المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : جيش الوشاة



غالب ياسين
15/12/2007, 11:16 AM
جيش الوشاة
شعراء السيد القائد, شعراء السيد العريف!
سلام عبود

من يصنع الديكتاتور؟
تعتمد النظم الديكتاتورية كافة، في بقائها، على ثلاث قوى، أولاها: أجهزة الأمن
الداخلي وفروعها، التي تتميز بالسرية والقسوة والمبادرة العنيفة المباشرة, وثانيتها
جهاز الدعاية والإعلام، الذي يرتبط بشكل عضوي بالقوتين الأخريين. وهذا الجهاز لا
يشمل، كما يعتقد البعض، الخطب السياسية ونشرات الأخبار وكلمات المديح المخصصة
للسلطة والديكتاتور فحسب. إن جهاز الدعاية الديكتاتوري جهاز معقد، يتولى عملية
صياغة العقل والمزاج الشعبي. لذلك يدخل في إطاره، ويحتل مرتبة عظيمة فيه، ممارسو
الثقافة والأدب والفن، الذين يضعون مهاراتهم في خدمة جهاز الشر، ويوظفون مقدراتهم
الفنية والعقلية لصالح مشروع السلطة الأساسي: الحرب والعنف والاستبداد. أما ثالثة
القوى التي تدعم بقاء النظم الديكتاتورية فهي جيش الوشاة، الذي يشكل عصب الحياة
الداخلية لمؤسسة الطغيان، ويشغل دور الأوردة والشرايين في جسد النظام الديكتاتوري.
فإضافة الى إشاعة الخوف، وزراعة الشك بين أفراد المجتمع، وتدريب وتأهيل المواطنين
على سبل فقدان الثقة بأنفسهم وبالمجتمع، فإن جيش الوشاة يقوم بمهام الرقابة
الداخلية على أفراد المجتمع، بما في ذلك الرقابة الفنية والأدبية. ففي الجانب
الأدبي والفني يتولى جيش الوشاة مهمة صناعة مناخ الإبداع ومقاييسه وترويجها، ثم
فرضها شفاهيا أو كتابيا على الجميع، متقمصا دور (الرقيب الشعبي) أو (الرقيب
الذاتي). ويقوم في عين الوقت بنقل وجهات نظر السلطة وسياستها الى الناس بشكل خفي
وعلني. فهو يمارس دورا مركبّا: مجسات لاقطة، وأسلاك موصلة، ومختبر للتجارب. في جو
الوشاية هذا يكون الصعود السياسي والمهني، وحتى الأدبي والثقافي، جزءا من مهارة فن
الوشاية. وأعضاء جيش الوشاة هذا لا ينتسبون الى حزب معين. فكثيرون منهم لا ينتسبون
حزبيا الى المؤسسة السياسية الحاكمة، لكنهم يضعون مواهبهم تحت تصرف هذه المؤسسة
طوعا، بدافع الجبن أو الطمع أو الميل المَرَضي لمسايرة القوي والحاكم. إن سقوط أديب
نتيجة لكلمة مبطنة أو جملة معينة لا يدخل دائما ضمن اختصاصات مديرية الأمن العامة ،
وإنما هو في أحوال كثيرة من صنع جهاز الوشاية، أي من صنع زميل لك يجلس الى جوارك
على منضدة مجاورة، كان يتحدث معك قبل قليل عن الصمت أو الرومانسية في شعر رشدي
العامل مثلا. فضرغام هاشم وحسن مطلق جزء من شهداء الوشاية، دفعوا حياتهم ثمنا
لوشايات قاتلة, استخدمت لإرضاء ضيق أفق المؤسسة الحاكمة وجهلها وقسوتها المَرَضية.
إن صدام, كديكتاتور, لم يحقق سماته الفردية الاستثنائية من دون وجود جيش من
المثقفين والكتاب قاموا بصناعة صفات الديكتاتور. لأن الديكتاتور لا يصنع صفاته كلها
بنفسه، بل صنعها له جهاز ارتزاقي، متحجر القلب، لا هدف له سوى تلفيق صورة كاذبة
وخادعة عن الديكتاتور ومآثره السياسية والاجتماعية والعقلية، لكي تكون الصورة
الوحيدة المعروضة أمام المجتمع. فالى جانب العوامل السياسية والاجتماعية
والتاريخية والشخصية يتطلب الطغيان وجود معاونين مباشرين يقومون بمهام تحقيقه
وتنفيذه. وطغيان واسع وطويل كطغيان صدام حسين اقتضى وجود جيش كبير من المعاونين
ميتي الضمير، يمتهنون مهنا مختلفة، متنوعة، تبدأ بقيادة فرق الإعدام وتنتهي
بالمنشدين الشعبيين من مروجي ثقافة العنف ومنظري ثقافة الموت والحرب والخراب.
وباتحاد وتضافر هذه الإرادات الشريرة، مجتمعة، يكتمل مشروع الإرهاب، وبتعاضدها
تُنتح الصورة المثلى للديكتاتور: الفاتح البهي، وسيد الدنيا! فصناعة الديكتاتور
وإنتاج جهاز الاستبداد المصاحب له جهد جماعي منظم، شيطاني، حتى لو كان مصاغا بأجمل
الكلمات، وأكثرها رنينا ومهارة.
سيد الدنيا! ولغرض تأمل ظاهرة صناعة الديكتاتور ثقافيا, بشكل حسي وعياني، سنقوم
باقتطاف أجزاء صغيرة جدا، من نتاجات بعض الشعراء من أجيال مختلفة, وسنتوقف أولا عند
شاعرين عراقيين خصصا بعضا من وقتهما لهذه المهمة، السامية في نظرهما. وما نعرضه
هنا لا يعدو أن يكون (نتفا)، هي في الغالب مطالع أو عنواين لقصائد. والشاعران هما
سهام الناصر وكمال الحديثي. لنتأمل كيف ترسم سهام صورة رئيسها، أو "مستبدها البهي",
إذا أردنا أن نستخدم ثنائيات الخراب, التي شاعت في تلك الحقبة الحالكة: " ذا عصر
صدام يا أبهى العصور"، "بأعياد نصرك أعيادنا كلها تستعاد"، " وتبقى تعيش في
أعماقنا"، " والعيد انك باق في العلا قمرا"، " الفارس الحلم"، " المجد مجدك يا
صدام"، "يا مطلق نصرنا موكب من شموس"، "وردة القلوب"، "فضاء القلوب"، " والنصر
باسمك يا صدام منتصر"، " أمير القلوب"، "بلى كفؤها صدام"، " قائد الإبداع". أما
كمال الحديثي فيرسم لنا الصورة التالية: "يا سيد الدنيا"، " صدام مجد للسماء"،
"تبارك مخلوق وجل خالق"، "وحبيبنا بالعزم منتطق تبارك من نطاق"، " سما بيرق
الرحمن"، "ولأنت كل المجد"، "أنت العراق"، "ومن كصدام"، "ومن مثل صدام"، "فمن مثل
صدام نغنيه حبنا؟"، "ووجه صدام وجه أمتنا"، " صدام والمجد عنوان لأمتنا"، "وحب صدام
حب أمتنا"، " وموقظ أمتي صدام"، "قدر لنا حبك صدام"، "يا سلم الله أبا عدي"، "يا
واهبا للعراق سؤدده"، "صدام لولاك ما سما شرف"، "يا واحدا في سجاياه"، " صدام
والبعث جاءا على قدر"، "متوج تاج عزه عجب"... وهذا غيض من فيض.
لو قدر للمرء أن يستبعد المغزى السياسي لتلك النصوص, ناظرا اليها نظرة مجردة, كنصوص
موجهة الى فرد من علية القوم, سيصاب بالذهول جراء التطرف الشاذ في إسباغ النعوت
على الممدوح. لذلك أصابت هذه الظاهرة الفريدة الكثيرين بالحيرة, فراح بعضهم يفسرها
تفسيرات تخرجها من حدودها الطبيعية كفعل اجتماعي وسياسي وثقافي, وهناك من راحوا
يلتمسون لها أعذارا في التاريخ, في سقطات المتنبي والجواهري وغيرهما, وأحالها آخرون
الى ضرب من الفعل اللاواعي, لكي يلتمسوا أعذرا تخفف من بشاعة ذلك السلوك. بيد أن
تفريغ النص من دوافعه الفنية والنفسية والاجتماعية والأخلاقية والعقلية يحيله الى
فعل حيواني, غريزي خالص, ويحيل الأديب الى حيوان أصيل. وفي هذه النقطة المحددة لا
بد لنا من التأكيد على أنه من الخطأ الاعتقاد أن غياب قوانين العقاب وحدها هي التي
تقف خلف هواية قطع الرؤوس ورمي الجثث في المزابل, فخلف مثل هذا الانحطاط البشري تقف
عوامل أخرى, أهمها التحلل من المسؤولية الأخلاقية, وهي صفة يشترك فيها جيش الوشاة
وجيش القتلة.
لقد بدأت تتعالى أصوات تحاول باسم "انسانية" غريبة ومريبة, وصم كل ما ومن يمس نصوص
الحرب والديكتاتورية بالـ "غدر", والاعتداء على إنسانية وحرمة الكائن الثقافي
اللبون, معيل الأسرة. وما يؤسف له أن هذه الموجة الكريهة أخذت تجتذب أعدادا متزايدة
الى صفوفها, بسبب تشتت الذاكرة الوطنية, وتشعب دوائر العنف, التي رافقت ظهور بوادر
الحوار الخارجي والداخلي مع نشطاء البعث, وتبلور صيغ الاصطفاف الطائفي سياسيا, عقب
تكرار فشل مشاريع بناء حكومات مستقرة. ومن هذا المنظور تطوع الروائي محمود سعيد,
وهو كاتب نأى بنفسه طويلا عن ثقافة العنف والديكتاتورية, للدفاع عن شاعرية ونقاوة
ضمير كمال الحديثي, بكلمات استجدائية, قد تأوّل تأويلا ضارا يسيء الى الثقافة كفعل
بشري واع وحر, ويسيء الى الأديب كإنسان ويحط من قدره ككائن: " كمال عبد الله
الحديثي. ضرير، لا يرى. لكنه شاعر موهوب، جرب العمل بضع سنوات كمدرس للغة العربية
وكان من انجح المدرسين، وأدرك المسكين بعدئذ أنه من المستحيل عليه أن يستمر في
العمل. فلكي يدرّس في الثانوية عليه أن يوظّف من يقوده إلى ومن المدرسة، ومن يكتب
له ما يريد على السبورة، ومن يصحح له أوراق الامتحانات. أي أن يدفع معظم راتبه.
وكان عائلاً؟ فمن أين يعيش هو وعائلته؟"
"ما الفرق بين مدح مسؤول ومسؤول؟ المديح غير أخلاقي إطلاقاً لكنه الجوع اللعين،
وإن كان مدح صدام جريمة فيجب أن يشمل الجميع."
وبمثل هذه النزعة التبريرية: حيونة النص الثقافي, سعى الكاتب نفسه الى تبرير انزلاق
القاص عبد الستار ناصر أيضا, ملتمسا له أعذارا لا تقل "إهانة" و تحقيرا لدور الكاتب
والفنان في الحياة من تلك التي التمسها للحديثي: "عبد الستار ناصر، قاص وروائي
وأديب قضى في السجن سنتين لقصة كتبها انتقد بها رئيس الجمهورية، وعذب، وأهين، ثم
خرج. ماذا يفعل الأديب؟ أين ينشر؟ من يعيله ويعيل عائلته."
لقد أضحى أي اقتراب أو "مساس" بثقافة العنف البعثية وبثقافة الحرب ضربا من المحرمات
الشنيعة, التي ترقى الى مرتبة الحكم بالإعدام!
إن تلك التبريرات- مهما كان صدق أغلفتها الإنسانية - لا تستطيع حماية أدب العنف
وابعاده عن دائرة النقد والتقويم والمساءلة. فكل عاقل من بني البشر يعرف جيدا أن
الجميع يملكون أسرا يحبونها ويسعون الى إعالتها, بما في ذلك قادة فرق الإعدام. وإذا
كانت الفاقة سببا لما آلت اليه مصائر بعض البؤّس, فما بالك بمن هم ليسوا بمعسرين؟
وبصرف النظر عن هذا كله, إذا كان أولئك يملكون الحق في أن يمجدوا حربا ظالمة وطاغية
متخلفا, لماذا يحرم على المجتمع حق نقد وتفحص تجارب بشرية خاطئة, أو على أحسن
الفروض, غير سوية اجتماعيا وسياسيا وأخلاقيا؟ مما لا شك فيه أن اللجوء الى قوائم
التشهير, التي أخذت تظهر في الآونة الأخيرة, أمر يثير الريبة والاشمئزاز. لكن تلك
القوائم لا تمنح الجلاد أدنى حق في أن يتملص من الإدانة التاريخية, ولا تعفي ثقافة
كاملة قائمة على الموت والخراب من أن تُستثنى من البحث أو من كشف خفاياها القاتلة.
فتلك القوائم, حالها كحال ظاهرة التصفيات الجسدية للبعثيين, نتاج مباشر لتقاليد
ثقافة العنف, التي يسعى الجميع الى تحريم مناقشتها وكشف أسرارها الحقيقية. إن غياب
العدالة في ظل قوانين الفوضى يقود حتما الى الثأر الفردي, وغلق أبواب الجدل والبحث
والمكاشفة لن يقود إلا الى بيانات وقوائم الوشايات, التي تشكل درعا جماعية واقية,
يستر بها الأشرار خطاياهم. إن دعاة ثقافة العنف يسقطون في فخاخ نصبهوها بأنفسهم من
قبل لغيرهم. فهذه القوائم كانت مصدر فخر لأصحابها حينما صدرت من قبل مؤسسات
الديكتاتور باسم مكرمات وجوائز ووثائق القادسية وأم المعارك والمعارك الأخرى! لذلك
فتمحيص التاريخ وتخليصه من شروره هو الشرط الأساسي الأول لقيام عالم عادل, عالم لا
يُرغم فيه شاعر ضرير مثل كمال الحديثي على بيع نفسه رخيصا لمصلحة ديكتاتور محلي أو
أجنبي, ولا لكاتب "سجن, وعذب وأهين" أن يخرج على الملأ بـ "فيالق مدرعة من القصص",
لكي "يعيل عائلته"!
إن الحديث عن إرغام شعري فيه قدر كبير من التجني لا على الأدب والفن فحسب, بل حتى
على الديكتاتور نفسه. فشاعر مثل عدنان الصائغ يهدي نصره الى " أياد فتيح الرواي" في
نصه "زهرة عباد الفاو", لم يفعل هذا بأمر إرغامي من أحد, لا من الديكتاتور ولا من
غيره. إنه نص حر, كما سماه الكاتب بنفسه, كُتب بأمر من ذات تعي جيدا ما تريد.
فالراوي, الذي يحمل الرقم 38 في قائمة كبار المجرمين, والذي ارتبط اسمه بثلاث من
أكبر جرائم العراق: حملة التطهير العرقي في كركوك, التخطيط لجريمة غزو الكويت, وقمع
الانتفاضة, لم يكن اسما إرغاميا فُرض على نص شعري أو على شاعر من قبل أحد, على
الإطلاق. لماذا ظهر هذا المجرم في نص أدبي؟ وهل يحتمل الأدب مثل هذه الأسماء
الكريهة؟ الجواب: نعم, يحتمل, إذا كان النص يسعى الى جائزة ما. إنه الإرغام إذاً,
الإرغام, ولكن ليس من قبل الديكتاتور, وإنما من قبل ذات أدمنت مدح العرفاء
والقناصين. ففي قصيدة " أحاديث الموقد" يختار الصائغ من هو أصغر من الرواي, عريف
القناصين, ويتخذه مادة للبطولة الحربية والفخر الوطني " سأعلمهم أن القناصة لا تقبل
حلا. أن القناصة لا يسكنها الحالوب. حمل القناصة.. مزهوا ودعنا .. في عجل ثم مضى.
قال عريف حسين: سلمان أبو القناصة لا ينسى الأرض". هل حقا أن قنص البشر مدعاة للـ
"زهو" الشعري؟ ما الفرق بين هذا المديح وتمجيد أفعال فرق قطع الرؤوس التكفيرية
والطائفية؟ ما الفرق بين بيان للزرقاوي وهذا النص الوحشي؟ من أرغم الشاعر على قول
ذلك؟ لماذا هذا الصنف البشع من المقاتلين؟ كيف لنا أن نفهم هذه الذائقة الشعرية
نفسيا وفنيا؟ حينما يغرق الأدب في النفاق السياسي وتحل لغة الجهل والثأر وفوضى
القيم محل الجدل والتحليل, يصبح النص وتاريخ الثقافة مجرد ألغاز وتبريرات كاذبة, لا
تقود إلا الى إطالة أمد حفلات قطع الرؤوس. إن العودة الى تاريخ تلك الحقبة المظلمة
تكشف لنا أن شخصية القناص التي عرضها الصائغ لم تكن سوى ترجمة شعرية لقناص أحمد
خلف, الملقب بالعريف رحيم عودة. هنا لا يوجد إرغام ثقافي, هنا يوجد تنافس تعبوي,
تنافس مَرَضي من أجل إرضاء شهوة المؤسسة العسكرية! قد يحلو لهذا الأديب أو ذاك
الدفاع عن نفسه قائلا: تأملوا كلمة " بلابل" في نصي, وقولوا لي هل تحمل مدلولا
حربيا؟ إن نصوص القناصة ونصوص تمجيد القتلة تجيبهم قائلة: تأملوا كلمة قنص وعريف
وقائد فيلق وقولوا لنا: ألا تحمل سوى رائحة الموت الكريهة؟ إن الخراب الروحي لا
تجمّله البلابل مهما كانت شجية التغريد! كان كاتب النص حرا تماما في اختياراته
الفنية تلك, وحرا أيضا في تمجيد الحرب, ولم يكن بمقدور أحد إرغامه أو منعه من
استخدام هذا الحق فنيا واجتماعيا. لكنه آثر, طوعا, أن يسترسل في استخراج آخر قطرات
عبوديته وإخلاصه "الحر" للجلاد ولثقافة العنف. هنا لا توجد عوائل نعيلها, هنا لا
توجد سوى بضاعة رخيصة ومقيتة اسمها خراب الضمير, والإدمان على العبودية, واستسهال
الاستخفاف بمشاعر شعب كامل, مرة تلو أخرى, ببرودة أعصاب مطلقة وضمير مستريح.
لقد أحصيت لكمال الحديثي وحده أكثر من مئة وثلاثين قصيدة طويلة في مدح صدام، كتبها
خلال سنوات معدوات، لا يتسع المجال لذكرها، ربما لانتفاء الحاجة اليها. لكنني ذكرت
بعضها كنماذج حسية لعملية خلق شخصية الديكتاتور وصياغتها. فالديكتاتور لا يُصنع من
خلال المشانق والدبابات فحسب, بل يصنع جانبه الروحي المزيف، بدرجة أكبر، من خلال
الكلمة والأغنية والقصيدة والقصة والتمثيلية والصورة, وحتى من خلال الرواية
الشفاهية الكاذبة, كتلك التي تناقلها الشيوعيون, من خلال أمين عام حزبهم السابق
عزيز محمد عن " كاسترو العراق"! لقد سقنا تلك النماذج لا لكي نثبت وجود مادحين
لصدام ولجهاز الحرب والديكتاتورية، فحب المديح أمر يشترك فيه مع صدام، بدرجات أكثر
أو أقل، كثير من الحكام. لكن هذا الضرب من المديح مخصص لصناعة ديكتاتور، ومخصص
لتمجيد النزعة الفردية والاستثنائية في شخصية الديكتاتور. أي أنه مخصص لنسج الغطاء
الروحي الزائف للطاغية والطغيان. فصدام هنا هو قدر الشعب وقدر الأمة، بل هو سيد
الدنيا! في تلك النتف لم يكتف الشاعر بجعل صدام "مجد السماء"، وإنما أصرّ على
جعله بمنزلة من هو "ليس كمثله شيء"، أو أعلى قليلا في الرتبة. فقد فاقت صفات صدام،
بعددها وتنوعها، أسماء الله الحسنى.
انتحار صاروخ لقد سعى جيش المفسدين من المثقفين والأدباء الى تدعيم "فرادة"
و"استثنائية" الديكتاتور ليس بكلمات المديح الشعرية وحدها، وإنما أيضا بالتنظيرات
الكاذبة الممجدة للقوة والحرب، كجزء أساسي من منطق العنف، الذي يقوم عليه بناء
الديكتاتور النفسي ومشروعه السياسي. ولم يكتفوا بذلك، بل سعوا الى جعل الديكتاتور
خبيرا "فريدا" وعالما بكل شيء، وراحوا يدعمون ذلك بالأمثلة الحسية المستقاة من
واقع الحياة ومن التاريخ. فصدام حسين، في نظر حميد سعيد، ليس قائدا فحسب، بل هو
شاعر وأي شاعر، ناقد وأي ناقد. يقول حميد سعيد: " للقائد قاموسه الدقيق في توصيف
الأشياء حتى كأن علاقته باللغة مثل علاقة الصائغ الماهر بالذهب، وطالما فاجأتنا
لغته وصياغته لأفكاره.." فصدام ناقد حصيف، وصدام شاعر وفقيه أيضا " فهو يجمع بين
دفق الشعر ودقة الفقه. وباستمرار تكون المفاجأة في أوساط أهل الشعر وذوي الأدب أكبر
مما هي في أوساط سواهم". ولا يكتفي حميد سعيد بذلك القدر من العلم لقائده، وإنما
يواصل اكتشاف خصائص صدام العقلية والعلمية قائلا، في مقالة (انتحار صاروخ)، إن صدام
حسين صحح له ولوزير الثقافة معلومة حربية، حينما شاهدا فيلما عن إطلاق صواريخ على
طائرات إيرانية، مندهشين للحركة اللولبية للصاروخ. فما كان من صدام إلا أن صحح لهما
جهلهما الصاروخي قائلا: " إن الحركة اللولبية للدخان الأبيض تعني أن الصاروخ لم يصب
هدفه". ولم يكن هذا الاكتشاف العظيم أهم ما جاء في مقالة حميد سعيد. كان انبهاره
ودهشته العميقة ,الصادقة أو الكاذبة, بقائده هو الجزء العجيب من المقالة. فقد
اكتشف حميد سعيد آنذاك أن الصواريخ قد تنتحر، وأن قائده عالم حتى في مجال علم نفس
الصواريخ! أما عبقرية صدام العسكرية فقد كانت شأنا ذائعا في الثقافة العراقية
البعثية. وقد تناولها بالبحث والتحليل عدد كبير من الكتاب، أبرزهم القاص والصحافي
فاتح عبد السلام. وقد شرح عبدالسلام عبقرية صدام العسكرية في عدد غير قليل من
"الدراسات" الصحافية منها: (عناصر التفوق العسكري في سلوك القائد صدام حسين)
و(العناصر العملية في الفكر العسكري للقائد صدام حسين). ومعروف أن فاتح عبد السلام
هو صاحب السبق العقلي التاريخي في مقالته (ثلاث تهديدات تجعل الغزو الأمريكي في
مرمى الفشل الأكيد). فقد اكتشف الكاتب أن صدام حسين، كعقل عسكري، يتفوق على التطور
الفني العسكري. ولما كان صدام قائدا عسكريا "استثنائيا"، فإن القدر لا بد أن يقف
الى جانبه في مواجهة التفوق العسكري الأميركي! وقد خابت نبوآت عبد السلام كلها،
جملة وتفصيلا.

غالب ياسين
15/12/2007, 11:18 AM
بيد أن علوم صدام تجاوزت ذلك. فهو عالم بالحيوان أيضا. يقول حميد سعيد في مقالة له
نشرها في (حراس الوطن) بعنوان (النسر أم الصقر), نقلا عن أحد القراء: " في كثير مما
قرأنا من شعر ونثر، كان ذلك في كتبنا المدرسية أيضا، أن النسر رمز للقوة والشموخ،
حتى أصبحنا نصف الشخص المتميز في شجاعته وإقدامه بالنسر... ثم نبهنا الرئيس القائد
صدام حسين وهو يتحدث الى مجموعة من الطيارين "نسور الجو" الى أن النسر من الطيور
التي تأكل الجيف، ومن يومها أصبحنا نسمي طيارينا الأبطال صقور الجو! ويأبى وزير
الثقافة لطيف نصيف جاسم إلا أن يكون مشاركا في حفلة اكتشاف عبقرية صدام، لكنه لا
يجد علما ينسبه الى رئيسه لم يسبقه الآخرون اليه. لذلك يخترع، في مقالة له، علما
خاصا بالرئيس اسماه "الاستشراق الفكري الخلاق للرئيس صدام حسين". وكان الوزير قد
نسب الى صدام علما آخر، وهو علم مؤكد، فقد عده " مبدع التعبئة وتعبيراتها المؤثرة"
(القادسية 11-7-1002 ) ثقافة الحرب إن صدام الاستثنائي يترك لأدباء ثقافة العنف
والخراب مهمة صياغة صفاته الاستثنائية. وصدام المتفرد علميا وعقليا يمنح جيش
المزورين المحترفين مهمة صناعة مآثره العلمية والعقلية. ولما كان الديكتاتور
استثنائيا، ولما كانت الحرب هي الاستثناء التاريخي الخاص بالديكتاتور* صدام أو غيره
من الزعماء الديكتاتوريين* فإن الشاعر عدنان الصائغ يرى أن الحرب، التي تصنع
المقابر الجماعية والخراب الروحي في نظر البشر الضعفاء، لها فوائدها الإنسانية
العظيمة في نظر أدباء الديكتاتور, فهي تعمل كالغربال الروحي في المجال الثقافي.
فبواسطة "ثقافة الحرب" تتم تنقية التاريخ من شوائبه وأدرانه. يقول الصائغ: "ثقافة
الحرب تغربل ثقافة عصر كامل". ولما كانت حرب صدام استثنائية، فهي لا تقبل بأي أدب
كان. لذلك يضيف عدنان الصائغ وهو يفسر ما أسماه "أدبنا الحربي الجديد"، موضحا وجهة
نظره نثرا، والنثر واش عظيم لا يقبل المراواغة: "كنت أتعجب كلما قرأت قصيدة باردة
عن الحرب، باردة كأنها تتحدث عن الشانزليزيه بلغة مستوردة وأفكار طازجة لا علاقة
لها بالواقع والحرب والوطن.. أو مقالة نقدية تتحدث عن أدبنا الحربي الجديد بمقاسات
معدة سلفا أو مفصلة على جسد قصيدة الحرب الجاهلية أو حرب تشرين ! * لا فرق* ". في
هذا النص القصير نعثر على تلخيص واف لآلية عمل النظام الديكتاتوري. فالشاعر يعلن
دهشته وهو يرى سلبية الإدباء المحيطين به, ممن لم ينخرطوا بعد في صناعة "أدبنا
الحربي الجديد", لذلك يقف علنا ضد أولئك المائعين الذين يكتبون نصوصا باردة عن
الحرب, فـأدب صدام الحربي الجديد يتطلب نصا ساخنا يضاهي سخونة حرب القائد. ولا
يكتفي الشاعر بذلك بل يتطوع لتوجيه أنظار القائمين على ثقافة الحرب الى أصحاب
النصوص الباردة, أو"المتخاذلين" كما اعتادت السلطة أن تسميهم!
لمن كان الشاعر يوجه خطابه؟
من كان حاضرا في مخيلة الكاتب, من القتلة (مسؤولي جهاز المخابرات) والمغدور بهم
(أصحاب النصوص الباردة), وهو يقوم بالتحريض العلني على كتاب الأدب البارد, الذين
يساوون بين حرب القائد وحروب تافهة كحرب تشرين, وهو يدرك تماما أنه يعيش في وطن
تمارس فيه الدولة قتل مواطنيها على الشبهات؟ مثل هذه التساؤلات ترددت كثيرا في نصوص
جيش الوشاة, وهي في مجملها تساؤلات تصاغ في هيئة تنبيه يوجه الى جهات معينة. مثل
هذا التساؤل نجده في خاتمة نص عدنان الصائغ الذي يمتدح فيه قادة الجند وماجدات
اتحاد نساء العراق, المعنون "زهرة عباد الفاو", حينما يختتمه قائلا: " لن تكفي كل
مانشيتات الدنيا لنقل بشائر التحرير. ماذا نفعل؟" فالشاعر هنا يصرخ بملء الفم طالبا
العون, من أحد ما, بعد أن استهلكت مانشيتات الدنيا كلها في عمليات التمجيد!
في مثل هذه النصوص التحريضية وغيرها نرى أن القائد الضرورة له حربه الضرورية،
وللحرب الضرورية أدب ضروري، وللأدب الضروري أديب ضروري، وللأديب الضروري نص خاص،
استثنائي، لا يشبهه نص آخر على مدى التاريخ. إن الحرب، هنا، ليست استعلاء وحشيا
على البشر الضعفاء فحسب، بل هي أيضا استعلاء فني وأدبي على فنون الأدب التي لا
تتلاءم مع مزاج ثقافة العنف. ولهذا السبب يقف الصائغ ساخرا من الأدباء العراقيين
والنقاد، الذين لا يستطيعون مجاراته في فهم لعبة الحرب وقوانيها ومعادلاتها
ومهاراتها. فقد غدت الحرب وثقافة الحرب بمنزلة الحقيقة الوحيدة الماثلة أمام أعين
جيل كامل. وإذا كان حميد سعيد البعثي القوي والمتمكن والصريح يجوز لنفسه حق استخدام
سلاح "القندرة" لمحاربة مناوئي الحرب, فإن شاعرا من جيش الوشاة, لا يتقن سوى الضرب
تحت الحزام, يستخدم ضميره الحربي ليضرب به على رأس الوطن ورؤوس من لا يستطيعون
إنتاج قصيدة حربية تلائم "أدبنا الحربي الجديد", أدب حرب صدام حسين. لكل هذا يأبى
شاعر كهذا أن يتوقف عند حدود السخرية والتعجب والتحريض على الآخرين، بل يندفع أبعد
من هذا حينما يستعير كلمات الفرد دي موسيه قائلا: " دع هذا الجرح المقدس، دعه يتسع،
فلا شيء يجعلنا عظماء كالألم العظيم". هنا، تكتمل تفاصيل المشهد: الحرب "القوة"
تصنع "الجرح المقدس", أي الألم الجماعي والمقابر الجماعية، والألم يصنع "المطهّر"،
والمطهر " مشاريع القائد الروحية" يصنع العظمة الثقافية, أي تصنع أغاني "العرفاء"
و"القناصة".
إنها مبادئ الفاشية الأساسية, كما وردت في أصولها الكلاسيكية: القوة، والألم صانع
العظمة، وثقافة النخبة المحاربة. أما سليم السامرائي، الذي يجد في نفسه شجاعة
أدبية تتجاوز حدود تجربة الصائغ السياسية المتواضعة، فلا يكتفي بالمطالبة بأدب حربي
جديد، بل يمضي أبعد من ذلك، معمما أدب القادسية ومفاهيمها على الكتاب العرب أجمع،
والإنسانيين منهم خاصة، داعيا (مهددا) إياهم الى الانخراط في جيش الأدب الجديد هذا:
" لم يعد أمام المثقف العربي المعاصر إلا خيار واحد، هو الارتباط الجوهري بحاضر
الأمة ومستقبلها، ان الثقافة العربية التي امتحنت نفسها بمعركة القادسية الجديدة،
قادسية صدام، وتمثلت معطياتها التاريخية، لم تعد تتقبل أو تصالح الافكار والتصورات
المجردة، التي اصطلح بعض المثقفين العرب على تسميتها بالأفكار الانسانية العامة".
يقول حنا بطاطو عن صناعة الديكتاتور، وهو يتحدث عن مرحلة سابقة من تاريخ العراق:
"ربما يكون تعبير (الزعيم الأوحد) قد ولد على لسان متملق لا قيمة له، ولكنه كان
لهذا التعبير أن يكون صياغة سياسية جيدة الإعداد. وأول ما استعملت هاتان الكلمتان
*كما هو مؤكد تقريبا* في تشرين الأول (اكتوبر) 1958 ، ومن قبل ضابط صغير من
المحيطين بقاسم" . وقد تبنى الشيوعيون "فورا هذا الشعار ونشروه على أوسع نطاق ممكن.
والواقع أنه أصبح، في فترة كان الخطر الحقيقي يحدق بهم، النقطة الرئيسية في
نداءاتهم العامة، الأمر الذي مكنهم من إيجاد بؤرة تركيز واضحة لتيارات شديدة الغموض
قائمة في وسط جماهير عراقية واسعة شديدة التباين في ما بينها". (العراق- ص 119جـ 3)
من هذا كله نخلص الى أن صناعة الديكتاتور وثقافة العنف، والتعبير عن مآثر
الديكتاتور الأساسية: الحرب والعنف، عملية اجتماعية لا يصنعها الديكتاتور بنفسه، بل
يقوم بها جيش لجب من الوشاة والمادحين، والسياسيين النفعيين، والكتّاب ميتو
الضمائر. ولهذا السبب قلت في كتابي (ثقافة العنف في العراق) : " ليس الحاكم الفاسد
وحده من يفسد رعيته. إن الرعية الفاسدة قد تقوم بعملية إفساد الحاكم أيضا". وفي
ظروف العراق، في حقبة صدام خاصة، كان الإفساد عملية متبادلة بين الديكتاتور وجيش
المزورين والوشاة، من دعاة ثقافة الحرب والعنف والخراب. إن أفدح الخسائر الروحية
التي يتعرض لها مجتمع ما، هي أن يُرغم الإنسان فيه على نسيان الشر باسم التسامح
الكاذب. فالشر والتسامح الصادق لا يلتقيان. إن التسامح يعني العفو والصفح. وهو مطلب
شرعي وعادل تفرضه حياة المجتمعات التي عششت فيها مآس كبيرة كالعراق. أما النسيان
فيعني إغماض العين عن شر واقع، محقق. فأن تسامح مخطئا * صغيرا كان أم كبيرا* أمر،
وأن تجوز قبول الخطأ وتكرار وقوعه مجددا أمر آخر, مختلف تماما. إن التقييم الثقافي
ودراسة الواقع لا صلة لها البتة بالحكم الجنائي، الذي يحاسب الأفراد على أفعالهم.
ففي التقييم الثقافي يستوي الجميع، الصغير والكبير، التافه والعظيم، القليل
والكثير. فالشر شر، قليله شر وكثيره شر. وهنا، في هذه النقطة الصغيرة، يخلط البعض
جهلا أو عمدا بين أمرين لا يجتمعان: الحكم الجنائي على الأفراد والتقييم الأدبي
للنص، ساعين، الى إيقاف أي جهد يرمي الى تسليط الضوء على دورة حياة الشر الرهيبة
والمقيتة, والمغلقة.
أمر آخر له أهميته الثقافية العظيمة, اعتاد أصحاب نظرية النسيان تزييفه, عن قصد, هو
مساواة أو مقارنة الأخطاء, كمقارنة عملية قتل ينفذها شرطي بحق مواطن بقصيدة تحرض
على القتل أو تمجد قادة الجند ومشرعي الحروب والقتلة. وفي مثل هذه المحاكمات
السوقية البائسة يتم تجريم الشرطي, طبقا لحسية الفعل الجنائي. بيد أن أولئك ينسون
أنهم بهذا الفعل يسقطون أدوارهم, كمنتجين ثقافيين, لأسباب عديدة. فهم أولا يبخسون
دور الثقافة في بناء الوعي الجمعي, بما في ذلك مشروعية القتل والحرب والإرهاب,
وثانيا ينسون الأثر العام, الجماعي, الذي يميز عملية قتل حسية ضد مواطن محدد عن
عملية تمجيد للقتل موجهة الى ملايين البشر. والأهم من ذلك كله, ينزع مثل هذا
التزييف عن الأديب والفنان أهم جوانب ذاته: ضميره ومحتواه الأخلاقي. فإذا كانت
مسؤولية الشرطي ترتبط بأداة من أدوات مهنته, المسدس أو السوط, فإن مهنة ووظيفة
الأديب ترتبط بالكلمة. وحينما يتم تجريد الكلمة من قاموسها الإنساني أو تدنيسها
بالشر ينحرف اتجاه سير المبدع والخالق الفني, كإنسان وفنان, ويذوب في مشروع الخراب
الكبير, فيغدو, حقا, جزءا "خلاّقا ومبدعا" في حقله, لكنه جزء من تراث سلالة القتلة.
إن الإبداع مسؤولية فردية, يختارها المرء طوعا, ويمارسها بمحض إرادته. فلم يرغم أحد
الشاعر على تمجيد صدام حسين وحروبه الشريرة, إذا لم يكن هو نفسه على استعداد للسير
في ركب الممجدين. وهنا يكون الشرطي أكثر إرتباطا بالجريمة جنائيا لأسباب حسية فحسب,
لكنه أقل مسؤولية من الشاعر والفنان أخلاقيا وثقافيا, بسبب مهنته ووظيفته. ذلك هو
الحد الفاصل بين قائد فصيلة الإعدام وممجد ثقافة الموت. وهو الحد الذي يريد صانعو
ثقافة العنف تجريد الثقافة من أمر النقاش فيه, ومعاينة وتمحيص تاريخه, الذي هو
تاريخ الحرب والديكتاتورية. لذلك كله فإن الخطورة الأخلاقية والعقلية والنفسية, أي
الثقافية, أعظم بما لا يقاس لدى الأديب والفنان. وإذا كان التاريخ يتظاهر أو ينسى
أحيانا, مرغما, الأحداث الفردية, فإن المحتوى الثقافي والنفسي والإخلاقي العام
للعهود المظلمة يظل يفعل فعله في الذات البشرية, من دون وعي لزمن طويل, لأنه جزء من
النسيج الروحي الداخلي لحقبة تاريخية مؤثرة, لا يمكن معالجتها من دون صياغة وتنفيذ
خطط وطنية عميقة وشاملة تهدف الى إعادة إعمار ما خربته ثقافة الشر. إن توالي
الكوارث السياسية قد تجبر المجتمع على نسيان تجارب الماضي، حتى القريبة منها،
والانشغال والانغماس في معالجة كوارث الحاضر ومآسيه. والمجتمع العراقي أحد
المجتمعات التي لم تتمكن من النظر في أمورها بعمق وروية. وبذلك أضحت عادة النسيان
ثابتة في سلوكه، فما أن يخرج المجتمع من أزمة سياسية حتى يجد نفسه منجذبا الى
دوامة أزمة جديدة أشد من سابقتها. لذلك يغرق الفرد والمجتمع في معادلات آنية تكون
نتائجها دائما لمصلحة الجزء الفاسد من الحياة والمجتمع: إنتاج دورة الشر. فمن يجرؤ
في عراق اليوم على نقد ومناقشة قصيدة مديح كتبت لتمجيد الطاغية أو حروبه وجنرالاته؟
سيظهر ألف ناعق رافعا في وجه المناقش راية الديموقراطية وحقوق الإنسان وتهم الغدر!
وماذا تساوي قصيدة كهذه إذا ما قورنت بجثة ضحية؟ وماذا يساوي ديوان مديح قياسا
بمقبرة جماعية, أو رأس شهيد مغدور به ملقى في مزبلة؟ بيد أن هذا الحساب الآني الفج*
مقارنة القبور بقصائد المديح* الذي يجعل من محاكمة الماضي ضربا من الترف والبطر، هو
الأساس العقلي والروحي الذي قاد ويقود الى إعادة إنتاج دورة الشر. فما من قبر جماعي
لم يبدأ حفره بكلمة فاسدة، وما من حرب لم تبدأ بالأناشيد الحماسية عن الوطن العظيم,
مكتشف الأبجدية, الذي يمشي نصف سكانه الأميين الحفاة الى حروب لا تنقطع! إن محاكمة
الشر الثقافي، لا تعني محاكمة الأفراد من أجل تجريمهم. إن محاكمة أدب الشر هي
محاكمة ظاهرة اجتماعية ثقافية، تهدف الى كشف الغطاء الروحي الزائف الذي يغلف جسد
الديكتاتور ويستر مشاريعه العدوانية. كما تهدف الى فضح أمراض روحية مزمنة ترافق
سيادة الطغيان. فجيش الوشاة والمزورين جيش أبدي، يظهر كلما أومأت اليه يد الشر. جيش
يمتلك مقدرات عجيبة على التخفي، والتزيي بزي جديد؛ ولربما استطاع حتى أن ينزع ثوب
ديكتاتوره السابق ويلبس ثوب ديكتاتور جديد، أو أن ينزع ثوب حربه السابقة ويلبس ثياب
حروب جديدة. إن دراسة الماضي هي الخطوة الأولى، في المسيرة الطويلة، الرامية الى
كسر دائرة الشر المغلقة. وكل من لا يرى ذلك إنما يسعي، بوعي تام، الى إعادة هذا
الماضي، ولكن بثوب جديد, وربما بثوبه القديم إن استطاع. # فصل من كتاب سيصدر
قريبا باسم "من يصنع الديكتاتور؟"
http://www.shrooq2.com/vb/showthread.php?t=10055