستعمال في محاكاة تقتدي بالنمط لتؤسس خصوصية الكتابة. مع ما قد يقود إليه هذا المسعى من مجازفات تشبه مسعى بطل جورج لوكاش الإشكالي الباحث عن قيم أصيلة بوسائل منهارة وغير أصيلة. وليس في هذا التشبيه أي حكم قيمي مادام الغرض من إيراده هو لفت النظر لما يطبع كتابة درغوتي وأضرابه - عبر توظيف التراث التاريخي واللغوي- من تناف وتنازع هما أصلا من خصائص الديالوجية والبوليفونية في الكتابة الروائية. فتقنيات التضمين والتقوير(الحكاية داخل الحكاية) والحكايات المتناسلة، هي من دون ريب متحدرة من إرث "ألف ليلة وليلة" العظيم.أليست الحكايات العجائبية المروية عبر ألف ليلة وليلة ما هي سوى ذرائع سردية لحكاية واحدة هي حكاية شهرزاد مع شهريار في حدها الحد بين الواقعي والأسطوري..كذا الأسرار والأيام والعجائب والغرائب- أيضا- في رواية درغوتي"أسرار صاحب الستر" ليست شيئا آخر إلا ما احتواه صندوق المخطوطات الغامضة الذي تم العثور عليه في حفريات المسجد الأعظم .
وقد يكون الأمر شبيها بهذا في رواية" وراء السراب... قليلا" ففي مقدمة كل باب منها هناك تلخيص للأحداث الموالية وتعرية لمقاصد الكتابة لدى الكاتب، على غرار المصنفات والكتب القديمة. إذ نجد ، مثلا، "الباب الأول وفيه حديث عن عودة "عزيز أمه" إلى عتيقة التي غادرها وهو شاب..."(ص.9)،"الباب الثاني وفيه حديث عن الجدة التي أقسمت أن لا يأكل الدود جثة ابنها فصنعت له "قيامة" خاصة (ص.25)،"الباب الثالث، وفيه حكاية الرجال ذوي القرون وما جرى لهم من غرائب" (ص.31)... ويستمر هذا على امتداد خمسة عشر بابا كل باب يتصدره إفشاء لمحتواه. إلا أنه إفشاء يكشف كل شيء ويحجب الأساسي كما يقول المثل الفرنسي، وفقا لقاعدة الكشف والحجب، الجلاء والتخفي .وتجدر الإشارة هنا أن الروائي جمال الغيطاني سبق له أن سار على النهج نفسه، وخاصة في روايته" خطط الغيطاني"(1981) وكذلك ما اعتمده خيري عبد الجواد في" العاشق والمعشوق". وهذا للتمثيل لا للحصر.
إن نقل أحداث التاريخ عند درغوثي، أو على الأصح إعادة تركيب فسيفسائها من الوقائع الصغيرة يتم عبر استحضار اللغات واللهجات والقوالب المسكوكة، من أجل خلق تشاكل بين المتخيل والتاريخ، بين الحكاية الروائية والمأثور التاريخي. وبقدرما يوهم الحقل الدالي والمعجمي بتاريخية الوقائع المروية بقدرما يخلق تحاكيا يجعل من الحاضر مادة للتشخيص والتمثل. فاللغة القديمة،بحمولاتها وإيحاءاتها،تتخلى عن جزء من دلالاتها لتغدو دالا في خدمة دليل جديد تفرضه عليها استراتيجيات الكتابة الروائية، بما هي نشاط كتابي له جمالياته النوعية وخوارزمياته النوعية و الخاصة.
والخلاصة أن الكاتب إبراهيم درغوتي بقدرما يعتمد على لغة متقادمة وتواريخ" منتهية الصلاحية" بقدر ما يقبض على وهج اللحظات المتوهجة المحكومة بقانون العود الأبدي. ولاشك رهان الكتابة عنده وإن بدا مشدودا إلى التعالي على التاريخ و نفي الاحتمالية عن الأفعال المسندة إلى شخوصه الروائية فإن هاجسه الأول والأخير هو توحد الكتابة بروح التاريخ ووقائعه.

محمد حامد محمد
26/10/2007, 03:34 AM
أسطرة التاريخ وتأصيل اللغة في تجربة
إبراهيم درغوتي الروائية

الحبيب الدائم ربي / المغرب


يمكن القول، ومن دون مجازفة كبيرة، بأن الكاتب التونسي إبراهيم درغوتي ينتمي إلى تيار التأصيل الروائي العربي، الذي مثل الأديب الراحل محمود المسعدي أحد رواده الكبار بتونس، قبل أن يوسع مجراه إميل حبيبي وجمال الغيطاني وسواهما من الكتاب، المجايلين والتابعين ،على امتداد الوطن العربي. وتتلخص سمات هذا التيار في استيحاء التراث العربي الإسلامي- بوجه عام- لتشييد معمارية روائية "حداثية" تحاول ربط حاضر الفن الروائي بالجذور الحكائية العربية القديمة، الممثلة في السير والملاحم والمغازي والمرويات.ولاشك أن الكتابة بالتراث،أي توظيف التراث كآلية من آليات إنتاج الأشكال والخطابات السردية ، طرح ويطرح استشكالات عديدة تسائل هوية الكتابة الروائية العربية وتجنيسها ووظيفتها معا. من منطلق سعيها إلى نشدان الحداثة عبر التراث والعبور إلى المستقبل بواسطة الموروث مع ما في ذلك من مغامرات محسوبة وغير محسوبة أحيانا.
ومن يتأمل تجربة درغوثي في الكتابة الروائية- بدءا بروايته الأولى " الدراويش يعودون إلى المنفى"(1992) مرورا بـ"القيامة...الآن" (1994) و"شبابيك منتصف الليل"(1996) و"أسرار صاحب الستر" (1998) و"وراء السراب...قليلا" (2002)... إلى آخر ماكتبه من سرود ومجاميع قصصية، سيتبدى له هذا النزوع التأصيلي المرتكز على أسطرة التاريخ البعيد والقريب و إعادة إنتاج اللغة المعتقة ، بغرض تشخيص مفارقات التاريخ القريب واليومي – حالا بحال - وبناء منجز سردي له خصوصياته النوعية.
وإذا ما اقتصرنا على التمثيل بروايتي"أسرار صاحب الستر" و"وراء السراب ...قليلا"- وهما فيما نظن تمثلان بجلاء التوجه العام الذي يحدد رؤية الكاتب درغوثي إلى الكتابة وإلى العالم- سنلمس بوضوح كيف يتحول التاريخ إلى تمثل أسطوري وكيف تنهض اللغات القديمة والمحكيات من أقمطتها لتؤدي أدوارا جديدة منضافة إلى سابق أدوارها. بحيث يغدو المتن الحكائي المستلهم من التراث، بشخوصه وفضاءاته ولغاته، مجرد استعارة يتم الاتكاء عليها لتعرية الواقع الحالي أو الماضي الذي لمّا يدفن بعد. بل هي تورية ذات منحيين دلاليين: منحى قريب ينحصر في المنطوق المتني بما يزخر به من تغريب وتعجيب، ومنحى بعيد- وهو المتغيأ بالأساس- يروم فضح "الأسرار" ونزع نظارات " السراب" عن العيون والعقول.
فـرواية "أسرار صاحب الستر" تقوم في جزء هام منها على استعادة السيرة الذاتية المفترضة لـ"صاحب ستر الخليفة" أمير المؤمنين الوليد بن يزيد الأموي. وتتحدد وظيفة "صاحب الستر"، أو الحاجب، في كونه كان موكلا بالستارة التي كان الخليفة يجلس وراءها،في أسماره ولياليه الساهرة، متخفيا عن الدهماء من المغنين والقيان والمهرجين. إنه صلة الوصل التي عبرها تمرر رغبات الخليفة إلى جوقة المغنين. ما لم نقل إنه صوت سيده وعينه وأذنه التي لاتنام مفردا وجمعا. والعنصر الدرامي في هذه السيرة، المستدخلة ضمن الرواية، يتمثل في ما سيفشيه" المؤتمن على السر" من أسرار خطيرة تهم نزوات الخليفة وشؤون الدولة وأمنها العام! بحيث سيماط اللثام، وبقسوة دالة، عن عري" ثياب الإمبراطور" التي كان يرتديها الخليفة الوليد ومن قبله ارتداها والده يزيد (الذي تيم بـ"حبابة" إلى درجة أنه ترك دار الخلافة وذهب إلى قصر " في بادية الشام محملا بالأطعمة والخمور وحبابة "(ص.42) طالبا من البنائين أن يسدوا عليه وعلى معشوقته كل منافذ القصر، وحين ماتت بين يديه ظل يحضنها غير مصدق، ليموت في الأخير كمدا عليها ويدفن بجانبها)، تاركا أمر الخلافة للقلاقل والفتن بين أنصار ابنه المستهتر الشرّيب الوليد وبين خصومه. وتتناسل الحكايات و الفضائح الفاضحات – والتي لم يحل دون ذيوعها مال ولا سيف- حول جور الولاة و الخلفاء ونزواتهم. فهذا والي الخليفة في الكوفة ينحر أضحيته على المنبر غب صلاة العيد في محفل رهيب، ولم تكن الأضحية سوى الفقيه الجعد بن درهم . وذاك الخليفة هشام بن عبد الملك يأمر بأن يقطع لسان غيلان الدمشقي ويمزق إربا بعدما لم ينفع معه حوار.. وما أكثر الأسرار التي تعرضها الرواية: "أسرار الأرواح المجنحة"(ص.69) و"سر الدوران عكس اتجاه الشمس" (ص.71)، و"سر عسل الجنة" (ص.75)،و"سر الدير" (ص.78)،و"سر إغلاق أبواب القصر دون المتقاضين لدى أمير المؤمنين" (ص.82)، و"سر حرارة غناء ابن عائشة"(ص.84)،و"سر الجارية التي صلت بالمؤمنين صلاة الصبح بالمسجد الجامع" (ص.88)، و"سر البركة المملوءة خمرا" (ص.90)، و "سر الرجل النازل من السماء" (ص.94)،و"سر السجدات الثلاث " (ص.99)،و"سر حزن الخليفة على الثائر يحي بن الوليد" (ص.102)، و"سر الطشت الفارغة" (ص.104)، و"سر نار المجوس" (ص.108)، و"سر الصندوق"(112)..هذا فضلا عن الأيام التي يشيب لسماع أخبارها الولدان، كـ"أيام النكد"(ص.115) التي تشمل "يوم الغضب الأكبر"(ص.116)، و"يوم الندامة"(119)،و"يوم القصاص"(ص.121)، و"يوم المؤامرة" (ص.114)....عدا الأخبار والنوادر والمغربات التي ترسم للتاريخ وجها أسطوريا، بل ومأساويا بصورة لا تقبل التصديق.
وليست سيرة " الوليد" سوى نواة لحكاية إطار بطلها عالم آثار غريب الأطوار،جاء من تونس العاصمة متقفيا التحف والآثار في "بلاد الجريد"(مسقط رأس الكاتب)،نابشا تحت الأساسات القديمة، قبل أن تودي به لعنة المخطوطات ، التي عثر عليها في صندوق تحت منبر الجامع الكبير. وطبعا تشكل سيرة الخليفة " الوليد" أحد أسرارها(الضمير هنا يعود على المخطوطات)...
****
وفي سياق تاريخي آخر تستعيد رواية : "وراء السراب... قليلا" فترة بداية الاحتلال الفرنسي لتونس،وما روج له المستعمر من وعود بتحسين مستوى عيش الأهالي، سيما مع اكتشاف الفوسفاط وجلب العمالة لأشغال الحفر من مختلف أنحاء بلدان المغرب العربي.إلا أن تبخر الآمال لدى العمال،واشتداد الأزمات،وكثرة الحيف والظلم سرعان ما فسحت المجال للأقاويل والخرافات التي تفسر أسباب تفشي الجوائح والأوبئة والانهيارات المتوالية في أنفاق جبال الفوسفاط، بتونس. من ذلك حكاية "الجواد الأبلق الذي طار بألف جناح ليطوف براكبه حول الكرة الأرضية..." (ص.25)، و حكاية " الساحر الرومي الذي حول الذهب إلى تراب" (ص.77)، وحكاية" مغارة علي بابا ... والأرواح الهائمة في أنفاق الجبل...ورجال برؤوس بغال وبغال برؤوس آدمية" (107)، وحكاية "الملائكة التي نزلت من السماء" (ص.103)، وحكاية "سلاطين الجن الذين أنجدوا جيش فرنسا فانتصرت على الألمان في الحرب الكبرى الأولى" (ص.162)....
وكما في رواية "أسرار صاحب الستر" فإن رواية "وراء السراب... قليلا" تنطلق من معطيات تاريخية معلومة لتبني متخيلها السردي، مالئة فجوات التاريخ بالتفاصيل والموتيفات الحكائية التي تجعله رغم واقعيته غرائبيا...والغرابة هنا لا تكمن في تحميل الوقائع التاريخية ما لا تحتمل، وإنما في استيحاء بعضها طازجة، حافية من أي لمسات قد تلطف من وقعها الصادم حد الإدهاش .بل لربما يكون الواقع المستوحى أكثر غرائبية من ممكنات اللغة الواصفة، من ثم كانت إعارة اللغات المفارقة القديمة أحد رهانات الكاتب للإمساك بانفلاتاته(أي انفلاتات الواقع). فالتاريخ الأقصى، أو التجسيد الأسطوري للواقع في لحظات معينة من التاريخ لا تحتويه سوى لغة لا تاريخية!
وكما تمتح الحكاية لدى درغوثي من معين تاريخي له تحققه في الزمان والمكان، إذ غالبا ما تستند على حامل بالوسع التأكد من حدوثه(في عمومياته) ضمن كتب الأخبار والحوليات، فإن الصوغ الحكائي بدوره يسير وفق المنطق ذاته، حين يستحضر أشكالا حكائية عتيقة لانبنائه.أشكال دارسة لكنها تحتفظ بوهج إعادة الاستعمال في محاكاة تقتدي بالنمط لتؤسس خصوصية الكتابة. مع ما قد يقود إليه هذا المسعى من مجازفات تشبه مسعى بطل جورج لوكاش الإشكالي الباحث عن قيم أصيلة بوسائل منهارة وغير أصيلة. وليس في هذا التشبيه أي حكم قيمي مادام الغرض من إيراده هو لفت النظر لما يطبع كتابة درغوتي وأضرابه - عبر توظيف التراث التاريخي واللغوي- من تناف وتنازع هما أصلا من خصائص الديالوجية والبوليفونية في الكتابة الروائية. فتقنيات التضمين والتقوير(الحكاية داخل الحكاية) والحكايات المتناسلة، هي من دون ريب متحدرة من إرث "ألف ليلة وليلة" العظيم.أليست الحكايات العجائبية المروية عبر ألف ليلة وليلة ما هي سوى ذرائع سردية لحكاية واحدة هي حكاية شهرزاد مع شهريار في حدها الحد بين الواقعي والأسطوري..كذا الأسرار والأيام والعجائب والغرائب- أيضا- في رواية درغوتي"أسرار صاحب الستر" ليست شيئا آخر إلا ما احتواه صندوق المخطوطات الغامضة الذي تم العثور عليه في حفريات المسجد الأعظم .
وقد يكون الأمر شبيها بهذا في رواية" وراء السراب... قليلا" ففي مقدمة كل باب منها هناك تلخيص للأحداث الموالية وتعرية لمقاصد الكتابة لدى الكاتب، على غرار المصنفات والكتب القديمة. إذ نجد ، مثلا، "الباب الأول وفيه حديث عن عودة "عزيز أمه" إلى عتيقة التي غادرها وهو شاب..."(ص.9)،"الباب الثاني وفيه حديث عن الجدة التي أقسمت أن لا يأكل الدود جثة ابنها فصنعت له "قيامة" خاصة (ص.25)،"الباب الثالث، وفيه حكاية الرجال ذوي القرون وما جرى لهم من غرائب" (ص.31)... ويستمر هذا على امتداد خمسة عشر بابا كل باب يتصدره إفشاء لمحتواه. إلا أنه إفشاء يكشف كل شيء ويحجب الأساسي كما يقول المثل الفرنسي، وفقا لقاعدة الكشف والحجب، الجلاء والتخفي .وتجدر الإشارة هنا أن الروائي جمال الغيطاني سبق له أن سار على النهج نفسه، وخاصة في روايته" خطط الغيطاني"(1981) وكذلك ما اعتمده خيري عبد الجواد في" العاشق والمعشوق". وهذا للتمثيل لا للحصر.
إن نقل أحداث التاريخ عند درغوثي، أو على الأصح إعادة تركيب فسيفسائها من الوقائع الصغيرة يتم عبر استحضار اللغات واللهجات والقوالب المسكوكة، من أجل خلق تشاكل بين المتخيل والتاريخ، بين الحكاية الروائية والمأثور التاريخي. وبقدرما يوهم الحقل الدالي والمعجمي بتاريخية الوقائع المروية بقدرما يخلق تحاكيا يجعل من الحاضر مادة للتشخيص والتمثل. فاللغة القديمة،بحمولاتها وإيحاءاتها،تتخلى عن جزء من دلالاتها لتغدو دالا في خدمة دليل جديد تفرضه عليها استراتيجيات الكتابة الروائية، بما هي نشاط كتابي له جمالياته النوعية وخوارزمياته النوعية و الخاصة.
والخلاصة أن الكاتب إبراهيم درغوتي بقدرما يعتمد على لغة متقادمة وتواريخ" منتهية الصلاحية" بقدر ما يقبض على وهج اللحظات المتوهجة المحكومة بقانون العود الأبدي. ولاشك رهان الكتابة عنده وإن بدا مشدودا إلى التعالي على التاريخ و نفي الاحتمالية عن الأفعال المسندة إلى شخوصه الروائية فإن هاجسه الأول والأخير هو توحد الكتابة بروح التاريخ ووقائعه.

محمد حامد محمد
26/10/2007, 04:45 AM
بسم الله الرحمن الرحيم ..
احب بداية أن أسجل تقديرى للكاتب على مجمل دراسته وإن كنت اختلف معه فى مسمى (أسطرة) إذ الأولى أن نسميه استحضاراً حتى تستقيم الفكرة الفلسفية لدى من استشهد بهم فى دراسته وجعل من أعمالهم محلاً للبحث
فالفلسفة فى ضرورة تأصيل اللغة تأكيداً للهوية واضحة ومتفق عليها ‘ أما عن استحضارهم للحظة التاريخية ومقاربتها باللحظة الآنية فاعتقد أن الهدف الأسمى منها هو طرحها للمقابلة بما اسفرت عنه من نتائج معروفة مسبقاً وهو أسلوب يعلن به الكاتب فى الغالب عن وجهة نظره تجاه قضيته الآنية دون تصريح معلن ‘ وكم من القضايا الهامة بل والمصيرية أعلنت عن تكرارها لنفسها دون أن يتعلم الشطار وهو اسلوب فى الكتابه أقرب إلى الفلسفة الساخرة . وشكراً
محمد حامد محمد / باحث فى التراث الفرعونى