المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : التفسير العلمى للقرآن بين الموافقين والرافضين



إبراهيم عوض
23/12/2007, 01:21 AM
منذ قرون، والتفسير العلمى للقرآن يتأرجح بين الرضا والترحيب من فريق من العلماء، والتوجس والرفض من قبل فريق آخر. والصفحات التالية تعرض للموقفين جميعا، وإن كانت فى نهاية المطاف تنحاز لأحدهما. فلأى الموقفين تنحاز يا ترى؟ لكن لم استباق الأحداث، وليس بين القارئ ومعرفة الإجابة إلا أن يفتح الملف المرفق؟

إبراهيم عوض
23/12/2007, 01:21 AM
منذ قرون، والتفسير العلمى للقرآن يتأرجح بين الرضا والترحيب من فريق من العلماء، والتوجس والرفض من قبل فريق آخر. والصفحات التالية تعرض للموقفين جميعا، وإن كانت فى نهاية المطاف تنحاز لأحدهما. فلأى الموقفين تنحاز يا ترى؟ لكن لم استباق الأحداث، وليس بين القارئ ومعرفة الإجابة إلا أن يفتح الملف المرفق؟

معتصم الحارث الضوّي
23/12/2007, 01:28 AM
أستاذي المفضال إبراهيم عوض
لا شك أن الموضوع ذو أهمية قصوى للقراء، وخاصة في هذا العصر الذي تتنازع فيه التيارات الفكرية والطائفية. لي عودة بعد قراءة متعمقة لهذا الدراسة القيّمة.

مع فائق احترامي وتقديري
(ملاحظة: دمجتُ المشاركتين للتيسير)

معتصم الحارث الضوّي
23/12/2007, 01:28 AM
أستاذي المفضال إبراهيم عوض
لا شك أن الموضوع ذو أهمية قصوى للقراء، وخاصة في هذا العصر الذي تتنازع فيه التيارات الفكرية والطائفية. لي عودة بعد قراءة متعمقة لهذا الدراسة القيّمة.

مع فائق احترامي وتقديري
(ملاحظة: دمجتُ المشاركتين للتيسير)

نظام الدين إبراهيم أوغلو
10/01/2008, 12:37 PM
أستاذنا الكبير الدّكتور إبراهيم عوض

لقد أستفدت كثيراً من مقالتكم الرّائعة والتي تطرح موضعاً مهماً ومفيداً جداً جزاكم الله ألف خير.

بالنسبة إلى موضوع إختلاف العلماء كما نعلم سنة من سنن الكون، ولكن هذه السّنة لو أستعملت خطئاً أو عمداً فيؤدي إلى خلخلة التوازن وزعزعة قوانين الطّبيعة والإستقرار وخاصة عند زيادة عدد المخطئين وتغيرهم قواعد الكون والإله الواحد الأحد فعندها الطامة الكبرى والمصيبة العظمى، فعلينا أن نهتم بكافة حقائق الكون ولكن في إطارها الخاص مستقل ومنعزل عن الحقائق الأخرى. فلنأخذ الآن حقيقة القرآن الكريم كونه كتاب عقائد وهداية للعالمين جميعاً وحقيقة المعارف العلمية، لذا يجب على العلماء أن لا يخلطوا بينهما لا في عنوان الموضوع ولا في جوهر الموضوع، فأنا من المؤيدين لفكرة الشّاطبي والدّكتور الذهبي. علماً أنّ الرّفض لفكرة التفسير العلمي لا يجدي فائدة بتاتاً، وأقول لمن يريد كتابة مثل هذه المقالات أو الكتب عليهم أن يختاروا عناوين أخرى فبدلاً من التفسير العلمي للقرآن الكريم فيظن الناس أنه من صلب العقيدة، عليهم أن يسموا كتبهم أو مقالاتهم مثلا "مسائل (أو حقائق) علمية في القرآن الكريم" وأن لا يسندوا هذه الحقائق كأنها من أساسيات الإسلام وكذلك على علماء التفسير أن لا يستدوا إلى الحقائق العلمية بشكل مفصل في كتبهم ويظن الناس من العقائد. ولقد أعجبتني نصين في المقالة وأذكرها أدناه:

ثالثًا الناحية الاعتقادية. القرآن الكريم باقٍ ما تعاقب الـمَلَوَان، ونظامه نافع لكل عصر وزمان، فهو يتحدث إلى عقول الناس جميعًا من لدن نزوله إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهو يساير حياتهم فى كل ما يمرون به من مراحل الزمن. وهذا كله بحكم كونه كتاب الشريعة العامة الشاملة، وقانون الدين الذى جعله الله خاتم شرائع السموات إلى أهل الأرض. هذا ما يجب على كل مسلم أن يعتقده ويدين به حتى يَسْلَم له دينه ولا يرتاب فيه. فإذا نحن ذهبنا مذهب مَن يُحمِّل القرآن كل شىء وجعلناه مصدرًا لجوامع الطب وضوابط الفلك ونظريات الهندسة وقوانين الكيمياء وما إلى ذلك من العلوم المختلفة لكُنَّا بذلك قد أوقعْنا الشك فى عقائد المسلمين نحو القرآن الكريم. وذلك لأن قواعد العلوم وما تقوم عليه من نظريات لا قرار لها ولا بقاء، فرُبَّ نظرية علمية قال بها عالِمٌ اليوم ثم رجع عنها بعد زمن قليل أو كثير لأنه ظهر له خطؤها. وأمام سمعنا وبصرنا من المثل ما يشهد بأن كثيرًا من جوامع العلم لا يضطبها اليوم أحد إلا تغير ضبطه لها بعد ذلك. وكم بين نظريات العلم قديمة وحديثة من تنافٍ وتضادٍّ، فهل يعقل أن يكون القرآن محتملاً لجميع هذه النظريات والقواعد العلمية على ما بينها من التنافى والتضاد؟ وإذا كان هذا معقولاً، فهل يعقل أن يُصدِّق مسلم بالقرآن بعد هذا ويكون على يقين بأنه كتاب الله الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؟

هذا ما قاله الدكتور الذهبى رحمه الله، ولكن كيف يعرف المسلمون أن القرآن ليس فيه ما يصادم حقيقة من حقائق العلم ما لم يدرسوه جيدا من هذه الناحية؟ علاوة أن كونه كتاب هداية ليس معناه أن نقصر هذه الهداية على هداية العقيدة والخلق والسلوك فحسب، إذ الهداية أوسع من ذلك وأعم وأشمل: فهناك هداية فكرية، وهداية سياسية، وهداية اجتماعية، وهداية اقتصادية، وهداية ذوقية، وهداية صحية، وهداية إدارية... وهلم جرا. ومن هداية الفكر ما يلفتنا إليه القرآن من ظواهر الكون وحقائق العلم... وهلم جرا. والقرآن مفعم بالآيات التى تدعو إلى تشغيل العقول والنظر فى الآفاق والاستزادة من المعرفة واتباع المنهج العلمى الصحيح فى التفكير والاستدلال، فليس كل كتاب الله إذن مخصصا للهداية العقيدية والأخلاقية والسلوكية دون غيرها من الهدايات. ثم إن فى القرآن آيات كثيرة تتعلق بالمعارف العلمية الطبيعية والرياضية والإنسانية، فماذا نصنع إزاءها؟

مي عورتاني
10/01/2008, 02:44 PM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الموضوع شيق جداً و حساس جداً في نفس الوقت ...و أوافق السيد نظام الدين أوغلو الرأي تماماً على تغيير المسمى.

مع فائق إحترامي و تقديري لمن أثار هذا الموضوع الشيق, حيث أننا في عصر العلم و الكثير من شبابنا يستخدمون ما يسمى بالإعجاز العلمي في القرآن للدعوه و هذا بالتأكيد سلاح ذو حدين يتطلب الكثير من الحذر من مستخدمه.
وشكراً

محمد إسماعيل بطرش
10/01/2008, 03:50 PM
العالَم نوعان: عالم الغيب و عالم الشهادة. أما عالم الغيب فيقع وراء سعة العقل البشري و إمكاناته و ليس لنا عليه من سلطان إلا بما أراد الله سبحانه و تعالى إطلاعنا عليه عن طريق الوحي و ليس لنا إلا أن نؤمن به كما هو أو ننكره فنكن من الكافرين. و الإيمان أو عدمه قدَر للإنسان رغم أن الله عندما وهبنا العقل خيرنا أن نحمل تلك الأمانة أو نكون كالعجماوات التي تستحيل ترابا بعد بعثها لأنها سقط عنها التكليف و كذلك كل من لم يهبه الله القدرة على التمييز بالعقل الذي هو الأمانة التي عرضها الله سبحانه و تعالى على السماوات و الأرض و الجبال فأبينها و أشفقن منها و حملها الإتسان إنه كان ظلوما جهولا.
أما عالم الشهادة فهو العالم الذي يقع تحت سيطرتنا و مجال البحث فيه مفتوح لنا غير أننا لا نستطيع النفاذ من أقطاره إلا بسلطان. هذا العالم متغير الأبعاد مكانا و زمانا و مرتبط بقدر محتوم في عالم الغيب و سبحان الدائم على الدوام.
يحدثنا القرآن الكريم عن أحداث وقعت و النتهت و هي من عالم الشهادة كما أنه يحدثنا عن أمور من عالم الغيب وليس بمقدورنا تطبيق القوانين الوضعية عليها و لم يجعلها الله ضمن مجال عالم الشهادة و التطاول عليها يعتبر نوعا من المكابرة التي قد تدخل المرء في المحظور الذي جعل إبليس محروما من رحمة الله.
لا يعني هذا كف العقل عن التفكر في خلق السماوات و الأرض بما يسعه العقل البشري أما أن يتجاوز حدود ما منح الله العقل من السعة فهو تطاول على القَدَر دون طائل لإنه ليس بالإماكان أبدع مما كان و لو اطلعتم على الغيب لاخترتم الواقع و الله ولينا و هو السميع البصير.

Dr. Schaker S. Schubaer
10/01/2008, 05:36 PM
بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على رسوله الأمين

مازلت لم أقرأ الملحق، لكني أود القول بأنه عندما يتكلم الله عز وجل فما ورد منه هو حقيقة مسلم بها. فعندما يقول الله تعالى: "ألم* غلبت الروم* في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون* في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون* بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم*، فكان المؤمنون متيقنين من حصول الحدث، الذي يقف ضد الرؤية الاستراتيجية، لأن قائله هو رب العباد المكشوف عنه الغيب. وهو هنا لا يقول هذا للحفاظ على معنوياتهم، فالمسلمون غير معنيين بالحدث ولا مشاركين فيه، اللهم أن الروم كانوا أهل كتاب، والفرس كانوا وثنيين. وقد حدث أن أتي هرقل وهزم الفرس، والكل في الغرب إلى يومنا يتغنى بعظمة هرقل، ولا يتغني بالناس الذين احترمهم هرقل عندما قال عنهم أثناء معركة مؤتة: إن كانوا كما وصفت فسيجلسوا على كرسي هذا. وقد كان.

لكن قد تكون هذه الحقيقة أو تلك على مستوى تخصصي، في هذه الحالة يحتاج الأمر إلى تبيان تركيبة أو تفصيلة الآية المعطاة على المجال المعطى. خذ مثلاً قوله تعالى: ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين* ثم جعلناه نطفة في قرار مكين* ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا العظام لحماً ثم أنشأناه خلقاً آخر فتبارك الله أحسن الخالقين*. ليشرح هذا القول يحتاج الأمر إلى عارف بعمل الأجنة (Embryology)، أين مرحلة النطفة بدايتها ونهايتها، بداية ونهاية مرحلة العلقة، ... الخ.

وهذه المراد معرفتها ليس من باب الموقف الإبراهيمي: "ليطمئن قلبي"، بل قد يترتب عليها أمور تشريعية لا أريد أن أدلف في تفاصيلها هنا. خذ مثلاً ترملت إمرأة وهي حامل في الشهر الثاني، هل هناك فرق في توزيع الإرث بين حالات كالتالي: أنها أجهضت في الشهر الثاني أو السابع أو مات أثناء الولادة، أو عاش المولود؟

فريق يخاف أن يتصادم مع بعض الآراء، ودخولنا دوامة الجدل البيزنطي! لأنه يريد أن يرتفع بالقرآن الكريم عن هذه المستويات من الإسفاف. وهذه نراها كل يوم، نعطي مدخلات، ويتصرف من أمامنا وكانه لم يسمع أو لم يفهم. وقد يكون التفسير المعطى منطبقاً لكنه خطأ.

يقول المناطقة: حكم أي قضية هو إما صادق أو خطأ، ولا يمكن أن يكون خطأ وصواب في نفس الوقت. خذ مثلاً: الشمس ثابتة أي غير متحركة هو حكم صادق. وعليه فحكم القضية الشمس متحركة هو خاطئ. لكن قول المناطقة يفترض نفس المستوى للقضية. يعني أن هناك جمله مفقودة لمستوى القضية، وهي المجموعة الشمسية. أي أنه في المجموعة الشمسية كمستوى للقضية هذه المقولة صحيحة. أما إذا تغير مستوى القضية وتكلمنا عن مجموعة النسر وثبتنا مجموعة النسر كمستوى للقضية، فإن الشمس ثابته كحكم تعتبر قضية خطأ. أما إذا لم يتم تثبيت مستوى للقضية أي المستوى مفتوح فيمكن أن تكون كلا القضيتين صواب وخطأ في نفس الوقت.

وهو أمر معلوم للرياضيين، فهم يعتبروا أن مجموعة الأعداد الطبيعية {1، 2، 3، ....} هي مجموعة جزئية من مجموعة الأعداد النسبية أو الكسور، أي أن لها مقام، ومقامها الوحدة وإن لم يتم الإشارة إليه.

فإن اعتقدت أن قضية ما مطابقة لحكم قضية وردت في القرآن، وثبت فيما بعد خطأ القضية، فهذا يعني أن نرجع إلى احكام القضايا ومستوياتها. خذ مثلاً قصة الجراح الشهير موريس بوكاي، الذي اكتشف غرق المومياء المصرية (وهي لرمسيس الثاني) من خلال الفحوصات التي تمت على المومياء. واعتقد أنه اكتشف جديداً، وبدأ يعد التقرير النهائي كان موريس بوكاي عما كان يعتقده اكتشافاً جديداً في انتشال جثة فرعون من البحر وتحنيطها بعد غرقه مباشرة، حتى همس أحدهم في أذنه قائلا: لا تتعجل .. فإن المسلمين يتحدثون عن غرق هذه المومياء ولكنه استنكر بشدة هذا الخبر واستغربه، فمثل هذا الإكتشاف لا يمكن معرفته إلا بتطور العلم الحديث وعبر أجهزة حاسوبية حديثة بالغة الدقة، فقال له أحدهم إن قرآنهم الذي يؤمنون به يروي قصة عن غرقه وعن سلامة جثته بعد الغرق، فازداد ذهولا وأخذ يتساءل .. كيف هذا وهذه المومياء لم تُكتشف إلا في عام 1898، أي قبل مائتي عام تقريبا ، بينما قرآنهم موجود قبل أكثر من ألف وأربعمائة عام؟ وكيف يستقيم في العقل هذا، والبشرية جمعاء وليس العرب فقط لم يكونوا يعلمون شيئا عن قيام قدماء المصريين بتحنيط جثث الفراعنة إلا قبل عقود قليلة من الزمان فقط؟ وقد قام بعدها من شدة اندهاشه بتأليف كتاب بعنوان: القرآن والتوراة والإنجيل والعلم .. دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة. وقد نفذت طبعته الأولى. عالم لا علاقة له بالقرآن أكد ماورد فيه. لكن يبقى مستوى القضية. عند التثبت من تطابق الحكمين، نقول إن هناك احتمال أن فرعون موسى الذي تحدث عنه القرآن هو رمسيس الثاني. وعلينا أن لا نأخذ مثل تلك القضايا ونعتبرها حقيقة لذاتها. أي لا تصادم وانفتاح على الحقائق.

يعجبني رد عبدالمطلب لأبرهة: أنا رب الإبل، وللبيت رب يحمية. وقد كان: فأرسل عليهم طيراً أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل فجعلهم كعصف مأكول. وأنا أقول للكتاب رب يحمية، لذا لم يكلفنا سبحانة وتعالى إلا بنقل رسالته، أما الهدايه فهي منه سبحانه.

وبالله التوفيق،،،

Dr. Schaker S. Schubaer
21/01/2008, 03:16 PM
بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على رسوله الأمين

لقد مر شهر عربي على عرض أخي الكريم الأستاذ الدكتور إبراهيم عوض موضوع:

"التفسير العلمى للقرآن بين الموافقين والرافضين"

والمداخلات محدودة، مع أن المدة أكثر من كافية لدراسة ورقه أخي الكريم
أ.د. إبراهيم. أين عقول الأمة لتتحرك؟ الحوارات هي أساس تلاقح العقول، وبهذه العقول يتم بناء صرحنا.


أستاذي المفضال إبراهيم عوض
لا شك أن الموضوع ذو أهمية قصوى للقراء، وخاصة في هذا العصر الذي تتنازع فيه التيارات الفكرية والطائفية. لي عودة بعد قراءة متعمقة لهذا الدراسة القيّمة.

مع فائق احترامي وتقديري (ملاحظة: دمجتُ المشاركتين للتيسير)


لقد وعدنا أخي الكريم معتصم الحارث الضوي بعد أقل من عشر دقائق من المبادرة، بأنه سيعود ثانية، وها نحن لنا في الانتظار شهراً عربياً. فـهل هذا وعد من أخي الكريم معتصم، أم كما يقول الإخوة السودانيين كلام ساكت؟

وبالله التوفيق،،،

اشرف الخضرى
21/01/2008, 11:47 PM
القرآن الكريم هو سيد كتب المعارف والعلوم فهو الكتاب المعجز المرسخ والمؤسس لكل علوم الدنيا

فقد احاط بعلوم الطبيعة والفلك والاقتصاد والبيولوجيا والفضاء والكيمياء والفيزياء وكل معارف بن ادم الى ان تقوم الساعة

وكل آية يفسرها المفسرون عبر العصور تظل محتفظة بمادة علمية حيوية وتحمل نظرياتها العلمية

بداخلها فيأتى اى اكتشاف علمى جديد ليكشف معنى آية قرآنية مر عليها الف عام واكثر

ومن اراد اجابات رائعة سوف يجد اوفر الاجابات

لدى المؤلف الخطير للعالم موريس بوكاى

مقارنة بين التوراة والانجيل والقرآن والعلم

http://www.adabwafan.com/content/products/1/50658.jpg

بالاضافة لمؤلفات د زغلول النجار

فعلى المثال الواحد فقط

كشف القرآن الكريم عدم وجود أكسجين فى الفضاء الخارجى

(يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعّد فى السماء)

والامثلة بالالوف

اشرف الخضرى
21/01/2008, 11:47 PM
القرآن الكريم هو سيد كتب المعارف والعلوم فهو الكتاب المعجز المرسخ والمؤسس لكل علوم الدنيا

فقد احاط بعلوم الطبيعة والفلك والاقتصاد والبيولوجيا والفضاء والكيمياء والفيزياء وكل معارف بن ادم الى ان تقوم الساعة

وكل آية يفسرها المفسرون عبر العصور تظل محتفظة بمادة علمية حيوية وتحمل نظرياتها العلمية

بداخلها فيأتى اى اكتشاف علمى جديد ليكشف معنى آية قرآنية مر عليها الف عام واكثر

ومن اراد اجابات رائعة سوف يجد اوفر الاجابات

لدى المؤلف الخطير للعالم موريس بوكاى

مقارنة بين التوراة والانجيل والقرآن والعلم

http://www.adabwafan.com/content/products/1/50658.jpg

بالاضافة لمؤلفات د زغلول النجار

فعلى المثال الواحد فقط

كشف القرآن الكريم عدم وجود أكسجين فى الفضاء الخارجى

(يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعّد فى السماء)

والامثلة بالالوف

Dr. Schaker S. Schubaer
29/01/2008, 09:06 AM
بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على رسوله الأمين

العلوم ليست متساوية في دقة تحديد العوامل المؤثرة في مجالها، ولا في دقة الطرق المستخدمة، ولا في دقة النموذج المستخدم في دراسة مجال علم معطى ما، ومن ثم درجة يقينية العلم.

ويقف المنطق والرياضيات كرواد في هذه المجالات، ثم يأتي علم الفيزياء والعلوم الطبيعية، وتأتي في ذيل القائمة العلوم الإنسانية. لذا فأمر طبيعي أن تأخذ العلوم الإنسانية من الرياضيات والعلوم الطبيعية نموذجاً لها.

لكن هذا لا يمنع أن حث البحث العلمي ينطلق من اكتشاف موقف غير معين Unsettled Situation بحاجة إلى تعيين Settlement ، حسب تعبيرات جون ديوي في كتابه الشهير المنطق، نظرية البحث
Logic, Theory of Inquiry. وتكون وظيفة البحث العلمي هو
تعيين اللامتعين. وهذا مشترك في جميع العلوم ابتداء من الرياضيات مروراً بالعلوم الطبيعية والإنسانية وانتهاء بالعلوم الاجتماعية.

لذا فعندما يتم طرح موضوع ما على مسار ما، فما تفترضه
Underlying Assumptions عملية البحث العلمي هو السير باتجاه تعيين الموقف الإشكالي أو الموقف غير المتعين. وهذا ما أفترضه في سلوك عقول واتا، التي تمثل بوصلة الأمة أو منارة فيها. فأنا لا أتوقع أن ينخع كل مداخل ما عنده، دون أن يعي أين تصب تلك المداخلة. نحن في العلوم لم نرجع إلى ذرة دالتون على الإطلاق بعد أن حطمها رذرفورد. ألا يجب أن يكون هذا السلوك نفسه عاماً في جميع العلوم.

في هذا المسار طرح أخي الكريم الأستاذ الدكتور ابراهيم عوض موقفاً إشكالياً، فبارك الله فيه في دفاعه عن الأمة وثوابتها وفكرها، وبارك الله فيه على ثقته بنا كمجموعة عقول مؤهلة لمناقشة هذا الموضوع الحيوي لتنير الطريق لهذه الأمة العظيمة. حتى ألإخوة الذين وعدوا بالعودة لنقاش الموضوع لم يعودوا، وأخص بالذكر هنا أخي الكريم عضو واتا النشط معتصم حارث الضوي، وخرج عن المألوف والمعروف عن الإخوة السودانيين، وهو إنجاز وعودهم. لذا أود أن أرجو جميع عقول واتا أن تشارك في هذه المناقشة الحيوية، التي قد تغير مسارات مستقبلية عديدة لهذه الأمة. أم لا بد من تشغيل دينامو واتا أخي الكريم عامر العظم حتى يصح حال المسار؟!

وبالله التوفيق،،،

Dr. Schaker S. Schubaer
29/01/2008, 09:06 AM
بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على رسوله الأمين

العلوم ليست متساوية في دقة تحديد العوامل المؤثرة في مجالها، ولا في دقة الطرق المستخدمة، ولا في دقة النموذج المستخدم في دراسة مجال علم معطى ما، ومن ثم درجة يقينية العلم.

ويقف المنطق والرياضيات كرواد في هذه المجالات، ثم يأتي علم الفيزياء والعلوم الطبيعية، وتأتي في ذيل القائمة العلوم الإنسانية. لذا فأمر طبيعي أن تأخذ العلوم الإنسانية من الرياضيات والعلوم الطبيعية نموذجاً لها.

لكن هذا لا يمنع أن حث البحث العلمي ينطلق من اكتشاف موقف غير معين Unsettled Situation بحاجة إلى تعيين Settlement ، حسب تعبيرات جون ديوي في كتابه الشهير المنطق، نظرية البحث
Logic, Theory of Inquiry. وتكون وظيفة البحث العلمي هو
تعيين اللامتعين. وهذا مشترك في جميع العلوم ابتداء من الرياضيات مروراً بالعلوم الطبيعية والإنسانية وانتهاء بالعلوم الاجتماعية.

لذا فعندما يتم طرح موضوع ما على مسار ما، فما تفترضه
Underlying Assumptions عملية البحث العلمي هو السير باتجاه تعيين الموقف الإشكالي أو الموقف غير المتعين. وهذا ما أفترضه في سلوك عقول واتا، التي تمثل بوصلة الأمة أو منارة فيها. فأنا لا أتوقع أن ينخع كل مداخل ما عنده، دون أن يعي أين تصب تلك المداخلة. نحن في العلوم لم نرجع إلى ذرة دالتون على الإطلاق بعد أن حطمها رذرفورد. ألا يجب أن يكون هذا السلوك نفسه عاماً في جميع العلوم.

في هذا المسار طرح أخي الكريم الأستاذ الدكتور ابراهيم عوض موقفاً إشكالياً، فبارك الله فيه في دفاعه عن الأمة وثوابتها وفكرها، وبارك الله فيه على ثقته بنا كمجموعة عقول مؤهلة لمناقشة هذا الموضوع الحيوي لتنير الطريق لهذه الأمة العظيمة. حتى ألإخوة الذين وعدوا بالعودة لنقاش الموضوع لم يعودوا، وأخص بالذكر هنا أخي الكريم عضو واتا النشط معتصم حارث الضوي، وخرج عن المألوف والمعروف عن الإخوة السودانيين، وهو إنجاز وعودهم. لذا أود أن أرجو جميع عقول واتا أن تشارك في هذه المناقشة الحيوية، التي قد تغير مسارات مستقبلية عديدة لهذه الأمة. أم لا بد من تشغيل دينامو واتا أخي الكريم عامر العظم حتى يصح حال المسار؟!

وبالله التوفيق،،،

حسان الحاج إبراهيم
10/02/2008, 11:29 AM
الخلاف في ما يسمى بالتفسير العلمي للقرآن الكريم خلاف في غير شيء ، ولو أتيح للمختلفين فيه أن يتوقفوا قليلاً وأن يتساءلوا عن المعنى المقصود بذلك لزال كل خلاف . فماذا يراد بهذا التفسير العلمي ؟
1- هل يراد به أن القرآن الكريم كتاب علم طبيعي يجد القارئ فيه معلومات علمية عن الطبيعة وقوانينها من فيزيائية وكيميائية وغيرها ؟ أعتقد أنه لا يختلف اثنان في جواب ذلك ، فالقرآن ليس كتاب علم طبيعي بهذا المعنى .
2- ويتصل بهذا السؤال سؤال آخر هو : هل يمكن أن يستفيد قارئ القرآن الكريم من قراءته معلومات عن العالم الطبيعي لم يكن ليعرفها دون ذلك ؟ والجواب أيضاً هنا واضح ، فلو كان يمكن للإنسان من قراءة بعض آيات القرآن الكريم كشف قوانين من قوانين الطبيعة لفعل ذلك المسلمون منذ القديم .
3- فإن لم يكن القرآن الكريم كتاب علم طبيعي بالمعنيين السابقين ، فماذا يعني التفسير العلمي للقرآن الكريم إذن ؟ هل يعني أنه لا بد لكل من يتصدى لتفسير القرآن الكريم أن يكون مطلعاً على علوم زمانه لا يجهلها ، فيستفيد من علمه ذلك في تفسير آيات القرآن الكريم ؟ أم ينبغي أن يكون مفسر القرآن جاهلاً بهذه العلوم ، أو هل ينبغي للمفسر مع علمه بهذه العلوم أن يهملها في تفسيره ؟ وهنا أيضاً لا يمكن أن يكون في الجواب خلاف ، فلا بد للمفسر من أن يكون عالماً مطلعاً على علوم زمانه ومنها علوم الطبيعة من فيزياء وكيمياء وأحياء وغيرها ، ولا بد له كذلك من أن يستفيد من هذا العلم في تفسيره .
4- وآخر هذه الأسئلة أن يسأل المختلفون أنفسهم : هل يمكن أن يكون تفسير القرآن الكريم إلا تفسيراً علمياً ؟ وكيف يفعل المفسر الذي لا يريد أن يفسر القرآن الكريم تفسيراً علمياً ؟

ولنضرب على ذلك مثالاً واحداً من آية واحدة من آيات القرآن الكريم ، وهي الآية 38 من سورة يس ، وفيها يقول الله تعالى : (والشمس تجري لمستقر لها) ، كيف يمكن تفسير هذه الآية الكريمة ؟ وهل يمكن أن يفسرها المفسر إلا على ضوء أحدث المعارف المتصلة بالشمس وجريانها ؟
* وقد أتى على الإنسان حين من الدهر كان يظن فيه أن الأرض ثابتة في مركز العالم وأن الشمس والقمر والكواكب والنجوم تدور حولها ، وتفسير الآية عندئذ يسير ، فالشمس تجري من مشرق الأرض إلى مغربها ، وجري الشمس في السماء أمر مشاهد معروف لكل ناظر . والجري هو السير أو الاندفاع فيه أو هو الجري السريع ، وقد يقبل المرء أن يكون سير الشمس جرياً لأن سرعة الجري أمر نسبي ، فسير الشمس جري بالقياس إلى سير غيرها من النجوم . وكما يقول القزويني في عجائب المخلوقات : ” فقد خلق الله الشمس سائرة غير واقفة ... تطلع كل يوم من المشرق ولا تزال تمشي موضعاً بعد موضع إلى أن تنتهي إلى المغرب “ . أما مستقر الشمس فقيل إنه مستـقر مكاني قيل إنه تحت العرش ، وقيل إنه مستقر زماني هو يوم القيامة . قال الإمام ابن كثير في تفسيره : ” في معنى قوله (لمستقر لها) قولان : أحدهما أن المراد مستقرها المكاني وهو تحت العرش .... والقول الثاني أن المراد بمستقرها هو منتهى سيرها وهو يوم القيامة ... وهذا هو مستقرها الزماني . قال قتادة : لمستقر لها أي لوقتها ولأجل لا تعدوه “ . وهذا التفسير تفسير مقبول في زمانه ، وليس فيه خروج على النص ولا تبديل فيه .
* وقد ظهر من بعد علماء أنكروا ثبات الأرض ودوران الشمس حولها ، وقالوا بل إن الشمس هي مركز العالم الثابت وإن الأرض وسائر الكواكب هي التي تدور حولها . وقد عَـجِـل نفر من العلماء فقالوا إن ذلك يتناقض مع المعنى الظاهر في الآية الكريمة ، والتي تنص على جريان الشمس ، فلا بد أن تكون الأرض هي الثابتة والشمس هي التي تدور حولها . ولم يكن أمام المفسر الذي يقبل مذهب العلماء في دوران الأرض وثبات الشمس (لأنه لا يملك دليلاً ينقض به هذا المذهب) إلا أن يفسر الآية الكريمة على أساس حركة الشمس الظاهرة التي تظهر للمشاهد على الأرض . فإذا جاء في القرآن الكريم أنها تجري فلا بد أن المعنى المقصود هو ذلك الجريان الظاهر الذي يبدو للمشاهد على الأرض . ومسألة الحركة والثبات بعد ذلك مسألة نسبية ، وإذا وجد جسمان يتحرك أحدهما نسبة إلى الجسم الاخر جاز أن ننسب الحركة إلى أي جسم من الجسمين بلا فارق بينهما ، إذ أن المهم هنا هو الحركة النسبية بينهما دون الحركة المطلقة التي لا معنى لها (إلا بالقياس إلى مرجع أو معيار معتمد ، فإن فقد هذا المعيار لم يعد للحركة المطلقة من معنى) . وقولنا إن الشمس تدور حول الأرض مكافئ عندئذ لقولنا إن الأرض تدور حول الشمس ، وكلاهما صحيح مقبول ، إلا أن المعادلات الرياضية التي تفسر هذه الحركة النسبية وتصفها تصبح أشد تعقداً في الحالة الأولى .
* بعد ذلك تبـين للعلماء أن الشمس وإن كانت لا تدور حول الأرض ، فإنها غير ساكنة ولا ثابتة ، بل هي تدور حول نفسها ، ثم إنها تجري حقاً وفعلاً وتجري معها الأرض وسائر الكواكب ، أي تندفع في سيرها ، بسرعة يقدرها العلماء بنحو عشرة أميال (أو 19 كيلو متر) في الثانية (أو نحو سبعين ألف كيلو متر في الساعة) . والشمس تجري لمستقر لها حقاً وفعلاً زمانياً ومكانياً . أما مستقرها الزماني فهو حين يصل عمر الشمس إلى غايته فتخمد جذوتها ويقل ما فيها من الهدرجين ويزيد مافيها من الهليم ، وتنحدر الشمس عن المسار الغالب (= Main sequence) وتتمدد لتصبح جرماً هائلاً أحمر . ويقدر العلماء لذلك نحو ثمانية آلاف مليون سنة . وأما مستقرها المكاني (= Apex) الذي تجري الشمس نحوه فيعينه العلماء في كوكبة الـشِـلْـياق (= Lyra) . وليس في هذا التـفسير (العلمي) خروج على النص ولا تبديل فيه ، وهو كما يظهر جلياً خير تفسير يمكن به تفسير هذه الآية الكريمة ، وهو دون شك أفضل من التفسيرين السابقين ، لأنه يفسر حركة الشمس وسيرها السريع ومستقرها في الزمان والمكان ، وهو ما لا يفعله التفسيران السابقان .

ونحن نزعم أن هذا التفسير هو التفسير الوحيد الممكن في هذا العصر لهذه الآية الكريمة ، وهو تفسير لا يناقض المعروف من العلم ، ولا يخرج على النص ، ولا تنكره اللغة . وإن كان هذا التفسير هو التفسير (العلمي) ، فهل من تـفسير آخر سواه ؟ أم كيف يكون التفسير غير العلمي ؟ وماذا يقول المفسر (غير العلمي) في مسألة جريان الشمس لمستقر لها ؟

وقد يقول قائل فماذا نفعل إن ظهر للعلماء من بعد مذهب آخر في الشمس وحركتها ، ونقول إننا لا نفعل شيئاً حتى يظهر ذلك المذهب ، وعندئذ نحاول أن نفسر الآية الكريمة على أساسه دون خروج على النص أو تحريف له ، كما فعل المفسرون من قبل وكما ينبغي أن يفعل المفسرون من بعد ، وقد نجد عندئذ أن تفسير هذه الآية يصبح أفضل وأبين (أي كما حدث من قبل بالقياس إلى التفسيرين السابقين) . ولا ضير من هذا كله ، والقرآن الكريم ليس كتاباً في علم الهيئة والفلك ، وكل تفسير يتفق مع المعروف من العلم في زمانه ولا يخرج على قواعد اللغة وروحها تفسير مقبول ، سمه علمياً إن شئت أو لا تسمه ، فلا فرق في الحالين .

عمرو الأمير
24/10/2008, 09:47 PM
منذ قرون، والتفسير العلمى للقرآن يتأرجح بين الرضا والترحيب من فريق من العلماء، والتوجس والرفض من قبل فريق آخر. والصفحات التالية تعرض للموقفين جميعا، وإن كانت فى نهاية المطاف تنحاز لأحدهما. فلأى الموقفين تنحاز يا ترى؟ لكن لم استباق الأحداث، وليس بين القارئ ومعرفة الإجابة إلا أن يفتح الملف المرفق؟

أنا لا ارى المرفق يا أستاذي برجاء مساعدتي

فؤاد عزام
17/08/2009, 11:20 AM
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين ..وبعد
فإن موضوع الآيات الإنسانية والآيات الكونية في القرآن الكريم شغل ولا يزال يشغل فكر كثير من الباحثين , وهو كما اتضح من بعض مشاركات الأساتذة الفضلاء موضوع خلافي له مؤيدوه وله معارضوه ومن الباحثين من أجازه بضوابط لا يجوز الخروج عليها .
وقد طالعت هذه الآراء منذ فترة ربما تكون طويلة وما اصطفته الذاكرة ولا يزال ساكنا فيها من هذه الآراء يتمثل في كون القرآن الكريم كتاب الله الخاتم المنزل على نبيه الخاتم صلى الله عليه وسلم ؛ فمن الطبيعي أن يحمل زادا معرفيا يخلد إلى قيام الساعة ويكفي لتغذية العقول البشرية إلى ذلك الحين , ولهذا فما ورد فيه من حديث عن خلق الإنسان والكون لا يمكن أن يتصادم مع حقائق العلم التجريبي في أية مرحلة حضارية يحياها الإنسان .
وعند النظرفي القراءات التفسيرية المتتالية تاريخيا للآيات القرآنية منذ نزول القرآن بهذا الصدد يلاحظ أن كل القراءات جاءت مناسبة للعصر الذي وردت فيه ورغم هذا لا يمكن الحكم عليها بالخطأ فمثلا عندما يفسر سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قوله تعالى ( أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما ) بأن السماء كانت رتقا لا تمطر ففتقها بالمطر وأن الأرض كانت رتقا لا تنبت ففتقها بالنبات فهذا التفسير حظى بالقبول بل بدرجة ممتاز في الوقت الذي قيل فيه وأشاد به الصحابي الورع عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما وقال قد كنت أعجب من جرأة ابن عباس على تفسير كلام الله والآن أيقنت أنه أوتي علما أو كما قال .
واليوم تقرأ هذه الآية من قبل علماء الكونيات قراءة جديدة تناسب هذه المرحلة العلمية فيقولون والقائل على ما أذكر هو الدكتور موريس بوكاي أن في الاية إشارة إلى عملية تشكيل الكون منذ بداية الخلق أي العمليات الأساسية التي ابتدأت بتفكك (بفتق) الكتلة الغازية العظيمة (التي كانت رتقا ملتحمة)إلى أجزاء الكون المتعددة , فهذا الفهم كسابقه عند عبد الله بن عباس رضي الله عنهما لا يناقض الواقع العلمي العلم في شيء.
والأمثلة على القراءات التاريخية المتتالية لفهم كلام الله تعالى في هذا الموضوع كثيرة جدا ومن يبتغ مطالعتها في كتاب واحد يجمع بين الميراث التفسيري القديم للآية القرآنية والفهم العلمي الحديث لها فليرجع إلى تفسير المنتخب وهو من ثمرات مجمع البحوث الإسلامية ففي هذا الكتاب القيم يجد قارئه الجمع بين ما انتخب من الميراث التفسيري للآية والفهم العلمي المعاصر لها وكل في صيغة مستقلة , دون تناقض بين هذا وذاك , مما يؤكد ديمومة العطاء الإلهي للبشرية من خلال كلام الله تعالى القرآن الكريم , ويؤكد مصداقية حرف التسويف الخالد في قوله تعالى ( سنريهم آياتنا في الآفاق حتى يتبين لهم أنه الحق أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد ).

أستاذي الفاضل الدكتور إبراهيم عوض مالي لا أرى الملف المرفق أم كان من الغائبين ؟ وهل هو الملف نفسه المعلق على المشباك في موقعكم الخاص بعنوان موقف القرآن الكريم والكتاب المقدس من العلم ؟

فؤاد عزام
18/08/2009, 01:13 PM
منذ قرون، والتفسير العلمى للقرآن يتأرجح بين الرضا والترحيب من فريق من العلماء، والتوجس والرفض من قبل فريق آخر. والصفحات التالية تعرض للموقفين جميعا، وإن كانت فى نهاية المطاف تنحاز لأحدهما. فلأى الموقفين تنحاز يا ترى؟ لكن لم استباق الأحداث، وليس بين القارئ ومعرفة الإجابة إلا أن يفتح الملف المرفق؟
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أستاذي الفاضل الدكتور إبراهيم عوض
أرجوك أن تساعدني في الحصول على هذا الملف فالموضوع هام وشيق وما أستطيع صبرا من يوم أمس على عدم قراءته .
شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك ... لك مني أجمل تحية . :laugh:

إبراهيم عوض
28/11/2009, 01:44 PM
التفسير العلمى للقرآن بين الموافقين والرافضين
د. إبراهيم عوض


ينقسم العلماء تلقاء التفسير العلمى للقرآن المجيد: فبعضهم يحبّذه ويرحّب به، وبعضهم يضيق به صدرًا ويدعو إلى الابتعاد عنه، وإلا ورَّطْنا القرآن فيما لا تحمد عقباه حين يعمل المفسر العلمى على إنطاق النص القرآنى عَنْوَةً وكَرْهًا بما يعضّد نظرية من النظريات ثم يثبت بطلانها فيما بعد، مما ينسحب على القرآن ذاته ويوقع فى رُوع القراء أن الخطأ إنما يكمن فى النص نفسه لا فى المفسر. هذا، وقد يُظَنّ أن التفسير العلمى للقرآن المجيد هو شىء طارئ فى عصرنا وأن الانقسام حوله من ثَمّ أمر جديد على ساحة البحوث الإسلامية. لكن هذا غير صحيح، فالتفسير العلمى قديم، وكذلك انقسام العلماء بشأنه. ومن الذين وافقوا من علمائنا القدامى على هذا اللون من التفسير الإمام الغزالى والإمام السيوطى. أما المعارضون فمنهم الشاطبى (انظر د. محمد حسين الذهبى/ علم التفسير/ 73- 76).
ومن يرد تفصيلا أكبر لهذا الموضوع يستطع الرجوع إلى موسوعته المسماة بــ"التفسير والمفسرون" حيث يقرأ ما يلى عن أبى حامد الغزالى والسيوطى والـمُرْسِىّ والشاطبى وموقفهم من ذلك الضرب من التفسير. يقول رحمه الله: "ويظهر لنا على حسب ما قرأنا أن الإمام الغزالى كان إلى عهده أكثر مَنِ استوفى بيان هذا القول فى تفسير القرآن، وأهم مَنْ أيده وعمل على ترويجه فى الأوساط العلمية الإسلامية على رغم ما قرر فيها من قواعد فهم عبارات القرآن. وبين أيدينا كتاب "الإحياء" للغزالى نتصفحه فنجده يعقد الباب الرابع من أبواب "آداب تلاوة القرآن" فى فهم القرآن وتفسيره بالرأى من غير نقل. وفيه ينقل عن بعض العلماء "أن القرآن يحوى سبعة وسبعين ألف علم ومائتى علم، إذ كل كلمة علم، ثم يتضاعف ذلك أربعة أضعاف، إذ لكل كلمة ظاهر وباطن، وحد ومطلع"، ثم يروى عن ابن مسعود رضى الله عنه أنه قال: "مَن أراد علم الأوَّلين والآخرين فليتدبر القرآن"، ثم يقول بعد ذلك كله: "وبالجملة فالعلوم كلها داخلة فى أفعال الله عَزَّ وجَلَّ وصفاته، وفى القرآن شرح ذاته وأفعاله وصفاته، وهذه العلوم لا نهاية لها، وفى القرآن إشارة إلى مجامعها"، ثم يزيد على ذلك فيقول: "بل كل ما أشكل فهمه على النُظَّار واختلف فيه الخلائق فى النظريات والمعقولات ففى القرآن إليه رموز، وعليه دلالات يختص أهل الفهم بدركها". ثم إننا نتصفح كتابه "جواهر القرآن" الذى ألَّفه بعد الإحياء كما يظهر لنا من مقدمته، فنجده يزيد هذا الذى قرره فى الإحياء بيانًا وتفصيلاً، فيعقد الفصل الرابع منه لكيفية انشعاب العلوم الدينية كلها وما يتصل بها من القرآن عن تقسيمات وتفصيلات تولاها لا نطيل بذكرها، ويكفى أن نقول: إنه قسم علوم القرآن إلى قسمين: الأول علم الصَّدَف والقشر، وجعل من مشتملاته علم اللُّغة، وعلم النحو، وعلم القراءات، وعلم مخارج الحروف، وعلم التفسير الظاهر. والثانى علم اللُّباب، وجعل من مشتملاته علم قصص الأوَّلين، وعلم الكلام، وعلم الفقه، وعلم أُصول الفقه، والعلم بالله واليوم الآخر، والعلم بالصراط المستقيم، وطريق السلوك. ثم يعقد الفصل الخامس منه لكيفية انشعاب سائر العلوم من القرآن، فيذكر علم الطب والنجوم، وهيئة العالَم، وهيئة بدون الحيوان، وتشريح أعضائه، وعلم السحر، وعلم الطلسمات... وغير ذلك، ثم يقول: "ووراء ما عددته علوم أُخرى يُعْلَم تراجمها ولا يخلو العالَم عمن يعرفها، ولا حاجة إلى ذكرها، بل أقول: ظهر لنا بالبصيرة الواضحة التى لا يُتَمَارى فيها أن فى الإمكان والقوة أصنافًا من العلوم بعدُ لم تخرج من الوجود، وإن كان فى قوة الآدمى الوصول إليها، وعلوم كانت قد خرجت من الوجود واندرست الآن، فلن يوجد فى هذه الأعصار على بسيط الأرض مَن يعرفها، وعلوم أُخَرُ ليس فى قوة البشر أصلا إدراكها والإحاطة بها، ويحظى بها بعض الملائكة المقرَّبين، فإن الإمكان فى حق الآدمى محدود، والإمكان فى حق المَلَك محدود إلى غاية من النقصان، وإنما الله سبحانه هو الذى لا يتناهى العلم فى حقه".
ثم يقول بعد ذلك: "ثم هذه العلوم: ما عددناها وما لم نعددها ليست أوائلها خارجة من القرآن، فإن جميعها مغترَفة من بحر واحد من بحار معرفة الله تعالى، وهو بحر الأفعال. وقد ذكرنا أنه بحر لا ساحل له، وأن البحر لو كان مِدَادًا لكلماته لنَفِدَ البحر قبل أن تنفد. فمن أفعال الله تعالى، وهو بحرٌ، الشفاء والمرض كما قال الله تعالى حكاية عن إبراهيم: "وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ". وهذا الفعل الواحد لا يعرفه إلا مَن عرف الطب بكماله، إذ لا معنى للطب إلا معرفة المرض بكماله وعلاماته، ومعرفة الشفاء وأسبابه. ومن أفعاله تقدير معرفة الشمس والقمر ومنازلهما بحُسْبان، وقد قال الله تعالى: "ٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ"، وقال: "وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ ٱلسِّنِينَ وَٱلْحِسَابَ"، وقال: "وَخَسَفَ ٱلْقَمَرُ* وَجُمِعَ ٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ"، وقال: "يُولِجُ ٱلْلَّيْلَ فِي ٱلنَّهَارِ وَيُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِي ٱلْلَّيْلِ" وقال: "وَٱلشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَـا ذَلِكَ تَقْدِيرُ ٱلْعَزِيزِ ٱلْعَلِيمِ". ولا يعرف حقيقة سير الشمس والقمر بحسبانٍ وخسوفهما، وولوج الليل فى النهار وكيفية تكور أحدهما على الآخر إلا من عرف هيئات تركيب السموات والأرض، وهو علم برأسه. ولا يعرف كمال معنى قوله: "يٰأَيُّهَا ٱلإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ ٱلْكَرِيمِ* ٱلَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِيۤ أَىِّ صُورَةٍ مَّا شَآءَ رَكَّبَكَ" إلا مَن عرف تشريح الأعضاء من الإنسان ظاهرًا وباطنًا وعددها وأنواعها وحكمتها ومنافعها... وكذلك لا يعرف معنى قوله: "سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي" ما لم يعلم التسوية والنفخ والروح، ووراءها علوم غامضة يغفل عن طلبها أكثر الخلق، وربما لا يفهمونها إن سمعوها من العالِم بها. ولو ذهبت أُفَصِّل ما تدل عليه آيات القرآن من تفاصيل الأفعال لطال، ولا يمكن الإشارة إلا إلى مجامعها. فتفكر فى القرآن والتمس غرائبه لتصادف فيه مجامع علم الأوَّلين والآخرين".
كذلك نجد العلامة جلال الدين السيوطى ينحو منحى الغزالى فى القول بالتفسير العلمى، ويقرر ذلك بوضوح وتوسع فى كتابه "الإتقان" فى النوع الخامس والستين منه، كما يقرر ذلك أيضًا بمثل هذا الوضوح والتوسع فى كتابه "الإكليل فى استنباط التنزيل"، ونجده يسوق من الآيات والأحاديث والآثار ما يستدل به على أن القرآن مشتمل على كل العلوم. فمن الآيات قوله تعالى فى الآية 38 من سورة الأنعام: "مَّا فَرَّطْنَا فِي ٱلكِتَابِ مِن شَيْءٍ"، وقوله فى الآية 89 من سورة النحل: "وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ". ومن الأحاديث ما أخرجه الترمذى وغيره: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ستكون فتن"، قيل: وما المخرج منها؟ قال: "كتاب الله. فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما يعدكم، وحكم ما بينكم"، وما أخرجه أبو الشيخ عن أبى هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لو أغفل شيئًا لأغفل الذّرَّة والخردلة والبعوضة". ومن الآثار ما أخرجه سعيد بن منصور عن ابن مسعود أنه قال: "مَن أراد العلم فعليه بالقرآن، فإن فيه خبر الأوَّلين والآخرين"، وما أخرجه ابن أبى حاتم عن ابن مسعود رضى الله عنه أنه قال: "أَنْزلَ فى القرآن كل علم، وبَيَّنَ لنا فيه كل شىء، لكن علمنا يقصّر عما بَيَّنَ لنا فى القرآن". ثم نجده بعد أن يسوق هذه الأدلة وغيرها يذكر لنا عن بعض العلماء أنه استنبط أن عمر النبى صلى الله عليه وسلم ثلاث وستون سنة من قوله تعالى فى الآية 11 من سورة المنافقون: "وَلَن يُؤَخِّرَ ٱللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَآءَ أَجَلُهَآ"، فإنها رأس ثلاث وستين سورة، وعقَّبها بـ"التغابن" ليظهر التغابن فى فقده".
ثم يذكر الدكتور الذهبى قول أبى الفضل المرسى فى تفسيره إن القرآن قد "جمع علوم الأوَّلين والآخرين، بحيث لم يحط بها علمًا حقيقةً إلا المتكلم به، ثم رسول الله صلى الله عليه وسلم خلا ما استأثر به سبحانه وتعالى، ثم ورث عنه معظم ذلك سادات الصحابة وأعلامهم، مثل الخلفاء الأربعة وابن مسعود وابن عباس حتى قال: لو ضاع لى عقال بعير لوجدته فى كتاب الله تعالى، ثم ورث عنهم التابعون بإحسان، ثم تقاصرت الهمم وفترت العزائم وتضاءل أهل العلم وضعفوا عن حمل ما حمله الصحابة والتابعون من علومه وسائر فنونه، فنوَّعوا علومه، وقامت كل طائفة بفن من فنونه: فاعتنى قوم بضبط لغاته وتحرير كلماته ومعرفة مخارج حروفه وعددها وعدد كلماته وآياته وسوره وأحزابه وأنصافه وأرباعه وعدد سجداته والتعليم عند كل عشر آيات... إلى غير ذلك من حصر الكلمات المتشابهة والآيات المتماثلة من غير تعرض لمعانيه ولا تدبر لما أُودِع فيه، فسُمُّوا القُرَّاء. واعتنى النحاة بالمعرب منه والمبنى من الأسماء والأفعال، والحروف العاملة وغيرها، وأوسعوا الكلام فى الأسماء وتوابعها وضروب الأفعال واللازم والمتعدى ورسوم خط الكلمات، وجميع ما يتعلق به، حتى إن بعضهم أعرب مشكله، وبعضهم أعربه كلمة كلمة. واعتنى المفسِّرون بألفاظه، فوجدوا منه لفظًا يدل على معنى واحد، ولفظًا يدل على معنيين، ولفظًا يدل على أكثر، فأَجْرَوُا الأول على حُكْمه، وأوضحوا معنى الخفىّ منه، وخاضوا فى ترجيح أحد محتملات ذى المعنيين والمعانى، وأعمل كل منهم فكره وقال بما اقتضاه نظره. واعتنى الأُصوليون بما فيه من الأدلة القطعية والشواهد الأصلية والنظرية، مثل قوله تعالى: "لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ ٱللَّهُ لَفَسَدَتَا"... إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة، فاستنبطوا منها أدلة على وحدانية الله ووجوده وبقائه وقِدَمه وقُدرته وعلمه وتنزيهه عما لا يليق به، وسَمَّوْا هذا العلم بـ"أُصول الدين". وتأملت طائفة منهم معانى خطابه، فرأت منها ما يقتضى العموم، ومنها ما يقتضى الخصوص، إلى غير ذلك، فاستنبطوا منه أحكام اللُّغة من الحقيقة والمجاز، وتكلموا فى التخصيص والإضمار والنص والظاهر والمُجْمَل والمُحْكَم والمتشابه والأمر والنهى والنسخ... إلى غير ذلك من أنواع الأقيسة، واستصحاب الحال والاستقراء، وسَمَّوْا هذا الفن: "أصول الفقه". وأحكمت طائفةٌ صحيح النظر وصادق الفكر فيما فيه من الحلال والحرام وسائر الأحكام، فأسسوا أُصوله وفرَّعوا فروعه وبسطوا القول فى ذلك بسطًا حسنًا، وسَمَّوْه بـ"علم الفروع"، وبـ"الفقه" أيضا. وتلمحت طائفة ما فيه من قصص القرون السابقة والأُمم الخالية ونقلوا أخبارهم ودوَّنوا آثارهم ووقائعهم، حتى ذكروا بدء الدنيا وأول الأشياء وسَمَّوْا ذلك بـ"التاريخ". وتنبَّه آخرون لما فيه من الحِكَم والأمثال والمواعظ التى تقلقل قلوب الرجال، وتكاد تدكدك الجبال، فاستنبطوا مما فيه من الوعد والوعيد والتحذير والتبشير وذكر الموت والمعاد والنشر والحشر والحساب والعقاب والجنَّة والنار فصولا من المواعظ وأُصولا من الزواجر، فسُمُّوا بذلك: "الخطباء والوُعَّاظ". واستنبط قوم ما فيه من أصول التعبير، مثل ما ورد فى قصة يوسف فى البقرات السمان، وفى منامَىْ صاحبى السجن، وفى رؤياه الشمس والقمر والنجوم ساجدة، وسَمَّوْه: "تعبير الرؤيا"، واستنبطوا تأويل كل رؤيا من الكتاب. فإن عَزَّ عليهم إخراجها منه فمن السُّنَّة التى هى شارحة للكتاب. فإن عَزَّ فمن الحِكَم والأمثال. ثم نظروا إلى اصطلاح العوام فى مخاطباتهم وعُرْف عاداتهم، الذى أشار إليه القرآن بقوله: "وَأْمُرْ بِٱلْمَعْرُوفِ". وأخذ قوم مما فى آيات المواريث من ذكر السهام وأربابها وغير ذلك علم الفرائض، واستنبطوا منها مِنْ ذكر النِصْف والثُّلُث والرُّبُع والسُّدُس والثُّمُن حساب الفرائض ومسائل العدل، واستخرجوا منه أحكام الوصايا. ونظر قوم إلى ما فيه من الآيات الدالات على الحِكَم الباهرة فى الليل والنهار والشمس والقمر ومنازله والبروج وغير ذلك فاستخرجوا منه علم المواقيت. ونظر الكُتَّاب والشعراء إلى ما فيه من جزالة اللَّفظ وبديع النظم وحُسْن السياق والمبادىء والمقاطع والمخالص والتلوين فى الخطاب والإطناب والإيجاز وغير ذلك، واستنبطوا منه المعانى والبيان والبديع. ونظر فيه أرباب الإشارات وأصحاب الحقيقة فلاح لهم من ألفاظه معانٍ ودقائقُ جعلوا لها أعلامًا اصطلحوا عليها، مثل: الفناء والبقاء والحضور والخوف والهيبة والأُنْس والوحشة والقبض والبسط وما أشبه ذلك. هذه الفنون أخذتها المِلَّة الإسلامية منه. وقد احتوى على علومٍ أُخَرَ من علوم الأوائل مثل: الطّب والجدل والهيئة والهندسة والجبر والمقابلة والنِّجَامة وغير ذلك من العلوم. أما الطب فمداره على نظام الصحة واستحكام القوة، وذلك إنما يكون باعتدال المزاج بتفاعل الكيفيات المتضادة. وقد جمع ذلك فى آية واحدة، وهى قوله تعالى: "وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا"، وعرفنا فيه بما يفيد نظام الصحة بعد اختلاله، وحدوث الشفاء للبدن بعد اعتلاله فى قوله تعالى: "شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَآءٌ لِلنَّاسِ". ثم زاد على طب الأجسام بطب القلوب وشفاء الصدور. وأما الهيئة ففى تضاعيف سوره من الآيات التى ذكر فيها ملكوت السموات والأرض وما بث فى العالم العلوى والسفلى من المخلوقات. وأما الهندسة ففى قوله تعالى: "ٱنطَلِقُوۤاْ إِلَىٰ ظِلٍّ ذِي ثَلاَثِ شُعَبٍ* لاَّ ظَلِيلٍ وَلاَ يُغْنِي مِنَ ٱللَّهَبِ"، فإن فيه قاعدة هندسية، وهو أن الشكل المثلث لا ظل له. وأما الجدل فقد حوت آياته من البراهين والمقدمات والنتائج والقول بالموجب والمعارضة وغير ذلك شيئًا كثيرًا، ومناظرةُ إبراهيم نمرود ومحاجَّتُه قومَه أصلٌ فى ذلك عظيم. وأما الجبر والمقابلة فقد قيل إن أوائل السور فيها ذكر مُدَد وأعوام وأيام التواريخ لأُمم سالفة، وإن فيها بقاء هذه الأمة وتاريخ مدة أيام الدنيا وما مضى وما بقى مضروبا بعضها فى بعض. وأما النجامة ففى قوله تعالى: "أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ"، فقد فسَّره بذلك ابن عباس. وفيه أُصول الصنائع وأسماء الآلات التى تدعو الضرورة إليه، كالخياطة فى قوله: "وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ"، والحدادة: "آتُونِي زُبَرَ ٱلْحَدِيدِ"، والبناء فى آيات، والنجارة: "وَٱصْنَعِ ٱلْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا"، والغزل: "نَقَضَتْ غَزْلَهَا"، والنسج: "كَمَثَلِ ٱلْعَنكَبُوتِ ٱتَّخَذَتْ بَيْتًا"، والفلاحة: "أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ... الآيات"، والصيد فى آيات، والغوص: "وَٱلشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّآءٍ وَغَوَّاصٍ"، "وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً"، والصياغة: "وَٱتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَىٰ مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ"، والزِّجَاجة: "ٱلْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ"، "مُّمَرَّدٌ مِّن قَوارِيرَ"، والفِخَارة: "فَأَوْقِدْ لِي يٰاهَامَانُ عَلَى ٱلطِّينِ"، والملاحة: "أَمَّا ٱلسَّفِينَةُ.... الآية"، والكتابة "عَلَّمَ بِٱلْقَلَمِ" وفى آيات أُخَر، والخـَبْز: "أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا"، والطبخ: "بِعِجْلٍ حَنِيذٍ"، والقِصَارة: "وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ"، "قَالَ ٱلْحَوَارِيُّونَ" وهم القصَّارون، والجزارة: "إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ"، والبيع والشراء فى آيات، والصبغ: "صِبْغَةَ ٱللَّهِ"، "جُدَدٌ بِيضٌ"، والحجارة: "وَتَنْحِتُونَ مِنَ ٱلْجِبَالِ بُيُوتًا"، والكِيَالة والوزن فى آيات كثيرة، والرمى: "وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ"، "وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا ٱسْتَطَعْتُمْ مِّن قُوَّةٍ". وفيه من أسماء الآلات وضروب المأكولات والمشروبات والمنكوحات وجميع ما وقع ويقع فى الكائنات ما يحقق معنى قوله: "مَّا فَرَّطْنَا فِي ٱلكِتَابِ مِن شَيْءٍ". قال السيوطى: انتهى كلام المرسى ملخصًا مع زيادات. ثم بعد روايته لهذه المقالة الطويلة نجده يذكر عن أبى بكر بن العربى أنه قال فى كتابه: "قانون التأويل": "علوم القرآن خمسون علمًا، وأربعمائة علم، وسبعة آلاف علم، وسبعون ألف علم، على عدد كلم القرآن مضروبة فى أربعة، إذ لكل كلمة ظهر وبطن، وحد ومطلع. وهذا مطلق دون اعتبار التركيب وما بينها من روابط، وهذا ما لا يُحْصَى وما لا يعمله إلا الله". وأخيرًا عقَّب السيوطى على هذه النقول وغيرها فقال: "وأنا أقول: قد اشتمل كتاب الله العزيز على كل شىء، أما أنواعه فليس منها باب ولا مسألة هى أصلاً إلا وفى القرآن ما يدل عليها، وفيه عجائب المخلوقات وملكوت السموات والأرض وما فى الأفق الأعلى وما تحت الثرى و... و... إلى غير ذلك مما يحتاج شرحه إلى مجلدات". ومن هذا يتبين لك كيف ظهرت آثار الثقافات العلمية للمسلمين فى تفسير القرآن الكريم، وكيف حاول هؤلاء العلماء المتقدمون أن يجعلوا القرآن منبع العلوم كلها: ما جَدَّ وما يَجِدّ إلى يوم القيامة. ولو أنَّا تتبعنا سلسلة البحوث التفسيرية للقرآن الكريم لوجدنا أن هذه النزعة، نزعة التفسير العلمى، تمتد من عهد النهضة العلمية العباسية إلى يومنا هذا، ولوجدنا أنها كانت فى أول الأمر عبارة عن محاولات يُقْصَد منها التوفيق بين القرآن وما جَدَّ من العلوم، ثم وُجِدت الفكرة مركَّزة وصريحة على لسان الغزالى وابن العربى والمرسى والسيوطى، ولوجدنا أيضًا أن هذه الفكرة قد طُبِّقت علميا وظهرت فى مثل محاولات الفخر الرازى ضمن تفسيره للقرآن. ثم وُجِدت بعد ذلك كتب مستقلة فى استخراج العلوم من القرآن وتتبع الآيات الخاصة بمختلف العلوم. وراجت هذه الفكرة فى العصر المتأخر رواجًا كبيرًا بين جماعة من أهل العلم، ونتج عن ذلك مؤلفات كثيرة تعالج هذا الموضوع، كما أُلِّفت بعض التفاسير التى تسير على ضوء هذه الفكرة".
ومن الضفة الأخرى يذكر الدكتور الذهبى الإمام الشاطبى، الذى كان يعارض بمنتهى القوة أى اتجاه لتفسير القرآن فى ضوء المعارف العلمية التى لم يكن العرب، وهم الذين نزل عليهم القرآن واتجه بخطابه إليهم، يعرفون عنها شيئا: "ويظهر لنا على حسب ما قرأنا أن زعيم المعارضة لهذه الفكرة فى العصور المتقدمة هو الفقيه الأصولى أبو إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبى الأندلسى المتوفَّى سننة 790 هـ، وذلك أنَّا نجده فى كتابه: "الموافقات" يعقد بحثًا خاصًّا لمقاصد الشارع، وينوِّع هذه المقاصد إلى أنواعٍ تولَّى شرحها وبيانها. والذى يهمنا هنا النوع الثانى منها، وهو "بيان قصد الشارع فى وضع الشريعة للأفهام". وفى المسألة الثالثة من مسائل هذا النوع نجده يقرر أن "هذه الشريعة المباركة أُمِّية، لأن أهلها كذلك، فهو أجرى على اعبتار المصالح"، ثم دلَّل على ذلك بأُمور ثلاثة لا نطيل بذكرها، ثم عقَّب بفصلٍ ذكر فيه: "إن العرب كان لها اعتناء بعلوم ذكرها الناس، وكان لعقلائهم اعتناء بمكارم الأخلاق، واتصاف بمحاسن الشيم، فصححت الشريعة منها ما هو صحيح وزادت عليه، وأبطلت ما هو باطل، وبيَّنت منافع ما ينفع من ذلك، ومضارّ ما يضر منه"، ثم ذكر من العلوم الصحيحة التى كان للعرب اعتناء بها: علم النجوم وما يختص به من الاهتداء فى البر والبحر، واختلاف الأزمان باختلاف سيرها، وما يتعلق بهذا المعنى. ثم قال: "وهو معنى مقرر فى أثناء القرآن فى مواضع كثيرة كقوله تعالى: "وَهُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلنُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ"، وقوله: "وَبِٱلنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ"، وقوله: "وَٱلْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّىٰ عَادَ كَٱلعُرجُونِ ٱلْقَدِيمِ* لاَ ٱلشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ ٱلقَمَرَ وَلاَ ٱلْلَّيْلُ سَابِقُ ٱلنَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ"، وقوله: "هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ ٱلشَّمْسَ ضِيَآءً وَٱلْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ ٱلسِّنِينَ وَٱلْحِسَابَ"، وقوله: "وَجَعَلْنَا ٱلْلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَآ آيَةَ ٱلْلَّيْلِ وَجَعَلْنَآ آيَةَ ٱلنَّهَارِ مُبْصِرَةً... الآية"، وقوله: "وَلَقَدْ زَيَّنَّا ٱلسَّمَآءَ ٱلدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ"، وقوله: "يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَٱلْحَجِّ"... وما أشبه ذلك من الآيات. وذَكَر علم الأنواء وأوقات نزول الأمطار وإنشاء السحاب وهبوب الرياح المثيرة لها، وعَرَض لما ورد فى ذلك من القرآن، مثل قوله تعالى: "هُوَ ٱلَّذِي يُرِيكُمُ ٱلْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِىءُ ٱلسَّحَابَ ٱلثِّقَالَ* وَيُسَبِّحُ ٱلرَّعْدُ بِحَمْدِهِ... الآية"، وقوله: "أَفَرَأَيْتُمُ ٱلْمَآءَ ٱلَّذِي تَشْرَبُونَ* أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ ٱلْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ ٱلْمُنزِلُونَ"، وقوله: "وَٱللَّهُ ٱلَّذِيۤ أَرْسَلَ ٱلرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَىٰ بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا"... وغير ذلك من الآيات. وذكر علم التاريخ وأخبار الأُمم الماضية، وفى القرآن من ذلك ما هو كثير... قال تعالى: "ذٰلِكَ مِنْ أَنَبَآءِ ٱلْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ... الآية"، وقال تعالى: "تِلْكَ مِنْ أَنْبَآءِ ٱلْغَيْبِ نُوحِيهَآ إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَآ أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَـٰذَا". وذكر علم الطب، وبيَّن أنه كان فى العرب منه شىء مبنى على تجارب الأُمِّيّين لا على قواعد الأقدمين. قال: "وعلى ذلك المساق جاء فى الشريعة لكن على وجه جامع شاف قليل يطلع منه على كثير، فقال تعالى: "وكُلُوا وَٱشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا". وذكر التفنن فى علم فنون البلاغة والخوض فى وجوه الفصاحة والتصرف فى أساليب الكلام. قال: "وهو أعظم منتحلاتهم، فجاءهم بما أعجزهم من القرآن. قال تعالى: "قُل لَّئِنِ ٱجْتَمَعَتِ ٱلإِنْسُ وَٱلْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا". وذكر ضرب الأمثال، واستشهد بقوله تعالى: "وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ". وذكر من العلوم التى عُنِىَ بها العرب، وأكثرها باطل أو جميعها: علم العيافة والزجر والكهانة وخط الرمل والضرب بالحصى والطِّيَرة، قال: "فأبطلت الشريعةُ من ذلك الباطلَ ونهت عنه، كالكهانة والزجر وخط الرمل، وأقرت الفأل لا من جهة تَطلُّب الغيب، فإن الكهانة والزجر كذلك. وأكثر هذه الأمور تَخرُّصٌ على علم الغيب من غير دليل، فجاء النبى صلى الله عليه وسلم بجهة من تعرف علم الغيب مما هو محض، وهو الوحى والإلهام، وبقى للناس من ذلك بعد موته عليه السلام جزء من النبوة، وهو الرؤيا الصالحة، وأنموذج من غيره لبعض الخاصة، وهو الإلهام والفراسة". ثم بعد هذا البيان الذى أوضح فيه الشاطبى أن الشريعة، فى تصحيح ما صححت وإبطال ما أبطلت، قد عرضت من ذلك إلى ما تعرفه العرب من العلوم ولم تخرج عما ألفوه، نراه يزيد هذا البيان إسهابًا وإيضاحًا ويتوجه باللَّوم إلى مَن أضافوا للقرآن كل علوم الأوَّلين والآخرين، مفندًا هذا الزعم الذى اعتقد أن قائليه قد تجاوزوا به الحد فى دعواهم على القرآن، وذلك حيث يقول فى المسألة الرابعة من مسائل النوع الثانى من المقاصد، أعنى مقاصد وضع الشريعة للإفهام: "ما تقرر من أُمِّية الشريعة وأنها جارية على مذاهب أهلها، وهم العرب، ينبنى عليه قواعد منها أن كثيرًا من الناس تجاوزوا فى الدعوى على القرآن الحد، فأضافوا إليه كل علم يُذْكَر للمتقدمين والمتأخرين من علوم الطبعيات والتعاليم كالهندسة وغيرها من الرياضيات والمنطق وعلم الحروف وجميع ما نظر فيه الناظرون من هذه الفنون وأشباهها. وهذا إذا عرضناه على ما تقدم لم يصح". ثم يصحح الشاطبى رأيه هذا ويحتج له بما عُرِف عن السَلَف من نظرهم فى القرآن فيقول: "إن السَلَف الصالح من الصحابة والتابعين ومن يليهم كانوا أعرف بالقرآن وبعلومه وما أُودِع فيه، ولم يبلغنا أنه تكلم أحد منهم فى شىء من هذا المدَّعَى سوى ما تقدم، وما ثبت فيه من أحكام التكاليف وأحكام الآخرة وما يلى ذلك. ولو كان لهم فى ذلك خوض ونظر لبلغنا منه ما يدلنا على أصل المسألة. إلا أن ذلك لم يكن، فدَلَّ على أنه غير موجود عندهم، وذلك دليل على أن القرآن لم يُقْصَد فيه تقرير لشىء مما زعموا. نعم تضمن علومًا من جنس علوم العرب أو ما ينبنى على معهودها مما يتعجب منه أُولو الألباب ولا تبلغه إدراكات العقول الراجحة دون الاهتداء بأعلامه والاستنارة بنوره. وأما أن فيه ما ليس من ذلك فلا". ثم أخذ الشاطبى بعد هذا فى ذكر ما استند إليه أرباب التفسير العلمى من الأدلة فقال: "وربما استدلوا على دعواهم بقوله تعالى: "وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ"، وقوله: "مَّا فَرَّطْنَا فِي ٱلكِتَابِ مِن شَيْءٍ"... ونحو ذلك، وبفواتح السور، وهى مما لم يُعْهَد عند العرب، وبما نُقِل عن الناس فيها. وربما حُكِىَ من ذلك عن علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه وغيره أشياء".
ثم أخذ الشاطبى رحمه الله يفند هذه الأدلة فقال: "فأما الآيات فالمراد بها عند المفسِّرين ما يتعلق بحال التكليف والتعبد، أو المراد بالكتاب فى قوله: "مَّا فَرَّطْنَا فِي ٱلكِتَابِ مِن شَيْءٍ" اللَّوح المحفوظ، ولم يذكروا فيها ما يقتضى تضمنه لجميع العلوم النقلية والعقلية. وأما فواتح السور فقد تكلم الناس فيها بما يقتضى أن للعرب بها عهدًا، كعدد الجُمَّل الذى تَعرَّفوه من أهل الكتاب حسبما ذكره أصحاب السير، أو هى من المتشابهات التى لا يعلم تأويلها إلى الله تعالى، وغير ذلك. وأما تفسيرها بما لا عهد به فلا يكون، ولم يَدَّعِه أحد ممن تقدم، فلا دليل فيها على ما ادَّعَوْا.، وما يُنْقَل عن علىّ أو غيره فى هذا لا يثبت. فليس بجائز أن يُضاف إلى القرآن ما لا يقتضيه، كما أنه لا يصح أن يُنْكَر منه ما يقتضيه، ويجب الاقتصار فى الاستعانة على فهمه على كل ما يُضاف علمه إلى العرب خاصة، فبه يُوصَل إلى علم ما أُودِع من الأحكام الشرعية. فمَن طلبه بغير ما هو أداة له ضَلَّ عن فهمه، وتَقوَّل على الله ورسوله فيه، والله أعلم، وبه التوفيق". هذه هى الخلاصة الشاملة لمقالة الشاطبى فى هذا الموضوع، وذلك هو رأيه فى التفسير العلمى الذى شغف به بعض العلماء المتقدمين والمتأخرين. وأحسب أنى، وقد وضعت بين يدى القارىء مقالة كل فريق وما يستند إليه من أدلة، قد أَنَرْتُ له الطريق وأوضحتُ له السبيل ليختار لنفسه ما يحلو بعد أن يحكم على أحدهما بأنه خيرٌ مقالةً وأحسنُ دليلاً".
ثم يعلن الدكتور الذهبى رأيه فى هذه القضية الجدلية قائلا: "أما أنا فاعتقادى أن الحق مع الشاطبى رحمه الله، لأن الأدلة التى ساقها لتصحيح مُدَّعاه أدلة قوية لا يعتريها الضعف ولا يتطرق إليها الخلل، ولأن ما أجاب به على أدلة مخالفيه أجوبة سديدة دامغة لا تثبت أمامها حججهم، ولا يبقى معها مُدَّعاهم. وهناك أُمور أُخرى يتقوَّى بها اعتقادنا أن الحق فى جانب الشاطبى ومَن لَفَّ لفَّه. فمن ذلك ما يأتى: أولا الناحية اللُّغوية. وذلك أن الألفاظ اللُّغوية لم تقف عند معنى واحد من لدن استعمالها إلى اليوم، بل تدرجت حياة الألفاظ وتدرجت دلالاتها، فكان لكثير من الألفاظ دلالات مختلفة. ونحن، وإن كنا لا نعرف شيئًا عن تحديد هذا التدرج وتاريخ ظهور المعانى المختلفة للكلمة الواحدة، نستطيع أن نقطع بأن بعض المعانى للكلمة الواحدة حادث باصطلاح أرباب العلوم والفنون: فهناك معان لُغَوِية، وهناك معان شرعية، وهناك معان عُرْفية، وهذه المعانى كلها توقَع بلفظ واحد بعضها عرفته العرب وقت نزول القرآن، وبعضها لا علم للعرب به وقت نزول القرآن نظرًا لحدوثه وطروئه على اللَّفظ، فهل يُعْقَل بعد ذلك أن نتوسع هذا التوسع العجيب فى فهم ألفاظ القرآن ونجعلها تدل على معان جدَّت باصطلاح حادث ولم تُعرف للعرب الذين نزل القرآن عليهم؟ وهل يعقل أن الله تعالى إنما أراد بهذه الألفاظ القرآنية هذه المعانى التى حدثت بعد نزول القرآن بأجيال، فى الوقت الذى نزلت فيه هذه الألفاظ من عند الله، وتُلِيَتْ أول ما تُلِيَتْ على من كان حول النبى صلى الله عليه وسلم؟ أعتقد أن هذا أمر لا يعقله إلا مَن سَفِهَ نَفْسَه، وأنكر عقله.
ثانيًا الناحية البلاغية. عُرِّفت البلاغة بأنها مطابقة الكلام لمقتضى الحال، ومعلوم أن القرآن فى أعلى درجات البلاغة. فإذا نحن ذهبنا مذهب أرباب التفسير العلمى وقلنا بأن القرآن متضمن لكل العلوم، وألفاظه متحملة لهذه المعانى المستحدّثة، لأوقعْنا أنفسنا فى ورطة لا خلاص لنا منها إلا بما يخدش بلاغة القرآن أو يذهب بفطانة العرب. وذلك لأن مَنْ خوطبوا بالقرآن فى وقت نزوله إنْ كانوا يجهلون هذه المعانى وكان الله يريدها من خطابه إياهم لزم على ذلك أن يكون القرآن غير بليغ لأنه لم يراع حال المخاطب، وهذا سلب لأهم خصائص القرآن الكريم. وإن كانوا يعرفون هذه المعانى فلِمَ لَمْ تظهر نهضة العرب العلمية من لدن نزول القرآن الذى حوى علوم الأوَّلين والآخرين؟ ولِمَ لَمْ تقم نهضتهم على هذه الآيات الشارحة لمختلف العلوم وسائر الفنون؟ وهذا أيضًا سلب لأهم خصائص العرب ومميزاتهم.
ثالثًا الناحية الاعتقادية. القرآن الكريم باقٍ ما تعاقب الـمَلَوَان، ونظامه نافع لكل عصر وزمان، فهو يتحدث إلى عقول الناس جميعًا من لدن نزوله إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهو يساير حياتهم فى كل ما يمرون به من مراحل الزمن. وهذا كله بحكم كونه كتاب الشريعة العامة الشاملة، وقانون الدين الذى جعله الله خاتم شرائع السموات إلى أهل الأرض. هذا ما يجب على كل مسلم أن يعتقده ويدين به حتى يَسْلَم له دينه ولا يرتاب فيه. فإذا نحن ذهبنا مذهب مَن يُحمِّل القرآن كل شىء وجعلناه مصدرًا لجوامع الطب وضوابط الفلك ونظريات الهندسة وقوانين الكيمياء وما إلى ذلك من العلوم المختلفة لكُنَّا بذلك قد أوقعْنا الشك فى عقائد المسلمين نحو القرآن الكريم. وذلك لأن قواعد العلوم وما تقوم عليه من نظريات لا قرار لها ولا بقاء، فرُبَّ نظرية علمية قال بها عالِمٌ اليوم ثم رجع عنها بعد زمن قليل أو كثير لأنه ظهر له خطؤها. وأمام سمعنا وبصرنا من المثل ما يشهد بأن كثيرًا من جوامع العلم لا يضطبها اليوم أحد إلا تغير ضبطه لها بعد ذلك. وكم بين نظريات العلم قديمة وحديثة من تنافٍ وتضادٍّ، فهل يعقل أن يكون القرآن محتملاً لجميع هذه النظريات والقواعد العلمية على ما بينها من التنافى والتضاد؟ وإذا كان هذا معقولاً، فهل يعقل أن يُصدِّق مسلم بالقرآن بعد هذا ويكون على يقين بأنه كتاب الله الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؟
الحق أن القرآن لا يُعْنَى بهذا اللَّون من حياة الناس ولا يتعهده بالشرح ولا يتولاه بالبيان حتى يكون مصدرهم الذى يرجعون إليه فى تعريف حياتهم العلمية الدنيوية. ويبدو لنا أن أنصار هذه الفكرة، فكرة التفسير العلمى، لم يقولوا بها ولم يعملوا على تأييدها إلا بعد أن نظروا إليها كوجه من وجوه إعجاز القرآن الكريم وبيان صلاحيته للحياة وتمشّيه معها على اختلاف أحوالها وتطور أزمانها. ولكنْ "ما هكذا يا سعد تُورَد الإبل"، فإن إعجاز القرآن غنىّ عن أن يُسْلَك فى بيانه هذا المسلك المتكلف الذى قد يَذْهَب بالإعجاز. وهناك من ألوان الإعجاز غير هذا ما يشهد للقرآن بأنه كتاب الله المنزَّل على محمد صلى الله عليه وسلم. وإذا كان أرباب هذا المسلك فى التفسير يستندون إلى ما تناولته بعض آيات القرآن من حقائق الكون ومشاهده ودعوة الله لهم بالنظر فى كتاب الكون وآياته التى بثًَّها فى الآفاق وفى أنفسهم، إذا كانوا يستندون إلى مثل هذا فى دعواهم أن القرآن قد جمع علوم الأوَّلين والآخرين، فهم مخطئون ولا شك. وذلك لأن تناول القرآن لحقائق الكون ومشاهده ودعوته إلى النظر فى ملكوت السموات والأرض وفى أنفسهم لا يُراد منه إلا رياضة وجدانات الناس وتوجيه عامتهم وخاصتهم إلى مكان العظة والعبرة ولفتهم إلى آيات قدرة الله ودلائل وحدانيته من جهة ما لهذه الآيات والمشاهد من روعة فى النفس وجلال فى القلب لا من جهة ما لها من دقائق النظريات وضوابط القوانين، فليس القرآن كتاب فلسفة أو طب أو هندسة. وليعلم أصحاب هذه الفكرة أن القرآن غنىٌّ عن أن يعتز بمثل هذا التكلف الذى يوشك أن يخرج به عن هدفه الإنسانى الاجتماعى فى إصلاح الحياة ورياضة النفس والرجوع بها إلى الله تعالى. وليعلم أصحاب هذه الفكرة أيضًا أن من الخير لهم ولكتابهم أن لا ينحوا بالقرآن هذا المنحى فى تفسيرهم رغبة منهم فى إظهار إعجاز القرآن وصلاحيته للتمشى مع التطور الزمنى، وحسبهم أن لا يكون فى القرآن نص صريح يصادم حقيقة علمية ثابتة، وحسب القرآن أنه يمكن التوفيق بينه وبين ما جَدَّ ويَجِدّ من نظريات وقوانين علمية تقوم على أساس من الحق، وتستند إلى أصل من الصحة".
هذا ما قاله الدكتور الذهبى رحمه الله، ولكن كيف يعرف المسلمون أن القرآن ليس فيه ما يصادم حقيقة من حقائق العلم ما لم يدرسوه جيدا من هذه الناحية؟ علاوة أن كونه كتاب هداية ليس معناه أن نقصر هذه الهداية على هداية العقيدة والخلق والسلوك فحسب، إذ الهداية أوسع من ذلك وأعم وأشمل: فهناك هداية فكرية، وهداية سياسية، وهداية اجتماعية، وهداية اقتصادية، وهداية ذوقية، وهداية صحية، وهداية إدارية... وهلم جرا. ومن هداية الفكر ما يلفتنا إليه القرآن من ظواهر الكون وحقائق العلم... وهلم جرا. والقرآن مفعم بالآيات التى تدعو إلى تشغيل العقول والنظر فى الآفاق والاستزادة من المعرفة واتباع المنهج العلمى الصحيح فى التفكير والاستدلال، فليس كل كتاب الله إذن مخصصا للهداية العقيدية والأخلاقية والسلوكية دون غيرها من الهدايات. ثم إن فى القرآن آيات كثيرة تتعلق بالمعارف العلمية الطبيعية والرياضية والإنسانية، فماذا نصنع إزاءها؟ وكيف يستطيع المفسر التقليدى الذى ليس له من بضاعة إلا بضاعة اللغة والفقه والبلاغة وما إلى ذلك أن يتناولها تناولا يشفى ويريح العقل المعاصر؟ وما معنى التخصص إذن؟ أم ترى القرآن كتابا ساذجا لا يستحق أن نستعين فى فهمه بألوان العلوم والفنون المختلفة؟ أفلا نخصص إذن لهذا الجانب العلمى فى القرآن بعض جهدنا فى الفهم والتفسير؟ ثم هل يمكن أن تتم هداية المسلم، وهو ضعيف علميا؟ فماذا نصنع بقوله تعالى: "قل هل يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون"؟
ونفس الشىء يقال عن العصر الحديث، إذ هناك من يوافق على التفسير العلمى لآيات القرآن، وهناك من يرفض ذلك. وممن رحب بهذا وتحمس له من المصريين فقط عبد الله (باشا) فكرى وزير المعارف فى القرن التاسع عشر، ومصطفى صادق الرافعى، وعبد العزيز (باشا) إسماعيل ود. توفيق صدقى ود. محمد أحمد الغمراوى والأستاذ حنفى أحمد والأستاذ عبد الرازق نوفل والأستاذ عبد العزيز سيد الأهل والأستاذ على عبد العظيم ود. السيد الجميلى ود. مصطفى محمود ود. محمد أحمد الشهاوى ود. منصور حسب النبى ود. زغلول النجار. ولكل واحد من هؤلاء تقريبا مساهمة فى هذا المجال. وهناك مواقع متعددة خاصة بتفسير الآيات التى تتصل بالعلوم الطبيعية والرياضية والنفسية وما إلى هذا منشورة على المِشْبَاك، وفيها بحوث ودراسات يعمل أصحابها على أن يتناولوا كل شىء من ذلك فى كتاب الله بالبحث والدرس.
وقد أورد د. يوسف القرضاوى فى كتابه: "كيف نتعامل مع القرآن العظيم؟"بعض الأسماء الرافضة فى عصرنا لهذا اللون من التفسير والحجج التى استندت إليها فى ذلك الرفض. قال: "اشتهر في عصرنا لون جديد من التفسير، أُطْلِق عليه "التفسير العلمي للقرآن"، ويُقْصَد به التفسير الذي تستخدم فيه العلوم الكونية الحديثة: حقائقها ونظرياتها لبيان مراميه وتوضيح معانيه. والذين يُعْنَوْن بهذا اللون من التفسير في الغالب ويتحمسون له هم علماء الكون والطبيعة، وليسوا من علماء الدين والشريعة. وعلماء الدين والشريعة يختلفون فيما بينهم حول جواز هذا اللون من التفسير ومدى شرعيته. وفي الخمسينيات من القرن العشرين ثارت معركة جدلية على صفحات الصحف المصرية بين فريقين من علماء الدين حول هذه القضية، وأحسب أن الخلاف فيها لم يزل إلى يومنا بين منتصر لهذا الرأي ومنتصر لمخالفه. وقبل ذلك وجدنا من كبار العلماء الباحثين المحدثين المؤيدين والمعارضين، وإن كان المعارضون أكثر وأوفر.
وجدنا من المعارضين الإمام الأكبر محمود شلتوت رحمه الله، الذي أنكر في مقدمة تفسيره على طائفة من المثقفين أخذوا بطرف من العلم الحديث وانتقَوْا أو تلقفوا شيئا من النظريات العلمية والفلسفية وغيرها، وأخذوا يستندون إلى ثقافتهم الحديثة ويفسرون آيات القرآن على مقتضاها. قال الشيخ عن هؤلاء: "نظروا في القرآن فوجدوا الله سبحانه وتعالى يقول: "مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ" (الأنعام/ 38)، فتأولوها على نحوٍ زيَّن لهم أن يفتحوا في القرآن فتحًا جديدًا، ففسروه على أساس من النظريات العلمية المستحدثة، وطبقوا آياته على ما وقعوا عليه من قواعد العلوم الكونية، وظنوا أنهم بذلك يخدمون القرآن ويرفعون من شأن الإسلام ويدعون له أبلغ دعاية في الأوساط العلمية والثقافية. نظروا في القرآن على هذا الأساس، فأفسد ذلك عليهم أمر علاقتهم بالقرآن وأفضى بهم إلى صورة من التفكير لا يريدها القرآن ولا تتفق مع الغرض الذي من أجله أنزله الله. هذه النظرة للقرآن خاطئة من غير شك لأن الله لم يُنْزِل القرآن ليكون كتابًا يتحدث فيه إلى الناس عن نظريات العلوم ودقائق الفنون وأنواع المعارف. وهي خاطئة لأنها تعرّض القرآن للدوران مع مسائل العلوم في كل زمان ومكان، والعلوم لا تعرف الثبات ولا القرار ولا الرأي الأخير، فقد يصح اليوم في نظر العالم ما يصبح غدًا من الخرافات. فلو طبقنا القرآن على هذه المسائل العلمية المتقلبة لعرّضناه للتقلب معها وتَحَمّل تبعات الخطأ فيها، ولأوقفنا أنفسنا بذلك موقفا حرجا في الدفاع عنه. فلندع للقرآن عظمته وجلالته، ولنحفظ عليه قدسيته ومهابته، ولنعلم أن ما تضمنه من الإشارة إلى أسرار الخلق وظواهر الطبيعة إنما هو لقصد الحث على التأمل والبحث والنظر ليزداد الناس إيمانا مع إيمانهم. وحسبنا أن القرآن لم يصادم الفطرة، ولم يصادم ولن يصادم حقيقة من حقائق العلوم تطمئن إليها العقول...".
ووجدنا من المعارضين الأستاذ الشيخ أمين الخولي في بحثه المركّز: "التفسير: معالم حياته، منهجه اليوم". وقد نقل فيه رأي الشاطبي واعتراضه على الذين أرادوا أن يخرجوا بالقرآن عن نهجه في مخاطبة العرب بما يفهمون وفي إطار ما يعهدون من علوم ومعارف، وردّ على الذين زعموا أن في القرآن علوم الأولين والآخرين: دينية ودنيوية، شرعية وعقلية. وهو رأي الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي شيخ الأزهر الأسبق، قاله في تقديمه لكتاب عبد العزيز (باشا) إسماعيل: "الإسلام والطب الحديث". وهو رأي د.عبد الحليم محمود والشيخ عبد الله المشد والشيخ أبو بكر ذكري، أعلنوه في مقدمة تفسيرهم الموجز للقرآن، والذي كان ينشر في مجلة "نور الإسلام" لسان علماء الوعظ والإرشاد في الأزهر.
وينحو صاحب "الظلال" سيد قطب، رحمه الله، هذا المنحى في تفسيره لآية "يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ"، إذ يقول بقلمه البليغ: وإني لأعجب لسذاجة المتحمسين لهذا القرآن الذين يحاولون أن يضيفوا إليه ما ليس منه أن يحملوا عليه ما لم يقصد إليه، وأن يستخرجوا منه جزئيات في علوم الطب والكيمياء والفلك وما إليها كأنما ليعظموه بهذا ويكبروه! إن القرآن كتاب كامل في موضوعه، وموضوعه أضخم من تلك العلوم كلها لأنه هو الإنسان ذاته الذي يكتشف هذه المعلومات وينتفع بها، والبحث والتجريب والتطبيق من خواص العقل في الإنسان. والقرآن يعالج بناء هذا الإنسان، بناء شخصيته وضميره وعقله وتفكيره، كما يعالج بناء المجتمع الإنساني الذي يسمح بأن يحسن استخدام هذه الطاقات المذخورة فيه. وبعد أن يوجد الإنسان السليم التصور والتفكير والشعور، ويوجد المجتمع الذي يسمح له بالنشاط، يتركه القرآن يبحث ويجرب ويخطئ ويصيب في مجال العلم والبحث والتجريب، وقد ضمن له موازين التصور والتدبر والتفكير الصحيح. كذلك لا يجوز أن نعلق الحقائق النهائية التي يذكرها القرآن أحيانا عن الكون في طريقه إنشاء التصور الصحيح لطبيعة الوجود وارتباطه بخالقه، وطبيعة التناسق بين أجزائه، لا يجوز أن نعلق هذه الحقائق النهائية التي يذكرها القرآن بفروض العقل البشري ونظرياته، ولا حتى بما نسميه: "حقائق علمية" مما ينتهي إليه بطريق التجربة القاطعة في نظره.
إن الحقائق القرآنية حقائق نهائية قاطعة مطلقة. أما ما يصل إليه البحث الإنساني، أيًّا كانت الأدوات المتاحة له، فهي حقائق غير نهائية ولا قاطعة، وهي مقيدة بحدود تجاربه وظروف هذه التجارب وأدواتها. فمن الخطأ المنهجي بحكم المنهج العلمي الإنساني ذاته أن نعلق الحقائق النهائية القرآنية بحقائق غير نهائية، وهي كل ما يصل إليه العلم البشري. هذا بالقياس إلى الحقائق العلمية، والأمر أوضح بالقياس إلى النظريات والفروض التي تسمى: "علمية". ومن هذه النظريات والفروض كل النظريات الفلكية، وكل النظريات الخاصة بنشأة الإنسان وأطواره، وكل النظريات الخاصة بنفس الإنسان وسلوكه، وكل النظريات الخاصة بنشأة المجتمعات وأطوارها. فهذه كلها ليست "حقائق علمية" حتى بالقياس الإنساني، وإنما هي نظريات وفروض كل قيمتها أنها تصلح لتفسير أكبر قدر من الظواهر الكونية أو الحيوية أو النفسية أو الاجتماعية، وإلى أن يظهر فرض آخر يفسر قدرا أكبر من الظواهر، أو يفسر تلك الظواهر تفسيرا أدق! ومن ثم فهي قابلة للتغيير والتعديل والنقص والإضافة، بل قابلة لأن تنقلب رأسا على عقب بظهور أداة كشف جديدة أو بتفسير جديد لمجموعة الملاحظات القديمة. وكل محاولة لتعليق الإشارات القرآنية العامة بما يصل إليه العلم من نظريات متجددة متغيرة، أو حتى بحقائق علمية ليست مطلقة كما أسلفنا، تحتوي أولاً على خطإ منهجي أساسي. كما أنها تنطوي على معانٍ ثلاثة كلها لا يليق بالقرآن الكريم:
المعنى الأول الهزيمة الداخلية التي تخيِّل لبعض الناس أن العلم هو المهيمن، والقرآن تابع. ومن هنا يحاولون تثبيت القرآن بالعلم أو الاستدلال له من العلم، على حين أن القرآن كتاب كامل في موضوعه، ونهائي في حقائقه. والعلم لا يزال في موضوعه ينقض اليوم ما أثبته بالأمس، وكل ما يصل إليه غير نهائي ولا مطلق لأنه مقيَّد بوسع الإنسان وعقله وأدواته، وكلها ليس من طبيعتها أن تعطي حقيقة واحدة نهائية مطلقة. والمعنى الثاني سوء فهم طبيعة القرآن ووظيفته، وهي أنه حقيقة نهائية مطلقة تعالج بناء الإنسان بناء يتفق، بقدر ما تسمح طبيعة الإنسان النسبية، مع طبيعة هذا الوجود وناموسه الإلهي حتى لا يصطدم الإنسان بالكون من حوله، بل يصادقه ويعرف بعض أسراره ويستخدم بعض نواميسه في خلافته، نواميسه التي تنكشف له بالنظر والبحث والتجريب والتطبيق، وفق ما يهديه إليه عقله الموهوب له ليعمل لا ليتسلم المعلومات المادية جاهزة! والمعنى الثالث هو التأويل المستمر، مع التمحل والتكلف، لنصوص القرآن كي نحملها ونلهث بها وراء الفروض والنظريات التي لا تثبت ولا تستقر. وكل يوم يوجد جديد، وكل أولئك لا يتفق وجلال القرآن، كما أنه يحتوي على خطإ منهجي، كما أسلفنا".
أما كاتب هذه السطور فليس مع الرافضين للتفسير العلمى مع شدة احترامه لهم وإكباره لما كتبوه. وما دام التفسير العلمى لا يصادم الآية فى لغتها ولا يلويها عن سياقها أو عن معناها الذى يحكم به العقل السليم فأهلا به وسهلا ومرحبا. أما القول بأن القرآن إنما نزل يخاطب العرب المعاصرين للرسول وحدهم فهذا غير صحيح، إذ هو يخاطب من خلالهم البشرية كلها منذ عصرهم إلى أبد الآبدين. وما دام العلم يتقدم كل يوم ويقفز بخطاه الجبارة فلا بد أن نستعين به فى فهم هذا النص الإلهى المعجز. والله سبحانه وتعالى ليس عربيا ولا هو ينتمى إلى عصر المبعث، بل هو سبحانه فوق الزمان والمكان والأجناس والأعراق والثقافات، وكلامه أزلى أبدى. والذى أومن به أن النص القرآنى قد صيغ صياغة تسمح بفهمه فهما متجددا وسليما فى كل عصر. ونحن نعرف أن للحقيقة وجوها مختلفة، وإذا لم يكن فى كلام الله تلك الشمولية ففى أى كلام يا ترى تكون؟ ولقد سبق أن ضربت أمثلة على ضرورة الاستعانة بالعلوم الطبيعية والفلسفية والرياضية فى فهم نصوص قرآنية لا يمكن فهمها من قِبَل العقل الحديث بدونها. كما أن الـمُحْدَثين والمعاصرين قد استحدثوا من الدراسات القرآنية ما لم يكن يخطر على بال أحد، فكيف يقال إن إحساسهم البلاغى بجمال العبارة القرآنية أضعف من إحساس عرب المبعث؟ وبالنسبة لى لن يحجزنى أنى مؤلف كتاب "القرآن والحديث- مقارنة أسلوبية" عن التنبيه إلى ما فيه من لون جديد من الدراسات القرآنية فأسكت عن القول بأن هذه أول مرة يفصَّل القول أسلوبيا وإحصائيا وتحليليا فى المقارنة بين لغة القرآن ولغة الرسول عليه السلام. ولا ريب فى أن هذا الإنجاز ما كان ليتم فى العصور السابقة لأنه ابن عصره. كما استطعت أيضا فى كتبى عن سور "المائدة" و"يوسف" و"الرعد" و"طه" و"النجم" و"الرحمن" رَصْد عشرات الفروق الأسلوبية بين النصوص المكية والمدنية فى كتاب الله مما يعد جديدا تمام الجدة، إذ لم يتوصل القدماء طوال الأربعة عشر قرنا الماضية إلا إلى بضعة فروق قليلة من هذا اللون يجدها القارئ مكررة فى كتب علوم القرآن هنا وهناك دون زيادة أو نقصان. ومن المؤكد أن هناك دراسات أخرى ظهرت فى عصرنا هذا، فكيف يهوَّن من شأن هذا العصر والجهود التى تُبْذَل فيه لخدمة كتاب الله بحجة أن القدماء كانوا أفصح منا وأبلغ، وأقدر على فهم القرآن من كل نواحيه فهما لا يمكننا نحن الـمُحْدَثين بلوغ شىء منه؟
أما اعتراضات سيد قطب رحمه الله فالرد عليها كالآتى: ليس من الهزيمة الداخلية فى شىء أن أستعين بالعلوم الطبيعية، وإلا كانت الاستعانة بأى علم آخر حتى لو كان علم النحو أو البلاغة مثلا هزيمة نفسية أيضا، إذ كلها علوم بشرية، وليس ثم فرق بين أى منها والآخر. ونحن لا نجعل العلوم الطبيعية هى الأصل، بل القرآن، الذى شأنُه شأنُ أى نص آخر يحتاج فى فهمه وتذوقه إلى وسائل وأدوات، ومنها العلوم الطبيعية والرياضية. وقد قلنا إنه لا بد أن يلح المفسر العلمى على أن ما يقوله إنْ هو إلا اجتهادات منه قد تصيب وقد تخطئ، وأن النص القرآنى شىء مختلف تماما عن هذا الذى يقول. ثم لقد قلنا أيضا إنه لا يصح تحميل النص القرآنى ما لا يحتمل أو تقويله ما لا يقول. كما قلنا إن كلام المفسرين الذين لا يستعينون بتلك العلوم المبغوضة عند البعض كثيرا ما يخطئ، فهل يكون هذا مسوغا لرفض الاستعانة بالعلوم التقليدية التى يستعين بها أولئك المفسرون من نحو وبلاغة وحديث وما إلى ذلك؟ ثم ماذا نفعل فى الآيات التى استعنتُ فى هذا الكتاب بكلام المتخصصين فى العلوم الطبيعية فى فهمها، وهى لا تُفْهَم فى عصرنا الفهم المريح للذهن والقلب إلا بالاستعانة بتلك المباحث؟ هذا هو السؤال. ثم إن التفسير التقليدى كثيرا ما يعاد فيه النظر، ويقول اللاحق كلاما ينقض كلام السابق. أى أن الاستعانة بالعلوم الطبيعية ليست هى وحدها المعرَّضة لهذا الأمر. وأود هنا أن أقول كلمة جد مهمة، وهى أن العلم الطبيعى، مثل أى علم آخر، إنما هو نعمة من الله، فكيف يمكن أن نقاطع تلك النعمة وكأنها مستوحاة من الشيطان؟ المطلوب منا أن نسدد ونقارب وأن نجتهد بأقصى ما نَقْدِر، ولو نجحنا فخير وبركة، ولنا من الله الكريم الرحيم درجتان، وإذا كانت الأخرى فدرجة واحدة، إذ من المعروف طبقا لحديث سيد المرسلين أنه لا عقاب فى الإسلام على الاجتهاد حتى لو أخطأ صاحبه ما دام قد استفرغ الوسع.
على أن ما نقله د. القرضاوى من كلام سيد قطب ليس هو كل كلام الرجل فى هذا السبيل، إذ عَقَّب رحمه الله على هذا الكلام بما يلى: "ولكن هذا لا يعني ألا ننتفع بما يكشفه العلم من نظريات ومن حقائق عن الكون والحياة والإنسان في فهم القرآن. كلا! إن هذا ليس هو الذي عَنَيْنا بذلك البيان. ولقد قال الله سبحانه: "سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق". ومن مقتضى هذه الإشارة أن نظل نتدبر كل ما يكشفه العلم في الآفاق وفي الأنفس من آيات الله، وأن نوسّع بما يكشفه مدى المدلولات القرآنية في تصورنا. فكيف، ودون أن نعلق النصوص القرآنية النهائية المطلقة بمدلولات ليست نهائية ولا مطلقة؟ هنا ينفع المثال: يقول القرآن الكريم مثلا: "وخَلَق كل شيء فقدَّره تقديرا". ثم تكشف الملاحظات العلمية أن هناك موافقات دقيقة وتناسقات ملحوظة بدقة في هذا الكون: الأرض بهيئتها هذه وببعد الشمس عنها هذا البعد، وبعد القمر عنها هذا البعد، وحجم الشمس والقمر بالنسبة لحجمها، وبسرعة حركتها هذه، وبميل محورها هذا، وبتكوين سطحها هذا، وبآلاف من الخصائص، هي التي تصلح للحياة وتُوَائِمُها. فليس شيء من هذا كله فلتة عارضة ولا مصادفة غير مقصودة. هذه الملاحظات تفيدنا في توسيع مدلول "وخَلَق كل شيء فقدَّره تقديرا" وتعميقه في تصورنا. فلا بأس من تتبع مثل هذه الملاحظات لتوسيع هذا المدلول وتعميقه... وهكذا.
هذا جائز ومطلوب، ولكن الذي لا يجوز ولا يصح علميا هذه الأمثلة الأخرى: يقول القرآن الكريم: "خَلَق الإنسانَ من سلالة من طين"، ثم توجد نظرية في النشوء والارتقاء لوالاس ودارْوِن تفترض أن الحياة بدأت خلية واحدة، وأن هذه الخلية نشأت في الماء، وأنها تطورت حتى انتهت إلى خلق الإنسان. فنحمل نحن هذا النص القرآني ونلهث وراء النظرية لنقول: هذا هو الذي عناه القرآن! لا. إن هذه النظرية أولا ليست نهائية، فقد دخل عليها من التعديل في أقل من قرن من الزمان ما يكاد يغيرها نهائيا. وقد ظهر فيها من النقص المبني على معلومات ناقصة عن وحدات الوراثة التي تحتفظ لكل نوع بخصائصه ولا تسمح بانتقال نوع إلى نوع آخر ما يكاد يبطلها. وهي معرضة غدا للنقض والبطلان، بينما الحقيقة القرآنية نهائية، وليس من الضروري أن يكون هذا معناها، فهي تثبت فقط أصل نشأة الإنسان ولا تذكر تفصيلات هذه النشأة. وهي نهائية في النقطة التي تستهدفها، وهي أصل النشأة الإنسانية وكفى، ولا زيادة. ويقول القرآن الكريم: "والشمس تجري لمستقر لها"، فيثبت حقيقة نهائية عن الشمس، وهي أنها تجري. ويقول العلم إن الشمس تجري بالنسبة لما حولها من النجوم بسرعة قدرت بنحو 12 ميلا في الثانية، ولكنها في دورانها مع المجرة التي هي واحدة من نجومها تجري جميعا بسرعة 170 ميلا في الثانية. ولكن هذه الملاحظات الفلكية ليست هي عين مدلول الآية القرآنية. إن هذه تعطينا حقيقة نسبية غير نهائية قابلة للتعديل أو البطلان. أما الآية القرآنية فتعطينا حقيقة نهائية في أن الشمس تجري، وكفى. فلا نعلق هذه بتلك أبدا. ويقول القرآن الكريم: "أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما"، ثم تظهر نظرية تقول إن الأرض كانت قطعة من الشمس فانفصلت عنها، فنحمل النص القرآني ونلهث لندرك هذه النظرية العلمية ونقول: هذا ما تعنيه الآية القرآنية! لا. ليس هذا هو الذي تعنيه! فهذه نظرية ليست نهائية، وهناك عدة نظريات عن نشأة الأرض في مثل مستواها من ناحية الإثبات العلمي! أما الحقيقة القرآنية فهي نهائية ومطلقة، وهي تحدد فقط أن الأرض فُصِلَتْ عن السماء. كيف؟ ما هي السماء التي فُصِلَتْ عنها؟ هذا ما لا تتعرض له الآية، ومن ثم لا يجوز أن يقال عن أي فرض من الفروض العلمية في هذا الموضوع إنه المدلول النهائي المطابق للآية! وحسبنا هذا الاستطراد بهذه المناسبة، فقد أردنا به إيضاح المنهج الصحيح في الانتفاع بالكشوف العلمية في توسيع مدلول الآيات القرآنية وتعميقها دون تعليقها بنظرية خاصة أو بحقيقة علمية خاصة تعليق تطابق وتصديق. وفرق بين هذا وذاك". ولو تأملنا هذه السطور لرأيناه، رحمه الله، لا ينكر الاستفادة من التقدم العلمى واكتشافاته فى فهم القرآن على طول الخط، بل ينصب إنكاره فقط على المغالاة فى ذلك والجرى وراء كل ساقطة ولاقطة مما يقوله العلماء دون أن يكون هناك سند متين لهذا الذى يقولون. وهو ما لا يختلف عما اخترناه.
ولكى يطمئن القارئ أن ما أوردناه الآن هو الذى يمثل موقف سيد قطب نسوق إليه أيضا من تفسيره المسمَّى: "فى ظلال القرآن" هذه الفقرات التى تبين أن ما نقله عنه الدكتور القرضاوى لا يصور رأيه من كل جوانبه. يقول رحمه الله عند الكلام عن قوله تعالى: "أو لم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رَتْقًا ففتقناهما، وجعلنا من الماء كل شيء حي؟ أفلا يؤمنون؟ وجعلنا في الأرض رَوَاسِيَ أن تميد بهم": "وتقريره (أى القرآن) أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففُتِقَتَا مسألة جديرة بالتأمل كلما تقدمت النظريات الفلكية في محاولة تفسير الظواهر الكونية فحامت حول هذه الحقيقة التي أوردها القرآن الكريم منذ أكثر من ثلاثمائة وألف عام. فالنظرية القائمة اليوم هي أن المجموعات النجمية، كالمجموعة الشمسية المؤلفة من الشمس وتوابعها ومنها الأرض والقمر، كانت سَدِيمًا، ثم انفصلت وأخذت أشكالها الكروية، وأن الأرض كانت قطعة من الشمس ثم انفصلت عنها وبردت. ولكن هذه ليست سوى نظرية فلكية تقوم اليوم، وقد تُنْقَض غدا، وتقوم نظرية أخرى تصلح لتفسير الظواهر الكونية بفرض آخر يتحول إلى نظرية. ونحن أصحاب هذه العقيدة لا نحاول أن نحمل النص القرآني المستيقن على نظرية غير مستيقنة تُقْبَل اليوم وتُرْفَض غدا. لذلك لا نحاول في هذه الظلال أن نوفق بين النصوص القرآنية والنظريات التي تسمى علمية. وهي شيء آخر غير الحقائق العلمية الثابتة القابلة للتجربة كتمدد المعادن بالحرارة وتحول الماء بخارا وتجمده بالبرودة... إلى آخر هذا النوع من الحقائق العلمية. وهي شيء آخر غير النظريات العلمية كما بينا من قبل في الظلال. إن القرآن ليس كتاب نظريات علمية ولم يجيء ليكون علما تجريبيا كذلك. إنما هو منهج للحياة كلها، منهج لتقويم العقل ليعمل وينطلق في حدوده، ولتقويم المجتمع ليسمح للعقل بالعمل والانطلاق دون أن يدخل في جزئيات وتفصيليات علمية بحتة، فهذا متروك للعقل بعد تقويمه وإطلاق سراحه.
وقد يشير القرآن أحيانا إلى حقائق كونية كهذه الحقيقة التي يقررها هنا: "أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما". ونحن نستيقن هذه الحقيقة لمجرد ورودها في القرآن، وإن كنا لا نعرف منه كيف كان فتق السماوات والأرض، أو فتق السماوات عن الأرض. ونتقبل النظريات الفلكية التي لا تخالف هذه الحقيقة المجملة التي قررها القرآن، ولكننا لا نجري بالنص القرآني وراء أية نظرية فلكية، ولا نطلب تصديقا للقرآن في نظريات البشر. وهو حقيقة مستيقنة! وقصارى ما يقال إن النظرية الفلكية القائمة اليوم لا تعارض المفهوم الإجمالي لهذا النص القرآني السابق عليها بأجيال! فأما شطر الآية الثاني: "وجعلنا من الماء كل شيء حي" فيقرر كذلك حقيقة خطيرة يعد العلماء كشفها وتقريرها أمرا عظيما، ويمجدون دارون لاهتدائه إليها وتقريره أن الماء هو مهد الحياة الأول. وهي حقيقة تثير الانتباه حقا، وإن كان ورودها في القرآن الكريم لا يثير العجب في نفوسنا، ولا يزيدنا يقينا بصدق هذا القرآن. فنحن نستمد الاعتقاد بصدقه المطلق في كل ما يقرره من إيماننا بأنه من عند الله. لا من موافقة النظريات أو الكشوف العلمية له. وأقصى ما يقال هنا كذلك إن نظرية النشوء والارتقاء لدارون وجماعته لا تعارض مفهوم النص القرآني في هذه النقطة بالذات.
ومنذ أكثر من ثلاثة عشر قرنا كان القرآن الكريم يوجه أنظار الكفار إلى عجائب صنع الله في الكون، ويستنكر ألا يؤمنوا بها وهم يرونها مبثوثة في الوجود: أفلا يؤمنون، وكل ما حولهم في الكون يقود إلى الإيمان بالخالق المدبر الحكيم؟ ثم يمضي في عرض مشاهد الكون الهائلة: "وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم"، فيقرر أن هذه الجبال الرواسي تحفظ توازن الأرض فلا تميد بهم ولا تضطرب. وحفظ التوازن يتحقق في صور شتى: فقد يكون توازنا بين الضغط الخارجي على الأرض والضغط الداخلي في جوفها، وهو يختلف من بقعة إلى بقعة. وقد يكون بروز الجبال في موضع معادلا لانخفاض الأرض في موضع آخر. وعلى أية حال فهذا النص يثبت أن للجبال علاقة بتوازن الأرض واستقرارها. فلنترك للبحوث العلمية كشف الطريقة التي يتم بها هذا التوازن، فذلك مجالها الأصيل، ولنكتف من النص القرآني الصادق باللمسة الوجدانية والتأمل الموحي، وبتتبع يد القدرة المبدعة المدبرة لهذا الكون الكبير".
بل إنه، غفر الله له، لدى تفسيره لقوله تعالى من سورة "الأنعام": "إن الله فالق الـحَبِّ والنَّوَى. يُخْرِج الحيَّ من الميت، ومُخْرِج الميتِ من الحيّ. ذلكم الله فأنى تُؤْفَكون؟" يمضى فى نقل فقرات كثيرة مما قاله بعض علماء الغرب عن استحالة المصادفة فى عملية خلق الكون، وأن وراء هذا الكون إرادة قاصدة وقدرة مطلقة، وأن الأمر ليس عبثا. فما معنى ذلك؟ ولنقرأ: "لقد عجزت كل محاولة لتفسير ظاهرة الحياة، على غير أساس أنها من خلق الله. ومنذ أن شَرَد الناس من الكنيسة في أوربا... وهم يحاولون تفسير نشأة الكون وتفسير نشأة الحياة بدون التجاء إلى الاعتراف بوجود الله، ولكن هذه المحاولات كلها فشلت جميعا، ولم تبق منها في القرن العشرين إلا مماحكات تدل على العناد، ولا تدل على الإخلاص! وأقوال بعض "علمائهم" الذين عجزوا عن تفسير وجود الحياة إلا بالاعتراف بالله تصور حقيقة موقف "علمهم" نفسه من هذه القضية. ونحن نسوقها لمن لا يزالون عندنا يقتاتون على فتات القرنين الثامن عشر والتاسع عشر من موائد الأوربيين، عازفين عن هذا الدين، لأنه يُثْبِت "الغيب" وهم "علميون!" لا "غيبيون!". ونختار لهم هؤلاء العلماء من "أمريكا!".
يقول "فرانك أللن" (ماجستير ودكتوراه من جامعة كورنل وأستاذ الطبيعة الحيوية بجامعة مانيتوبا بكندا) في مقال "نشأة العالم هل هو مصادفة أو قصد؟" من كتاب "الله يتجلى في عصر العلم" (ترجمة الدكتور الدمرداش عبد المجيد سرحان): "فإذا لم تكن الحياة قد نشأت بحكمة وتصميم سابق، فلا بد أن تكون قد نشأت عن طريق المصادفة. فما هي تلك المصادفة إذن حتى نتدبرها ونرى كيف تخلق الحياة؟ إن نظريات المصادفة والاحتمال لها الآن من الأسس الرياضية السليمة ما يجعلها تطبق على نطاق واسع حيثما انعدم الحكم الصحيح المطلق. وتضع هذه النظريات أمامنا الحكم الأقرب إلى الصواب، مع تقدير احتمال الخطأ في هذا الحكم. ولقد تقدمت دراسة نظرية المصادفة والاحتمال من الوجهة الرياضية تقدما كبيرا حتى أصبحنا قادرين على التنبؤ بحدوث بعض الظواهر التي نقول إنها تحدث بالمصادفة، والتي لا نستطيع أن نفسر ظهورها بطريقة أخرى، مثل قذف الزهر في لعبة النَّرْد. وقد صرنا بفضل تقدم هذه الدراسات قادرين على التمييز بين ما يمكن أن يحدث بطريق المصادفة وما يستحيل حدوثه بهذه الطريقة، وأن نحسب احتمال حدوث ظاهرة من الظواهر في مدًى معين من الزمان. ولننظر الآن إلى الدور الذي تستطيع أن تلعبه المصادفة في نشأة الحياة: إن البروتينات من المركَّبات الأساسية في جميع الخلايا الحية، وهي تتكون من خمسة عناصر هي الكربون والأدروجين والنيتروجين والأكسجين والكبريت. ويبلغ عدد الذرات في الـجُزَيْءِ الواحد 000 40 ذرة. ولما كان عدد العناصر الكيموية في الطبيعة 92 عنصرا، موزعة كلها توزيعا عشوائيا، فإن احتمال اجتماع هذه العناصر الخمسة لكي تكون جُزَيْئًا من جُزَيْئات البروتين يمكن حسابه لمعرفة كمية المادة التي ينبغي أن تخلط خلطا مستمرا لكي تؤلف هذا الجزيء، ثم لمعرفة طول الفترة الزمنية اللازمة لكي يحدث هذا الاجتماع بين ذرات الجزيء الواحد. وقد قام العالم الرياضي السويسري تشارلز يوجين جاي بحساب هذه العوامل جميعا، فوجد أن الفرصة لا تتهيأ عن طريق المصادفة لتكوين جزيء بروتيني واحد إلا بنسبة 1 إلى 10× 160، أي بنسبة 1 إلى رقم عشرة مضروبا في نفسه 160 مرة، وهو رقم لا يمكن النطق به أو التعبير عنه بكلمات. وينبغي أن تكون كمية المادة التي تلزم لحدوث هذا التفاعل بالمصادفة بحيث ينتج جزيء واحد أكثر مما يتسع له كل هذا الكون بملايين المرات. ويتطلب تكوين هذا الجزيء على سطح الأرض وحدها عن طريق المصادفة بلايين لا تحصى من السنوات قدَّرها العالم السويسري بأنها عشرة مضروبة في نفسها 243 مرة من السنين. إن البروتينات تتكون من سلاسل طويلة من الأحماض الأمينية، فكيف تتآلف ذرات هذه الجزيئات؟ إنها إذا تآلفت بطريقة أخرى غير التي تتآلف بها تصير غير صالحة للحياة، بل تصير في بعض الأحيان سموما. وقد حسب العالم الإنجليزي ج. ب. سيثر الطرق التي يمكن أن تتآلف بها الذرات في أحد الجزيئات البسيطة من البروتينات، فوجد أن عددها يبلغ الملايين... وعلى ذلك فإنه من المحال عقلا أن تتآلف كل هذه المصادفات لكي تبني جزيئا بروتينيا واحدا. ولكن البروتينات ليست إلا موادَّ كيماويةً عديمةَ الحياة، ولا تدب فيها الحياة إلا عندما يحل فيها ذلك السر العجيب الذي لا ندري من كنهه شيئا. إنه العقل اللانهائي، وهو الله وحده الذي استطاع أن يدرك ببالغ حكمته أن مثل هذا الجزيء البروتيني يصلح لأن يكون مستقرا للحياة، فبناه وصوَّره وأغدق عليه سر الحياة".
ويقول إيرفنج وليام (دكتوراه من جامعة إيوى وإخصائي في وراثة النباتات وأستاذ العلوم الطبيعية بجامعة ميتشجان) في مقال "المادية وحدها لا تكفي" من الكتاب نفسه: "إن العلوم لا تستطيع أن تفسر لنا كيف نشأت تلك الدقائق الصغيرة المتناهية في صغرها والتي لا يحصيها عد، وهي التي تتكون منها جميع المواد. كما لا تستطيع العلوم أن تفسر لنا، بالاعتماد على فكرة المصادفة وحدها، كيف تتجمع هذه الدقائق الصغيرة لكي تكون الحياة. ولا شك أن النظرية التي تدّعي أن جميع صور الحياة الراقية قد وصلت إلى حالتها الراهنة من الرقي بسبب حدوث بعض الطفرات العشوائية والتجمعات والهجائن، نقول: إن هذه النظرية لا يمكن الأخذ بها إلا عن طريق التسليم، فهي لا تقوم على أساس المنطق والإقناع!".
ويقول ألبرت ماكومب ونشتر (متخصص في علم الأحياء. دكتوراه من جامعة تكساس. أستاذ علم الأحياء بجامعة بايلور) في مقال "العلوم تدعم إيماني بالله" من الكتاب نفسه: "وقد اشتغلت بدراسة علم الأحياء، وهو من الميادين العلمية الفسيحة التي تهتم بدراسة الحياة. وليس بين مخلوقات الله أروع من الأحياء التي تسكن هذا الكون. انظر إلى نبات برسيم ضئيل، وقد نما على أحد جوانب الطريق، فهل تستطيع أن تجد له نظيرا في روعته بين جميع ما صنعه الإنسان من تلك العدد والآلات الرائعة؟ إنه آله حية تقوم بصورة دائبة لا تنقطع آناء الليل وأطراف النهار بآلاف من التفاعلات الكيموية والطبيعية. ويتم كل ذلك تحت سيطرة البروتوبلازم، وهو المادة التي تدخل في تركيب جميع الكائنات الحية. فمن أين جاءت هذه الآلة الحية المعقدة؟ إن الله لم يصنعها هكذا وحدها، ولكنه خلق الحياة وجعلها قادرة على صيانة نفسها، وعلى الاستمرار من جيل إلى جيل، مع الاحتفاظ بكل الخواصّ والمميزات التي تعيننا على التمييز بين نبات وآخر. إن دراسة التكاثر في الأحياء تعتبر أروع دراسات علم الأحياء وأكثرها إظهارا لقدرة الله. إن الخلية التناسلية التي ينتج عنها النبات الجديد تبلغ من الصغر درجة كبرى بحيث يصعب مشاهدتها إلا باستخدام المِجْهَر المكبِّر. ومن العجيب أن كل صفة من صفات النبات، كل عِرْق، وكل شُعَيْرة، وكل فرع على ساق، وكل جذر أو ورقة، يتم تكوينها تحت إشراف مهندسين قد بلغوا من دقة الحجم مبلغا كبيرا، فاستطاعوا العيش داخل الخلية التي ينشأ منها النبات، تلك الفئة من المهندسين هي فئة الكروموسومات (ناقلات الوراثة)". فها هو ذا سيد قطب يستشهد بما يقوله بعض علماء الطبيعة، ومن الغربيين لا من المسلمين، فى موضوع يتصل ببعض الآيات القرآنية، وهو ما يدل على أن الاستشهاد به، غفر الله له، على أنه معادٍ تماما للاستعانة بالعلوم الطبيعية وأشباهها فى فهم كلام الله هو استشهاد غير كامل، بل يصور جانبا واحدا فقط من جوانب موقفه من تلك القضية.
وكمِثْل الأستاذ سيد قطب نرى الشيخ المراغى، رغم إعلانه كراهيته لجَرّ الآية القرآنية إلى العلوم، أو العلوم إلى الآية، كى يتم تفسيرها تفسيرا علميا يتفق مع نظريات العلم الحديث، وكذلك رغم تكريره هذا الإعلان كقوله مثلا: "وُجِد الخلاف بين المسلمين فى العقائد والأحكام الفقهية، ووُجِد عندهم مرض آخر هو الغرور بالفلسفة وتأويل القرآن ليُرْجَع إليها، وتأويله لبعض النظريات العلمية التى لم يقر قرارها، وذلك خطر عظيم على الكتاب، فإن للفلاسفة أوهاما لا تزيد على هذيان المصاب بالحمى. والنظريات التى لم تستقرّ لا يصح أن يُرَد إليها كتاب الله" (الشيخ محمد مصطفى المراغى/ الدروس الدينية لسنة 1357هـ/ مطبعة الأزهر/ 1939م/ 11)، أقول: رغم هذا وذاك نراه يخالف فى تفسيره ما قاله ويستعين فيه بما قالته العلوم الطبيعية: فمن ذلك قوله فى تفسير الآية رقم 10 من سورة لقمان: {خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَىٰ فِي ٱلأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ}: "السموات مجموع ما نراه فى الفضاء فوقنا من سيّارات ونجوم وسدائم، وهى مرتبة بعضها فوق بعض، تطوف دائرة فى الفضاء، كل شىء منها فى مكانه المقدّر له بالناموس الإلهى ونظام الجاذبية، ولا يمكن أن يكون لها عَمَد، والله هو ممسكها ومجريها إلى الأجل المقدَّر لها. فإذا قيل إن نظام الجاذبية، وهو الناموس الإلهى، قائم مقام العَمَد ويُطلق عليه اسم "العَمَد" جاز أن نقول: إن لها عَمَدا غير منظورة. وإذا لاحظنا أنه لا يوجد شىء مادى تعتمد عليه وجب أن نقول: إنه لا عَمَد لها. وأقدار الأجرام السماوية وأوزانها أقدار وأوزان لا عهد لأهل الأرض بها، والأرض نفسها إذا قيست بهذه الأجرام ليست إلا هباءة دقيقة فى الفضاء... قرر الكتاب الكريم أن الأرض كانت جزءا من السموات وانفصلت عنها، وقرر الكتاب الكريم أن الله {ٱسْتَوَىٰ إِلَى ٱلسَّمَآءِ وَهِيَ دُخَانٌ}، وهذا الذى قرره الكتاب الكريم هو الذى دل عليه العلم. وقد قال العلماء إن حادثا كونيا جذب قطعة من الشمس وفصلها عنها، وإن هذه القطعة بعد أن مرت عليها أطوار تكسرت وصارت قطعًا، كل قطعة منها صارت سيَّارا من السيَّارات، وهذه السيَّارات هى بنت الشمس، والشمس هى المركز لكل هذه السيَّارات. فليست الأرض هى مركز العالَم كما ظنه الأقدمون، بل الشمس هى مركز هذه المجموعة، والشمس وتوابعها قوى صغيرة فى العالَم السماوى. وأين هى من الشِعْرَى اليمانية التى قال الله سبحانه فيها: {وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ ٱلشِّعْرَىٰ}؟ فهذا النجم قدرته على إشعاع الضوء تساوى قوة الشمس 26 مرة، وقدرته على إشعاع الحرارة مثل قدرته على إشعاع الضوء. فلو فُرِض أن الشِّعْرَى اليمانية حلَّت محل الشمس يوما من الأيام لانتهت الحياة فجأة بغليان الأنهار والمحيطات والقارات الجليدية التى حول القطبين. وضوء الشِّعْرَى اليمانية يصل إلينا بعد ثمان سنوات، وضوء الشمس يصل إلينا بعد ثماني دقائق، فانظر إلى هذا البُعْد السحيق. وليست الشِّعْرَى اليمانية أكبر نجم فى السماء، فهناك بعض النجوم قدرتها تزيد على قدرة الشِّعْرَى أكثر من عشرة آلاف مرة. وعظمة السماء ليست فى الشمس وتوابعها. كلا، إن عظمتها فى مدنها النجومية، وفى أقدارها وأوزانها وأضوائها وأبعادها على اختلاف أنواعها. وهناك نجم يسمى: "المجرة" أكبر من شمسنا بما يزيد عن ثلاثين مليونا من المرات. وهناك السدائم، وهى قريبة من الخلق أول الأمر. ثم يقف علم الإنسان، والله تعالى وحده يعلم خلقه: {مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ}.
{وَأَلْقَىٰ فِي ٱلأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ}، أى خلق الجبال فى الأرض لئلا تميد الأرض وتضطرب. ولبيان هذا يمكن أن نقول باختصار: إن الأرض بعد انفصالها عن الشمس وعكوفها على الدوران حولها على بُعْدٍ منها وصلت بعض موادها إلى حالة السيولة بعد أن كانت موادَّ ملتهبة كالشمس، وتكوَّنت عليها قشرة صلبة بعد تتابع انخفاض الحرارة أحاطت بما فى جوفها من المواد المنصهرة، ثم تتابعت البرودة على القشرة فتجعَّدت، وحدث من التجعد نتوءات وأغوار: فالجبال الأولى نتوء القشرة الصلبة التى غلَّفت الأرض. وهناك جبال جدَّت عن اشتداد الضغط فى الرواسب التى فى قاع البحر، وجبال نارية جدَّت من خروج الحمم النارية من وسط الأرض وتداخلها فى الطبقات حتى صارت كأوتاد مغروزة فيها. والجبال كلها تتحمل الضغوط الرسوبية على جدرانها وتوزعها وتغير اتجاهها وتكسر حدتها، وتساعد بذلك على بقاء الطبقة المفككة الصالحة للإنبات والتى يتغذى بواسطتها الحيوان والإنسان وتحفظها من أن تمور. فالجبال أولاً حبست النار فى جوف الأرض، وصيَّرت الأرض بعد ذلك صالحة للحياة. والجبال توزع ضغوط الطبقات، ثم بعد ذلك تكسر حدة العواصف والرياح، فهى حافظة للأرض من الميدان الذى يجىء بأسباب من داخل الأرض، والذى يجىء بسبب العواصف والرياح...إلخ" (الشيخ محمد مصطفى المراغى/ حديث رمضان/ كتاب الهلال/ العدد 328/ نوفمبر 1970م/ 61 فصاعدا. وانظر كلامه فى نفس الموضوع ص 161 وما بعدها أيضا). فعلام يدل هذا؟ ألا يدل على أن تجاهل التقدم العلمى عند تفسير القرآن أمر صعب وغير مستحسن، وإلا فكيف نسى هذا المفسران الجليلان ما قالاه وانتفعا بمباحث العلوم الحديثة؟ والمهم ألا يفتئت المفسر العلمى على كتاب الله فيلويه عن وجهه، أو يقوّله ما لم يقل، أو يهجم على ما ليس واضحا له ولا عقله مطمئن إليه، أو يعجل بشرحه على ما لم يتأكد بعد من أقوال العلماء واجتهاداتهم التى لا تزال فى طور التحقق والتمحيص رغبة منه فى الإتيان بشىء جديد لإبهار الناس وطلبا للشهرة وحسن السمعة.
وتبقى سخرية بعض المنتسبين إلى الإسلام من جهود المفسرين العلميين وقولهم عنهم إنهم إنما ينتظرون إلى أن يكتشف الغربيون شيئا جديدا فى ميدان العلم فيَهُبّوا فقط ساعتئذ إلى تفسير آيات القرآن فى ضوء تلك الاكتشافات. ثم يضيفون أن أولئك المفسرين لو كانوا على حق لكانوا قاموا هم أنفسهم بتلك الاكتشافات قبل الغربيين. وهذا اعتراض فى غير محله، وإن كنا نوافق على أنه كسلٌ من المسلمين وعارٌ عليهم أن يتخلفوا عن غيرهم من الشعوب المتقدمة. أما أنه اعتراض فى غير محله فلأن مهمة المفسر ليست اكتشاف القوانين والحقائق العلمية، بل تفسير القرآن مستعينا بكل ما تطوله يده لذلك التفسير، ومنه تلك الحقائق والقوانين. والمهم، كما قلنا، ألا يعتسف التفسير فيحمّل النصوص ما ليس فيها ويقوّلها ما لا تقول. كذلك من الممكن أن يقال لهؤلاء الساخرين: ولماذا لا تشمّرون أنتم أيضا عن ساعد الجِدّ وتنافسون الغربيين فى الاكتشافات والاختراعات؟ أم إن مهمتكم تنحصر فقط فى الاعتراض والتهكم؟ ثم هل يقول عاقل بأن أمر الاكتشاف والاختراع فى عصرنا هذا يمكن أن ينهض به الأفراد بعيدا عن المؤسسات الكبيرة التى تستطيع وحدها تمويل مثل تلك المشاريع؟ كذلك يجب على المسؤولين فى بلاد العرب والمسلمين أن يتخذوا من التفاسير العلمية للقرآن المجيد حافزا للدعوة إلى نهضة علمية حقيقية لا يكتفى فيها الدارسون باجترار ما يقوله العلماء الغربيون، بل يبدعون ويكتشفون ويضيفون وتكون لهم إنجازاتهم هم أيضا. كما ينبغى ألا يترك المسؤولون البحوث العلمية بعد فراغ أصحابها منها لمصيرها المجهول الذى يتربص بها الآن، بل يعملون بكل ما يستطيعون على تحويلها إلى واقع. على أن يفهم المهتمون بالتفسير العلمى أن تناول الآيات القرآنية من هذه الوجهة ليست نهاية المطاف أو أن كل شىء سوف يكون "عالى العال" إذا أثبتنا أن القرآن لا يصادم العلم، إذ ليست هذه سوى الخطوة الأولى التى ينبغى أن تتلوها خطوات أخرى إن لم تنته بأن نناطح من سبقونا وتفوقوا علينا فى ميدان العلم الطبيعى والرياضى والاكتشافات والاختراعات ونسامتهم على الأقل، إن لم نتجاوزهم مع الأيام، فنحن إذن لم نصنع شيئا.
وأيا ما يكن الأمر فما زال هذان الموقفان المتعارضان قائمين حتى الآن. وقد كتب الدكتور زغلول النجار مقالا فى هذا الموضوع فى "أهرام" الاثنين 18/ 9/ 2006م بعنوان "ضوابط التفسير العلمى للقرآن الكريم" نبه فيه إلى عدة احتياطات ينبغى أن يلتزم بها من يتصدى لتفسير القرآن تفسيرا علميا، إذ لا بد له أن يتعمق فى اللغة والبلاغة وعلوم القرآن، وألا يجرى وراء النظريات العلمية التى لم تتحول إلى حقائق بعد. كما ينبغى أن يبتعد بوجه عام عن التفاصيل العلمية الدقيقة التى لا تخدم غرض التفسير العلمى كالمعادلات الرياضية المعقدة والرموز الكيميائية الدقيقة مثلا. كذلك لا يصحّ له القول بأن هذا الذى توصل له هو معنى الآية، بل عليه التأكيد بأن هذا ليس سوى فهمه هو الذى يمكن أن يخطئ، ويمكن أن يصيب. وبالمثل عليه الابتعاد تماما عن الغيبيات التى لا تدخل فى إطار العلم البشرى كذات الله والروح والملائكة والجن والبرزخ وما إلى ذلك. وهذا كلام معقول جد معقول، وكل جهد بشرى عرضة لمغامسة الخطإ مهما اتخذ صاحبه من الاحتياطات ووجوه الحذر، فلا يصح اتخاذ احتمال وقوع المفسر العلمى فى الخطإ تكأة لإغلاق بابه تماما، وإلا فلن تتقدم البشرية خطوة، لأنها معرضة فى كل خطوة تخطوها إلى السقوط فى الغلط كما قلنا، بل لا بد من التقدم والمغامرة ما دام السائر قد اتخذ كل ما يستطيع من احتياطات. وعلى الله قصد السبيل. أقول هذا رغم ما لاحظته من أن الدكتور النجار أحيانا ما يغلو ويحمّل النص القرآنى فوق طاقته ويسبغ عليه من المعنى ما لا تتقبله اللغة التى صِيغَ بها ولا السياق الذى ورد فيه. والمعروف أن كلّ متخصص فى علم أو فن أو صنعة فإنه يتحمس لها تحمسا شديدا ويكاد يراها فى كل شىء. وهذا أمر يوشك أن يكون فطريا يجرى فى العروق، ولولاه لهمدت القرائح وتبلدت، فإن التمركز حول الذات وما يتصل بها هو أحد الدوافع التى تبعث البشر على النشاط والعمل والإبداع، والمهم ألا تتجاوز تلك الحماسة حدودها المقبولة، وأن يقيم الإنسان من نفسه رقيبا على تجاوزاته، وإلا فهناك عين المجتمع التى لا تكف عن المراقبة والمراجعة والانتقاد شئنا أم أبينا. كذلك فكل بنى آدم خطاء كما يقول الرسول، فلا خوف إذن من العمل والتقدم إلى الأمام، فلن يكون ذلك نهاية العالم. وعلينا التحرك والعمل والإبداع، أما الوسوسة الزائدة قبل الإقدام على عمل شىء والانتهاء إلى ألا يتخذ الإنسان أية خطوة فى اتجاه الهدف خشية الخيبة والفشل فهو الشلل القاتل، والعياذ بالله.
و فى حدود ما أعلم فإن كتاب "الجواهر فى تفسير القرآن الكريم" للأستاذ طنطاوى جوهرى هو التفسير الوحيد الذى يتناول القرآن كله آية آية. وهو كتاب كبير الحجم حتى ليستغرق خمسة وعشرين مجلدا كبيرا. ومن نظرتنا فى هذا التفسير يتضح لنا أن صاحبه لم يكن يملأ كتابه بكل شىء ما خلا التفسير كما شنع عليه بعض من لا يتفقون معه، إذ هو يفسر الألفاظ القرآنية التى تحتاج إلى تفسير، ويستخلص العبر أو المقاصد من النص الإلهى، ويتحدث عن سبب نزول الآية وعن الناسخ والمنسوخ وغير ذلك مما يتعلق بالنص ويتناوله المفسرون الآخرون. ثم هو، فوق هذا، لا يترك فرصة للكلام عن تأخر المسلمين وتقصيرهم التام فى الارتقاء إلى المرتبة التى يصدق عليهم عندها الوصف بأنهم خير أمة أخرجت للناس إلا اهتبلها وبصَّرهم بمستجدات العلوم والاكتشافات والاختراعات، وحثهم على بذل الجهد، وحذرهم بالمصير السيئ الذى ينتظرهم إن استمروا فى البلادة التى هم منغمسون فيها، وهو ما تحقق وما زال يتحقق حتى الآن. فكيف بالله يلام الرجل على أنْ جعل تفسيره للقرآن حَيًّا حارًّا؟ أولا يصح التفسير إلا أن يكون عقليا باردا، ولا يتناول إلا مسائل الفقه وآيات الصفات مثلا أو قضايا الماضى التى ولت ولا يهتم بحاضر المسلمين ولا بالمصائب التى تسقط على رؤوسهم تباعا ولا يتعلمون منها أبدا، ولا يلفت انتباههم إلى الإثم الرهيب الذى يواقعونه دوما حين يكتفون باجترار ما وصلت إليه أمم الغرب من مقررات العلم دون أن ينشطوا للمشاركة فيه والخروج من دائرة التخلف الجهنمية التى تحاصرهم من فوقهم ومن تحتهم ومن يمين لهم وشمال وخلف وقدام؟ لقد تساءل الرجل بحق: "لماذا ألف علماء الإسلام عشرات الألوف من الكتب الإسلامية فى علمِ الفقه، وعلمُ الفقه ليس فيه فى القرآن إلا آيات قلائل لا تصل مائة وخمسين آية؟ فلماذا كثر التأليف فى علم الفقه، وقَلَّ جدًّا فى علوم الكائنات التى لا تخلو منها سورة؟ بل هى تبلغ سبعمائة وخمسين آية صريحة، وهناك آيات أخرى دلالتها تقرب من الصراحة. فهل يجوز فى عقلٍ أو شرعٍ أن يبرع المسلمون فى علمٍ آياته قليلة، ويجهلوا علمًا آياته كثيرة جدًّا؟ إن آباءنا برعوا فى الفقه، فلنبرع نحن الآن فى علم الكائنات، ولنقم به لترقى الأُمة".
والآن فلنستمع إلى الحكم الذى أصدره د. محمد حسين الذهبى على تفسير الشيخ طنطاوى جوهرى. قال: "إنى، بعد أن قرأت الكثير من هذا التفسير، أستطيع أن أعطيك صورة واضحة عن منهج المؤلف وطريقته التى سلكها فيه. وذلك أن المؤلف رحمه الله يفسر الآيات القرآنية تفسيرا لفظيا مختصرا لا يكاد يخرج عما فى كتب التفسير المألوفة لنا والمتداولة بين أيدينا، ولكنه سرعان ما يخلص من هذا التفسير الذى يسميه: لفظيا، ويدخل فى أبحاث علمية مستفيضة يسميها هو: "لطائف" أو "جواهر". هذه الأبحاث عبارة عن مجموعة كبيرة من أفكار علماء الشرق والغرب فى العصر الحديث أتى بها المؤلف ليبين للمسلمين ولغير المسلمين أن القرآن الكيم قد سبق إلى هذه الأبحاث ونبَّه على تلك العلوم قبل أن يصل إليها هؤلاء العلماء بقرون متطاولة. ثم إننا نجد المؤلف، رحمه الله، يضع لنا فى تفسيره هذا كثيرا من صور النباتات والحيوانات ومناظر الطبيعة وتجارب العلوم بقصد أن يوضح للقارئ ما يقول توضيحا يجعل الحقيقة أمامه كالأمر المشاهَد المحسوس. كذلك نجد المؤلف، رحمه الله، يستشهد أحيانا على ما يقول بما جاء فى الإنجيل. واعتماده فيما ينقل على إنجيل "برنابا" لأنه، كما يرى، أصح الأناجيل، بل هو الإنجيل الوحيد الذى لم تصل إليه يد التحريف والتبديل كما قيل. وكثيرا ما نرى المؤلف، رحمه الله، يشرح بعض الحقائق الدينية بما جاء عن أفلاطون فى "جمهوريته"، أو بما جاء عن إخوان الصفا فى رسائلهم. وهو حين ينقلها يُبْدِى لنا رضاه عنها وتصديقه بها مع أنها تخالف الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. كما أنه يستخرج كثيرا من علوم القرآن بواسطة حساب الجُمَّل الذى لا نُصدَّق أنه يوصل إلى حقيقة ثابتة، وإنما هى عدوى تسربت من اليهود إلى المسلمين فتسلَّطت على عقول الكثير منهم. هذا، وإنَّا لنجد المؤلف، رحمه الله ، يُفسِّر آيات القرآن تفسيرا علميا يقوم على نظريات حديثة وعلوم جديدة لم يكن للعرب عهد بها من قبل. ولست أرى هذا المسلك فى التفسير إلا ضربا من التكلف، إن لم يذهب بغرض القرآن فلا أقل من أن يذهب بجلاله وجماله".
والعجيب أن د. محمد حسين الذهبى، رغم إقراره فى بداية الاقتباس الذى نقلناه فى الفقرة السابقة بأن تفسير "الجواهر" فيه ما فى التفسيرات الأخرى من مباحث، وإن كان يزيد عليها كثرة الكلام فى العلوم، فإنه يعود فى نهاية المطاف فيحكم عليه بأن فيه كل شىء ما عدا التفسير. والحق أن هذا حكم ظالم، وإن كنت لا أقصد إلى القول بأن كل ما قاله الرجل أو اقتبسه من كلام علماء الطبيعة والرياضيات أو عن إخوان الصفا أو غيرهم هو كلام صحيح، أو أننا نتفق معه فيما قاله مثلا عن الدجل المسمَّى: "تحضير الأرواح" أو فى لجوئه إلى حساب الـجُمَّل وخرافاته لاستخراج أشياء فى القرآن لا وجود لها إلا فى خيالاته. لكن السؤال هو: أوليس فى كل كتاب من كتب التفسير أخطاء؟ وهل هناك كتاب منها حاز رضا الناس والعلماء جميعا؟ إن الرجل يجتهد، ولكل مجتهدٍ نصيب وأجر إن شاء الله، والاجتهاد يعنى أن صاحبه معرض للصواب والخطإ. أما قول الدكتور الذهبى إن نقل الشيخ طنطاوى كلام العلم الحديث فى تفسيره يذهب ببهاء القرآن فلا نوافقه عليه، إذ متى كان القرآن يكره العلم ويتجهم للعلماء؟ أوسبب هذا أن هؤلاء العلماء غير مسلمين؟ ولكن متى كان للعلم وطن؟ إن الحقيقة ضالة المؤمن يأخذها أنى وجدها، وما من كتاب سماوى حضّ على العلم وكرّم العلماء مثلما صنع القرآن. ولا ننس أن ما يتوصل إليه علماء الغرب الآن من علم إنما هو امتداد للعلم العربى، الذى هو بدوره امتداد وتصحيح واستدراك وإضافة لما سبقه من العلوم التى كانت موجودة لدى الأمم السابقة... وهكذا. ثم إن القرآن المجيد لم ينزل لعرب المبعث وحدهم، ولا للعرب فى كل العصور فقط، بل نزل للبشرية جميعا فى كل عَصْرٍ ومِصْرٍ. ولقد قرأتُ منذ سنين طوال مقالا لرجاء النقاش يثنى على تفسير "الجواهر" وصاحبه ثناء عظيما. ولكنى لا أذهب هذا المذهب أيضا، بل الذى أراه هو أن فى الكتاب خيرا كثيرا، وفيه كذلك أخطاء، وقد تكون هى أيضا أخطاء كثيرة. ولكنْ كما قال النابغة أخو بنى ذُبْيَان: "أىُّ الرجال المهذَّبُ"؟
فمثلاً لا أرأنى أجد بأسا بما كتبه صاحب "الجواهر" عندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآية 61 من سورة "البقرة": "وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَىٰ لَن نَّصْبِرَ عَلَىٰ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ ٱلأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ ٱلَّذِي هُوَ أَدْنَىٰ بِٱلَّذِي هُوَ خَيْرٌ... الآية" تحت عنوان: "الفوائد الطيبة فى هذه الآية"، إذ أخذ فى بيان ما أثبته الطب الحديث من نظريات طبية، ذاكرا مناهج أطباء أوروبا فى الطب، ثم قال: "أَوَليست هذه المناهج هى التى نحا نحوها القرآن؟ أَوَ ليس قوله: "أَتَسْتَبْدِلُونَ ٱلَّذِي هُوَ أَدْنَىٰ بِٱلَّذِي هُوَ خَيْرٌ" رمزا لذلك؟ كأنه يقول: العيشة البدوية على المن والسلوى، وهما الطعامان الخفيفان اللذان لا مرض يتبعهما، مع الهواء النقى والحياة الحرة، أفضل من حياة شقية فى المدن بأكل التوابل واللحم والإكثار من ألوان الطعام مع الذلة وجور الحكام والجبن وطمع الجيران من الممالك، فتختطفكم فى حين غفلة وأنتم لا تشعرون. بمثل هذا تُفسَّر هذه الآيات. بمثل هذا فليفهم المسلمون كتاب الله".
وكذلك لا أستطيع أن أرى بأسا فى كلامه التالى تعليقا على قوله تعالى فى الآية من سورة "طه": "ٱلرَّحْمَـٰنُ عَلَى ٱلْعَرْشِ ٱسْتَوَىٰ* لَهُ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ ٱلثَّرَىٰ": "قوله: {وَمَا بَيْنَهُمَا} دخل فى ذلك عوالم السحاب والكهرباء وجميع العالم المسمى: "الآثار العلوية"، وهو من علوم الطبيعة قديما وحديثا. وقوله: {وَمَا تَحْتَ ٱلثَّرَىٰ} يشير لعِلْمَيْن لم يُعْرَفا إلا فى زماننا، وهما علم طبقات الأرض المتقدم مرارا فى هذا التفسير، وعلم الآثار المتقدم بعضه فى سورة "يونس". فالله هنا يقول: {وَمَا تَحْتَ ٱلثَّرَىٰ} ليحرص المسلمون على دراسة علوم المصريين التى تظهر الآن تحت الثرى".
كذلك هل ثمة من يخالف ما قاله الشيخ فى الفقرة التالية التى كتبها تعليقا على بعض الحروف المقطعة فى أول سورة "آل عمران"؟: "انظر، رعاك الله، تأمَّل. يقول الله: {الم}، {طس}، {حم}... وهكذا يقول لنا: أيها الناس، إن الحروف الهجائية إليها تحلل الكلمات اللغوية، فما من لغة فى الأرض إلا وأرجعها أهلها إلى حروفها الأصلية، سواء أكانت اللغة العربية أم اللغات الأعجمية، شرقية وغربية. فلا صرف ولا إملاء ولا اشتقاق إلا بتحليل الكلمات إلى حروفها، ولا سبيل لتعليم لغة وفهمها إلا بتحليلها. وهذا هو القانون المسنون فى سائر العلوم والفنون. ولا جَرَمَ أن العلوم قسمان: لغوية وغير لغوية، فالعلوم اللغوية مقدَّمة فى التعليم لأنها وسيلة إلى معرفة الحقائق العلمية من رياضية وطبيعية وإلهية. فإذا كانت العلوم التى هى آلة لغيرها لا تُعْرَف حقائقها إلا بتحليلها إلى أصولها، فكيف إذن تكون العلوم المقصودة لنتائجها المادية والمعنوية؟ فهى أولى بالتحليل وأجدر بإرجاعها إلى أُصولها الأوَّلية التى لا تعرف الحساب إلا بمعرفة بسائط الأعداد، ولا الهندسة إلا بعد علم البسائط والمقدمات، ولا علوم الكيمياء إلا بمعرفة العناصر وتحليل المركبات إليها، فرجع الأمر إلى تحليل العلوم".
لكنى فى ذات الوقت لا أوافقه على ما يقوله عن تحضير الأوراح مثلا، إذ نجده، عند تعرّضه لقوله تعالى فى الآية 67 وما بعدها من سورة البقرة: "وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً... الآيات"، يعقد مبحثا فى عجائب القرآن وغرائبه، ذاكرا ما انطوت عليه تلك الآيات من هذه العجائب والغرائب، مشيرًا أثناء ذلك إلى تحضير الأرواح، الذى يسميه للأسف: "عِلْمًا"، وما هو بالعلم، فيقول: "وأما علم تحضير الأرواح فإنه من هذه الآية استخراجه. إن هذه الآية تُتْلَى، والمسلمون يؤمنون بها، حتى ظهر علم الأرواح بأمريكا أوّلاً، ثم بسائر أوروبا ثانيًا". ثم يتحدث عن مبدإ ظهور هذا الأمر وانتشاره بين الأمم وفائدته... إلى أن يقول: "ولما كانت السورة التى نحن بصددها قد جاء فيها حياة للعُزَيْر بعد موته، وكذلك حماره، ومسألة الطير وإبراهيم الخليل، ومسألة الذين خرجوا من ديارهم فرارًا من الطاعون فماتوا ثم أحياهم، وعلم الله أننا نعجز عن ذلك، جعل قبل ذكر تلك الثلاثة فى السورة ما يرمز إلى استحضار الأرواح فى مسألة البقرة، كأنه يقول: إذا قرأتم ما جاء عن بنى إسرائيل فى إحياء الموتى فى هذه السورة عند أواخرها فلا تيأسوا من ذلك، فإنى قد بدأت بذكر استحضار الأرواح، فاستحضروها بطرقها المعروفة، واسألوا أهل الذِّكر إن كنتم لا تعلمون. ولكن ليكن الـمُحَضِّر ذا قلب نفى خالص على قدم الأنبياء والمرسلين كالعُزَيْر وإبراهيم وموسى، فهؤلاء لعُلُوّ نفوسهم أَرَيْتُهم بالمعاينة، وأنا أمرت نبيكم أن يقتدى بهم فقلت: "فَبِهُدَاهُمُ ٱقْتَدِهْ"...". ذلك أنه لا علاقة هنالك بين ما تقوله الآية الكريمة وما يزعمه دَجّالو تحضير الأرواح. ولا شك أن الشيخ قد انخدع بهذه المزاعم، إلا أنه لم يكن وحده من بين علماء المسلمين فى ذلك الوقت الذى انخدع بها. وبالمثل لا يمكن الموافقة على ما يذكره أحيانـًا من خيالات يتحول بها من عالم الأشباح إلى عالم الأرواح فيلتقي بروح البصيرة فيحدثها وتحدثه، وكثيرا ما يسميها: إلهامـًا أو نفحة ربانية وإشارة قدسية وبشارة رمزية، بل قد يختلط عليه الأمر فلا يدري عَمَّ كتب: أهو حلم أم حديث نفس أم إلهام؟ ومثل هذه الاشياء لا يمكن أن تُحْسَب لصالحه أبدا. كذلك لا نرضى أبدا بتقليله من شأن العلماء القدامى وتفاسيرهم وتصويره لتفسيره على أنه هو وحده التفسير الصحيح. بيد أنه لا يصحّ، فى ذات الوقت، أن نعامل كل ما قاله فى تفسيره وكأنه من نفس هذه الطينة، إذ إن فيما قاله كثيرا من الخير بلا جدال.
وإذا كنا قد سقنا رأى دارس كبير كالدكتور محمد حسين الذهبى فى تفسير "الجواهر" فقد يكون من باب إقامة التوازن أن نسوق أيضا ما كتبه الدكتور زغلول النجار فى ذلك الكتاب، إذ يقدم رؤية مغايرة. قال: "أما تفسير الشيخ طنطاوي جوهري والـمُعَنْوَن: "الجواهر في تفسير القرآن الكريم" فيعتبر أضخم تفسير ينهج النهج العلمي‏،‏ اذ يقع في خمسة وعشرين جزءا كبارا‏‏ حاول فيها الشيخ‏، ‏يرحمه الله‏،‏ تفسير القرآن الكريم تفسيرا يتجاوب مع روح العصر‏ وما وصلت اليه المعارف الانسانية في مجال دراسات الكون وما فيه من أجرام سماوية‏،‏ ومن عوالم الجمادات والأحياء‏،‏ ومن الظواهر الكونية التي تصاحبها‏،‏ والسنن الالهية التي تحكمها‏،‏ ليبرهن للقاريء أن كتاب الله الخالد قد أحاط بالكون في تفصيل وبيان وايضاح غفل عنه كثير من السابقين‏،‏ وأنه بحق ينطوي علي كل ما وصل‏ وماسيصل إليه البشر من معارف‏.‏ هذا‏،‏ وقد نعى الشيخ الجوهري‏، رحمه الله‏،‏ على علماء المسلمين إهمالهم للجانب العلمي في القرآن الكريم‏‏ وتركيز جهودهم علي الجوانب البيانية والفقهية فقط بقوله‏:‏ لماذا ألف علماء الإسلام عشرات الألوف من الكتب في علمِ الفقه‏،‏ وعلمُ الفقه ليس له في القرآن الا آيات قلائل لاتصل إلى مائة وخمسين آية؟ فلماذا كثر التأليف في علم الفقه‏،‏ وقلَّ جدا في علوم الكائنات التي لا تكاد تخلو منها سورة؟‏ ولذا فإننا نجده في مطلع تفسيره يتوجه بنداء الي المسلمين يقول فيه‏:‏ يا أمة الاسلام‏،‏ آيات معدودات في الفرائض ‏(‏يقصد آيات الميراث‏)‏ اجتذبت فرعا من علم الرياضيات‏،‏ فما بالكم أيها الناس بسبعمائة آية فيها عجائب الدنيا كلها‏؟...‏ هذا زمان العلوم‏،‏ وهذا زمان ظهور الاسلام‏...‏ هذا زمان رقيّه‏.‏ يا ليت شعري‏‏ لماذا لانعمل في آيات العلوم الكونية مافعله أباؤنا في علوم الميراث؟ ثم يضيف‏ أن نظام التعليم الإسلامي لابد من ارتقائه‏،‏ فعلوم البلاغة ليست هي نهاية علوم القرآن بل هي علوم لفظه‏،‏ وما نكتبها اليوم‏ (‏يقصد ما يكتبه فى تفسيره‏)،‏ علوم معناه‏...".
ولم يكتف الشيخ طنطاوي جوهري في تفسيره بتتبع الآيات واستنتاج معانيها وفق ما ارتآه فيها من إشارات إلى مختلف الدراسات الحديثة‏،‏ بل إنه قد استعان في هذا التفسير الفريد من نوعه بكثير من صور النباتات والحيوانات والمظاهر الكونية‏ والوسائل التجريبية‏،‏ كما استخدم الآراء الفلسفية عند مختلف المدارس الفكرية‏،‏ وكذلك الأرقام العددية التي ينظمها حساب الجمَّل المعروف‏.‏ وقد اعتبر المفسرون من بني عصره ذلك المنهج العلمي في التفسير، ‏‏كما اعتبر من قبل‏، جنوحا إلى الاستطراد في تأويل بعض آيات القرآن الكريم على غير مقاصدها التشريعية والإيمانية‏،‏ استنادا الي الحقيقة المسلمة أن القرآن لم يأت لكي ينشر بين الناس القوانين العلمية ومعادلاتها‏،‏ ولا جداول المواد وخصائصها‏،‏ ولا قوائم بأسماء الكائنات وصفاتها‏،‏ وإنما هو في الأصل كتاب هداية‏،‏ كتاب عقيدة وعبادة وأخلاق ومعاملات‏،‏ وهي ركائز الدين التي لا يستطيع الإنسان أن يضع لنفسه فيها ضوابط صحيحة‏.‏ والقرآن العظيم حين يلفت نظر الانسان إلى مختلف مظاهر هذا الوجود إنما يعرض لذلك من قبيل الاستدلال على قدرة الخالق العظيم وعلمه وحكمته وتدبيره، ومن قبيل إقامة الحجة البينة علي الجاحدين من الكافرين والمشركين‏،‏ ومن قبيل التأكيد على إحاطة القدرة الإلهية بالكون وبكل مافيه وعلى حاجة الخلق في كل لحظة من لحظات الوجود إلى رحمة ذلك الخالق العظيم‏.‏
فهذا هو الشيخ محمد رشيد رضا، ‏يرحمه الله‏،‏ يكتب في مقدمة تفسيره المنار مانصه‏: "وقد زاد الفخر الرازي صارفا آخر عن القرآن هو ما يورده في تفسيره من العلوم الرياضية والطبيعية وغيرها من العلوم الحادثة في الملة علي ما كانت عليه في عهده‏،‏ كالهيئة الفلكية اليونانية وغيرها‏،‏ وقلده بعض المعاصرين‏ (‏ويقصد الشيخ طنطاوي جوهري‏)‏ بإيراد مثل هذا من علوم العصر وفنونه الكثيرة الواسعة‏،‏ فهو يذكر فيما يسميه تفسير الآية‏،‏ فصولا طويلة، بمناسبة كلمة مفردة‏‏ كالسماء أو الأرض، من علوم الفلك والنبات والحيوان‏،‏ تصد القاريء عما أنزل الله لأجله القرآن‏.‏
وعلى الرغم من استنكار علماء التفسير لهذا المنهج العلمي قديما وحديثا‏،‏ إلا أن عددا كبيرا من العلماء المسلمين ظل مؤمنا بأن الإشارات الكونية في كتاب الله، أي الآيات المتعلقة ببعض أشياء هذا الكون على إجمالها وتناثرها بين آيات الكتاب المجيد، تبقي بيانا من الله‏ خالق الكون ومبدع الوجود‏،‏ ومن ثم فهي حق مطلق‏،‏ وصورة من صور الإعجاز في كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وإن ذلك قد لا يتضح إلا للراسخين في العلم من المتخصصين في مختلف مجالات العلوم البحتة والتطبيقية‏: ‏كل في حقل تخصصه‏.‏ وحتى هؤلاء يظل يتسع إدراكهم لذلك الإعجاز باتساع دائرة المعرفة الانسانية جيلا بعد جيل‏،‏ وعصرا بعد عصر‏،‏ مصداقا لقول الحق تبارك وتعالى‏: "‏إنْ هو إلا ذِكْرٌ للعالمين‏*‏ ولَتَعْلَمُنَّ نبأه بعد حين‏" (ص‏/ 87‏-‏88]‏، ولقول رسول الله‏ صلي الله عليه وسلم ‏في وصفه للقرآن الكريم بأنه لاتنقضي عجائبه‏،‏ ولا يَخْلَق من كثرة الرد‏ّ.‏ ومن هنا كان واجب المتخصصين من المسلمين في مختلف مجالات المعرفة الإنسانية في كل عصر وفي كل جيل أن تنفر منهم طائفة للتسلح بمستلزمات تفسير كتاب الله من إلمام بقدر كاف من علوم اللغة العربية وآدابها‏،‏ ومن الحديث وعلومه‏،‏ والفقه وأصوله‏،‏ وعلم الكلام وقواعده‏،‏ مع معرفة بعادات المجتمع العربي الأول‏،‏ وإحاطة بأسباب النزول‏،‏ وبالمأثور في التفسير‏،‏ وبالسيرة النبوية المطهرة‏،‏ وباجتهاد أعلام السابقين من أئمة المفسرين‏،‏ وغير ذلك من الشروط التي حددها علماء التفسير وأصوله‏،‏ ثم تقوم تلك الطائفة على شرح آيات الكتاب الحكيم، كل فيما يخصه، حتي تستبين للناس جوانب من الإعجاز في كتاب الله‏ لم يكن من السهل بيانها قبل عصر العلم الذي نعيشه‏، وحتى يتحقق قول الله تعالى في محكم كتابه‏: ‏‏"‏لكل نبإٍ مستقرٌّ، وسوف تعلمون" (الأنعام/ ‏67)‏"
هذا، وأترك القارئ مع فهرس المجلد الأول الذى اقتطفت منه العناوين التالية، وتركت أضعافها كى يرى بنفسه الموضوعات التى يتناولها الشيخ فى تفسيره: "خطبة الكتاب، وفيها دعوة المسلمين عامة إلى البحث في العلوم الكونية. تفسير سورة الفاتحة. عجائب الحيوانات في تفسير معنى الرحمة. عجائب النمل والنحل والعنكبوت في توضيح معنى الرحمة... دعوة المؤلف جميع المسلمين من سنيين وشيعيين وزيديين وغيرهم أن يدرسوا النبات والطب والمعادن وجميع العالم العلوي والسفلي. ضرب المثل للعالم العلوي بامرأة جميلة وفتيات يدرن حولها أقل منها جمالا، وهكذا. العالم السفلى، عالم النبات، عالم الحيوان، علم التشريح... معنى {إياك نعبد...إلخ}. شمول الصراط المستقيم للعفة والشجاعة والحكمة والعدل، وهي أصول علم الأخلاق. أقسام النعم: المال، الأصحاب، الأهل، الأعوان، الصحة، العقل، الحكمة، وجوب الاحتفاء بالنافعين للأمة. حكاية سولون الحكيم اليوناني. "الفاتحة" أم القرآن... مقارنة "فاتحة الكتاب" بفواتح البلغاء وأصحاب المعلقات. ذكر فواتح المعلقات السبعة مع شرحها وفواتح ثلاث قصائد أخرى وموازنتها بالفاتحة وبأوائل السور... تقسيم سورة "البقرة" إلى بابين عظيمين: الأول غلب فيه التوحيد ومحاجة اليهود، والثاني غلب فيه الأحكام الشرعية، وفي كل منها عشرة مقاصد. تفسير {الم ذلك الكتاب لا ريب فيه إلخ}. التفسير اللفظي لآيات: {إن الذين كفروا سواء عليهم...إلخ}. التفسير اللفظي لآيات: {ومن الناس من يقول آمنا بالله... إلخ}. المقصد الثالث في قوله: {مثلهم كمثل الذي استوقد نارا...إلخ}. التفسير اللفظي لهذا القسم. المقصد الرابع: {يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم...إلخ} التفسير اللفظي لهذا القسم. إيضاح وتفصيل. فصل آخر في هذه الحكم الكونية، وفيه تفضيل التشبيه الذي في هذه الآية على تشبيه ابن المعتز في قوله: "وساقٍ صَبِيحٍ...إلخ". بدائع العلم لمناسبة تفسير {الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء}... العلم المنتشر في المدارس المصرية لا يهدى الطالب. تفصيل الكلام على الأنداد وعبادة الاصنام. من الأمم من مات عندها العظيم فعبدته. الصابئون عبدوا الملائكة فالكواكب فالأصنام.... الآلهة الهندية الثلاثة، وهم برهما وفشنو وسيفا، ومعناها الخالق والحافظ والمهلك. التثليث عند الفرس وقدماء اليونان. الأصنام عند العرب الذين نزل عليهم القرآن. جنة العارفين، وهي المعارف، وجنة البُلْه، وهي التي فيها المأكول والمشروب واللذات الحسية. ضرب الأمثال وأن منها ما هو ظاهر كقوله: {مثلهم كمثل الذي استوقد نارا...إلخ} ومنها ما يحتاج إلى تأمل مثل أوصاف الآخرة وأحوالها. ضرب مثل يبين فيه اختلاف مشارب الناس بالفهم، فالمرأة الجميلة ينظر لها ابنها وأبوها وأخوها وزوجها كل ينظر خاص، وأربعة من العلماء يفسرون قوله تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} بما يناسب معارفهم. في مسألة حرب الكفرة. فتوى علماء بخارى لأميرها بتحريم الحرب بالمدافع وضياع البلاد. المقصد الخامس: {كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم...إلخ}، وكيف يقول الله: خلق لكم ما في الأرض جميعا، والغابات والمرجان في البحار وغيرها في يد الفرنجة؟ الكلام على السموات السبع. التفسير اللفظي لهذا المقصد. السموات السبع في الإنجيل. موافقته لآراء اليونان. كيفية خلق العالم في الآراء الحديثة. أبعاد السيارات الثمانية. السيارات العلوية والسيارات السفلية. النجوم الثوابت وأن منها ما يصل نوره لنا من ألف سنة نورية. أقدار الكواكب وعدد نجومها وأن مجموعها 224 مليونا من النجوم. علوم القدماء قاصرة في عالم السموات، وجمال الله وقدرته ظاهران في العلم الحديث... المقصد السادس: {وإذ قال ربك للملائكة...إلخ}. التفسير الفظي لهذا المقصد. بحثٌ ضافٍ تحت عنوان "الإيضاح في الحكمة العلمية والعملية"، واشتمال قصة آدم على الحكمة العملية والعلمية... آراء أهل الديانات والحكماء في الملائكة، وهي خمسة، ثم رأي علماء الهند. بيان علم الأخلاق من قصة آدم وقابيل وهابيل، وهي ترجع لأحوال ثلاث: كِبْر إبليس وحرص آدم وحسد قابيل، والأخلاق المنحرفة متفرعة عليها... {ما ننسخ من آية...إلخ}. لم كان الناسخ والمنسوخ في القرآن؟ والجواب عليه بعالم النبات ونسخه بمختلف الفصول ونسخ الصناعات والأحوال، وحض المسلمين أن يجاروا أوربا وأمريكا كبلاد الأرجنتين في رقيّ الزراعة بالآلات الحاصدة الحارثة الخازنة المذرية...إلخ، وكيف يحلبون بقرهم، وهكذا، وإلا هلك المسلمون وبادوا، وبما تقدم يكونون خير أمة أُخْرِجَتْ للناس، فخير الناس أعلمهم فيكون أنفع لهم، وأين ذلك اليوم؟ الناسخ والمنسوخ. الآيات الناسخة والآيات المنسوخة وأنها 21 آية. نَظْمٌ في ذلك للشيخ السيوطي... الأمم الضعيفة تقلد الغالبة في أخلاقها وتقاليدها كما قلد بنو إسرائيل المصريين فعبدوا عجلهم فأمروا بذبح البقرة ليعلموا أنها لا تعبد. حكمة تخصيص الحجر بضربه العصا ليدل على أن الأحجار تنفجر منها المياه بسبب اختصاص الثلج بأنه يكبر إذا برد. فالجاهل يكتفي بعصا موسى، والعالم يعرف العصا الإلهية، ونبع العيون بعظم حجم الثلج، وعجائب السحاب والماء، وأن في هذه السورة عجائب من علم تحضير الأرواح في هذا المقام، وتحريم الربا وتحريم إلخمر، والتنويم المغناطيسي، وأن الحرب الماضية كانت لرؤوس الأموال، وهكذا. قصة صموئيل والعجوز التي أحضرت روح صموئيل النبي وأخبرت طالوت بأنه سيقتل غدا، وعلم تحضير الأرواح وتاريخه في أمريكا وأوربا وانتشاره السريع وأنه مقتضى قوله تعالى:{كذلك يحيى الله الموتى ويريكم آياته...}، فهذه هي آيات الله في ذلك. الروحانية في فرنسا وألمانيا وإيطاليا والبلجيك وأسبانيا والبرتغال، وخطاب خمسة عشر ألف أمريكي لمجلس النوّاب الأمريكي في علم تحضير الأرواح. الملايين الذين اتبعوا هذا المذهب من الفلاسفة والأطباء وغيرهم... إيضاح آية {إن في خلق السموات والأرض} ووصف الكواكب والشمس وعلاقتها مع الأرض والماء، والهواء والأمطار والبحار، وأن العالم جسم واحد فيكون إلهه واحدا...".

إبراهيم عوض
28/11/2009, 01:44 PM
التفسير العلمى للقرآن بين الموافقين والرافضين

د. إبراهيم عوض

ينقسم العلماء تلقاء التفسير العلمى للقرآن المجيد: فبعضهم يحبّذه ويرحّب به، وبعضهم يضيق به صدرًا ويدعو إلى الابتعاد عنه، وإلا ورَّطْنا القرآن فيما لا تحمد عقباه حين يعمل المفسر العلمى على إنطاق النص القرآنى عَنْوَةً وكَرْهًا بما يعضّد نظرية من النظريات ثم يثبت بطلانها فيما بعد، مما ينسحب على القرآن ذاته ويوقع فى رُوع القراء أن الخطأ إنما يكمن فى النص نفسه لا فى المفسر. هذا، وقد يُظَنّ أن التفسير العلمى للقرآن المجيد هو شىء طارئ فى عصرنا وأن الانقسام حوله من ثَمّ أمر جديد على ساحة البحوث الإسلامية. لكن هذا غير صحيح، فالتفسير العلمى قديم، وكذلك انقسام العلماء بشأنه. ومن الذين وافقوا من علمائنا القدامى على هذا اللون من التفسير الإمام الغزالى والإمام السيوطى. أما المعارضون فمنهم الشاطبى (انظر د. محمد حسين الذهبى/ علم التفسير/ 73- 76).
ومن يرد تفصيلا أكبر لهذا الموضوع يستطع الرجوع إلى موسوعته المسماة بــ"التفسير والمفسرون" حيث يقرأ ما يلى عن أبى حامد الغزالى والسيوطى والـمُرْسِىّ والشاطبى وموقفهم من ذلك الضرب من التفسير. يقول رحمه الله: "ويظهر لنا على حسب ما قرأنا أن الإمام الغزالى كان إلى عهده أكثر مَنِ استوفى بيان هذا القول فى تفسير القرآن، وأهم مَنْ أيده وعمل على ترويجه فى الأوساط العلمية الإسلامية على رغم ما قرر فيها من قواعد فهم عبارات القرآن. وبين أيدينا كتاب "الإحياء" للغزالى نتصفحه فنجده يعقد الباب الرابع من أبواب "آداب تلاوة القرآن" فى فهم القرآن وتفسيره بالرأى من غير نقل. وفيه ينقل عن بعض العلماء "أن القرآن يحوى سبعة وسبعين ألف علم ومائتى علم، إذ كل كلمة علم، ثم يتضاعف ذلك أربعة أضعاف، إذ لكل كلمة ظاهر وباطن، وحد ومطلع"، ثم يروى عن ابن مسعود رضى الله عنه أنه قال: "مَن أراد علم الأوَّلين والآخرين فليتدبر القرآن"، ثم يقول بعد ذلك كله: "وبالجملة فالعلوم كلها داخلة فى أفعال الله عَزَّ وجَلَّ وصفاته، وفى القرآن شرح ذاته وأفعاله وصفاته، وهذه العلوم لا نهاية لها، وفى القرآن إشارة إلى مجامعها"، ثم يزيد على ذلك فيقول: "بل كل ما أشكل فهمه على النُظَّار واختلف فيه الخلائق فى النظريات والمعقولات ففى القرآن إليه رموز، وعليه دلالات يختص أهل الفهم بدركها". ثم إننا نتصفح كتابه "جواهر القرآن" الذى ألَّفه بعد الإحياء كما يظهر لنا من مقدمته، فنجده يزيد هذا الذى قرره فى الإحياء بيانًا وتفصيلاً، فيعقد الفصل الرابع منه لكيفية انشعاب العلوم الدينية كلها وما يتصل بها من القرآن عن تقسيمات وتفصيلات تولاها لا نطيل بذكرها، ويكفى أن نقول: إنه قسم علوم القرآن إلى قسمين: الأول علم الصَّدَف والقشر، وجعل من مشتملاته علم اللُّغة، وعلم النحو، وعلم القراءات، وعلم مخارج الحروف، وعلم التفسير الظاهر. والثانى علم اللُّباب، وجعل من مشتملاته علم قصص الأوَّلين، وعلم الكلام، وعلم الفقه، وعلم أُصول الفقه، والعلم بالله واليوم الآخر، والعلم بالصراط المستقيم، وطريق السلوك. ثم يعقد الفصل الخامس منه لكيفية انشعاب سائر العلوم من القرآن، فيذكر علم الطب والنجوم، وهيئة العالَم، وهيئة بدون الحيوان، وتشريح أعضائه، وعلم السحر، وعلم الطلسمات... وغير ذلك، ثم يقول: "ووراء ما عددته علوم أُخرى يُعْلَم تراجمها ولا يخلو العالَم عمن يعرفها، ولا حاجة إلى ذكرها، بل أقول: ظهر لنا بالبصيرة الواضحة التى لا يُتَمَارى فيها أن فى الإمكان والقوة أصنافًا من العلوم بعدُ لم تخرج من الوجود، وإن كان فى قوة الآدمى الوصول إليها، وعلوم كانت قد خرجت من الوجود واندرست الآن، فلن يوجد فى هذه الأعصار على بسيط الأرض مَن يعرفها، وعلوم أُخَرُ ليس فى قوة البشر أصلا إدراكها والإحاطة بها، ويحظى بها بعض الملائكة المقرَّبين، فإن الإمكان فى حق الآدمى محدود، والإمكان فى حق المَلَك محدود إلى غاية من النقصان، وإنما الله سبحانه هو الذى لا يتناهى العلم فى حقه".
ثم يقول بعد ذلك: "ثم هذه العلوم: ما عددناها وما لم نعددها ليست أوائلها خارجة من القرآن، فإن جميعها مغترَفة من بحر واحد من بحار معرفة الله تعالى، وهو بحر الأفعال. وقد ذكرنا أنه بحر لا ساحل له، وأن البحر لو كان مِدَادًا لكلماته لنَفِدَ البحر قبل أن تنفد. فمن أفعال الله تعالى، وهو بحرٌ، الشفاء والمرض كما قال الله تعالى حكاية عن إبراهيم: "وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ". وهذا الفعل الواحد لا يعرفه إلا مَن عرف الطب بكماله، إذ لا معنى للطب إلا معرفة المرض بكماله وعلاماته، ومعرفة الشفاء وأسبابه. ومن أفعاله تقدير معرفة الشمس والقمر ومنازلهما بحُسْبان، وقد قال الله تعالى: "ٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ"، وقال: "وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ ٱلسِّنِينَ وَٱلْحِسَابَ"، وقال: "وَخَسَفَ ٱلْقَمَرُ* وَجُمِعَ ٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ"، وقال: "يُولِجُ ٱلْلَّيْلَ فِي ٱلنَّهَارِ وَيُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِي ٱلْلَّيْلِ" وقال: "وَٱلشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَـا ذَلِكَ تَقْدِيرُ ٱلْعَزِيزِ ٱلْعَلِيمِ". ولا يعرف حقيقة سير الشمس والقمر بحسبانٍ وخسوفهما، وولوج الليل فى النهار وكيفية تكور أحدهما على الآخر إلا من عرف هيئات تركيب السموات والأرض، وهو علم برأسه. ولا يعرف كمال معنى قوله: "يٰأَيُّهَا ٱلإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ ٱلْكَرِيمِ* ٱلَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِيۤ أَىِّ صُورَةٍ مَّا شَآءَ رَكَّبَكَ" إلا مَن عرف تشريح الأعضاء من الإنسان ظاهرًا وباطنًا وعددها وأنواعها وحكمتها ومنافعها... وكذلك لا يعرف معنى قوله: "سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي" ما لم يعلم التسوية والنفخ والروح، ووراءها علوم غامضة يغفل عن طلبها أكثر الخلق، وربما لا يفهمونها إن سمعوها من العالِم بها. ولو ذهبت أُفَصِّل ما تدل عليه آيات القرآن من تفاصيل الأفعال لطال، ولا يمكن الإشارة إلا إلى مجامعها. فتفكر فى القرآن والتمس غرائبه لتصادف فيه مجامع علم الأوَّلين والآخرين".
كذلك نجد العلامة جلال الدين السيوطى ينحو منحى الغزالى فى القول بالتفسير العلمى، ويقرر ذلك بوضوح وتوسع فى كتابه "الإتقان" فى النوع الخامس والستين منه، كما يقرر ذلك أيضًا بمثل هذا الوضوح والتوسع فى كتابه "الإكليل فى استنباط التنزيل"، ونجده يسوق من الآيات والأحاديث والآثار ما يستدل به على أن القرآن مشتمل على كل العلوم. فمن الآيات قوله تعالى فى الآية 38 من سورة الأنعام: "مَّا فَرَّطْنَا فِي ٱلكِتَابِ مِن شَيْءٍ"، وقوله فى الآية 89 من سورة النحل: "وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ". ومن الأحاديث ما أخرجه الترمذى وغيره: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ستكون فتن"، قيل: وما المخرج منها؟ قال: "كتاب الله. فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما يعدكم، وحكم ما بينكم"، وما أخرجه أبو الشيخ عن أبى هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لو أغفل شيئًا لأغفل الذّرَّة والخردلة والبعوضة". ومن الآثار ما أخرجه سعيد بن منصور عن ابن مسعود أنه قال: "مَن أراد العلم فعليه بالقرآن، فإن فيه خبر الأوَّلين والآخرين"، وما أخرجه ابن أبى حاتم عن ابن مسعود رضى الله عنه أنه قال: "أَنْزلَ فى القرآن كل علم، وبَيَّنَ لنا فيه كل شىء، لكن علمنا يقصّر عما بَيَّنَ لنا فى القرآن". ثم نجده بعد أن يسوق هذه الأدلة وغيرها يذكر لنا عن بعض العلماء أنه استنبط أن عمر النبى صلى الله عليه وسلم ثلاث وستون سنة من قوله تعالى فى الآية 11 من سورة المنافقون: "وَلَن يُؤَخِّرَ ٱللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَآءَ أَجَلُهَآ"، فإنها رأس ثلاث وستين سورة، وعقَّبها بـ"التغابن" ليظهر التغابن فى فقده".
ثم يذكر الدكتور الذهبى قول أبى الفضل المرسى فى تفسيره إن القرآن قد "جمع علوم الأوَّلين والآخرين، بحيث لم يحط بها علمًا حقيقةً إلا المتكلم به، ثم رسول الله صلى الله عليه وسلم خلا ما استأثر به سبحانه وتعالى، ثم ورث عنه معظم ذلك سادات الصحابة وأعلامهم، مثل الخلفاء الأربعة وابن مسعود وابن عباس حتى قال: لو ضاع لى عقال بعير لوجدته فى كتاب الله تعالى، ثم ورث عنهم التابعون بإحسان، ثم تقاصرت الهمم وفترت العزائم وتضاءل أهل العلم وضعفوا عن حمل ما حمله الصحابة والتابعون من علومه وسائر فنونه، فنوَّعوا علومه، وقامت كل طائفة بفن من فنونه: فاعتنى قوم بضبط لغاته وتحرير كلماته ومعرفة مخارج حروفه وعددها وعدد كلماته وآياته وسوره وأحزابه وأنصافه وأرباعه وعدد سجداته والتعليم عند كل عشر آيات... إلى غير ذلك من حصر الكلمات المتشابهة والآيات المتماثلة من غير تعرض لمعانيه ولا تدبر لما أُودِع فيه، فسُمُّوا القُرَّاء. واعتنى النحاة بالمعرب منه والمبنى من الأسماء والأفعال، والحروف العاملة وغيرها، وأوسعوا الكلام فى الأسماء وتوابعها وضروب الأفعال واللازم والمتعدى ورسوم خط الكلمات، وجميع ما يتعلق به، حتى إن بعضهم أعرب مشكله، وبعضهم أعربه كلمة كلمة. واعتنى المفسِّرون بألفاظه، فوجدوا منه لفظًا يدل على معنى واحد، ولفظًا يدل على معنيين، ولفظًا يدل على أكثر، فأَجْرَوُا الأول على حُكْمه، وأوضحوا معنى الخفىّ منه، وخاضوا فى ترجيح أحد محتملات ذى المعنيين والمعانى، وأعمل كل منهم فكره وقال بما اقتضاه نظره. واعتنى الأُصوليون بما فيه من الأدلة القطعية والشواهد الأصلية والنظرية، مثل قوله تعالى: "لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ ٱللَّهُ لَفَسَدَتَا"... إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة، فاستنبطوا منها أدلة على وحدانية الله ووجوده وبقائه وقِدَمه وقُدرته وعلمه وتنزيهه عما لا يليق به، وسَمَّوْا هذا العلم بـ"أُصول الدين". وتأملت طائفة منهم معانى خطابه، فرأت منها ما يقتضى العموم، ومنها ما يقتضى الخصوص، إلى غير ذلك، فاستنبطوا منه أحكام اللُّغة من الحقيقة والمجاز، وتكلموا فى التخصيص والإضمار والنص والظاهر والمُجْمَل والمُحْكَم والمتشابه والأمر والنهى والنسخ... إلى غير ذلك من أنواع الأقيسة، واستصحاب الحال والاستقراء، وسَمَّوْا هذا الفن: "أصول الفقه". وأحكمت طائفةٌ صحيح النظر وصادق الفكر فيما فيه من الحلال والحرام وسائر الأحكام، فأسسوا أُصوله وفرَّعوا فروعه وبسطوا القول فى ذلك بسطًا حسنًا، وسَمَّوْه بـ"علم الفروع"، وبـ"الفقه" أيضا. وتلمحت طائفة ما فيه من قصص القرون السابقة والأُمم الخالية ونقلوا أخبارهم ودوَّنوا آثارهم ووقائعهم، حتى ذكروا بدء الدنيا وأول الأشياء وسَمَّوْا ذلك بـ"التاريخ". وتنبَّه آخرون لما فيه من الحِكَم والأمثال والمواعظ التى تقلقل قلوب الرجال، وتكاد تدكدك الجبال، فاستنبطوا مما فيه من الوعد والوعيد والتحذير والتبشير وذكر الموت والمعاد والنشر والحشر والحساب والعقاب والجنَّة والنار فصولا من المواعظ وأُصولا من الزواجر، فسُمُّوا بذلك: "الخطباء والوُعَّاظ". واستنبط قوم ما فيه من أصول التعبير، مثل ما ورد فى قصة يوسف فى البقرات السمان، وفى منامَىْ صاحبى السجن، وفى رؤياه الشمس والقمر والنجوم ساجدة، وسَمَّوْه: "تعبير الرؤيا"، واستنبطوا تأويل كل رؤيا من الكتاب. فإن عَزَّ عليهم إخراجها منه فمن السُّنَّة التى هى شارحة للكتاب. فإن عَزَّ فمن الحِكَم والأمثال. ثم نظروا إلى اصطلاح العوام فى مخاطباتهم وعُرْف عاداتهم، الذى أشار إليه القرآن بقوله: "وَأْمُرْ بِٱلْمَعْرُوفِ". وأخذ قوم مما فى آيات المواريث من ذكر السهام وأربابها وغير ذلك علم الفرائض، واستنبطوا منها مِنْ ذكر النِصْف والثُّلُث والرُّبُع والسُّدُس والثُّمُن حساب الفرائض ومسائل العدل، واستخرجوا منه أحكام الوصايا. ونظر قوم إلى ما فيه من الآيات الدالات على الحِكَم الباهرة فى الليل والنهار والشمس والقمر ومنازله والبروج وغير ذلك فاستخرجوا منه علم المواقيت. ونظر الكُتَّاب والشعراء إلى ما فيه من جزالة اللَّفظ وبديع النظم وحُسْن السياق والمبادىء والمقاطع والمخالص والتلوين فى الخطاب والإطناب والإيجاز وغير ذلك، واستنبطوا منه المعانى والبيان والبديع. ونظر فيه أرباب الإشارات وأصحاب الحقيقة فلاح لهم من ألفاظه معانٍ ودقائقُ جعلوا لها أعلامًا اصطلحوا عليها، مثل: الفناء والبقاء والحضور والخوف والهيبة والأُنْس والوحشة والقبض والبسط وما أشبه ذلك. هذه الفنون أخذتها المِلَّة الإسلامية منه. وقد احتوى على علومٍ أُخَرَ من علوم الأوائل مثل: الطّب والجدل والهيئة والهندسة والجبر والمقابلة والنِّجَامة وغير ذلك من العلوم. أما الطب فمداره على نظام الصحة واستحكام القوة، وذلك إنما يكون باعتدال المزاج بتفاعل الكيفيات المتضادة. وقد جمع ذلك فى آية واحدة، وهى قوله تعالى: "وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا"، وعرفنا فيه بما يفيد نظام الصحة بعد اختلاله، وحدوث الشفاء للبدن بعد اعتلاله فى قوله تعالى: "شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَآءٌ لِلنَّاسِ". ثم زاد على طب الأجسام بطب القلوب وشفاء الصدور. وأما الهيئة ففى تضاعيف سوره من الآيات التى ذكر فيها ملكوت السموات والأرض وما بث فى العالم العلوى والسفلى من المخلوقات. وأما الهندسة ففى قوله تعالى: "ٱنطَلِقُوۤاْ إِلَىٰ ظِلٍّ ذِي ثَلاَثِ شُعَبٍ* لاَّ ظَلِيلٍ وَلاَ يُغْنِي مِنَ ٱللَّهَبِ"، فإن فيه قاعدة هندسية، وهو أن الشكل المثلث لا ظل له. وأما الجدل فقد حوت آياته من البراهين والمقدمات والنتائج والقول بالموجب والمعارضة وغير ذلك شيئًا كثيرًا، ومناظرةُ إبراهيم نمرود ومحاجَّتُه قومَه أصلٌ فى ذلك عظيم. وأما الجبر والمقابلة فقد قيل إن أوائل السور فيها ذكر مُدَد وأعوام وأيام التواريخ لأُمم سالفة، وإن فيها بقاء هذه الأمة وتاريخ مدة أيام الدنيا وما مضى وما بقى مضروبا بعضها فى بعض. وأما النجامة ففى قوله تعالى: "أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ"، فقد فسَّره بذلك ابن عباس. وفيه أُصول الصنائع وأسماء الآلات التى تدعو الضرورة إليه، كالخياطة فى قوله: "وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ"، والحدادة: "آتُونِي زُبَرَ ٱلْحَدِيدِ"، والبناء فى آيات، والنجارة: "وَٱصْنَعِ ٱلْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا"، والغزل: "نَقَضَتْ غَزْلَهَا"، والنسج: "كَمَثَلِ ٱلْعَنكَبُوتِ ٱتَّخَذَتْ بَيْتًا"، والفلاحة: "أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ... الآيات"، والصيد فى آيات، والغوص: "وَٱلشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّآءٍ وَغَوَّاصٍ"، "وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً"، والصياغة: "وَٱتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَىٰ مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ"، والزِّجَاجة: "ٱلْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ"، "مُّمَرَّدٌ مِّن قَوارِيرَ"، والفِخَارة: "فَأَوْقِدْ لِي يٰاهَامَانُ عَلَى ٱلطِّينِ"، والملاحة: "أَمَّا ٱلسَّفِينَةُ.... الآية"، والكتابة "عَلَّمَ بِٱلْقَلَمِ" وفى آيات أُخَر، والخـَبْز: "أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا"، والطبخ: "بِعِجْلٍ حَنِيذٍ"، والقِصَارة: "وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ"، "قَالَ ٱلْحَوَارِيُّونَ" وهم القصَّارون، والجزارة: "إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ"، والبيع والشراء فى آيات، والصبغ: "صِبْغَةَ ٱللَّهِ"، "جُدَدٌ بِيضٌ"، والحجارة: "وَتَنْحِتُونَ مِنَ ٱلْجِبَالِ بُيُوتًا"، والكِيَالة والوزن فى آيات كثيرة، والرمى: "وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ"، "وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا ٱسْتَطَعْتُمْ مِّن قُوَّةٍ". وفيه من أسماء الآلات وضروب المأكولات والمشروبات والمنكوحات وجميع ما وقع ويقع فى الكائنات ما يحقق معنى قوله: "مَّا فَرَّطْنَا فِي ٱلكِتَابِ مِن شَيْءٍ". قال السيوطى: انتهى كلام المرسى ملخصًا مع زيادات. ثم بعد روايته لهذه المقالة الطويلة نجده يذكر عن أبى بكر بن العربى أنه قال فى كتابه: "قانون التأويل": "علوم القرآن خمسون علمًا، وأربعمائة علم، وسبعة آلاف علم، وسبعون ألف علم، على عدد كلم القرآن مضروبة فى أربعة، إذ لكل كلمة ظهر وبطن، وحد ومطلع. وهذا مطلق دون اعتبار التركيب وما بينها من روابط، وهذا ما لا يُحْصَى وما لا يعمله إلا الله". وأخيرًا عقَّب السيوطى على هذه النقول وغيرها فقال: "وأنا أقول: قد اشتمل كتاب الله العزيز على كل شىء، أما أنواعه فليس منها باب ولا مسألة هى أصلاً إلا وفى القرآن ما يدل عليها، وفيه عجائب المخلوقات وملكوت السموات والأرض وما فى الأفق الأعلى وما تحت الثرى و... و... إلى غير ذلك مما يحتاج شرحه إلى مجلدات". ومن هذا يتبين لك كيف ظهرت آثار الثقافات العلمية للمسلمين فى تفسير القرآن الكريم، وكيف حاول هؤلاء العلماء المتقدمون أن يجعلوا القرآن منبع العلوم كلها: ما جَدَّ وما يَجِدّ إلى يوم القيامة. ولو أنَّا تتبعنا سلسلة البحوث التفسيرية للقرآن الكريم لوجدنا أن هذه النزعة، نزعة التفسير العلمى، تمتد من عهد النهضة العلمية العباسية إلى يومنا هذا، ولوجدنا أنها كانت فى أول الأمر عبارة عن محاولات يُقْصَد منها التوفيق بين القرآن وما جَدَّ من العلوم، ثم وُجِدت الفكرة مركَّزة وصريحة على لسان الغزالى وابن العربى والمرسى والسيوطى، ولوجدنا أيضًا أن هذه الفكرة قد طُبِّقت علميا وظهرت فى مثل محاولات الفخر الرازى ضمن تفسيره للقرآن. ثم وُجِدت بعد ذلك كتب مستقلة فى استخراج العلوم من القرآن وتتبع الآيات الخاصة بمختلف العلوم. وراجت هذه الفكرة فى العصر المتأخر رواجًا كبيرًا بين جماعة من أهل العلم، ونتج عن ذلك مؤلفات كثيرة تعالج هذا الموضوع، كما أُلِّفت بعض التفاسير التى تسير على ضوء هذه الفكرة".
ومن الضفة الأخرى يذكر الدكتور الذهبى الإمام الشاطبى، الذى كان يعارض بمنتهى القوة أى اتجاه لتفسير القرآن فى ضوء المعارف العلمية التى لم يكن العرب، وهم الذين نزل عليهم القرآن واتجه بخطابه إليهم، يعرفون عنها شيئا: "ويظهر لنا على حسب ما قرأنا أن زعيم المعارضة لهذه الفكرة فى العصور المتقدمة هو الفقيه الأصولى أبو إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبى الأندلسى المتوفَّى سننة 790 هـ، وذلك أنَّا نجده فى كتابه: "الموافقات" يعقد بحثًا خاصًّا لمقاصد الشارع، وينوِّع هذه المقاصد إلى أنواعٍ تولَّى شرحها وبيانها. والذى يهمنا هنا النوع الثانى منها، وهو "بيان قصد الشارع فى وضع الشريعة للأفهام". وفى المسألة الثالثة من مسائل هذا النوع نجده يقرر أن "هذه الشريعة المباركة أُمِّية، لأن أهلها كذلك، فهو أجرى على اعبتار المصالح"، ثم دلَّل على ذلك بأُمور ثلاثة لا نطيل بذكرها، ثم عقَّب بفصلٍ ذكر فيه: "إن العرب كان لها اعتناء بعلوم ذكرها الناس، وكان لعقلائهم اعتناء بمكارم الأخلاق، واتصاف بمحاسن الشيم، فصححت الشريعة منها ما هو صحيح وزادت عليه، وأبطلت ما هو باطل، وبيَّنت منافع ما ينفع من ذلك، ومضارّ ما يضر منه"، ثم ذكر من العلوم الصحيحة التى كان للعرب اعتناء بها: علم النجوم وما يختص به من الاهتداء فى البر والبحر، واختلاف الأزمان باختلاف سيرها، وما يتعلق بهذا المعنى. ثم قال: "وهو معنى مقرر فى أثناء القرآن فى مواضع كثيرة كقوله تعالى: "وَهُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلنُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ"، وقوله: "وَبِٱلنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ"، وقوله: "وَٱلْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّىٰ عَادَ كَٱلعُرجُونِ ٱلْقَدِيمِ* لاَ ٱلشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ ٱلقَمَرَ وَلاَ ٱلْلَّيْلُ سَابِقُ ٱلنَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ"، وقوله: "هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ ٱلشَّمْسَ ضِيَآءً وَٱلْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ ٱلسِّنِينَ وَٱلْحِسَابَ"، وقوله: "وَجَعَلْنَا ٱلْلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَآ آيَةَ ٱلْلَّيْلِ وَجَعَلْنَآ آيَةَ ٱلنَّهَارِ مُبْصِرَةً... الآية"، وقوله: "وَلَقَدْ زَيَّنَّا ٱلسَّمَآءَ ٱلدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ"، وقوله: "يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَٱلْحَجِّ"... وما أشبه ذلك من الآيات. وذَكَر علم الأنواء وأوقات نزول الأمطار وإنشاء السحاب وهبوب الرياح المثيرة لها، وعَرَض لما ورد فى ذلك من القرآن، مثل قوله تعالى: "هُوَ ٱلَّذِي يُرِيكُمُ ٱلْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِىءُ ٱلسَّحَابَ ٱلثِّقَالَ* وَيُسَبِّحُ ٱلرَّعْدُ بِحَمْدِهِ... الآية"، وقوله: "أَفَرَأَيْتُمُ ٱلْمَآءَ ٱلَّذِي تَشْرَبُونَ* أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ ٱلْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ ٱلْمُنزِلُونَ"، وقوله: "وَٱللَّهُ ٱلَّذِيۤ أَرْسَلَ ٱلرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَىٰ بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا"... وغير ذلك من الآيات. وذكر علم التاريخ وأخبار الأُمم الماضية، وفى القرآن من ذلك ما هو كثير... قال تعالى: "ذٰلِكَ مِنْ أَنَبَآءِ ٱلْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ... الآية"، وقال تعالى: "تِلْكَ مِنْ أَنْبَآءِ ٱلْغَيْبِ نُوحِيهَآ إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَآ أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَـٰذَا". وذكر علم الطب، وبيَّن أنه كان فى العرب منه شىء مبنى على تجارب الأُمِّيّين لا على قواعد الأقدمين. قال: "وعلى ذلك المساق جاء فى الشريعة لكن على وجه جامع شاف قليل يطلع منه على كثير، فقال تعالى: "وكُلُوا وَٱشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا". وذكر التفنن فى علم فنون البلاغة والخوض فى وجوه الفصاحة والتصرف فى أساليب الكلام. قال: "وهو أعظم منتحلاتهم، فجاءهم بما أعجزهم من القرآن. قال تعالى: "قُل لَّئِنِ ٱجْتَمَعَتِ ٱلإِنْسُ وَٱلْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا". وذكر ضرب الأمثال، واستشهد بقوله تعالى: "وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ". وذكر من العلوم التى عُنِىَ بها العرب، وأكثرها باطل أو جميعها: علم العيافة والزجر والكهانة وخط الرمل والضرب بالحصى والطِّيَرة، قال: "فأبطلت الشريعةُ من ذلك الباطلَ ونهت عنه، كالكهانة والزجر وخط الرمل، وأقرت الفأل لا من جهة تَطلُّب الغيب، فإن الكهانة والزجر كذلك. وأكثر هذه الأمور تَخرُّصٌ على علم الغيب من غير دليل، فجاء النبى صلى الله عليه وسلم بجهة من تعرف علم الغيب مما هو محض، وهو الوحى والإلهام، وبقى للناس من ذلك بعد موته عليه السلام جزء من النبوة، وهو الرؤيا الصالحة، وأنموذج من غيره لبعض الخاصة، وهو الإلهام والفراسة". ثم بعد هذا البيان الذى أوضح فيه الشاطبى أن الشريعة، فى تصحيح ما صححت وإبطال ما أبطلت، قد عرضت من ذلك إلى ما تعرفه العرب من العلوم ولم تخرج عما ألفوه، نراه يزيد هذا البيان إسهابًا وإيضاحًا ويتوجه باللَّوم إلى مَن أضافوا للقرآن كل علوم الأوَّلين والآخرين، مفندًا هذا الزعم الذى اعتقد أن قائليه قد تجاوزوا به الحد فى دعواهم على القرآن، وذلك حيث يقول فى المسألة الرابعة من مسائل النوع الثانى من المقاصد، أعنى مقاصد وضع الشريعة للإفهام: "ما تقرر من أُمِّية الشريعة وأنها جارية على مذاهب أهلها، وهم العرب، ينبنى عليه قواعد منها أن كثيرًا من الناس تجاوزوا فى الدعوى على القرآن الحد، فأضافوا إليه كل علم يُذْكَر للمتقدمين والمتأخرين من علوم الطبعيات والتعاليم كالهندسة وغيرها من الرياضيات والمنطق وعلم الحروف وجميع ما نظر فيه الناظرون من هذه الفنون وأشباهها. وهذا إذا عرضناه على ما تقدم لم يصح". ثم يصحح الشاطبى رأيه هذا ويحتج له بما عُرِف عن السَلَف من نظرهم فى القرآن فيقول: "إن السَلَف الصالح من الصحابة والتابعين ومن يليهم كانوا أعرف بالقرآن وبعلومه وما أُودِع فيه، ولم يبلغنا أنه تكلم أحد منهم فى شىء من هذا المدَّعَى سوى ما تقدم، وما ثبت فيه من أحكام التكاليف وأحكام الآخرة وما يلى ذلك. ولو كان لهم فى ذلك خوض ونظر لبلغنا منه ما يدلنا على أصل المسألة. إلا أن ذلك لم يكن، فدَلَّ على أنه غير موجود عندهم، وذلك دليل على أن القرآن لم يُقْصَد فيه تقرير لشىء مما زعموا. نعم تضمن علومًا من جنس علوم العرب أو ما ينبنى على معهودها مما يتعجب منه أُولو الألباب ولا تبلغه إدراكات العقول الراجحة دون الاهتداء بأعلامه والاستنارة بنوره. وأما أن فيه ما ليس من ذلك فلا". ثم أخذ الشاطبى بعد هذا فى ذكر ما استند إليه أرباب التفسير العلمى من الأدلة فقال: "وربما استدلوا على دعواهم بقوله تعالى: "وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ"، وقوله: "مَّا فَرَّطْنَا فِي ٱلكِتَابِ مِن شَيْءٍ"... ونحو ذلك، وبفواتح السور، وهى مما لم يُعْهَد عند العرب، وبما نُقِل عن الناس فيها. وربما حُكِىَ من ذلك عن علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه وغيره أشياء".
ثم أخذ الشاطبى رحمه الله يفند هذه الأدلة فقال: "فأما الآيات فالمراد بها عند المفسِّرين ما يتعلق بحال التكليف والتعبد، أو المراد بالكتاب فى قوله: "مَّا فَرَّطْنَا فِي ٱلكِتَابِ مِن شَيْءٍ" اللَّوح المحفوظ، ولم يذكروا فيها ما يقتضى تضمنه لجميع العلوم النقلية والعقلية. وأما فواتح السور فقد تكلم الناس فيها بما يقتضى أن للعرب بها عهدًا، كعدد الجُمَّل الذى تَعرَّفوه من أهل الكتاب حسبما ذكره أصحاب السير، أو هى من المتشابهات التى لا يعلم تأويلها إلى الله تعالى، وغير ذلك. وأما تفسيرها بما لا عهد به فلا يكون، ولم يَدَّعِه أحد ممن تقدم، فلا دليل فيها على ما ادَّعَوْا.، وما يُنْقَل عن علىّ أو غيره فى هذا لا يثبت. فليس بجائز أن يُضاف إلى القرآن ما لا يقتضيه، كما أنه لا يصح أن يُنْكَر منه ما يقتضيه، ويجب الاقتصار فى الاستعانة على فهمه على كل ما يُضاف علمه إلى العرب خاصة، فبه يُوصَل إلى علم ما أُودِع من الأحكام الشرعية. فمَن طلبه بغير ما هو أداة له ضَلَّ عن فهمه، وتَقوَّل على الله ورسوله فيه، والله أعلم، وبه التوفيق". هذه هى الخلاصة الشاملة لمقالة الشاطبى فى هذا الموضوع، وذلك هو رأيه فى التفسير العلمى الذى شغف به بعض العلماء المتقدمين والمتأخرين. وأحسب أنى، وقد وضعت بين يدى القارىء مقالة كل فريق وما يستند إليه من أدلة، قد أَنَرْتُ له الطريق وأوضحتُ له السبيل ليختار لنفسه ما يحلو بعد أن يحكم على أحدهما بأنه خيرٌ مقالةً وأحسنُ دليلاً".
ثم يعلن الدكتور الذهبى رأيه فى هذه القضية الجدلية قائلا: "أما أنا فاعتقادى أن الحق مع الشاطبى رحمه الله، لأن الأدلة التى ساقها لتصحيح مُدَّعاه أدلة قوية لا يعتريها الضعف ولا يتطرق إليها الخلل، ولأن ما أجاب به على أدلة مخالفيه أجوبة سديدة دامغة لا تثبت أمامها حججهم، ولا يبقى معها مُدَّعاهم. وهناك أُمور أُخرى يتقوَّى بها اعتقادنا أن الحق فى جانب الشاطبى ومَن لَفَّ لفَّه. فمن ذلك ما يأتى: أولا الناحية اللُّغوية. وذلك أن الألفاظ اللُّغوية لم تقف عند معنى واحد من لدن استعمالها إلى اليوم، بل تدرجت حياة الألفاظ وتدرجت دلالاتها، فكان لكثير من الألفاظ دلالات مختلفة. ونحن، وإن كنا لا نعرف شيئًا عن تحديد هذا التدرج وتاريخ ظهور المعانى المختلفة للكلمة الواحدة، نستطيع أن نقطع بأن بعض المعانى للكلمة الواحدة حادث باصطلاح أرباب العلوم والفنون: فهناك معان لُغَوِية، وهناك معان شرعية، وهناك معان عُرْفية، وهذه المعانى كلها توقَع بلفظ واحد بعضها عرفته العرب وقت نزول القرآن، وبعضها لا علم للعرب به وقت نزول القرآن نظرًا لحدوثه وطروئه على اللَّفظ، فهل يُعْقَل بعد ذلك أن نتوسع هذا التوسع العجيب فى فهم ألفاظ القرآن ونجعلها تدل على معان جدَّت باصطلاح حادث ولم تُعرف للعرب الذين نزل القرآن عليهم؟ وهل يعقل أن الله تعالى إنما أراد بهذه الألفاظ القرآنية هذه المعانى التى حدثت بعد نزول القرآن بأجيال، فى الوقت الذى نزلت فيه هذه الألفاظ من عند الله، وتُلِيَتْ أول ما تُلِيَتْ على من كان حول النبى صلى الله عليه وسلم؟ أعتقد أن هذا أمر لا يعقله إلا مَن سَفِهَ نَفْسَه، وأنكر عقله.
ثانيًا الناحية البلاغية. عُرِّفت البلاغة بأنها مطابقة الكلام لمقتضى الحال، ومعلوم أن القرآن فى أعلى درجات البلاغة. فإذا نحن ذهبنا مذهب أرباب التفسير العلمى وقلنا بأن القرآن متضمن لكل العلوم، وألفاظه متحملة لهذه المعانى المستحدّثة، لأوقعْنا أنفسنا فى ورطة لا خلاص لنا منها إلا بما يخدش بلاغة القرآن أو يذهب بفطانة العرب. وذلك لأن مَنْ خوطبوا بالقرآن فى وقت نزوله إنْ كانوا يجهلون هذه المعانى وكان الله يريدها من خطابه إياهم لزم على ذلك أن يكون القرآن غير بليغ لأنه لم يراع حال المخاطب، وهذا سلب لأهم خصائص القرآن الكريم. وإن كانوا يعرفون هذه المعانى فلِمَ لَمْ تظهر نهضة العرب العلمية من لدن نزول القرآن الذى حوى علوم الأوَّلين والآخرين؟ ولِمَ لَمْ تقم نهضتهم على هذه الآيات الشارحة لمختلف العلوم وسائر الفنون؟ وهذا أيضًا سلب لأهم خصائص العرب ومميزاتهم.
ثالثًا الناحية الاعتقادية. القرآن الكريم باقٍ ما تعاقب الـمَلَوَان، ونظامه نافع لكل عصر وزمان، فهو يتحدث إلى عقول الناس جميعًا من لدن نزوله إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهو يساير حياتهم فى كل ما يمرون به من مراحل الزمن. وهذا كله بحكم كونه كتاب الشريعة العامة الشاملة، وقانون الدين الذى جعله الله خاتم شرائع السموات إلى أهل الأرض. هذا ما يجب على كل مسلم أن يعتقده ويدين به حتى يَسْلَم له دينه ولا يرتاب فيه. فإذا نحن ذهبنا مذهب مَن يُحمِّل القرآن كل شىء وجعلناه مصدرًا لجوامع الطب وضوابط الفلك ونظريات الهندسة وقوانين الكيمياء وما إلى ذلك من العلوم المختلفة لكُنَّا بذلك قد أوقعْنا الشك فى عقائد المسلمين نحو القرآن الكريم. وذلك لأن قواعد العلوم وما تقوم عليه من نظريات لا قرار لها ولا بقاء، فرُبَّ نظرية علمية قال بها عالِمٌ اليوم ثم رجع عنها بعد زمن قليل أو كثير لأنه ظهر له خطؤها. وأمام سمعنا وبصرنا من المثل ما يشهد بأن كثيرًا من جوامع العلم لا يضطبها اليوم أحد إلا تغير ضبطه لها بعد ذلك. وكم بين نظريات العلم قديمة وحديثة من تنافٍ وتضادٍّ، فهل يعقل أن يكون القرآن محتملاً لجميع هذه النظريات والقواعد العلمية على ما بينها من التنافى والتضاد؟ وإذا كان هذا معقولاً، فهل يعقل أن يُصدِّق مسلم بالقرآن بعد هذا ويكون على يقين بأنه كتاب الله الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؟
الحق أن القرآن لا يُعْنَى بهذا اللَّون من حياة الناس ولا يتعهده بالشرح ولا يتولاه بالبيان حتى يكون مصدرهم الذى يرجعون إليه فى تعريف حياتهم العلمية الدنيوية. ويبدو لنا أن أنصار هذه الفكرة، فكرة التفسير العلمى، لم يقولوا بها ولم يعملوا على تأييدها إلا بعد أن نظروا إليها كوجه من وجوه إعجاز القرآن الكريم وبيان صلاحيته للحياة وتمشّيه معها على اختلاف أحوالها وتطور أزمانها. ولكنْ "ما هكذا يا سعد تُورَد الإبل"، فإن إعجاز القرآن غنىّ عن أن يُسْلَك فى بيانه هذا المسلك المتكلف الذى قد يَذْهَب بالإعجاز. وهناك من ألوان الإعجاز غير هذا ما يشهد للقرآن بأنه كتاب الله المنزَّل على محمد صلى الله عليه وسلم. وإذا كان أرباب هذا المسلك فى التفسير يستندون إلى ما تناولته بعض آيات القرآن من حقائق الكون ومشاهده ودعوة الله لهم بالنظر فى كتاب الكون وآياته التى بثًَّها فى الآفاق وفى أنفسهم، إذا كانوا يستندون إلى مثل هذا فى دعواهم أن القرآن قد جمع علوم الأوَّلين والآخرين، فهم مخطئون ولا شك. وذلك لأن تناول القرآن لحقائق الكون ومشاهده ودعوته إلى النظر فى ملكوت السموات والأرض وفى أنفسهم لا يُراد منه إلا رياضة وجدانات الناس وتوجيه عامتهم وخاصتهم إلى مكان العظة والعبرة ولفتهم إلى آيات قدرة الله ودلائل وحدانيته من جهة ما لهذه الآيات والمشاهد من روعة فى النفس وجلال فى القلب لا من جهة ما لها من دقائق النظريات وضوابط القوانين، فليس القرآن كتاب فلسفة أو طب أو هندسة. وليعلم أصحاب هذه الفكرة أن القرآن غنىٌّ عن أن يعتز بمثل هذا التكلف الذى يوشك أن يخرج به عن هدفه الإنسانى الاجتماعى فى إصلاح الحياة ورياضة النفس والرجوع بها إلى الله تعالى. وليعلم أصحاب هذه الفكرة أيضًا أن من الخير لهم ولكتابهم أن لا ينحوا بالقرآن هذا المنحى فى تفسيرهم رغبة منهم فى إظهار إعجاز القرآن وصلاحيته للتمشى مع التطور الزمنى، وحسبهم أن لا يكون فى القرآن نص صريح يصادم حقيقة علمية ثابتة، وحسب القرآن أنه يمكن التوفيق بينه وبين ما جَدَّ ويَجِدّ من نظريات وقوانين علمية تقوم على أساس من الحق، وتستند إلى أصل من الصحة".
هذا ما قاله الدكتور الذهبى رحمه الله، ولكن كيف يعرف المسلمون أن القرآن ليس فيه ما يصادم حقيقة من حقائق العلم ما لم يدرسوه جيدا من هذه الناحية؟ علاوة أن كونه كتاب هداية ليس معناه أن نقصر هذه الهداية على هداية العقيدة والخلق والسلوك فحسب، إذ الهداية أوسع من ذلك وأعم وأشمل: فهناك هداية فكرية، وهداية سياسية، وهداية اجتماعية، وهداية اقتصادية، وهداية ذوقية، وهداية صحية، وهداية إدارية... وهلم جرا. ومن هداية الفكر ما يلفتنا إليه القرآن من ظواهر الكون وحقائق العلم... وهلم جرا. والقرآن مفعم بالآيات التى تدعو إلى تشغيل العقول والنظر فى الآفاق والاستزادة من المعرفة واتباع المنهج العلمى الصحيح فى التفكير والاستدلال، فليس كل كتاب الله إذن مخصصا للهداية العقيدية والأخلاقية والسلوكية دون غيرها من الهدايات. ثم إن فى القرآن آيات كثيرة تتعلق بالمعارف العلمية الطبيعية والرياضية والإنسانية، فماذا نصنع إزاءها؟ وكيف يستطيع المفسر التقليدى الذى ليس له من بضاعة إلا بضاعة اللغة والفقه والبلاغة وما إلى ذلك أن يتناولها تناولا يشفى ويريح العقل المعاصر؟ وما معنى التخصص إذن؟ أم ترى القرآن كتابا ساذجا لا يستحق أن نستعين فى فهمه بألوان العلوم والفنون المختلفة؟ أفلا نخصص إذن لهذا الجانب العلمى فى القرآن بعض جهدنا فى الفهم والتفسير؟ ثم هل يمكن أن تتم هداية المسلم، وهو ضعيف علميا؟ فماذا نصنع بقوله تعالى: "قل هل يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون"؟
ونفس الشىء يقال عن العصر الحديث، إذ هناك من يوافق على التفسير العلمى لآيات القرآن، وهناك من يرفض ذلك. وممن رحب بهذا وتحمس له من المصريين فقط عبد الله (باشا) فكرى وزير المعارف فى القرن التاسع عشر، ومصطفى صادق الرافعى، وعبد العزيز (باشا) إسماعيل ود. توفيق صدقى ود. محمد أحمد الغمراوى والأستاذ حنفى أحمد والأستاذ عبد الرازق نوفل والأستاذ عبد العزيز سيد الأهل والأستاذ على عبد العظيم ود. السيد الجميلى ود. مصطفى محمود ود. محمد أحمد الشهاوى ود. منصور حسب النبى ود. زغلول النجار. ولكل واحد من هؤلاء تقريبا مساهمة فى هذا المجال. وهناك مواقع متعددة خاصة بتفسير الآيات التى تتصل بالعلوم الطبيعية والرياضية والنفسية وما إلى هذا منشورة على المِشْبَاك، وفيها بحوث ودراسات يعمل أصحابها على أن يتناولوا كل شىء من ذلك فى كتاب الله بالبحث والدرس.
وقد أورد د. يوسف القرضاوى فى كتابه: "كيف نتعامل مع القرآن العظيم؟"بعض الأسماء الرافضة فى عصرنا لهذا اللون من التفسير والحجج التى استندت إليها فى ذلك الرفض. قال: "اشتهر في عصرنا لون جديد من التفسير، أُطْلِق عليه "التفسير العلمي للقرآن"، ويُقْصَد به التفسير الذي تستخدم فيه العلوم الكونية الحديثة: حقائقها ونظرياتها لبيان مراميه وتوضيح معانيه. والذين يُعْنَوْن بهذا اللون من التفسير في الغالب ويتحمسون له هم علماء الكون والطبيعة، وليسوا من علماء الدين والشريعة. وعلماء الدين والشريعة يختلفون فيما بينهم حول جواز هذا اللون من التفسير ومدى شرعيته. وفي الخمسينيات من القرن العشرين ثارت معركة جدلية على صفحات الصحف المصرية بين فريقين من علماء الدين حول هذه القضية، وأحسب أن الخلاف فيها لم يزل إلى يومنا بين منتصر لهذا الرأي ومنتصر لمخالفه. وقبل ذلك وجدنا من كبار العلماء الباحثين المحدثين المؤيدين والمعارضين، وإن كان المعارضون أكثر وأوفر.
وجدنا من المعارضين الإمام الأكبر محمود شلتوت رحمه الله، الذي أنكر في مقدمة تفسيره على طائفة من المثقفين أخذوا بطرف من العلم الحديث وانتقَوْا أو تلقفوا شيئا من النظريات العلمية والفلسفية وغيرها، وأخذوا يستندون إلى ثقافتهم الحديثة ويفسرون آيات القرآن على مقتضاها. قال الشيخ عن هؤلاء: "نظروا في القرآن فوجدوا الله سبحانه وتعالى يقول: "مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ" (الأنعام/ 38)، فتأولوها على نحوٍ زيَّن لهم أن يفتحوا في القرآن فتحًا جديدًا، ففسروه على أساس من النظريات العلمية المستحدثة، وطبقوا آياته على ما وقعوا عليه من قواعد العلوم الكونية، وظنوا أنهم بذلك يخدمون القرآن ويرفعون من شأن الإسلام ويدعون له أبلغ دعاية في الأوساط العلمية والثقافية. نظروا في القرآن على هذا الأساس، فأفسد ذلك عليهم أمر علاقتهم بالقرآن وأفضى بهم إلى صورة من التفكير لا يريدها القرآن ولا تتفق مع الغرض الذي من أجله أنزله الله. هذه النظرة للقرآن خاطئة من غير شك لأن الله لم يُنْزِل القرآن ليكون كتابًا يتحدث فيه إلى الناس عن نظريات العلوم ودقائق الفنون وأنواع المعارف. وهي خاطئة لأنها تعرّض القرآن للدوران مع مسائل العلوم في كل زمان ومكان، والعلوم لا تعرف الثبات ولا القرار ولا الرأي الأخير، فقد يصح اليوم في نظر العالم ما يصبح غدًا من الخرافات. فلو طبقنا القرآن على هذه المسائل العلمية المتقلبة لعرّضناه للتقلب معها وتَحَمّل تبعات الخطأ فيها، ولأوقفنا أنفسنا بذلك موقفا حرجا في الدفاع عنه. فلندع للقرآن عظمته وجلالته، ولنحفظ عليه قدسيته ومهابته، ولنعلم أن ما تضمنه من الإشارة إلى أسرار الخلق وظواهر الطبيعة إنما هو لقصد الحث على التأمل والبحث والنظر ليزداد الناس إيمانا مع إيمانهم. وحسبنا أن القرآن لم يصادم الفطرة، ولم يصادم ولن يصادم حقيقة من حقائق العلوم تطمئن إليها العقول...".
ووجدنا من المعارضين الأستاذ الشيخ أمين الخولي في بحثه المركّز: "التفسير: معالم حياته، منهجه اليوم". وقد نقل فيه رأي الشاطبي واعتراضه على الذين أرادوا أن يخرجوا بالقرآن عن نهجه في مخاطبة العرب بما يفهمون وفي إطار ما يعهدون من علوم ومعارف، وردّ على الذين زعموا أن في القرآن علوم الأولين والآخرين: دينية ودنيوية، شرعية وعقلية. وهو رأي الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي شيخ الأزهر الأسبق، قاله في تقديمه لكتاب عبد العزيز (باشا) إسماعيل: "الإسلام والطب الحديث". وهو رأي د.عبد الحليم محمود والشيخ عبد الله المشد والشيخ أبو بكر ذكري، أعلنوه في مقدمة تفسيرهم الموجز للقرآن، والذي كان ينشر في مجلة "نور الإسلام" لسان علماء الوعظ والإرشاد في الأزهر.
وينحو صاحب "الظلال" سيد قطب، رحمه الله، هذا المنحى في تفسيره لآية "يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ"، إذ يقول بقلمه البليغ: وإني لأعجب لسذاجة المتحمسين لهذا القرآن الذين يحاولون أن يضيفوا إليه ما ليس منه أن يحملوا عليه ما لم يقصد إليه، وأن يستخرجوا منه جزئيات في علوم الطب والكيمياء والفلك وما إليها كأنما ليعظموه بهذا ويكبروه! إن القرآن كتاب كامل في موضوعه، وموضوعه أضخم من تلك العلوم كلها لأنه هو الإنسان ذاته الذي يكتشف هذه المعلومات وينتفع بها، والبحث والتجريب والتطبيق من خواص العقل في الإنسان. والقرآن يعالج بناء هذا الإنسان، بناء شخصيته وضميره وعقله وتفكيره، كما يعالج بناء المجتمع الإنساني الذي يسمح بأن يحسن استخدام هذه الطاقات المذخورة فيه. وبعد أن يوجد الإنسان السليم التصور والتفكير والشعور، ويوجد المجتمع الذي يسمح له بالنشاط، يتركه القرآن يبحث ويجرب ويخطئ ويصيب في مجال العلم والبحث والتجريب، وقد ضمن له موازين التصور والتدبر والتفكير الصحيح. كذلك لا يجوز أن نعلق الحقائق النهائية التي يذكرها القرآن أحيانا عن الكون في طريقه إنشاء التصور الصحيح لطبيعة الوجود وارتباطه بخالقه، وطبيعة التناسق بين أجزائه، لا يجوز أن نعلق هذه الحقائق النهائية التي يذكرها القرآن بفروض العقل البشري ونظرياته، ولا حتى بما نسميه: "حقائق علمية" مما ينتهي إليه بطريق التجربة القاطعة في نظره.
إن الحقائق القرآنية حقائق نهائية قاطعة مطلقة. أما ما يصل إليه البحث الإنساني، أيًّا كانت الأدوات المتاحة له، فهي حقائق غير نهائية ولا قاطعة، وهي مقيدة بحدود تجاربه وظروف هذه التجارب وأدواتها. فمن الخطأ المنهجي بحكم المنهج العلمي الإنساني ذاته أن نعلق الحقائق النهائية القرآنية بحقائق غير نهائية، وهي كل ما يصل إليه العلم البشري. هذا بالقياس إلى الحقائق العلمية، والأمر أوضح بالقياس إلى النظريات والفروض التي تسمى: "علمية". ومن هذه النظريات والفروض كل النظريات الفلكية، وكل النظريات الخاصة بنشأة الإنسان وأطواره، وكل النظريات الخاصة بنفس الإنسان وسلوكه، وكل النظريات الخاصة بنشأة المجتمعات وأطوارها. فهذه كلها ليست "حقائق علمية" حتى بالقياس الإنساني، وإنما هي نظريات وفروض كل قيمتها أنها تصلح لتفسير أكبر قدر من الظواهر الكونية أو الحيوية أو النفسية أو الاجتماعية، وإلى أن يظهر فرض آخر يفسر قدرا أكبر من الظواهر، أو يفسر تلك الظواهر تفسيرا أدق! ومن ثم فهي قابلة للتغيير والتعديل والنقص والإضافة، بل قابلة لأن تنقلب رأسا على عقب بظهور أداة كشف جديدة أو بتفسير جديد لمجموعة الملاحظات القديمة. وكل محاولة لتعليق الإشارات القرآنية العامة بما يصل إليه العلم من نظريات متجددة متغيرة، أو حتى بحقائق علمية ليست مطلقة كما أسلفنا، تحتوي أولاً على خطإ منهجي أساسي. كما أنها تنطوي على معانٍ ثلاثة كلها لا يليق بالقرآن الكريم:
المعنى الأول الهزيمة الداخلية التي تخيِّل لبعض الناس أن العلم هو المهيمن، والقرآن تابع. ومن هنا يحاولون تثبيت القرآن بالعلم أو الاستدلال له من العلم، على حين أن القرآن كتاب كامل في موضوعه، ونهائي في حقائقه. والعلم لا يزال في موضوعه ينقض اليوم ما أثبته بالأمس، وكل ما يصل إليه غير نهائي ولا مطلق لأنه مقيَّد بوسع الإنسان وعقله وأدواته، وكلها ليس من طبيعتها أن تعطي حقيقة واحدة نهائية مطلقة. والمعنى الثاني سوء فهم طبيعة القرآن ووظيفته، وهي أنه حقيقة نهائية مطلقة تعالج بناء الإنسان بناء يتفق، بقدر ما تسمح طبيعة الإنسان النسبية، مع طبيعة هذا الوجود وناموسه الإلهي حتى لا يصطدم الإنسان بالكون من حوله، بل يصادقه ويعرف بعض أسراره ويستخدم بعض نواميسه في خلافته، نواميسه التي تنكشف له بالنظر والبحث والتجريب والتطبيق، وفق ما يهديه إليه عقله الموهوب له ليعمل لا ليتسلم المعلومات المادية جاهزة! والمعنى الثالث هو التأويل المستمر، مع التمحل والتكلف، لنصوص القرآن كي نحملها ونلهث بها وراء الفروض والنظريات التي لا تثبت ولا تستقر. وكل يوم يوجد جديد، وكل أولئك لا يتفق وجلال القرآن، كما أنه يحتوي على خطإ منهجي، كما أسلفنا".
أما كاتب هذه السطور فليس مع الرافضين للتفسير العلمى مع شدة احترامه لهم وإكباره لما كتبوه. وما دام التفسير العلمى لا يصادم الآية فى لغتها ولا يلويها عن سياقها أو عن معناها الذى يحكم به العقل السليم فأهلا به وسهلا ومرحبا. أما القول بأن القرآن إنما نزل يخاطب العرب المعاصرين للرسول وحدهم فهذا غير صحيح، إذ هو يخاطب من خلالهم البشرية كلها منذ عصرهم إلى أبد الآبدين. وما دام العلم يتقدم كل يوم ويقفز بخطاه الجبارة فلا بد أن نستعين به فى فهم هذا النص الإلهى المعجز. والله سبحانه وتعالى ليس عربيا ولا هو ينتمى إلى عصر المبعث، بل هو سبحانه فوق الزمان والمكان والأجناس والأعراق والثقافات، وكلامه أزلى أبدى. والذى أومن به أن النص القرآنى قد صيغ صياغة تسمح بفهمه فهما متجددا وسليما فى كل عصر. ونحن نعرف أن للحقيقة وجوها مختلفة، وإذا لم يكن فى كلام الله تلك الشمولية ففى أى كلام يا ترى تكون؟ ولقد سبق أن ضربت أمثلة على ضرورة الاستعانة بالعلوم الطبيعية والفلسفية والرياضية فى فهم نصوص قرآنية لا يمكن فهمها من قِبَل العقل الحديث بدونها. كما أن الـمُحْدَثين والمعاصرين قد استحدثوا من الدراسات القرآنية ما لم يكن يخطر على بال أحد، فكيف يقال إن إحساسهم البلاغى بجمال العبارة القرآنية أضعف من إحساس عرب المبعث؟ وبالنسبة لى لن يحجزنى أنى مؤلف كتاب "القرآن والحديث- مقارنة أسلوبية" عن التنبيه إلى ما فيه من لون جديد من الدراسات القرآنية فأسكت عن القول بأن هذه أول مرة يفصَّل القول أسلوبيا وإحصائيا وتحليليا فى المقارنة بين لغة القرآن ولغة الرسول عليه السلام. ولا ريب فى أن هذا الإنجاز ما كان ليتم فى العصور السابقة لأنه ابن عصره. كما استطعت أيضا فى كتبى عن سور "المائدة" و"يوسف" و"الرعد" و"طه" و"النجم" و"الرحمن" رَصْد عشرات الفروق الأسلوبية بين النصوص المكية والمدنية فى كتاب الله مما يعد جديدا تمام الجدة، إذ لم يتوصل القدماء طوال الأربعة عشر قرنا الماضية إلا إلى بضعة فروق قليلة من هذا اللون يجدها القارئ مكررة فى كتب علوم القرآن هنا وهناك دون زيادة أو نقصان. ومن المؤكد أن هناك دراسات أخرى ظهرت فى عصرنا هذا، فكيف يهوَّن من شأن هذا العصر والجهود التى تُبْذَل فيه لخدمة كتاب الله بحجة أن القدماء كانوا أفصح منا وأبلغ، وأقدر على فهم القرآن من كل نواحيه فهما لا يمكننا نحن الـمُحْدَثين بلوغ شىء منه؟
أما اعتراضات سيد قطب رحمه الله فالرد عليها كالآتى: ليس من الهزيمة الداخلية فى شىء أن أستعين بالعلوم الطبيعية، وإلا كانت الاستعانة بأى علم آخر حتى لو كان علم النحو أو البلاغة مثلا هزيمة نفسية أيضا، إذ كلها علوم بشرية، وليس ثم فرق بين أى منها والآخر. ونحن لا نجعل العلوم الطبيعية هى الأصل، بل القرآن، الذى شأنُه شأنُ أى نص آخر يحتاج فى فهمه وتذوقه إلى وسائل وأدوات، ومنها العلوم الطبيعية والرياضية. وقد قلنا إنه لا بد أن يلح المفسر العلمى على أن ما يقوله إنْ هو إلا اجتهادات منه قد تصيب وقد تخطئ، وأن النص القرآنى شىء مختلف تماما عن هذا الذى يقول. ثم لقد قلنا أيضا إنه لا يصح تحميل النص القرآنى ما لا يحتمل أو تقويله ما لا يقول. كما قلنا إن كلام المفسرين الذين لا يستعينون بتلك العلوم المبغوضة عند البعض كثيرا ما يخطئ، فهل يكون هذا مسوغا لرفض الاستعانة بالعلوم التقليدية التى يستعين بها أولئك المفسرون من نحو وبلاغة وحديث وما إلى ذلك؟ ثم ماذا نفعل فى الآيات التى استعنتُ فى هذا الكتاب بكلام المتخصصين فى العلوم الطبيعية فى فهمها، وهى لا تُفْهَم فى عصرنا الفهم المريح للذهن والقلب إلا بالاستعانة بتلك المباحث؟ هذا هو السؤال. ثم إن التفسير التقليدى كثيرا ما يعاد فيه النظر، ويقول اللاحق كلاما ينقض كلام السابق. أى أن الاستعانة بالعلوم الطبيعية ليست هى وحدها المعرَّضة لهذا الأمر. وأود هنا أن أقول كلمة جد مهمة، وهى أن العلم الطبيعى، مثل أى علم آخر، إنما هو نعمة من الله، فكيف يمكن أن نقاطع تلك النعمة وكأنها مستوحاة من الشيطان؟ المطلوب منا أن نسدد ونقارب وأن نجتهد بأقصى ما نَقْدِر، ولو نجحنا فخير وبركة، ولنا من الله الكريم الرحيم درجتان، وإذا كانت الأخرى فدرجة واحدة، إذ من المعروف طبقا لحديث سيد المرسلين أنه لا عقاب فى الإسلام على الاجتهاد حتى لو أخطأ صاحبه ما دام قد استفرغ الوسع.
على أن ما نقله د. القرضاوى من كلام سيد قطب ليس هو كل كلام الرجل فى هذا السبيل، إذ عَقَّب رحمه الله على هذا الكلام بما يلى: "ولكن هذا لا يعني ألا ننتفع بما يكشفه العلم من نظريات ومن حقائق عن الكون والحياة والإنسان في فهم القرآن. كلا! إن هذا ليس هو الذي عَنَيْنا بذلك البيان. ولقد قال الله سبحانه: "سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق". ومن مقتضى هذه الإشارة أن نظل نتدبر كل ما يكشفه العلم في الآفاق وفي الأنفس من آيات الله، وأن نوسّع بما يكشفه مدى المدلولات القرآنية في تصورنا. فكيف، ودون أن نعلق النصوص القرآنية النهائية المطلقة بمدلولات ليست نهائية ولا مطلقة؟ هنا ينفع المثال: يقول القرآن الكريم مثلا: "وخَلَق كل شيء فقدَّره تقديرا". ثم تكشف الملاحظات العلمية أن هناك موافقات دقيقة وتناسقات ملحوظة بدقة في هذا الكون: الأرض بهيئتها هذه وببعد الشمس عنها هذا البعد، وبعد القمر عنها هذا البعد، وحجم الشمس والقمر بالنسبة لحجمها، وبسرعة حركتها هذه، وبميل محورها هذا، وبتكوين سطحها هذا، وبآلاف من الخصائص، هي التي تصلح للحياة وتُوَائِمُها. فليس شيء من هذا كله فلتة عارضة ولا مصادفة غير مقصودة. هذه الملاحظات تفيدنا في توسيع مدلول "وخَلَق كل شيء فقدَّره تقديرا" وتعميقه في تصورنا. فلا بأس من تتبع مثل هذه الملاحظات لتوسيع هذا المدلول وتعميقه... وهكذا.
هذا جائز ومطلوب، ولكن الذي لا يجوز ولا يصح علميا هذه الأمثلة الأخرى: يقول القرآن الكريم: "خَلَق الإنسانَ من سلالة من طين"، ثم توجد نظرية في النشوء والارتقاء لوالاس ودارْوِن تفترض أن الحياة بدأت خلية واحدة، وأن هذه الخلية نشأت في الماء، وأنها تطورت حتى انتهت إلى خلق الإنسان. فنحمل نحن هذا النص القرآني ونلهث وراء النظرية لنقول: هذا هو الذي عناه القرآن! لا. إن هذه النظرية أولا ليست نهائية، فقد دخل عليها من التعديل في أقل من قرن من الزمان ما يكاد يغيرها نهائيا. وقد ظهر فيها من النقص المبني على معلومات ناقصة عن وحدات الوراثة التي تحتفظ لكل نوع بخصائصه ولا تسمح بانتقال نوع إلى نوع آخر ما يكاد يبطلها. وهي معرضة غدا للنقض والبطلان، بينما الحقيقة القرآنية نهائية، وليس من الضروري أن يكون هذا معناها، فهي تثبت فقط أصل نشأة الإنسان ولا تذكر تفصيلات هذه النشأة. وهي نهائية في النقطة التي تستهدفها، وهي أصل النشأة الإنسانية وكفى، ولا زيادة. ويقول القرآن الكريم: "والشمس تجري لمستقر لها"، فيثبت حقيقة نهائية عن الشمس، وهي أنها تجري. ويقول العلم إن الشمس تجري بالنسبة لما حولها من النجوم بسرعة قدرت بنحو 12 ميلا في الثانية، ولكنها في دورانها مع المجرة التي هي واحدة من نجومها تجري جميعا بسرعة 170 ميلا في الثانية. ولكن هذه الملاحظات الفلكية ليست هي عين مدلول الآية القرآنية. إن هذه تعطينا حقيقة نسبية غير نهائية قابلة للتعديل أو البطلان. أما الآية القرآنية فتعطينا حقيقة نهائية في أن الشمس تجري، وكفى. فلا نعلق هذه بتلك أبدا. ويقول القرآن الكريم: "أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما"، ثم تظهر نظرية تقول إن الأرض كانت قطعة من الشمس فانفصلت عنها، فنحمل النص القرآني ونلهث لندرك هذه النظرية العلمية ونقول: هذا ما تعنيه الآية القرآنية! لا. ليس هذا هو الذي تعنيه! فهذه نظرية ليست نهائية، وهناك عدة نظريات عن نشأة الأرض في مثل مستواها من ناحية الإثبات العلمي! أما الحقيقة القرآنية فهي نهائية ومطلقة، وهي تحدد فقط أن الأرض فُصِلَتْ عن السماء. كيف؟ ما هي السماء التي فُصِلَتْ عنها؟ هذا ما لا تتعرض له الآية، ومن ثم لا يجوز أن يقال عن أي فرض من الفروض العلمية في هذا الموضوع إنه المدلول النهائي المطابق للآية! وحسبنا هذا الاستطراد بهذه المناسبة، فقد أردنا به إيضاح المنهج الصحيح في الانتفاع بالكشوف العلمية في توسيع مدلول الآيات القرآنية وتعميقها دون تعليقها بنظرية خاصة أو بحقيقة علمية خاصة تعليق تطابق وتصديق. وفرق بين هذا وذاك". ولو تأملنا هذه السطور لرأيناه، رحمه الله، لا ينكر الاستفادة من التقدم العلمى واكتشافاته فى فهم القرآن على طول الخط، بل ينصب إنكاره فقط على المغالاة فى ذلك والجرى وراء كل ساقطة ولاقطة مما يقوله العلماء دون أن يكون هناك سند متين لهذا الذى يقولون. وهو ما لا يختلف عما اخترناه.
ولكى يطمئن القارئ أن ما أوردناه الآن هو الذى يمثل موقف سيد قطب نسوق إليه أيضا من تفسيره المسمَّى: "فى ظلال القرآن" هذه الفقرات التى تبين أن ما نقله عنه الدكتور القرضاوى لا يصور رأيه من كل جوانبه. يقول رحمه الله عند الكلام عن قوله تعالى: "أو لم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رَتْقًا ففتقناهما، وجعلنا من الماء كل شيء حي؟ أفلا يؤمنون؟ وجعلنا في الأرض رَوَاسِيَ أن تميد بهم": "وتقريره (أى القرآن) أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففُتِقَتَا مسألة جديرة بالتأمل كلما تقدمت النظريات الفلكية في محاولة تفسير الظواهر الكونية فحامت حول هذه الحقيقة التي أوردها القرآن الكريم منذ أكثر من ثلاثمائة وألف عام. فالنظرية القائمة اليوم هي أن المجموعات النجمية، كالمجموعة الشمسية المؤلفة من الشمس وتوابعها ومنها الأرض والقمر، كانت سَدِيمًا، ثم انفصلت وأخذت أشكالها الكروية، وأن الأرض كانت قطعة من الشمس ثم انفصلت عنها وبردت. ولكن هذه ليست سوى نظرية فلكية تقوم اليوم، وقد تُنْقَض غدا، وتقوم نظرية أخرى تصلح لتفسير الظواهر الكونية بفرض آخر يتحول إلى نظرية. ونحن أصحاب هذه العقيدة لا نحاول أن نحمل النص القرآني المستيقن على نظرية غير مستيقنة تُقْبَل اليوم وتُرْفَض غدا. لذلك لا نحاول في هذه الظلال أن نوفق بين النصوص القرآنية والنظريات التي تسمى علمية. وهي شيء آخر غير الحقائق العلمية الثابتة القابلة للتجربة كتمدد المعادن بالحرارة وتحول الماء بخارا وتجمده بالبرودة... إلى آخر هذا النوع من الحقائق العلمية. وهي شيء آخر غير النظريات العلمية كما بينا من قبل في الظلال. إن القرآن ليس كتاب نظريات علمية ولم يجيء ليكون علما تجريبيا كذلك. إنما هو منهج للحياة كلها، منهج لتقويم العقل ليعمل وينطلق في حدوده، ولتقويم المجتمع ليسمح للعقل بالعمل والانطلاق دون أن يدخل في جزئيات وتفصيليات علمية بحتة، فهذا متروك للعقل بعد تقويمه وإطلاق سراحه.
وقد يشير القرآن أحيانا إلى حقائق كونية كهذه الحقيقة التي يقررها هنا: "أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما". ونحن نستيقن هذه الحقيقة لمجرد ورودها في القرآن، وإن كنا لا نعرف منه كيف كان فتق السماوات والأرض، أو فتق السماوات عن الأرض. ونتقبل النظريات الفلكية التي لا تخالف هذه الحقيقة المجملة التي قررها القرآن، ولكننا لا نجري بالنص القرآني وراء أية نظرية فلكية، ولا نطلب تصديقا للقرآن في نظريات البشر. وهو حقيقة مستيقنة! وقصارى ما يقال إن النظرية الفلكية القائمة اليوم لا تعارض المفهوم الإجمالي لهذا النص القرآني السابق عليها بأجيال! فأما شطر الآية الثاني: "وجعلنا من الماء كل شيء حي" فيقرر كذلك حقيقة خطيرة يعد العلماء كشفها وتقريرها أمرا عظيما، ويمجدون دارون لاهتدائه إليها وتقريره أن الماء هو مهد الحياة الأول. وهي حقيقة تثير الانتباه حقا، وإن كان ورودها في القرآن الكريم لا يثير العجب في نفوسنا، ولا يزيدنا يقينا بصدق هذا القرآن. فنحن نستمد الاعتقاد بصدقه المطلق في كل ما يقرره من إيماننا بأنه من عند الله. لا من موافقة النظريات أو الكشوف العلمية له. وأقصى ما يقال هنا كذلك إن نظرية النشوء والارتقاء لدارون وجماعته لا تعارض مفهوم النص القرآني في هذه النقطة بالذات.
ومنذ أكثر من ثلاثة عشر قرنا كان القرآن الكريم يوجه أنظار الكفار إلى عجائب صنع الله في الكون، ويستنكر ألا يؤمنوا بها وهم يرونها مبثوثة في الوجود: أفلا يؤمنون، وكل ما حولهم في الكون يقود إلى الإيمان بالخالق المدبر الحكيم؟ ثم يمضي في عرض مشاهد الكون الهائلة: "وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم"، فيقرر أن هذه الجبال الرواسي تحفظ توازن الأرض فلا تميد بهم ولا تضطرب. وحفظ التوازن يتحقق في صور شتى: فقد يكون توازنا بين الضغط الخارجي على الأرض والضغط الداخلي في جوفها، وهو يختلف من بقعة إلى بقعة. وقد يكون بروز الجبال في موضع معادلا لانخفاض الأرض في موضع آخر. وعلى أية حال فهذا النص يثبت أن للجبال علاقة بتوازن الأرض واستقرارها. فلنترك للبحوث العلمية كشف الطريقة التي يتم بها هذا التوازن، فذلك مجالها الأصيل، ولنكتف من النص القرآني الصادق باللمسة الوجدانية والتأمل الموحي، وبتتبع يد القدرة المبدعة المدبرة لهذا الكون الكبير".
بل إنه، غفر الله له، لدى تفسيره لقوله تعالى من سورة "الأنعام": "إن الله فالق الـحَبِّ والنَّوَى. يُخْرِج الحيَّ من الميت، ومُخْرِج الميتِ من الحيّ. ذلكم الله فأنى تُؤْفَكون؟" يمضى فى نقل فقرات كثيرة مما قاله بعض علماء الغرب عن استحالة المصادفة فى عملية خلق الكون، وأن وراء هذا الكون إرادة قاصدة وقدرة مطلقة، وأن الأمر ليس عبثا. فما معنى ذلك؟ ولنقرأ: "لقد عجزت كل محاولة لتفسير ظاهرة الحياة، على غير أساس أنها من خلق الله. ومنذ أن شَرَد الناس من الكنيسة في أوربا... وهم يحاولون تفسير نشأة الكون وتفسير نشأة الحياة بدون التجاء إلى الاعتراف بوجود الله، ولكن هذه المحاولات كلها فشلت جميعا، ولم تبق منها في القرن العشرين إلا مماحكات تدل على العناد، ولا تدل على الإخلاص! وأقوال بعض "علمائهم" الذين عجزوا عن تفسير وجود الحياة إلا بالاعتراف بالله تصور حقيقة موقف "علمهم" نفسه من هذه القضية. ونحن نسوقها لمن لا يزالون عندنا يقتاتون على فتات القرنين الثامن عشر والتاسع عشر من موائد الأوربيين، عازفين عن هذا الدين، لأنه يُثْبِت "الغيب" وهم "علميون!" لا "غيبيون!". ونختار لهم هؤلاء العلماء من "أمريكا!".
يقول "فرانك أللن" (ماجستير ودكتوراه من جامعة كورنل وأستاذ الطبيعة الحيوية بجامعة مانيتوبا بكندا) في مقال "نشأة العالم هل هو مصادفة أو قصد؟" من كتاب "الله يتجلى في عصر العلم" (ترجمة الدكتور الدمرداش عبد المجيد سرحان): "فإذا لم تكن الحياة قد نشأت بحكمة وتصميم سابق، فلا بد أن تكون قد نشأت عن طريق المصادفة. فما هي تلك المصادفة إذن حتى نتدبرها ونرى كيف تخلق الحياة؟ إن نظريات المصادفة والاحتمال لها الآن من الأسس الرياضية السليمة ما يجعلها تطبق على نطاق واسع حيثما انعدم الحكم الصحيح المطلق. وتضع هذه النظريات أمامنا الحكم الأقرب إلى الصواب، مع تقدير احتمال الخطأ في هذا الحكم. ولقد تقدمت دراسة نظرية المصادفة والاحتمال من الوجهة الرياضية تقدما كبيرا حتى أصبحنا قادرين على التنبؤ بحدوث بعض الظواهر التي نقول إنها تحدث بالمصادفة، والتي لا نستطيع أن نفسر ظهورها بطريقة أخرى، مثل قذف الزهر في لعبة النَّرْد. وقد صرنا بفضل تقدم هذه الدراسات قادرين على التمييز بين ما يمكن أن يحدث بطريق المصادفة وما يستحيل حدوثه بهذه الطريقة، وأن نحسب احتمال حدوث ظاهرة من الظواهر في مدًى معين من الزمان. ولننظر الآن إلى الدور الذي تستطيع أن تلعبه المصادفة في نشأة الحياة: إن البروتينات من المركَّبات الأساسية في جميع الخلايا الحية، وهي تتكون من خمسة عناصر هي الكربون والأدروجين والنيتروجين والأكسجين والكبريت. ويبلغ عدد الذرات في الـجُزَيْءِ الواحد 000 40 ذرة. ولما كان عدد العناصر الكيموية في الطبيعة 92 عنصرا، موزعة كلها توزيعا عشوائيا، فإن احتمال اجتماع هذه العناصر الخمسة لكي تكون جُزَيْئًا من جُزَيْئات البروتين يمكن حسابه لمعرفة كمية المادة التي ينبغي أن تخلط خلطا مستمرا لكي تؤلف هذا الجزيء، ثم لمعرفة طول الفترة الزمنية اللازمة لكي يحدث هذا الاجتماع بين ذرات الجزيء الواحد. وقد قام العالم الرياضي السويسري تشارلز يوجين جاي بحساب هذه العوامل جميعا، فوجد أن الفرصة لا تتهيأ عن طريق المصادفة لتكوين جزيء بروتيني واحد إلا بنسبة 1 إلى 10× 160، أي بنسبة 1 إلى رقم عشرة مضروبا في نفسه 160 مرة، وهو رقم لا يمكن النطق به أو التعبير عنه بكلمات. وينبغي أن تكون كمية المادة التي تلزم لحدوث هذا التفاعل بالمصادفة بحيث ينتج جزيء واحد أكثر مما يتسع له كل هذا الكون بملايين المرات. ويتطلب تكوين هذا الجزيء على سطح الأرض وحدها عن طريق المصادفة بلايين لا تحصى من السنوات قدَّرها العالم السويسري بأنها عشرة مضروبة في نفسها 243 مرة من السنين. إن البروتينات تتكون من سلاسل طويلة من الأحماض الأمينية، فكيف تتآلف ذرات هذه الجزيئات؟ إنها إذا تآلفت بطريقة أخرى غير التي تتآلف بها تصير غير صالحة للحياة، بل تصير في بعض الأحيان سموما. وقد حسب العالم الإنجليزي ج. ب. سيثر الطرق التي يمكن أن تتآلف بها الذرات في أحد الجزيئات البسيطة من البروتينات، فوجد أن عددها يبلغ الملايين... وعلى ذلك فإنه من المحال عقلا أن تتآلف كل هذه المصادفات لكي تبني جزيئا بروتينيا واحدا. ولكن البروتينات ليست إلا موادَّ كيماويةً عديمةَ الحياة، ولا تدب فيها الحياة إلا عندما يحل فيها ذلك السر العجيب الذي لا ندري من كنهه شيئا. إنه العقل اللانهائي، وهو الله وحده الذي استطاع أن يدرك ببالغ حكمته أن مثل هذا الجزيء البروتيني يصلح لأن يكون مستقرا للحياة، فبناه وصوَّره وأغدق عليه سر الحياة".
ويقول إيرفنج وليام (دكتوراه من جامعة إيوى وإخصائي في وراثة النباتات وأستاذ العلوم الطبيعية بجامعة ميتشجان) في مقال "المادية وحدها لا تكفي" من الكتاب نفسه: "إن العلوم لا تستطيع أن تفسر لنا كيف نشأت تلك الدقائق الصغيرة المتناهية في صغرها والتي لا يحصيها عد، وهي التي تتكون منها جميع المواد. كما لا تستطيع العلوم أن تفسر لنا، بالاعتماد على فكرة المصادفة وحدها، كيف تتجمع هذه الدقائق الصغيرة لكي تكون الحياة. ولا شك أن النظرية التي تدّعي أن جميع صور الحياة الراقية قد وصلت إلى حالتها الراهنة من الرقي بسبب حدوث بعض الطفرات العشوائية والتجمعات والهجائن، نقول: إن هذه النظرية لا يمكن الأخذ بها إلا عن طريق التسليم، فهي لا تقوم على أساس المنطق والإقناع!".
ويقول ألبرت ماكومب ونشتر (متخصص في علم الأحياء. دكتوراه من جامعة تكساس. أستاذ علم الأحياء بجامعة بايلور) في مقال "العلوم تدعم إيماني بالله" من الكتاب نفسه: "وقد اشتغلت بدراسة علم الأحياء، وهو من الميادين العلمية الفسيحة التي تهتم بدراسة الحياة. وليس بين مخلوقات الله أروع من الأحياء التي تسكن هذا الكون. انظر إلى نبات برسيم ضئيل، وقد نما على أحد جوانب الطريق، فهل تستطيع أن تجد له نظيرا في روعته بين جميع ما صنعه الإنسان من تلك العدد والآلات الرائعة؟ إنه آله حية تقوم بصورة دائبة لا تنقطع آناء الليل وأطراف النهار بآلاف من التفاعلات الكيموية والطبيعية. ويتم كل ذلك تحت سيطرة البروتوبلازم، وهو المادة التي تدخل في تركيب جميع الكائنات الحية. فمن أين جاءت هذه الآلة الحية المعقدة؟ إن الله لم يصنعها هكذا وحدها، ولكنه خلق الحياة وجعلها قادرة على صيانة نفسها، وعلى الاستمرار من جيل إلى جيل، مع الاحتفاظ بكل الخواصّ والمميزات التي تعيننا على التمييز بين نبات وآخر. إن دراسة التكاثر في الأحياء تعتبر أروع دراسات علم الأحياء وأكثرها إظهارا لقدرة الله. إن الخلية التناسلية التي ينتج عنها النبات الجديد تبلغ من الصغر درجة كبرى بحيث يصعب مشاهدتها إلا باستخدام المِجْهَر المكبِّر. ومن العجيب أن كل صفة من صفات النبات، كل عِرْق، وكل شُعَيْرة، وكل فرع على ساق، وكل جذر أو ورقة، يتم تكوينها تحت إشراف مهندسين قد بلغوا من دقة الحجم مبلغا كبيرا، فاستطاعوا العيش داخل الخلية التي ينشأ منها النبات، تلك الفئة من المهندسين هي فئة الكروموسومات (ناقلات الوراثة)". فها هو ذا سيد قطب يستشهد بما يقوله بعض علماء الطبيعة، ومن الغربيين لا من المسلمين، فى موضوع يتصل ببعض الآيات القرآنية، وهو ما يدل على أن الاستشهاد به، غفر الله له، على أنه معادٍ تماما للاستعانة بالعلوم الطبيعية وأشباهها فى فهم كلام الله هو استشهاد غير كامل، بل يصور جانبا واحدا فقط من جوانب موقفه من تلك القضية.
وكمِثْل الأستاذ سيد قطب نرى الشيخ المراغى، رغم إعلانه كراهيته لجَرّ الآية القرآنية إلى العلوم، أو العلوم إلى الآية، كى يتم تفسيرها تفسيرا علميا يتفق مع نظريات العلم الحديث، وكذلك رغم تكريره هذا الإعلان كقوله مثلا: "وُجِد الخلاف بين المسلمين فى العقائد والأحكام الفقهية، ووُجِد عندهم مرض آخر هو الغرور بالفلسفة وتأويل القرآن ليُرْجَع إليها، وتأويله لبعض النظريات العلمية التى لم يقر قرارها، وذلك خطر عظيم على الكتاب، فإن للفلاسفة أوهاما لا تزيد على هذيان المصاب بالحمى. والنظريات التى لم تستقرّ لا يصح أن يُرَد إليها كتاب الله" (الشيخ محمد مصطفى المراغى/ الدروس الدينية لسنة 1357هـ/ مطبعة الأزهر/ 1939م/ 11)، أقول: رغم هذا وذاك نراه يخالف فى تفسيره ما قاله ويستعين فيه بما قالته العلوم الطبيعية: فمن ذلك قوله فى تفسير الآية رقم 10 من سورة لقمان: {خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَىٰ فِي ٱلأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ}: "السموات مجموع ما نراه فى الفضاء فوقنا من سيّارات ونجوم وسدائم، وهى مرتبة بعضها فوق بعض، تطوف دائرة فى الفضاء، كل شىء منها فى مكانه المقدّر له بالناموس الإلهى ونظام الجاذبية، ولا يمكن أن يكون لها عَمَد، والله هو ممسكها ومجريها إلى الأجل المقدَّر لها. فإذا قيل إن نظام الجاذبية، وهو الناموس الإلهى، قائم مقام العَمَد ويُطلق عليه اسم "العَمَد" جاز أن نقول: إن لها عَمَدا غير منظورة. وإذا لاحظنا أنه لا يوجد شىء مادى تعتمد عليه وجب أن نقول: إنه لا عَمَد لها. وأقدار الأجرام السماوية وأوزانها أقدار وأوزان لا عهد لأهل الأرض بها، والأرض نفسها إذا قيست بهذه الأجرام ليست إلا هباءة دقيقة فى الفضاء... قرر الكتاب الكريم أن الأرض كانت جزءا من السموات وانفصلت عنها، وقرر الكتاب الكريم أن الله {ٱسْتَوَىٰ إِلَى ٱلسَّمَآءِ وَهِيَ دُخَانٌ}، وهذا الذى قرره الكتاب الكريم هو الذى دل عليه العلم. وقد قال العلماء إن حادثا كونيا جذب قطعة من الشمس وفصلها عنها، وإن هذه القطعة بعد أن مرت عليها أطوار تكسرت وصارت قطعًا، كل قطعة منها صارت سيَّارا من السيَّارات، وهذه السيَّارات هى بنت الشمس، والشمس هى المركز لكل هذه السيَّارات. فليست الأرض هى مركز العالَم كما ظنه الأقدمون، بل الشمس هى مركز هذه المجموعة، والشمس وتوابعها قوى صغيرة فى العالَم السماوى. وأين هى من الشِعْرَى اليمانية التى قال الله سبحانه فيها: {وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ ٱلشِّعْرَىٰ}؟ فهذا النجم قدرته على إشعاع الضوء تساوى قوة الشمس 26 مرة، وقدرته على إشعاع الحرارة مثل قدرته على إشعاع الضوء. فلو فُرِض أن الشِّعْرَى اليمانية حلَّت محل الشمس يوما من الأيام لانتهت الحياة فجأة بغليان الأنهار والمحيطات والقارات الجليدية التى حول القطبين. وضوء الشِّعْرَى اليمانية يصل إلينا بعد ثمان سنوات، وضوء الشمس يصل إلينا بعد ثماني دقائق، فانظر إلى هذا البُعْد السحيق. وليست الشِّعْرَى اليمانية أكبر نجم فى السماء، فهناك بعض النجوم قدرتها تزيد على قدرة الشِّعْرَى أكثر من عشرة آلاف مرة. وعظمة السماء ليست فى الشمس وتوابعها. كلا، إن عظمتها فى مدنها النجومية، وفى أقدارها وأوزانها وأضوائها وأبعادها على اختلاف أنواعها. وهناك نجم يسمى: "المجرة" أكبر من شمسنا بما يزيد عن ثلاثين مليونا من المرات. وهناك السدائم، وهى قريبة من الخلق أول الأمر. ثم يقف علم الإنسان، والله تعالى وحده يعلم خلقه: {مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ}.
{وَأَلْقَىٰ فِي ٱلأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ}، أى خلق الجبال فى الأرض لئلا تميد الأرض وتضطرب. ولبيان هذا يمكن أن نقول باختصار: إن الأرض بعد انفصالها عن الشمس وعكوفها على الدوران حولها على بُعْدٍ منها وصلت بعض موادها إلى حالة السيولة بعد أن كانت موادَّ ملتهبة كالشمس، وتكوَّنت عليها قشرة صلبة بعد تتابع انخفاض الحرارة أحاطت بما فى جوفها من المواد المنصهرة، ثم تتابعت البرودة على القشرة فتجعَّدت، وحدث من التجعد نتوءات وأغوار: فالجبال الأولى نتوء القشرة الصلبة التى غلَّفت الأرض. وهناك جبال جدَّت عن اشتداد الضغط فى الرواسب التى فى قاع البحر، وجبال نارية جدَّت من خروج الحمم النارية من وسط الأرض وتداخلها فى الطبقات حتى صارت كأوتاد مغروزة فيها. والجبال كلها تتحمل الضغوط الرسوبية على جدرانها وتوزعها وتغير اتجاهها وتكسر حدتها، وتساعد بذلك على بقاء الطبقة المفككة الصالحة للإنبات والتى يتغذى بواسطتها الحيوان والإنسان وتحفظها من أن تمور. فالجبال أولاً حبست النار فى جوف الأرض، وصيَّرت الأرض بعد ذلك صالحة للحياة. والجبال توزع ضغوط الطبقات، ثم بعد ذلك تكسر حدة العواصف والرياح، فهى حافظة للأرض من الميدان الذى يجىء بأسباب من داخل الأرض، والذى يجىء بسبب العواصف والرياح...إلخ" (الشيخ محمد مصطفى المراغى/ حديث رمضان/ كتاب الهلال/ العدد 328/ نوفمبر 1970م/ 61 فصاعدا. وانظر كلامه فى نفس الموضوع ص 161 وما بعدها أيضا). فعلام يدل هذا؟ ألا يدل على أن تجاهل التقدم العلمى عند تفسير القرآن أمر صعب وغير مستحسن، وإلا فكيف نسى هذا المفسران الجليلان ما قالاه وانتفعا بمباحث العلوم الحديثة؟ والمهم ألا يفتئت المفسر العلمى على كتاب الله فيلويه عن وجهه، أو يقوّله ما لم يقل، أو يهجم على ما ليس واضحا له ولا عقله مطمئن إليه، أو يعجل بشرحه على ما لم يتأكد بعد من أقوال العلماء واجتهاداتهم التى لا تزال فى طور التحقق والتمحيص رغبة منه فى الإتيان بشىء جديد لإبهار الناس وطلبا للشهرة وحسن السمعة.
وتبقى سخرية بعض المنتسبين إلى الإسلام من جهود المفسرين العلميين وقولهم عنهم إنهم إنما ينتظرون إلى أن يكتشف الغربيون شيئا جديدا فى ميدان العلم فيَهُبّوا فقط ساعتئذ إلى تفسير آيات القرآن فى ضوء تلك الاكتشافات. ثم يضيفون أن أولئك المفسرين لو كانوا على حق لكانوا قاموا هم أنفسهم بتلك الاكتشافات قبل الغربيين. وهذا اعتراض فى غير محله، وإن كنا نوافق على أنه كسلٌ من المسلمين وعارٌ عليهم أن يتخلفوا عن غيرهم من الشعوب المتقدمة. أما أنه اعتراض فى غير محله فلأن مهمة المفسر ليست اكتشاف القوانين والحقائق العلمية، بل تفسير القرآن مستعينا بكل ما تطوله يده لذلك التفسير، ومنه تلك الحقائق والقوانين. والمهم، كما قلنا، ألا يعتسف التفسير فيحمّل النصوص ما ليس فيها ويقوّلها ما لا تقول. كذلك من الممكن أن يقال لهؤلاء الساخرين: ولماذا لا تشمّرون أنتم أيضا عن ساعد الجِدّ وتنافسون الغربيين فى الاكتشافات والاختراعات؟ أم إن مهمتكم تنحصر فقط فى الاعتراض والتهكم؟ ثم هل يقول عاقل بأن أمر الاكتشاف والاختراع فى عصرنا هذا يمكن أن ينهض به الأفراد بعيدا عن المؤسسات الكبيرة التى تستطيع وحدها تمويل مثل تلك المشاريع؟ كذلك يجب على المسؤولين فى بلاد العرب والمسلمين أن يتخذوا من التفاسير العلمية للقرآن المجيد حافزا للدعوة إلى نهضة علمية حقيقية لا يكتفى فيها الدارسون باجترار ما يقوله العلماء الغربيون، بل يبدعون ويكتشفون ويضيفون وتكون لهم إنجازاتهم هم أيضا. كما ينبغى ألا يترك المسؤولون البحوث العلمية بعد فراغ أصحابها منها لمصيرها المجهول الذى يتربص بها الآن، بل يعملون بكل ما يستطيعون على تحويلها إلى واقع. على أن يفهم المهتمون بالتفسير العلمى أن تناول الآيات القرآنية من هذه الوجهة ليست نهاية المطاف أو أن كل شىء سوف يكون "عالى العال" إذا أثبتنا أن القرآن لا يصادم العلم، إذ ليست هذه سوى الخطوة الأولى التى ينبغى أن تتلوها خطوات أخرى إن لم تنته بأن نناطح من سبقونا وتفوقوا علينا فى ميدان العلم الطبيعى والرياضى والاكتشافات والاختراعات ونسامتهم على الأقل، إن لم نتجاوزهم مع الأيام، فنحن إذن لم نصنع شيئا.
وأيا ما يكن الأمر فما زال هذان الموقفان المتعارضان قائمين حتى الآن. وقد كتب الدكتور زغلول النجار مقالا فى هذا الموضوع فى "أهرام" الاثنين 18/ 9/ 2006م بعنوان "ضوابط التفسير العلمى للقرآن الكريم" نبه فيه إلى عدة احتياطات ينبغى أن يلتزم بها من يتصدى لتفسير القرآن تفسيرا علميا، إذ لا بد له أن يتعمق فى اللغة والبلاغة وعلوم القرآن، وألا يجرى وراء النظريات العلمية التى لم تتحول إلى حقائق بعد. كما ينبغى أن يبتعد بوجه عام عن التفاصيل العلمية الدقيقة التى لا تخدم غرض التفسير العلمى كالمعادلات الرياضية المعقدة والرموز الكيميائية الدقيقة مثلا. كذلك لا يصحّ له القول بأن هذا الذى توصل له هو معنى الآية، بل عليه التأكيد بأن هذا ليس سوى فهمه هو الذى يمكن أن يخطئ، ويمكن أن يصيب. وبالمثل عليه الابتعاد تماما عن الغيبيات التى لا تدخل فى إطار العلم البشرى كذات الله والروح والملائكة والجن والبرزخ وما إلى ذلك. وهذا كلام معقول جد معقول، وكل جهد بشرى عرضة لمغامسة الخطإ مهما اتخذ صاحبه من الاحتياطات ووجوه الحذر، فلا يصح اتخاذ احتمال وقوع المفسر العلمى فى الخطإ تكأة لإغلاق بابه تماما، وإلا فلن تتقدم البشرية خطوة، لأنها معرضة فى كل خطوة تخطوها إلى السقوط فى الغلط كما قلنا، بل لا بد من التقدم والمغامرة ما دام السائر قد اتخذ كل ما يستطيع من احتياطات. وعلى الله قصد السبيل. أقول هذا رغم ما لاحظته من أن الدكتور النجار أحيانا ما يغلو ويحمّل النص القرآنى فوق طاقته ويسبغ عليه من المعنى ما لا تتقبله اللغة التى صِيغَ بها ولا السياق الذى ورد فيه. والمعروف أن كلّ متخصص فى علم أو فن أو صنعة فإنه يتحمس لها تحمسا شديدا ويكاد يراها فى كل شىء. وهذا أمر يوشك أن يكون فطريا يجرى فى العروق، ولولاه لهمدت القرائح وتبلدت، فإن التمركز حول الذات وما يتصل بها هو أحد الدوافع التى تبعث البشر على النشاط والعمل والإبداع، والمهم ألا تتجاوز تلك الحماسة حدودها المقبولة، وأن يقيم الإنسان من نفسه رقيبا على تجاوزاته، وإلا فهناك عين المجتمع التى لا تكف عن المراقبة والمراجعة والانتقاد شئنا أم أبينا. كذلك فكل بنى آدم خطاء كما يقول الرسول، فلا خوف إذن من العمل والتقدم إلى الأمام، فلن يكون ذلك نهاية العالم. وعلينا التحرك والعمل والإبداع، أما الوسوسة الزائدة قبل الإقدام على عمل شىء والانتهاء إلى ألا يتخذ الإنسان أية خطوة فى اتجاه الهدف خشية الخيبة والفشل فهو الشلل القاتل، والعياذ بالله.
و فى حدود ما أعلم فإن كتاب "الجواهر فى تفسير القرآن الكريم" للأستاذ طنطاوى جوهرى هو التفسير الوحيد الذى يتناول القرآن كله آية آية. وهو كتاب كبير الحجم حتى ليستغرق خمسة وعشرين مجلدا كبيرا. ومن نظرتنا فى هذا التفسير يتضح لنا أن صاحبه لم يكن يملأ كتابه بكل شىء ما خلا التفسير كما شنع عليه بعض من لا يتفقون معه، إذ هو يفسر الألفاظ القرآنية التى تحتاج إلى تفسير، ويستخلص العبر أو المقاصد من النص الإلهى، ويتحدث عن سبب نزول الآية وعن الناسخ والمنسوخ وغير ذلك مما يتعلق بالنص ويتناوله المفسرون الآخرون. ثم هو، فوق هذا، لا يترك فرصة للكلام عن تأخر المسلمين وتقصيرهم التام فى الارتقاء إلى المرتبة التى يصدق عليهم عندها الوصف بأنهم خير أمة أخرجت للناس إلا اهتبلها وبصَّرهم بمستجدات العلوم والاكتشافات والاختراعات، وحثهم على بذل الجهد، وحذرهم بالمصير السيئ الذى ينتظرهم إن استمروا فى البلادة التى هم منغمسون فيها، وهو ما تحقق وما زال يتحقق حتى الآن. فكيف بالله يلام الرجل على أنْ جعل تفسيره للقرآن حَيًّا حارًّا؟ أولا يصح التفسير إلا أن يكون عقليا باردا، ولا يتناول إلا مسائل الفقه وآيات الصفات مثلا أو قضايا الماضى التى ولت ولا يهتم بحاضر المسلمين ولا بالمصائب التى تسقط على رؤوسهم تباعا ولا يتعلمون منها أبدا، ولا يلفت انتباههم إلى الإثم الرهيب الذى يواقعونه دوما حين يكتفون باجترار ما وصلت إليه أمم الغرب من مقررات العلم دون أن ينشطوا للمشاركة فيه والخروج من دائرة التخلف الجهنمية التى تحاصرهم من فوقهم ومن تحتهم ومن يمين لهم وشمال وخلف وقدام؟ لقد تساءل الرجل بحق: "لماذا ألف علماء الإسلام عشرات الألوف من الكتب الإسلامية فى علمِ الفقه، وعلمُ الفقه ليس فيه فى القرآن إلا آيات قلائل لا تصل مائة وخمسين آية؟ فلماذا كثر التأليف فى علم الفقه، وقَلَّ جدًّا فى علوم الكائنات التى لا تخلو منها سورة؟ بل هى تبلغ سبعمائة وخمسين آية صريحة، وهناك آيات أخرى دلالتها تقرب من الصراحة. فهل يجوز فى عقلٍ أو شرعٍ أن يبرع المسلمون فى علمٍ آياته قليلة، ويجهلوا علمًا آياته كثيرة جدًّا؟ إن آباءنا برعوا فى الفقه، فلنبرع نحن الآن فى علم الكائنات، ولنقم به لترقى الأُمة".
والآن فلنستمع إلى الحكم الذى أصدره د. محمد حسين الذهبى على تفسير الشيخ طنطاوى جوهرى. قال: "إنى، بعد أن قرأت الكثير من هذا التفسير، أستطيع أن أعطيك صورة واضحة عن منهج المؤلف وطريقته التى سلكها فيه. وذلك أن المؤلف رحمه الله يفسر الآيات القرآنية تفسيرا لفظيا مختصرا لا يكاد يخرج عما فى كتب التفسير المألوفة لنا والمتداولة بين أيدينا، ولكنه سرعان ما يخلص من هذا التفسير الذى يسميه: لفظيا، ويدخل فى أبحاث علمية مستفيضة يسميها هو: "لطائف" أو "جواهر". هذه الأبحاث عبارة عن مجموعة كبيرة من أفكار علماء الشرق والغرب فى العصر الحديث أتى بها المؤلف ليبين للمسلمين ولغير المسلمين أن القرآن الكيم قد سبق إلى هذه الأبحاث ونبَّه على تلك العلوم قبل أن يصل إليها هؤلاء العلماء بقرون متطاولة. ثم إننا نجد المؤلف، رحمه الله، يضع لنا فى تفسيره هذا كثيرا من صور النباتات والحيوانات ومناظر الطبيعة وتجارب العلوم بقصد أن يوضح للقارئ ما يقول توضيحا يجعل الحقيقة أمامه كالأمر المشاهَد المحسوس. كذلك نجد المؤلف، رحمه الله، يستشهد أحيانا على ما يقول بما جاء فى الإنجيل. واعتماده فيما ينقل على إنجيل "برنابا" لأنه، كما يرى، أصح الأناجيل، بل هو الإنجيل الوحيد الذى لم تصل إليه يد التحريف والتبديل كما قيل. وكثيرا ما نرى المؤلف، رحمه الله، يشرح بعض الحقائق الدينية بما جاء عن أفلاطون فى "جمهوريته"، أو بما جاء عن إخوان الصفا فى رسائلهم. وهو حين ينقلها يُبْدِى لنا رضاه عنها وتصديقه بها مع أنها تخالف الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. كما أنه يستخرج كثيرا من علوم القرآن بواسطة حساب الجُمَّل الذى لا نُصدَّق أنه يوصل إلى حقيقة ثابتة، وإنما هى عدوى تسربت من اليهود إلى المسلمين فتسلَّطت على عقول الكثير منهم. هذا، وإنَّا لنجد المؤلف، رحمه الله ، يُفسِّر آيات القرآن تفسيرا علميا يقوم على نظريات حديثة وعلوم جديدة لم يكن للعرب عهد بها من قبل. ولست أرى هذا المسلك فى التفسير إلا ضربا من التكلف، إن لم يذهب بغرض القرآن فلا أقل من أن يذهب بجلاله وجماله".
والعجيب أن د. محمد حسين الذهبى، رغم إقراره فى بداية الاقتباس الذى نقلناه فى الفقرة السابقة بأن تفسير "الجواهر" فيه ما فى التفسيرات الأخرى من مباحث، وإن كان يزيد عليها كثرة الكلام فى العلوم، فإنه يعود فى نهاية المطاف فيحكم عليه بأن فيه كل شىء ما عدا التفسير. والحق أن هذا حكم ظالم، وإن كنت لا أقصد إلى القول بأن كل ما قاله الرجل أو اقتبسه من كلام علماء الطبيعة والرياضيات أو عن إخوان الصفا أو غيرهم هو كلام صحيح، أو أننا نتفق معه فيما قاله مثلا عن الدجل المسمَّى: "تحضير الأرواح" أو فى لجوئه إلى حساب الـجُمَّل وخرافاته لاستخراج أشياء فى القرآن لا وجود لها إلا فى خيالاته. لكن السؤال هو: أوليس فى كل كتاب من كتب التفسير أخطاء؟ وهل هناك كتاب منها حاز رضا الناس والعلماء جميعا؟ إن الرجل يجتهد، ولكل مجتهدٍ نصيب وأجر إن شاء الله، والاجتهاد يعنى أن صاحبه معرض للصواب والخطإ. أما قول الدكتور الذهبى إن نقل الشيخ طنطاوى كلام العلم الحديث فى تفسيره يذهب ببهاء القرآن فلا نوافقه عليه، إذ متى كان القرآن يكره العلم ويتجهم للعلماء؟ أوسبب هذا أن هؤلاء العلماء غير مسلمين؟ ولكن متى كان للعلم وطن؟ إن الحقيقة ضالة المؤمن يأخذها أنى وجدها، وما من كتاب سماوى حضّ على العلم وكرّم العلماء مثلما صنع القرآن. ولا ننس أن ما يتوصل إليه علماء الغرب الآن من علم إنما هو امتداد للعلم العربى، الذى هو بدوره امتداد وتصحيح واستدراك وإضافة لما سبقه من العلوم التى كانت موجودة لدى الأمم السابقة... وهكذا. ثم إن القرآن المجيد لم ينزل لعرب المبعث وحدهم، ولا للعرب فى كل العصور فقط، بل نزل للبشرية جميعا فى كل عَصْرٍ ومِصْرٍ. ولقد قرأتُ منذ سنين طوال مقالا لرجاء النقاش يثنى على تفسير "الجواهر" وصاحبه ثناء عظيما. ولكنى لا أذهب هذا المذهب أيضا، بل الذى أراه هو أن فى الكتاب خيرا كثيرا، وفيه كذلك أخطاء، وقد تكون هى أيضا أخطاء كثيرة. ولكنْ كما قال النابغة أخو بنى ذُبْيَان: "أىُّ الرجال المهذَّبُ"؟
فمثلاً لا أرأنى أجد بأسا بما كتبه صاحب "الجواهر" عندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآية 61 من سورة "البقرة": "وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَىٰ لَن نَّصْبِرَ عَلَىٰ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ ٱلأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ ٱلَّذِي هُوَ أَدْنَىٰ بِٱلَّذِي هُوَ خَيْرٌ... الآية" تحت عنوان: "الفوائد الطيبة فى هذه الآية"، إذ أخذ فى بيان ما أثبته الطب الحديث من نظريات طبية، ذاكرا مناهج أطباء أوروبا فى الطب، ثم قال: "أَوَليست هذه المناهج هى التى نحا نحوها القرآن؟ أَوَ ليس قوله: "أَتَسْتَبْدِلُونَ ٱلَّذِي هُوَ أَدْنَىٰ بِٱلَّذِي هُوَ خَيْرٌ" رمزا لذلك؟ كأنه يقول: العيشة البدوية على المن والسلوى، وهما الطعامان الخفيفان اللذان لا مرض يتبعهما، مع الهواء النقى والحياة الحرة، أفضل من حياة شقية فى المدن بأكل التوابل واللحم والإكثار من ألوان الطعام مع الذلة وجور الحكام والجبن وطمع الجيران من الممالك، فتختطفكم فى حين غفلة وأنتم لا تشعرون. بمثل هذا تُفسَّر هذه الآيات. بمثل هذا فليفهم المسلمون كتاب الله".
وكذلك لا أستطيع أن أرى بأسا فى كلامه التالى تعليقا على قوله تعالى فى الآية من سورة "طه": "ٱلرَّحْمَـٰنُ عَلَى ٱلْعَرْشِ ٱسْتَوَىٰ* لَهُ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ ٱلثَّرَىٰ": "قوله: {وَمَا بَيْنَهُمَا} دخل فى ذلك عوالم السحاب والكهرباء وجميع العالم المسمى: "الآثار العلوية"، وهو من علوم الطبيعة قديما وحديثا. وقوله: {وَمَا تَحْتَ ٱلثَّرَىٰ} يشير لعِلْمَيْن لم يُعْرَفا إلا فى زماننا، وهما علم طبقات الأرض المتقدم مرارا فى هذا التفسير، وعلم الآثار المتقدم بعضه فى سورة "يونس". فالله هنا يقول: {وَمَا تَحْتَ ٱلثَّرَىٰ} ليحرص المسلمون على دراسة علوم المصريين التى تظهر الآن تحت الثرى".
كذلك هل ثمة من يخالف ما قاله الشيخ فى الفقرة التالية التى كتبها تعليقا على بعض الحروف المقطعة فى أول سورة "آل عمران"؟: "انظر، رعاك الله، تأمَّل. يقول الله: {الم}، {طس}، {حم}... وهكذا يقول لنا: أيها الناس، إن الحروف الهجائية إليها تحلل الكلمات اللغوية، فما من لغة فى الأرض إلا وأرجعها أهلها إلى حروفها الأصلية، سواء أكانت اللغة العربية أم اللغات الأعجمية، شرقية وغربية. فلا صرف ولا إملاء ولا اشتقاق إلا بتحليل الكلمات إلى حروفها، ولا سبيل لتعليم لغة وفهمها إلا بتحليلها. وهذا هو القانون المسنون فى سائر العلوم والفنون. ولا جَرَمَ أن العلوم قسمان: لغوية وغير لغوية، فالعلوم اللغوية مقدَّمة فى التعليم لأنها وسيلة إلى معرفة الحقائق العلمية من رياضية وطبيعية وإلهية. فإذا كانت العلوم التى هى آلة لغيرها لا تُعْرَف حقائقها إلا بتحليلها إلى أصولها، فكيف إذن تكون العلوم المقصودة لنتائجها المادية والمعنوية؟ فهى أولى بالتحليل وأجدر بإرجاعها إلى أُصولها الأوَّلية التى لا تعرف الحساب إلا بمعرفة بسائط الأعداد، ولا الهندسة إلا بعد علم البسائط والمقدمات، ولا علوم الكيمياء إلا بمعرفة العناصر وتحليل المركبات إليها، فرجع الأمر إلى تحليل العلوم".
لكنى فى ذات الوقت لا أوافقه على ما يقوله عن تحضير الأوراح مثلا، إذ نجده، عند تعرّضه لقوله تعالى فى الآية 67 وما بعدها من سورة البقرة: "وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً... الآيات"، يعقد مبحثا فى عجائب القرآن وغرائبه، ذاكرا ما انطوت عليه تلك الآيات من هذه العجائب والغرائب، مشيرًا أثناء ذلك إلى تحضير الأرواح، الذى يسميه للأسف: "عِلْمًا"، وما هو بالعلم، فيقول: "وأما علم تحضير الأرواح فإنه من هذه الآية استخراجه. إن هذه الآية تُتْلَى، والمسلمون يؤمنون بها، حتى ظهر علم الأرواح بأمريكا أوّلاً، ثم بسائر أوروبا ثانيًا". ثم يتحدث عن مبدإ ظهور هذا الأمر وانتشاره بين الأمم وفائدته... إلى أن يقول: "ولما كانت السورة التى نحن بصددها قد جاء فيها حياة للعُزَيْر بعد موته، وكذلك حماره، ومسألة الطير وإبراهيم الخليل، ومسألة الذين خرجوا من ديارهم فرارًا من الطاعون فماتوا ثم أحياهم، وعلم الله أننا نعجز عن ذلك، جعل قبل ذكر تلك الثلاثة فى السورة ما يرمز إلى استحضار الأرواح فى مسألة البقرة، كأنه يقول: إذا قرأتم ما جاء عن بنى إسرائيل فى إحياء الموتى فى هذه السورة عند أواخرها فلا تيأسوا من ذلك، فإنى قد بدأت بذكر استحضار الأرواح، فاستحضروها بطرقها المعروفة، واسألوا أهل الذِّكر إن كنتم لا تعلمون. ولكن ليكن الـمُحَضِّر ذا قلب نفى خالص على قدم الأنبياء والمرسلين كالعُزَيْر وإبراهيم وموسى، فهؤلاء لعُلُوّ نفوسهم أَرَيْتُهم بالمعاينة، وأنا أمرت نبيكم أن يقتدى بهم فقلت: "فَبِهُدَاهُمُ ٱقْتَدِهْ"...". ذلك أنه لا علاقة هنالك بين ما تقوله الآية الكريمة وما يزعمه دَجّالو تحضير الأرواح. ولا شك أن الشيخ قد انخدع بهذه المزاعم، إلا أنه لم يكن وحده من بين علماء المسلمين فى ذلك الوقت الذى انخدع بها. وبالمثل لا يمكن الموافقة على ما يذكره أحيانـًا من خيالات يتحول بها من عالم الأشباح إلى عالم الأرواح فيلتقي بروح البصيرة فيحدثها وتحدثه، وكثيرا ما يسميها: إلهامـًا أو نفحة ربانية وإشارة قدسية وبشارة رمزية، بل قد يختلط عليه الأمر فلا يدري عَمَّ كتب: أهو حلم أم حديث نفس أم إلهام؟ ومثل هذه الاشياء لا يمكن أن تُحْسَب لصالحه أبدا. كذلك لا نرضى أبدا بتقليله من شأن العلماء القدامى وتفاسيرهم وتصويره لتفسيره على أنه هو وحده التفسير الصحيح. بيد أنه لا يصحّ، فى ذات الوقت، أن نعامل كل ما قاله فى تفسيره وكأنه من نفس هذه الطينة، إذ إن فيما قاله كثيرا من الخير بلا جدال.
وإذا كنا قد سقنا رأى دارس كبير كالدكتور محمد حسين الذهبى فى تفسير "الجواهر" فقد يكون من باب إقامة التوازن أن نسوق أيضا ما كتبه الدكتور زغلول النجار فى ذلك الكتاب، إذ يقدم رؤية مغايرة. قال: "أما تفسير الشيخ طنطاوي جوهري والـمُعَنْوَن: "الجواهر في تفسير القرآن الكريم" فيعتبر أضخم تفسير ينهج النهج العلمي‏،‏ اذ يقع في خمسة وعشرين جزءا كبارا‏‏ حاول فيها الشيخ‏، ‏يرحمه الله‏،‏ تفسير القرآن الكريم تفسيرا يتجاوب مع روح العصر‏ وما وصلت اليه المعارف الانسانية في مجال دراسات الكون وما فيه من أجرام سماوية‏،‏ ومن عوالم الجمادات والأحياء‏،‏ ومن الظواهر الكونية التي تصاحبها‏،‏ والسنن الالهية التي تحكمها‏،‏ ليبرهن للقاريء أن كتاب الله الخالد قد أحاط بالكون في تفصيل وبيان وايضاح غفل عنه كثير من السابقين‏،‏ وأنه بحق ينطوي علي كل ما وصل‏ وماسيصل إليه البشر من معارف‏.‏ هذا‏،‏ وقد نعى الشيخ الجوهري‏، رحمه الله‏،‏ على علماء المسلمين إهمالهم للجانب العلمي في القرآن الكريم‏‏ وتركيز جهودهم علي الجوانب البيانية والفقهية فقط بقوله‏:‏ لماذا ألف علماء الإسلام عشرات الألوف من الكتب في علمِ الفقه‏،‏ وعلمُ الفقه ليس له في القرآن الا آيات قلائل لاتصل إلى مائة وخمسين آية؟ فلماذا كثر التأليف في علم الفقه‏،‏ وقلَّ جدا في علوم الكائنات التي لا تكاد تخلو منها سورة؟‏ ولذا فإننا نجده في مطلع تفسيره يتوجه بنداء الي المسلمين يقول فيه‏:‏ يا أمة الاسلام‏،‏ آيات معدودات في الفرائض ‏(‏يقصد آيات الميراث‏)‏ اجتذبت فرعا من علم الرياضيات‏،‏ فما بالكم أيها الناس بسبعمائة آية فيها عجائب الدنيا كلها‏؟...‏ هذا زمان العلوم‏،‏ وهذا زمان ظهور الاسلام‏...‏ هذا زمان رقيّه‏.‏ يا ليت شعري‏‏ لماذا لانعمل في آيات العلوم الكونية مافعله أباؤنا في علوم الميراث؟ ثم يضيف‏ أن نظام التعليم الإسلامي لابد من ارتقائه‏،‏ فعلوم البلاغة ليست هي نهاية علوم القرآن بل هي علوم لفظه‏،‏ وما نكتبها اليوم‏ (‏يقصد ما يكتبه فى تفسيره‏)،‏ علوم معناه‏...".
ولم يكتف الشيخ طنطاوي جوهري في تفسيره بتتبع الآيات واستنتاج معانيها وفق ما ارتآه فيها من إشارات إلى مختلف الدراسات الحديثة‏،‏ بل إنه قد استعان في هذا التفسير الفريد من نوعه بكثير من صور النباتات والحيوانات والمظاهر الكونية‏ والوسائل التجريبية‏،‏ كما استخدم الآراء الفلسفية عند مختلف المدارس الفكرية‏،‏ وكذلك الأرقام العددية التي ينظمها حساب الجمَّل المعروف‏.‏ وقد اعتبر المفسرون من بني عصره ذلك المنهج العلمي في التفسير، ‏‏كما اعتبر من قبل‏، جنوحا إلى الاستطراد في تأويل بعض آيات القرآن الكريم على غير مقاصدها التشريعية والإيمانية‏،‏ استنادا الي الحقيقة المسلمة أن القرآن لم يأت لكي ينشر بين الناس القوانين العلمية ومعادلاتها‏،‏ ولا جداول المواد وخصائصها‏،‏ ولا قوائم بأسماء الكائنات وصفاتها‏،‏ وإنما هو في الأصل كتاب هداية‏،‏ كتاب عقيدة وعبادة وأخلاق ومعاملات‏،‏ وهي ركائز الدين التي لا يستطيع الإنسان أن يضع لنفسه فيها ضوابط صحيحة‏.‏ والقرآن العظيم حين يلفت نظر الانسان إلى مختلف مظاهر هذا الوجود إنما يعرض لذلك من قبيل الاستدلال على قدرة الخالق العظيم وعلمه وحكمته وتدبيره، ومن قبيل إقامة الحجة البينة علي الجاحدين من الكافرين والمشركين‏،‏ ومن قبيل التأكيد على إحاطة القدرة الإلهية بالكون وبكل مافيه وعلى حاجة الخلق في كل لحظة من لحظات الوجود إلى رحمة ذلك الخالق العظيم‏.‏
فهذا هو الشيخ محمد رشيد رضا، ‏يرحمه الله‏،‏ يكتب في مقدمة تفسيره المنار مانصه‏: "وقد زاد الفخر الرازي صارفا آخر عن القرآن هو ما يورده في تفسيره من العلوم الرياضية والطبيعية وغيرها من العلوم الحادثة في الملة علي ما كانت عليه في عهده‏،‏ كالهيئة الفلكية اليونانية وغيرها‏،‏ وقلده بعض المعاصرين‏ (‏ويقصد الشيخ طنطاوي جوهري‏)‏ بإيراد مثل هذا من علوم العصر وفنونه الكثيرة الواسعة‏،‏ فهو يذكر فيما يسميه تفسير الآية‏،‏ فصولا طويلة، بمناسبة كلمة مفردة‏‏ كالسماء أو الأرض، من علوم الفلك والنبات والحيوان‏،‏ تصد القاريء عما أنزل الله لأجله القرآن‏.‏
وعلى الرغم من استنكار علماء التفسير لهذا المنهج العلمي قديما وحديثا‏،‏ إلا أن عددا كبيرا من العلماء المسلمين ظل مؤمنا بأن الإشارات الكونية في كتاب الله، أي الآيات المتعلقة ببعض أشياء هذا الكون على إجمالها وتناثرها بين آيات الكتاب المجيد، تبقي بيانا من الله‏ خالق الكون ومبدع الوجود‏،‏ ومن ثم فهي حق مطلق‏،‏ وصورة من صور الإعجاز في كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وإن ذلك قد لا يتضح إلا للراسخين في العلم من المتخصصين في مختلف مجالات العلوم البحتة والتطبيقية‏: ‏كل في حقل تخصصه‏.‏ وحتى هؤلاء يظل يتسع إدراكهم لذلك الإعجاز باتساع دائرة المعرفة الانسانية جيلا بعد جيل‏،‏ وعصرا بعد عصر‏،‏ مصداقا لقول الحق تبارك وتعالى‏: "‏إنْ هو إلا ذِكْرٌ للعالمين‏*‏ ولَتَعْلَمُنَّ نبأه بعد حين‏" (ص‏/ 87‏-‏88]‏، ولقول رسول الله‏ صلي الله عليه وسلم ‏في وصفه للقرآن الكريم بأنه لاتنقضي عجائبه‏،‏ ولا يَخْلَق من كثرة الرد‏ّ.‏ ومن هنا كان واجب المتخصصين من المسلمين في مختلف مجالات المعرفة الإنسانية في كل عصر وفي كل جيل أن تنفر منهم طائفة للتسلح بمستلزمات تفسير كتاب الله من إلمام بقدر كاف من علوم اللغة العربية وآدابها‏،‏ ومن الحديث وعلومه‏،‏ والفقه وأصوله‏،‏ وعلم الكلام وقواعده‏،‏ مع معرفة بعادات المجتمع العربي الأول‏،‏ وإحاطة بأسباب النزول‏،‏ وبالمأثور في التفسير‏،‏ وبالسيرة النبوية المطهرة‏،‏ وباجتهاد أعلام السابقين من أئمة المفسرين‏،‏ وغير ذلك من الشروط التي حددها علماء التفسير وأصوله‏،‏ ثم تقوم تلك الطائفة على شرح آيات الكتاب الحكيم، كل فيما يخصه، حتي تستبين للناس جوانب من الإعجاز في كتاب الله‏ لم يكن من السهل بيانها قبل عصر العلم الذي نعيشه‏، وحتى يتحقق قول الله تعالى في محكم كتابه‏: ‏‏"‏لكل نبإٍ مستقرٌّ، وسوف تعلمون" (الأنعام/ ‏67)‏"
هذا، وأترك القارئ مع فهرس المجلد الأول الذى اقتطفت منه العناوين التالية، وتركت أضعافها كى يرى بنفسه الموضوعات التى يتناولها الشيخ فى تفسيره: "خطبة الكتاب، وفيها دعوة المسلمين عامة إلى البحث في العلوم الكونية. تفسير سورة الفاتحة. عجائب الحيوانات في تفسير معنى الرحمة. عجائب النمل والنحل والعنكبوت في توضيح معنى الرحمة... دعوة المؤلف جميع المسلمين من سنيين وشيعيين وزيديين وغيرهم أن يدرسوا النبات والطب والمعادن وجميع العالم العلوي والسفلي. ضرب المثل للعالم العلوي بامرأة جميلة وفتيات يدرن حولها أقل منها جمالا، وهكذا. العالم السفلى، عالم النبات، عالم الحيوان، علم التشريح... معنى {إياك نعبد...إلخ}. شمول الصراط المستقيم للعفة والشجاعة والحكمة والعدل، وهي أصول علم الأخلاق. أقسام النعم: المال، الأصحاب، الأهل، الأعوان، الصحة، العقل، الحكمة، وجوب الاحتفاء بالنافعين للأمة. حكاية سولون الحكيم اليوناني. "الفاتحة" أم القرآن... مقارنة "فاتحة الكتاب" بفواتح البلغاء وأصحاب المعلقات. ذكر فواتح المعلقات السبعة مع شرحها وفواتح ثلاث قصائد أخرى وموازنتها بالفاتحة وبأوائل السور... تقسيم سورة "البقرة" إلى بابين عظيمين: الأول غلب فيه التوحيد ومحاجة اليهود، والثاني غلب فيه الأحكام الشرعية، وفي كل منها عشرة مقاصد. تفسير {الم ذلك الكتاب لا ريب فيه إلخ}. التفسير اللفظي لآيات: {إن الذين كفروا سواء عليهم...إلخ}. التفسير اللفظي لآيات: {ومن الناس من يقول آمنا بالله... إلخ}. المقصد الثالث في قوله: {مثلهم كمثل الذي استوقد نارا...إلخ}. التفسير اللفظي لهذا القسم. المقصد الرابع: {يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم...إلخ} التفسير اللفظي لهذا القسم. إيضاح وتفصيل. فصل آخر في هذه الحكم الكونية، وفيه تفضيل التشبيه الذي في هذه الآية على تشبيه ابن المعتز في قوله: "وساقٍ صَبِيحٍ...إلخ". بدائع العلم لمناسبة تفسير {الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء}... العلم المنتشر في المدارس المصرية لا يهدى الطالب. تفصيل الكلام على الأنداد وعبادة الاصنام. من الأمم من مات عندها العظيم فعبدته. الصابئون عبدوا الملائكة فالكواكب فالأصنام.... الآلهة الهندية الثلاثة، وهم برهما وفشنو وسيفا، ومعناها الخالق والحافظ والمهلك. التثليث عند الفرس وقدماء اليونان. الأصنام عند العرب الذين نزل عليهم القرآن. جنة العارفين، وهي المعارف، وجنة البُلْه، وهي التي فيها المأكول والمشروب واللذات الحسية. ضرب الأمثال وأن منها ما هو ظاهر كقوله: {مثلهم كمثل الذي استوقد نارا...إلخ} ومنها ما يحتاج إلى تأمل مثل أوصاف الآخرة وأحوالها. ضرب مثل يبين فيه اختلاف مشارب الناس بالفهم، فالمرأة الجميلة ينظر لها ابنها وأبوها وأخوها وزوجها كل ينظر خاص، وأربعة من العلماء يفسرون قوله تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} بما يناسب معارفهم. في مسألة حرب الكفرة. فتوى علماء بخارى لأميرها بتحريم الحرب بالمدافع وضياع البلاد. المقصد الخامس: {كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم...إلخ}، وكيف يقول الله: خلق لكم ما في الأرض جميعا، والغابات والمرجان في البحار وغيرها في يد الفرنجة؟ الكلام على السموات السبع. التفسير اللفظي لهذا المقصد. السموات السبع في الإنجيل. موافقته لآراء اليونان. كيفية خلق العالم في الآراء الحديثة. أبعاد السيارات الثمانية. السيارات العلوية والسيارات السفلية. النجوم الثوابت وأن منها ما يصل نوره لنا من ألف سنة نورية. أقدار الكواكب وعدد نجومها وأن مجموعها 224 مليونا من النجوم. علوم القدماء قاصرة في عالم السموات، وجمال الله وقدرته ظاهران في العلم الحديث... المقصد السادس: {وإذ قال ربك للملائكة...إلخ}. التفسير الفظي لهذا المقصد. بحثٌ ضافٍ تحت عنوان "الإيضاح في الحكمة العلمية والعملية"، واشتمال قصة آدم على الحكمة العملية والعلمية... آراء أهل الديانات والحكماء في الملائكة، وهي خمسة، ثم رأي علماء الهند. بيان علم الأخلاق من قصة آدم وقابيل وهابيل، وهي ترجع لأحوال ثلاث: كِبْر إبليس وحرص آدم وحسد قابيل، والأخلاق المنحرفة متفرعة عليها... {ما ننسخ من آية...إلخ}. لم كان الناسخ والمنسوخ في القرآن؟ والجواب عليه بعالم النبات ونسخه بمختلف الفصول ونسخ الصناعات والأحوال، وحض المسلمين أن يجاروا أوربا وأمريكا كبلاد الأرجنتين في رقيّ الزراعة بالآلات الحاصدة الحارثة الخازنة المذرية...إلخ، وكيف يحلبون بقرهم، وهكذا، وإلا هلك المسلمون وبادوا، وبما تقدم يكونون خير أمة أُخْرِجَتْ للناس، فخير الناس أعلمهم فيكون أنفع لهم، وأين ذلك اليوم؟ الناسخ والمنسوخ. الآيات الناسخة والآيات المنسوخة وأنها 21 آية. نَظْمٌ في ذلك للشيخ السيوطي... الأمم الضعيفة تقلد الغالبة في أخلاقها وتقاليدها كما قلد بنو إسرائيل المصريين فعبدوا عجلهم فأمروا بذبح البقرة ليعلموا أنها لا تعبد. حكمة تخصيص الحجر بضربه العصا ليدل على أن الأحجار تنفجر منها المياه بسبب اختصاص الثلج بأنه يكبر إذا برد. فالجاهل يكتفي بعصا موسى، والعالم يعرف العصا الإلهية، ونبع العيون بعظم حجم الثلج، وعجائب السحاب والماء، وأن في هذه السورة عجائب من علم تحضير الأرواح في هذا المقام، وتحريم الربا وتحريم إلخمر، والتنويم المغناطيسي، وأن الحرب الماضية كانت لرؤوس الأموال، وهكذا. قصة صموئيل والعجوز التي أحضرت روح صموئيل النبي وأخبرت طالوت بأنه سيقتل غدا، وعلم تحضير الأرواح وتاريخه في أمريكا وأوربا وانتشاره السريع وأنه مقتضى قوله تعالى:{كذلك يحيى الله الموتى ويريكم آياته...}، فهذه هي آيات الله في ذلك. الروحانية في فرنسا وألمانيا وإيطاليا والبلجيك وأسبانيا والبرتغال، وخطاب خمسة عشر ألف أمريكي لمجلس النوّاب الأمريكي في علم تحضير الأرواح. الملايين الذين اتبعوا هذا المذهب من الفلاسفة والأطباء وغيرهم... إيضاح آية {إن في خلق السموات والأرض} ووصف الكواكب والشمس وعلاقتها مع الأرض والماء، والهواء والأمطار والبحار، وأن العالم جسم واحد فيكون إلهه واحدا...".

إبراهيم عوض
28/11/2009, 01:44 PM
تم تدارك ما تنبه إليه الأستاذ عمرو المير فأرفقت الدراسة الخاصة بالتفسير العلمى للقرآن الكريم، وإن جاءت الإضافة متأخرة لأنى لم أقرأ التعليقات إلا الآن، وكل عام وأنتم بكل خير.