المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الفراشات والغيلان الجزء الثاني ويليه الجزء الثالث



عزالدين جلاوجي
24/12/2007, 09:02 PM
الفراشات والغيلان

ج 2

- أرجوك شيخنا إلا أنا يجب أن أذهب معكم.. يجب أن أرافقكم.. أريد أن أرى أختي.. ابنة أمي وأبي، أريد أن أراها قبل أن توارى التراب.. ليس لي غيرها يا شيخنا..
وضمها الشيخ إليـه وهو يقول:
- لا يا بنيتي العزيزة ليس من مصلحتك الذهاب… دورك الآن عظيم… الوفاء لأختك هو أن تحفظي ابنـها وابنتـها.. وفي هذا خير كثير.. ليس هناك أعظم عند الله من كفالة اليتيم والعناية بـه.
ولزمت خالتي الصمت، إنها لا تجرؤ على مناقشة الشيخ أكثر من ذلك.. وانكفأت أنا على نفسي، لقد تغلغلت كلمة يتيم في قلبي خنجرا صدئا.
كان الرجال قد انصرفوا تماما.. ولم يبق إلا حشد من النساء اللواتي أحطن بالشيخ يسألنـه.. قالت إحداهن:
- ونحن ماعسانا نفعل؟ هل سنبقى هنا حتى يدهمنا الوحوش فيفعلوا بنا كما فعلوا بإخواننا؟
وردت أخرى كانت بجوارها.
- يجب أن نرحل، لن....
وقاطعها صوت شاب مازال وجهه أمرد
- بل يجب أن نقاوم.. نموت جميعا ولا نترك أرضنا.. نموت جميعا ولا نستسلم.. هؤلاء لا يفهمون إلا لغة القوة.
وارتفع ضجيج الجميع.. كل يدلي بدلوه وكل يبدي رأيـه.. واختلطت الأصوات.. ولم أعد أفهم شيئا.
وأسكتـهم الشيخ بإشارة من يده فتوقفوا جميعا دفعة واحدة.
- حين نعود من دفن شهدائنا سنقرر ما نفعل، عودوا إلى بيوتكم ساكنين.
واندفع الناس عائدين إلى بيوتـهم فيما لحق الشيخ بالرجال الذين كانوا يحملون الفؤوس والمعاول والمجرفات، واتجهوا جميعا عبر الدرب الملتوي إلى القرية الشهيدة.
ما إن ساد السكون والهدوء حتى أسرعت ابنة خالتي زينب فأخذتنا إلى غرفة الحمام واغتسلنا أنا وعثمان أولا.. ثم عائشة ثانيا وبدلت ألبستنا جميعا.
ضمدت خالتي جرح عائشة بشيء من المراهم والضمادات، وأحضرت لنا طعاما فأكلنا واستسلمنا لنوم عميق.. يجب أن نستريح.. لقد تعبنا.. لقد سرقت منا الفاجعة كل جهد.


-2-
وقع أقدام تقترب.. ضجيج لا يكاد يفهم.. غبش يغازل عيني المثقلتين تعبا.. المتعبتين نعاسا.. رؤوس تتراقص على ضوء مصباح خافت.. تتداخل الرؤوس.. تتدافع.. تنزل.. تعلو.. تظهر.. تختفي..
بدأت الرؤيا تتضح.. راحت عضلات جفني تنسحب بقوة للأعلى.. انفتحت نوافذ عيني على مصراعيهما.. اتضحت الرؤيا.
لقد عادوا.. هاهم أمامي يتدافعون والصمت سيد الموقف.. هل أنجزوا المهمة؟ هل نجحوا فيما ذهبوا من أجله؟ أعادوا جميعا أم عاد بعضهم ومنع البعض الآخر؟ كانت مغامرة صعبة محفوفة بالمخاطر.
هذا الشيخ وقد شحب وجهه وتبرج التعب عليـه يفتح عينين محمرتين تدوران في حيرة شديدة، عن يمينه زوج خالتي وابنه خالد وحوله رجال.. شباب وكهول لا أعرفهم، وإن كنت أعرف ملامح بعضهم إذ طالما زرت خالتي في المواسم والأعياد والعطل..
وطالما رأيت هذه الوجوه الجامحة كوجوه الخيل..
المتعالية كرؤوس السرو..
المكابرة كهذه الأرض..
المستعصية كهذه الجبال الشواهق الشوامخ..
البريئة كعيون الأطفال..
السمحة كلون الحمام الوديع..
ذلك الكهل المفتول العضلات هو الذي سلخ كبش العيد الأقرن في بيت خالتي المرة السابقة..
الأصلع صاحب النظارة بجواره معلم في مدرسة القرية والحكواتي الذي يجتمع إليه السكان كل مساء فيقص عليهم القصص الممتعة.
ودون أن أتحرك من مكاني.. دون أن ألفت الأنظار إلي سألت نفسي.. لماذا عاد الرجال بهذه السرعة؟ ماذا وقع؟ أنا متيقن أني لم أنم إلا دقائق قد لا تتجاوز النصف ساعة هل قدروا على دفن الموتى بهذه السرعة العجيبة؟ مستحيل..
هل هاجمهم جنود الصرب فعادوا أدراجهم؟ يمكن ذلك.
وسرت قشعريرة الخوف في جسدي كله فانكمشت تحت الغطاء وسحبتـه ليتجاوز رأسي..
لم تغادر الصورة الفضيعة ذاكرتي، كانت تظهر بوضوح أمام مخيلتي، حاولت جهدي أن أبعدها، وضعت كفي الصغيرين فوق عيني لكن دون جدوى.. كان القلب يقظا.. وعيناه مفتحتين.
هاهي أمي في بركة دمها الأحمر القاني..
وهاهي جدتي مهشمة الرأس..
وها والدي متهالك بالقرب من عمتي الأصغر..
وها هي عمتي الخرساء شمسا مغتالة فوق تراب الأرض وقد سال نجيعها المتألق..
وها هم الجنود ينبحون في أذني بقوة كأنهم كلاب مسعورة.
وكبح الشيخ جماح خيالي وهو يرد في أسى على سؤال خالتي التي ألحت في طرحه ربما للمرة العاشرة.
- لقد سبقنا أعداؤنا إلى هناك.. حفروا حفرة عميقة بالحافرة وألقوا كل الجثث فيها ثم أهالوا عليها التراب ودكوها دكا.. إنها مقابر جماعية.. إنهم يطمسون آثار جرائمهم.. يخفون معالم توحشهم.
هكذا يا بنيتي يفعل البشر حين يتجردون من إنسانيتـهم..
هكذا يفعلون حين يتجرأون على القيم.. ويغتالون المبادئ..
هكذا يفعلون حين ينـهض وحش الأنانية في نفوسهم ويقتل صوت ضمائرهم.
لسنا الأُوَل يابنيتي ولن نكون الآخيرين.. والنصر دوما يا بنيتي للشعوب الصامدة المكافحة الرافضة للذل.. وليس ما وقع لإخواننا في البوسنة بالذي يخفى..
ها الزمان يمر..
وها التاريخ يلعن المتوحشين ويدين الكلاب المسعورة..
وها أبناء البوسنة لم تزدهم الجرائم إلا عزما وكبرياء…
لا تبك بنيتي هؤلاء الأبرياء الذي دفنوا في رحم الأرض.. سينبتون زهورا للخير والحب والتسامح نواجه بـها غيلان الشر والأنانية.
كنت أسبح في عالم الملائكة.. عالم الطهر والنقاء والمحبة.. وأنا أسمع هذه الخطبة الطويلة.
وكانت خالتي المجروحة تجلس القرفصاء تنتحب قرب أختي الصغيرة المستغرقة في نوم عميق.
لم أر خالتي من قبل في الحالة التي رأيتها فيها الآن..لقد تلبد شعرها الحريري اللماع.. واكفهر وجهها.. وتشققت شفتاها.. وزاغت عيناها المسيجتان بقضبان من اليأس والحزن العميق.. العميق.
وضعت زينب صينية الشاي وسط الدار وملأت الكؤوس فأترعتها.. قليلون مدوا أيديهم لارتشاف الشاي ساخنا.. كثيرون كفوا أيديهم.. ليس هناك شيء ألذ ولا أحلى وقد عصرت الفاجعة مرارتها في فم الجميع…
وأحسست أن كلامهم قد قلَّ.. جمل يلقيـها الحاضرون هنا وهناك فتخرج متـهالكة متعبة تتأرجح على الشفاه الجافة اليابسة.. الواقع أبلغ من الكلام وأشد وطء وأكثر قيلا.. الواقع الآن جبار يتعفرت.. يشهر خطر الفناء.. وأنَّى للكلمات يصنعها اللسان أن تجبر الخاطر، أو تبلسم الجراح، أو تضمد الرعب والخوف؟
ولعل أكثرهم حماسا وحديثا سليمان ابن خالتي حتى كاد يتحول في الجمع خطيبا فيسرق الأضواء من الشيخ.
وابن خالتي فتى قارب الثلاثين يميل إلى الطول والنحافة، فيه كثير من صفات أمه… لونها.. خضرة عينيها.. جمال ملامحها.. بريق شعرها.. جمالها الفياض البالغ حد العنف أحيانا.
وهو فوق ذلك متعلم متفوق في تعلمه زار كثيرا من بقاع الأرض وخبـر الشعوب والأمم.. درس بمدينة الرسول ومسجده ونحن نحب مثل هؤلاء المتعلمين ونقدرهم.. وزار أمريكا وأنجلترا واليابان، لقد كان دوما قدوة الشباب ومضرب أمثالهم.
كان يدعو الجميع للثورة والمقاومة، فإما النصر وإما الاستشهاد.. لابديل عنهما.. كان مصرا على التحاق الجميع بالجبال المجاورة.. الشيوخ والأطفال والنساء والرجال.. الجميع دون استثناء يجب أن يقاتلوا ليس هناك خيار.
أرض كوسوفا كما قال أرضنا..
من تربتـها نبتنا..
من أريجها أينعنا وأزهرنا..
وعليـها.. فيـها يجب أن نموت..
بين شغاف قلبـها الدافق ندفن..
وهل نحن أول من مات من أجل هذه الأرض..؟
ولن نكون آخر من يموت طبعا..
هذه الأرض قادرة على الإنجاب دائما.. ولن نكون أقل شأنا من أجدادنا.. ولن نترك العار لأبنائنا وأحفادنا.. لابد أن نقاوم، وما سنخسر بعد خسران الأرض.. الأمِّ.. الثدي.. الحضن.. القلب.. الشريان.. الوريد.. الدمِّ..
الدمِّ الأحمر الفوار المتدفق..
النجيع الطاهر الهادر..؟
وهل هناك ما هو أثمن من ذلك وأعز وأغلى؟ وماذا نساوي نحن دون الأرض غير كتلة لحم بلا جذور.. بلا انتماء.. تتقاذفها الحوادث لتنتهي في مكان ما.. في زمان ما.. وتنتـهي إلى الأبد؟؟؟
أعجبني كلامه كثيرا فازددت حبا له وتقديرا.. وتمنيت في قرارة نفسي لو كنتـه.
وأضاءت وجوه الشباب حوله، وأسفرت سماؤها عن إشراقة كادت تبدد سُحب العبوس والقنوط، وكذا ظهر وجه الشيخ وهو يضرب على كتف سليمان ويقول :
- بوركت سليمان.
لكن الشيخ عاد فدعا للتروي وتحكيم العقل حتى لا يقع شعبنا في فخ العدو الماكر الذي يسعى إلى أن يدفع بنا إلى مواجهة غير متكافئة، وبالتالي إلى الموت الجماعي، أي الانتحار حمقا وغباء.
وسكت الجميع مقلبين أبصارهم بين الشيخ والفتى، لقد هزتـهم فتوة سليمان وفاتتـهم حكمة الشيخ.
وارتفع آذان العشاء فقطع حيرتهم، وقام الشيخ من مكانه، وهو يقول:
- بعد صلاة العشاء نجتمع في المسجد لابد أن نخرج بقرار هذه الليلة يخرجنا من حيرتنا هذه، ويفوت الفرصة على أعدائنا.
واندفع الشيخ خارجا، فاندفع الجمع خلفه، لم يبق في البيت إلا خالتي وابنتها ونحن الأطفال.. يضاجع عثمان وعائشة نوما عميقا.. ونسامر نحن صمتا رهيبا مفزعا.
حاولت أن أعود إلى النوم لكني لم أستطع، كنت تعبان.. منهك القوى.. خائر النفس.. مذعور القلب.. تتلاعب أمام عيني كوابيس القتلى والنار والدخان والبيوت المخربة.
وبينما اتكأت زينب لتنام كان نحيب خالتي مازال يشق سكون الليل البهيم، ربابة حزينة الإيقاع … يتيمة الدمع.. لم تستطع أن تتماسك ولا أن تفطن من الصدمة التي وقعت على قلبها الرقيق.
وخالتي شبيـهة أمي في كل شيء.. قدَّها.. امتلاء جسدها.. إشراقة وجهها.. احمرار وجنتيـها.. غزارة شعرها الأشقر الطويل الذي تعودت أن ترسله غدائر.. وعاطفتـها الجياشة.
كانت أمي – رحمها الله- تبكي لكل شيء حتى للفرحة.. تشرق على تضاريس وجهها المتألق.. وتعبق على شفتيـها الرقيقتين.
وكانت تحرم نفسها حتى من ألذ ما تشتـهي لتؤثر بـه الآخرين مهما كان هؤلاء الآخرون.. ومهما كانت درجة قربـهم أو بعدهم عنـها.
وكانت كلما حل يوم الجمعة أعدت طعاما كثيرا لتأخذه معها إلى الجامع حيث تؤدي صلاة الجمعة مع والدي وجدتي، فتعطي ذلك الطعام للفقراء والمعوزين.
ولأنها كانت ماهرة في إعداد أكلاتها الشعبية كانت مضرب المثل في القرية كلها، يستهوي طعامها كل من يذوقه.
وكثيرا ما سمعت أولئك المعوزين الضعفاء المستفيدين من أكلاتـها يرفعون أكف التضرع إلى الله داعين لـها بالخير والحفظ.
وهاهي تموت مقتولة قتلة شنيعة.. لعل الله لم يقبل دعوات أولئك المساكين.
وتحركت أختي الصغيرة عائشة تئن أنينا ضعيفا متقطعا.. فمسحت خالتي دموعها.. استدارت إليها.. ثم أدخلتها حضنها محاولة إعادتها للنوم.
عاد زوج خالتي من صلاة العشاء مهموما، لم يحرك شفتيه، ولم ينطق حتى بالتحية.. انزوى فوق كرسي كان في ركن الحجرة وغرق في التفكير.
ذبحت خالتي صمتـه وهي تسأله.
-ماذا قررتم؟
واصل زوجها طقوس السكوت الحزين فزادت دقات قلبي.. كنت أخشى قرارا مهلكا رغم أني كنت أضع كل ثقتي في الشيخ وحكمتـه.
ولكن أيًّا كان القرار سيكون مفزعا.. ليس لنا خيار، إما المقاومة، وبالتالي التشرد في الجبال المجاورة، ودخـول حرب شرسة، وأعداؤنا يـملكون العدد والعدة.. طائرات.. مزمجرات.. شاحنات.. مدافع.. وجنودا متوحشين مات فيـهم الضمير الإنساني.
وماذا نملك نحن غير هؤلاء البسطاء الذين يفيضون حماسا وتعلقا بالأرض؟
وإما الهجرة.. الهجرة إلى المجهول المخيف المرعب حيث قد نضيِّع كل شيء حتى كرامتنا.
ومزق زوج خالتي شرنقة الصمت، فحدثها أن كل رجال القرية قد اجتمعوا واستقروا على رأي واحد.
وسكت مليا يبتلع ريقه ويعبث بشعر وجهه الذي أطل إلى النور منذ أيام ولم يحلقه.. وخلت هذا المَلِيَّ دهرا، ماذا قرروا؟.. بـماذا حكموا؟
وضجرت خالتي فسبقتني للسؤال.
-انطق، لماذا تقتلنا بصمتك؟
وانتبه زوج خالتي من شروده كأنما لسعتـه أفعى
-أجمعنا على رأي واحد.. الهجرة والمقاومة.
ودخلتُ من جديد دوامة الحيرة.. هذان أمران لا أمر واحد.
وأحس هو بالحيرة في نفوسنا، فأسرع يقطعها، وهو يركز نظراتـه صوب خالتي
-يهاجر الأطفال والنساء والعجزة وبعض الكهول، ويتطوع الباقي للمقاومة.. لا يجوز أن يقول عنا الأعداء أننا تنازلنا عن عمقنا وجذورنا.
وتمنيت لو أن خالتي تسأله عن سليمان.. أين هو الآن..؟ هل سيفارقنا ليلتحق بالمقاومين؟ هذا احتمال قوي جدان بل لعله سيكون أول من يتطوع، وهو أمر بقدر ما يثير في نفسي العزة والافتخار، بقدر ما يزرع فيـها أشواك الخوف واليأس.
لكن خالتي لم تبرح محراب صمتها، نصبت ذراعها اليمنى.. وضعت رأسها في كفها كأنه، رأس تمثال يقف على قاعدته، ومدت ذراعها الأخرى تحتضن عائشة الصغيرة، وسافرت في دروب من التفكير.
لعلها الآن في القرية حيث ماتت أسرتي وكل السكان..
لعلها في المنفى حيث التشرد والجوع والبرد والضياع..
لعلها في الجبال مع ابنـها فلذة كبدها سليمان.. سليمان ابنـها الأكبر الوحيد.
لم تسأل خالتي، أنا أعرفها جيدا، كانت تحمل بين جوانحها نهرا دفاقا من العواطف، ومعه إعصار من الكبرياء والعزة والأنفة.
وبادرها زوجها يخبرها أن ابنهما سليمان سيلتحق بجيش التحرير مع غيره من الشباب، ولقد تم الاتصال والاتفاق على كل الخطوات.
أما هو فسيرافق العائلة حتى الحدود الألبانية طلبا للنجاة.. ليست النجاة من أجل النجاة.. بل من أجل المقاومة.. ليست النجاة من أجل نجاة الأبدان.. بل من أجل نجاة الوطن..
لا بد من الخروج ليكون الشعب بمنأى عن التقتيل والتنكيل.
يجب أن نستمر لنبقى غصة في حلوق الظالمين..
يجب أن نستمر لنبقى حصنا أمام عواصف الشر..
وانفجرت خالتي منتحبة، لم تتفوه بكلمة واحدة تماما، لكن بكاءها كان رسالة واضحة.. كانت رسالة رفض مغادرة الأرض التي امتزجت تربتها المعطاء بدمها وعرقها.. بذكرياتـها وآمالها… بآلامها وأحلامها.
وداهمها زوجها بسيل من الشروحات والتحليلات الكثيرة المعقدة التي لم يهضمها عقلي الصغير، فانفصلت عنهما، وعادت بي الذكرى إلى قريتي الصغيرة الآمنة الوديعة.
تذكرت بكورنا كل صباح نسابق الطير إلى الطبيعة..
تذكرت بقرتنا الحلوب التي أقبلها كل صباح كما أقبل أفراد أسرتي..
تذكرت أصدقائي حين نتجمع عند الساحة العامة وننطلق كالعصافير.. كالفراشات.. نعدو.. نسابق.. نقفز.. تتعالى ضحكاتنا وأحلامنا وآمالنا..
تذكرت المعلم داخل القسم وهو يحرضنا على التنافس.. ترى أين هو معلمي الآن؟ وأين هم أولئك الأصدقاء؟ أمات الجميع حقا فلم ينج إلا عثمان؟ أم نجا غيره؟
وتراقصت بين عيني صورة لعبتي المهشمة، والحوافر البغلية تدوسها فتتطاير أجزاؤها هنا وهناك.
مازالت خالتي تركن إلى الصمت.. ومازال زوجها يروي قصصا مفزعة عن جرائم الصرب في القرى المجاورة، أما الآخرون فكانوا جميعا يغطون في نوم عميق.. عميق..
أحسست بتيار بارد يلسع رأسي فتدثرت بالغطاء وغرقت في النوم.


-3-
تناهى إلى سمعي وقع أقدام وأصوات وحركات وهمسات تملأ الحجرة.. فركت عيني، يظهر أني شبعت نوما هذه المرة.. تأملت ساعة الحائط على الضوء الخافت الذي كان ينبعث في استحياء شديد داخل الحجرة كان العقرب الصغير عند مشارف الخامسة، في حين راح الكبير يلهث متسلقا المرتفع ما بين السابعة والثامنة.
خالتي.. زوجها.. سليمان ابنهما.. أخته زينب.. كلهم كانوا هناك يعملون.. يكومون الأمتعة والأثاث واللباس وسط الحجرة.
أدركت أنـه الرحيل وقد أزفت ساعة الهجرة… من هنا تبدأ… وإلى أين تنتـهي..؟؟ الله أعلم.. كل الذي نعلم أنـها مغامرة صعبة سنخوض خلالـها عباب بحر مارد جبار.. أين ومتى سترسوا قواربنا؟ لسنا ندري.. الأمر موكل للمقادير.. الله وحده يعلم غيبنا.
كان الظلام لا يزال يخيم على القرية.. ونسمات هواء بارد تتسرب من النافذة التي فتحت قليلا.
اكتشفت أن العيون قد اكتشفت يقظتي، فانسللت من فراشي حتى لا أوقظ عائشة.. قمت.. حيَّيْتُهم.. وقصدت المغسل.. ثم عدت فأنهضت صديقي عثمان، وقدمتـه إلى المغسل أيضا..
هناك عادت إلى مخيلتي ذكريات الأيام الماضية الحلوة حين كنت أقصد بيت صديقي عثمان كل صباح لنصطحب معا إلى المدرسة..
كانت أمه - رحمها الله - توصينا خيرا ببعضنا البعض، ثم لا تدعنا ننصرف حتى تملأ محافظنا طعاما خفيفا.. حلوى.. كعكا.. وفواكه.
كنا فرسي رهان، يسبقني تارة، وأسبقه تارة أخرى.. وكان هذا التنافس الحاد يعجب معلمنا فيشجعنا عليـه، ويفخر بنا أمام زملائه المعلمين، وأمام السيد المدير.. وكان الجميع يمطروننا بغيث من التشجيعات والجوائز.
وتذكرت الجوائز.. كل الجوائز التي حصدتها على مدار السنوات الدراسية احتفظ بها في خزانة الكتب في قسم سميته قسم الجوائز.. ماأتعسني! نسيت كل ذلك.. صوري.. جوائزي.. كتبي.. نسيتـها في البيت.. احترقت.. نهبت؟؟ لست أدري.. ووجدت نفسي أخطو خارجا.
وأثناني عن اندفاعي صديقي عثمان وهو يسأل :
- إلى أين تريد؟
واحترت بماذا أجيبه؟؟؟ هل أخبره أني عائد إلى قريتنا لأحضر جوائزي وصوري..؟؟ سيضحك مني ويعتبر التصرف عبثا أو ربما سيصر على مرافقتي ليحضر هو أيضا جوائزه.. هل أكذب عليـه لأتخلص مما وقعت فيـه؟
وأنقذني من حيرتي وهو يطرح سؤالا آخر.
- قل لي يا محمد، على أي شيء استقر رأي الكبار؟ منذ أن نمت لم أفطن حتى الساعة.. كنت متعبا جدا ونمت كالميت تماما تماما.
وباختصار شديد أعلمته حقيقة الهجرة الشاقة المتعبة نحو المجهول فتقبل ذلك بامتعاض شديد ولم يعقب.. ثم عدنا حيث الجميع وانـهمكنا في تناول فطورنا.. دعانا زوج خالتي إلى الاستعداد.. لابد أن نكون رجالا أشداء.. إن الرحلة ستكون طويلة شاقة بدون شك.. وستكون محفوفة بالمخاطر الجسام.. مخاطر الأمراض والصرب وتقلب الطقس.. إن الفصل شتاء والبرد شديد والزاد قليل.
وبسرعة ارتدينا ملابسنا وظهرنا في كامل الاستعداد.. من هذه اللحظة يجب أن نذبح الطفولة والبراءة.. يجب أن نكون رجالا.. القوة والصلابة والصرامة هي السبيل إلى نجاتنا وبقائنا أحياء.. فلنكن رجالا.
أذَّن الفجر.. خرج زوج خالتي وابنه سليمان إلى الجامع، فيما بقينا نحن نرتقب ساعة الانطلاق.
كانت زينب تحاول أن تجمع أكبر قدر ممكن من حوائج البيت.. أما خالتي فقد جلست إلى كرسي واتكأت على طاولة تعيش سبحاتها الحزينة، مازالت تبكي.. دموعُها نهر عظيم تفجر في عينيها، وليس غريبا عليـها لقد ذكرتُ أن عاطفتها مضطرمة مشبوبه دائما، تشبـه إلى حد بعيد عاطفة والدتي- رحمها الله -
وتلاعبت بين بصري صور المجزرة الرهيبة.. دخان ونار وجثث متـهالكة فوق بعضها بالعشرات.. هنا رؤوس بلا أجساد.. هناك أجساد دون رؤوس.. هنالك أجسام عارية وأخرى مكسوة.
وانكمشت على نفسي فزعا وأنا أذكر والدتي تضمنا إليـها في حضنـها الدافئ.. وأحسست بالدفء يغمر كامل جسمي.
أيـها الحنان ضمني إليك..
أيـها الشوق ذوبني فيك..
أيتـها الفرحة الراقصة..
يا ألوان القوزح في عيون الأطفال..
يا حلم الثوار الأبطال..
علت شفتي ابتسامة حلوة.. تكورت على نفسي.. دحوت جسمي كله.. وفجأة اندفعت واقفا صارخا وصوت الرصاص يلعلع فوق ظهر أمي فيحفر فيه خنادق للحقد.. تتدفق براكين دم يفيض فوق جسدي ساخنا دافئا كالحلم
هرعت إلي خالتي فضمتني إليـها محاولة تـهدئتي
- ولدي العزيز، لا تخف أنا معك.
وتماسكت ثم انفجرت باكيا.. كانت عائشة ترقبني في حيرة، وبقربها كان يقف عثمان تمثالا مرمريا ينحدر الدمع من عينـه حبات لؤلؤ.
ولمعت على شاشة ذاكرتي صورة الطفلة الأرنبة أخت عثمان… عسكري ثخين بدين… أصابعه مخالب… أذناه طويلتان… أسنانـه تلمع خارجة بين شفتيـه.. أنفه خرطوم ممتد كجذع شجرة مجتثة يابسة.. كسن فأس.. والمسكينة ذات العام الواحد مقطوعة الرأس محمولة في يده اليمنى من ساقها الأيسر والدم ينزف من رقبتها.. هي أرنب.. لا بل طفلة.. لا بل أرنب.. واختلطت الصور أمام عيني تستفز عواطفي.. أرنب مسلوخة.. وطفلة عارية مقطوعة الرأس.
بدأت الحركة تدب في القرية.. وتناهت إلى مسامعنا أصوات جرارات وشاحنات.. عجلنا بإخراج الأمتعة.. وضعناها في عربة يجرها حصانان.. هي كل ما يملك زوج خالتي المزارع البسيط
مازال النـهار لم يسفر عن وجهه لقد كاد يرفع برقع الليل لتتجلي ملامحه..
من هنا..
في هذه اللحظة ستبدأ الرحلة..
الهجرة..
الهروب..
التيـهان..
سيرسم التاريخ مأساة بشرية أخرى..
رتبنا الأمتعة وأسرعنا نركب.. تكومنا جميعا على خشبة العربة إلا خالتي التي كانت تتمسح بالجدران.. تتمرغ على الأرض.. تعفر وجهها بالتراب في هستيرية وجنون.. وحين هرع إليـها زوجها ليأخذها نفرت غزالة شاردة إلى شجرة عالية متعرشة… احتضنتـها وراحت تقبلها.. تدخلها قلعة الحب.. تجلسها عرش الرباط المقدس.. الميثاق الغليظ.
يقال أن هذه الشجرة المباركة قد زرعتـها مع زوجها حين اقترنا… ورعياها معا… يخشيان عليـها هبوب الرياح.. ووقع البرد.. وحتى النمل حين يتسلق أغصانها وأوراقها.. يغسلانها كل عام فننا فننا… ورقة ورقة … برعما برعما.
وها هي ذي شامخة ذات أغصان وأفنان… وذات ورق وثمار… يجمعان كل عام ثمارها… ويأكلون منها شهيا طيبا احتفاء بذكرى الزواج.
وتذكرت الأيام الخوالي حين كنت أجيء مع والدتي لنحضر هذا الاحتفال، ونأكل من ثمار هذه الشجرة المباركة كما تسميـها خالتي.
ووجدتني أتسلل بعيدا عن الجميع اعتلي أكمة صغيرة.. ورحت أتطلع بعيني الصغيرتين إلى القرية.. إلى مهدي الدافئ حيث نبت لحمي، وأينعت ذكرياتي، وأزهرت آمالي الصغيرة الحلوة.
كانت آخر أردية العتمة قد تهلهلت، وغدت خرقة رثة بالية تهاوت شراشيفها..
وها الفجر راح يمد خيوطه يسعى على الأرض في كبرياء..
وها ملامح القرية تظهر من بعيد عروسا تنام في حضن الجبل، تجللها الأشجار الخضراء الوارفة من كل جهة..
ولم يكن يظهر بجلاء إلا منارة المسجد تشمخ بقامتها، تبكي في حزن رجالا اجتمعوا متطوعين لبنائها ذات صيف وأقاموا عندها حفلا جليلا.
أتصمدين أيتـها المنارة لتبقي شاهدا على أهل القرية؟؟؟ تحكين لكل من يمر بك قصتـهم..
براءتـهم..
جريمة مقتلهم؟ ؟؟
أم أنك ستكتفين برفع الشكوى إلى السماء.. ثم تخرين متـهاوية إلى الأرض..
وأحسست بيد كبيرة تمسكني بحنو كبير من ذراعي اليمنى وتجرني إليـها قائلة :
- لا تحزن إنك عائد إليـها يوما.
كان زوج خالتي قد تبعني حيث أنا.. كانت ملامحه توحي بالتعب الشديد.. تَعِبَ في جمعنا.. وتعب في تضميد آلامنا.. وتعب أيضا في كبت جرحه النازف..
الرجال لا يبكون من عيونـهم بل من ملامحهم.. الرجال لا يبكون دمعا.. وإنما يركمون سحابا أسود قاتما على وجوههم.
تكومنا في العربة الخشبية الباردة رغم ما فرشتـه خالتي تحتنا.. كان الجميع قد حضر نساء ورجالا.. أطفالا وعجزة.. اختلطت أصواتـهم مع نباح الكلاب، وثغاء النعاج، وصياح الديكة.
وأعطى الشيخ إشارة الانطلاق فهرع الجميع في صف كبير تاركين قريتـهم وأرضهم وديارهم ميممين شطر المجهول.. شطر التشرد والضياع.
كل الرؤوس كانت تتمايل ذات اليمين وذات الشمال.. كان الطريق وعرا مليئا بالحفر الصغيرة والحجارة.. وكل العيون كانت تعانق خلفها تضاريس القرية تضمخها بأريج المآقي.
دس عثمان رأسه في حضني فضممته إلي وغطيته.. لقد فقد هذا المسكين كل شيء ولم يعد له من صدر حنون يتكئ عليه… ولعله لن ينام في حضني… لعل خواطره ستذهب بـه بعيدا بعيدا.. إلى أسرته.. إلى ذكرياتـه.. إلى القرية.. إلى المدرسة.. إلى مستقبله المظلم المجهول.. لست أدري.
أثار فضولي زوج خالتي الذي كان يقود العربة لم يكن ينظر أمامه.. كان الحصانان يتبعان الطريق بغريزتـهما.. بل يتبعان العربات التي قبلهما..
لم يكن زوج خالتي يقطع بصره خلفه إلى القرية.. أليست هي مهده وحضنـه ومنشأه؟؟ أليست هي مغرسه ومعرسه؟؟
في كل شبر منها شيء من ذكرياته.. من آلامه وآماله.. ليس أصعب من أن يترك المرء كل ذلك خلفه.. لقد انسلخ من عمره.. بل انسلخ من أجمل أيام عمره التي يعجز عن إعادتـها فيستحضرها بالذاكرة.
وتركت زوج خالتي لأكتشف أن الجميع قد تعلقت أبصارهم بالقرية في صمت مطبق لا يقطعه إلا أزيز المحركات وصرير العربات.
في المقدمة كان الشيخ ومعه بعض القادرين من الرجال على المشي، كانوا يقطعون المسافة كلها من رأس القافلة إلى آخرها.. يعينون من يحتاج إعانة.. ويوجهون من يحتاج توجيها.. ويبعثون في الجميع الأمل.. الأمل الذي لم يجد قلوبا قادرة على احتضانـه.. ولا وجوها قادرة إلى إشراقه.
على وجوه الجميع كان الحزن يتربع إمبراطورا جبارا يلسعها بسياط الحيرة والأسى.. ومن عيون الجميع كانت تتـهاطل الدموع… دموع متبرجة ودموع متحجبة.
بدأت القافلة الآن تغوص وتتوغل بين الجبال الشامخة… جبال اكتست حلة خضراء من الأشجار الملتفة السامقة… وكللت رؤوسها عمائم بيضاء من الثلج… كانت تظهر كالشيوخ يجلسون في وقار… ماذا تخفي هذه القمم العالية خلفها؟؟ أي سر دفين في أعماق هذه الغابات القاهرة؟ لعل رجال جيش التحرير يتخذون من هذه الأماكن مأمنا وملجأ.
وأحسست بالنشوة والعزة..
مازال في شعبنا الأبي من يقاوم..
وحين نكبر سنقاوم..
وحين يبزغ الأبناء والأحفاد نقاوم..
حتى نسترد عزتنا وكرامتنا.
وخطر في بالي خاطر مفزع، ألا يمكن أن يكون في هذه الغابات أعداؤنا؟؟ وسرت في جسدي قشعريرة وأنا أتخيلهم يباغتوننا.. ويعملون فينا أسلحتهم.. مخالبهم.. أنيابهم..
يقطعون رؤوسنا..
يغتالون الأمل من قلوبنا.
نظرت إلى الجبال.. تأملتها.. حاولت أن أتنبأ بأسرارها.. لا شيء فيها سوى حزن عميق… عميق.
أحسست بحركة غير عادية… تعالت الأصوات محدثة ضجيجا… هتكت ستار الصمت السميك… وقفت داخل العربة… نظرت إلى مقدمة القافلة… لقد اعترض طريقنا جنود مدججون بالأسلحة… وخفق قلبي فزعا !! تراءت لي المخالب والأنياب… والخراطيم المدببة… والآذان الطويلة… والوجوه المكسوة شعرا… ولمحت الشيخ ومن معه من رجال يحثون الخطو نحوهم في غير خوف… وبدأت ملامحهم تتبين لي… كانوا رجالا عاديين من البشر تماما.. كيف كنت أتخيلهم على ذلك الشكل المفزع الرهيب؟ لم تكن تظهر على وجوههم علائم الشر.. وهدأت نفسي تماما، وأنا أرى الشيخ يعانقهم، ومثله يفعل الرجال..
هؤلاء إذن رجالنا.. أبطالنا..
ماأسعدني بملاقاتهم ورؤيتهم!
وشرع الشباب ينفصلون عن القافلة يودعون أهليهم في حرارة وينظمون إلى الجنود حتى شكلوا كوكبة كبيرة.. لمحت سليمان يحث الخطى نحو عربتنا، ونزلت خالتي وزينب وبدأ العناق الشديد بينـهما حتى كادوا جميعا يكونون شيئا واحدا.
وحضر زوج خالتي وراح يؤنب زوجتـه في تشجيع لابنـه.
- ابنك رجل يا امرأة، هو الآن أدرك واجبه نحو وطنه وأمته، فلا تحزني ولا تبكي، بل افرحي واسعدي، سليمان مفخرتنا ومفخرة الأمة جمعاء.
ومد سليمان أنامله يكفكف دموع أمه، وهو يقول لأبيـه:
- اهتموا بأنفسكم… طريقنا كلانا سيكون صعبا.. محفوفا بالمخاطر.. ولكن نهايته ستكون مزروعة بالورود الندية الفواحة
سكت لحظات ثم أردف يقول:
- الله معنا.. كل أحرار العالم معنا.. لا تخافوا لسنا وحدنا.. ارحلوا.. ستصلكم رسائلنا وأخبارنا، أينما تكونوا وحيثما تحلوا.
والتحق برفاقه لنصعد العربة حيث كنا، وما هي إلا لحظات حتى انطلقت القافلة من جديد دون أن يبرح الفتية أماكنهم، يرموننا بالحلوى والزهور.. ونرميهم نحن بالدعوات، وتلويح الأيادي، والدموع الممزوجة بأفراح الأمل.
استمر سيرنا ذلك اليوم النـهار كله.. قطعنا وديانا وجبالا ووهادا وسهولا.. كنا نتوقف من حين لآخر يستطلع الدليل الطريق أمامنا ثم يوحي إلينا بمواصلة المسيرة.
الطريق محفوفة بالمخاطر الجسيمة.. والأعداء يتربصون بنا في كل مكان، ولعل قنابل قد وضعت تحت التراب في مكان ما، وهي الآن تتربص بنا لتنقض علينا فتغتال ما تبقى في قلوبنا من بسمات وآمال.
الليل الحالك المظلم وحش مفترس يلهث خلف النـهار فيلتـهم أطرافه التـهاما.. تعبت البـهائم.. وتعبنا نحن أيضا، وزاد عددنا.. صرنا أضعافا، لقد انظم إلى القافلة مئات من الفارين شيوخ وعجائز.. رجال ونساء.. كبار وصغار.. اختلفت أعمارهم وأشكالهم، واتفقوا جميعا في ملامح الحزن والأسى التي كانت تعربد فوق الوجوه الشاحبة الصفراء المتعبة.
توقفت القافلة.. تفرق الناس فملأوا سفح الجبل المعشوشب الندي.. تهالكت العجائز والشيوخ والأطفال يطلبون بشيء من الراحة، لقد أنهكهم السفر.
وشرع القادرون في إعداد أماكن النوم وإشعال النار وتحضير الطعام.
دبت حركة غير عادية.. وتعالت ألسنة اللهب ووهيج الجمر.. وارتفعت روائح أطعمة مختلفة متنوعة.
انزويت بعيدا بمعية عثمان، ورحت أرقب المشهد بصمت.. تذكرت أيام الصيف حيث كنت أقصد والعائلة شواطئ البحر، فنتمتع برماله الذهبية ومياهه الدافئة الناعمة، أو حين نقصد غاباتنا العذراء المفعمة بالعذوبة والفتنة.
وكيف كانت العائلات تلتقي على الطعام الواحد..
ننضجه جميعا..
ونأكله جميعا..
نغني.. ونرقص إلى آخر الليل..
ثم ننام لنقوم صباحا..
إن سحر تلك الأماكن لا يقاوم أبدا.
عين الشيخ رجالا للحراسة والتناوب عليـها واجتمع الباقون معه يتسامرون.. يتعارفون.. ويتحدثون عن واقعهم ومستقبلهم.. ويروون قصصا خيالية عن مجازر اقترفها أعداؤنا في حق العزل من العجزة والرضع والنساء خاصة.. واقترب منا زوج خالتي فطلب منا أن نذهب للعشاء.
تركنا جمع الرجال، وقطعنا جموع الناس حتى عربتنا.. كانت عائشة تنام في حضن أغطية دافئة، بينما جلست خالتي وزينب وفتاة أخرى لم أرها من قبل يتناولن العشاء في صمت.. جلست مع عثمان.. قدمت خالتي لنا الطعام، فأكلنا وكلي فضول إلى معرفة سر هذه الفتاة.. أهي من أبناء القرية قصدت عائلة خالتي للزيارة فحسب؟؟ أم هي من قرى أخرى طوح بها التشريد كما طوح بنا؟؟ ولماذا قصدتنا نحن بالذات إن كان الأمر كذلك؟ وما السر الذي تحمله؟؟
وهممت أن أسألها عن كل ما دار في خلدي لكني تراجعت وكتمت الأمر في نفسي.. ليس كل ما يعلم يقال.. كما كان يوصينا معلمنا دائما.
حين اكتفينا من الأكل دعتنا خالتي أن نركن للنوم لقد كان السفر متعبا وإن تعب يوم الغد سيكون أشد.
نظرت إلى عثمان، فهمت من عينه أنه لا يريد النوم، وتلك كانت رغبتي.. لابد أن نعود حيث الرجال.. يجب أن نستمع منـهم..
كان الجمع قد اكتمل.. مئات الرجال والشباب والشيوخ يتبادلون أطراف الحديث مجموعات مجموعات، ومنـهم من انفرد بمذياع راح ينتقل من إذاعة إلى أخرى يسمع آخر الأنباء.
انجذبنا إلى حلقة الشيخ حيث كان زوج خالتي فقعدنا بجانبـه.

يـــــــــــــــــــتـــــــــــــــــبـــــــــــ ـــع 3

عزالدين جلاوجي
24/12/2007, 09:02 PM
الفراشات والغيلان

ج 2

- أرجوك شيخنا إلا أنا يجب أن أذهب معكم.. يجب أن أرافقكم.. أريد أن أرى أختي.. ابنة أمي وأبي، أريد أن أراها قبل أن توارى التراب.. ليس لي غيرها يا شيخنا..
وضمها الشيخ إليـه وهو يقول:
- لا يا بنيتي العزيزة ليس من مصلحتك الذهاب… دورك الآن عظيم… الوفاء لأختك هو أن تحفظي ابنـها وابنتـها.. وفي هذا خير كثير.. ليس هناك أعظم عند الله من كفالة اليتيم والعناية بـه.
ولزمت خالتي الصمت، إنها لا تجرؤ على مناقشة الشيخ أكثر من ذلك.. وانكفأت أنا على نفسي، لقد تغلغلت كلمة يتيم في قلبي خنجرا صدئا.
كان الرجال قد انصرفوا تماما.. ولم يبق إلا حشد من النساء اللواتي أحطن بالشيخ يسألنـه.. قالت إحداهن:
- ونحن ماعسانا نفعل؟ هل سنبقى هنا حتى يدهمنا الوحوش فيفعلوا بنا كما فعلوا بإخواننا؟
وردت أخرى كانت بجوارها.
- يجب أن نرحل، لن....
وقاطعها صوت شاب مازال وجهه أمرد
- بل يجب أن نقاوم.. نموت جميعا ولا نترك أرضنا.. نموت جميعا ولا نستسلم.. هؤلاء لا يفهمون إلا لغة القوة.
وارتفع ضجيج الجميع.. كل يدلي بدلوه وكل يبدي رأيـه.. واختلطت الأصوات.. ولم أعد أفهم شيئا.
وأسكتـهم الشيخ بإشارة من يده فتوقفوا جميعا دفعة واحدة.
- حين نعود من دفن شهدائنا سنقرر ما نفعل، عودوا إلى بيوتكم ساكنين.
واندفع الناس عائدين إلى بيوتـهم فيما لحق الشيخ بالرجال الذين كانوا يحملون الفؤوس والمعاول والمجرفات، واتجهوا جميعا عبر الدرب الملتوي إلى القرية الشهيدة.
ما إن ساد السكون والهدوء حتى أسرعت ابنة خالتي زينب فأخذتنا إلى غرفة الحمام واغتسلنا أنا وعثمان أولا.. ثم عائشة ثانيا وبدلت ألبستنا جميعا.
ضمدت خالتي جرح عائشة بشيء من المراهم والضمادات، وأحضرت لنا طعاما فأكلنا واستسلمنا لنوم عميق.. يجب أن نستريح.. لقد تعبنا.. لقد سرقت منا الفاجعة كل جهد.


-2-
وقع أقدام تقترب.. ضجيج لا يكاد يفهم.. غبش يغازل عيني المثقلتين تعبا.. المتعبتين نعاسا.. رؤوس تتراقص على ضوء مصباح خافت.. تتداخل الرؤوس.. تتدافع.. تنزل.. تعلو.. تظهر.. تختفي..
بدأت الرؤيا تتضح.. راحت عضلات جفني تنسحب بقوة للأعلى.. انفتحت نوافذ عيني على مصراعيهما.. اتضحت الرؤيا.
لقد عادوا.. هاهم أمامي يتدافعون والصمت سيد الموقف.. هل أنجزوا المهمة؟ هل نجحوا فيما ذهبوا من أجله؟ أعادوا جميعا أم عاد بعضهم ومنع البعض الآخر؟ كانت مغامرة صعبة محفوفة بالمخاطر.
هذا الشيخ وقد شحب وجهه وتبرج التعب عليـه يفتح عينين محمرتين تدوران في حيرة شديدة، عن يمينه زوج خالتي وابنه خالد وحوله رجال.. شباب وكهول لا أعرفهم، وإن كنت أعرف ملامح بعضهم إذ طالما زرت خالتي في المواسم والأعياد والعطل..
وطالما رأيت هذه الوجوه الجامحة كوجوه الخيل..
المتعالية كرؤوس السرو..
المكابرة كهذه الأرض..
المستعصية كهذه الجبال الشواهق الشوامخ..
البريئة كعيون الأطفال..
السمحة كلون الحمام الوديع..
ذلك الكهل المفتول العضلات هو الذي سلخ كبش العيد الأقرن في بيت خالتي المرة السابقة..
الأصلع صاحب النظارة بجواره معلم في مدرسة القرية والحكواتي الذي يجتمع إليه السكان كل مساء فيقص عليهم القصص الممتعة.
ودون أن أتحرك من مكاني.. دون أن ألفت الأنظار إلي سألت نفسي.. لماذا عاد الرجال بهذه السرعة؟ ماذا وقع؟ أنا متيقن أني لم أنم إلا دقائق قد لا تتجاوز النصف ساعة هل قدروا على دفن الموتى بهذه السرعة العجيبة؟ مستحيل..
هل هاجمهم جنود الصرب فعادوا أدراجهم؟ يمكن ذلك.
وسرت قشعريرة الخوف في جسدي كله فانكمشت تحت الغطاء وسحبتـه ليتجاوز رأسي..
لم تغادر الصورة الفضيعة ذاكرتي، كانت تظهر بوضوح أمام مخيلتي، حاولت جهدي أن أبعدها، وضعت كفي الصغيرين فوق عيني لكن دون جدوى.. كان القلب يقظا.. وعيناه مفتحتين.
هاهي أمي في بركة دمها الأحمر القاني..
وهاهي جدتي مهشمة الرأس..
وها والدي متهالك بالقرب من عمتي الأصغر..
وها هي عمتي الخرساء شمسا مغتالة فوق تراب الأرض وقد سال نجيعها المتألق..
وها هم الجنود ينبحون في أذني بقوة كأنهم كلاب مسعورة.
وكبح الشيخ جماح خيالي وهو يرد في أسى على سؤال خالتي التي ألحت في طرحه ربما للمرة العاشرة.
- لقد سبقنا أعداؤنا إلى هناك.. حفروا حفرة عميقة بالحافرة وألقوا كل الجثث فيها ثم أهالوا عليها التراب ودكوها دكا.. إنها مقابر جماعية.. إنهم يطمسون آثار جرائمهم.. يخفون معالم توحشهم.
هكذا يا بنيتي يفعل البشر حين يتجردون من إنسانيتـهم..
هكذا يفعلون حين يتجرأون على القيم.. ويغتالون المبادئ..
هكذا يفعلون حين ينـهض وحش الأنانية في نفوسهم ويقتل صوت ضمائرهم.
لسنا الأُوَل يابنيتي ولن نكون الآخيرين.. والنصر دوما يا بنيتي للشعوب الصامدة المكافحة الرافضة للذل.. وليس ما وقع لإخواننا في البوسنة بالذي يخفى..
ها الزمان يمر..
وها التاريخ يلعن المتوحشين ويدين الكلاب المسعورة..
وها أبناء البوسنة لم تزدهم الجرائم إلا عزما وكبرياء…
لا تبك بنيتي هؤلاء الأبرياء الذي دفنوا في رحم الأرض.. سينبتون زهورا للخير والحب والتسامح نواجه بـها غيلان الشر والأنانية.
كنت أسبح في عالم الملائكة.. عالم الطهر والنقاء والمحبة.. وأنا أسمع هذه الخطبة الطويلة.
وكانت خالتي المجروحة تجلس القرفصاء تنتحب قرب أختي الصغيرة المستغرقة في نوم عميق.
لم أر خالتي من قبل في الحالة التي رأيتها فيها الآن..لقد تلبد شعرها الحريري اللماع.. واكفهر وجهها.. وتشققت شفتاها.. وزاغت عيناها المسيجتان بقضبان من اليأس والحزن العميق.. العميق.
وضعت زينب صينية الشاي وسط الدار وملأت الكؤوس فأترعتها.. قليلون مدوا أيديهم لارتشاف الشاي ساخنا.. كثيرون كفوا أيديهم.. ليس هناك شيء ألذ ولا أحلى وقد عصرت الفاجعة مرارتها في فم الجميع…
وأحسست أن كلامهم قد قلَّ.. جمل يلقيـها الحاضرون هنا وهناك فتخرج متـهالكة متعبة تتأرجح على الشفاه الجافة اليابسة.. الواقع أبلغ من الكلام وأشد وطء وأكثر قيلا.. الواقع الآن جبار يتعفرت.. يشهر خطر الفناء.. وأنَّى للكلمات يصنعها اللسان أن تجبر الخاطر، أو تبلسم الجراح، أو تضمد الرعب والخوف؟
ولعل أكثرهم حماسا وحديثا سليمان ابن خالتي حتى كاد يتحول في الجمع خطيبا فيسرق الأضواء من الشيخ.
وابن خالتي فتى قارب الثلاثين يميل إلى الطول والنحافة، فيه كثير من صفات أمه… لونها.. خضرة عينيها.. جمال ملامحها.. بريق شعرها.. جمالها الفياض البالغ حد العنف أحيانا.
وهو فوق ذلك متعلم متفوق في تعلمه زار كثيرا من بقاع الأرض وخبـر الشعوب والأمم.. درس بمدينة الرسول ومسجده ونحن نحب مثل هؤلاء المتعلمين ونقدرهم.. وزار أمريكا وأنجلترا واليابان، لقد كان دوما قدوة الشباب ومضرب أمثالهم.
كان يدعو الجميع للثورة والمقاومة، فإما النصر وإما الاستشهاد.. لابديل عنهما.. كان مصرا على التحاق الجميع بالجبال المجاورة.. الشيوخ والأطفال والنساء والرجال.. الجميع دون استثناء يجب أن يقاتلوا ليس هناك خيار.
أرض كوسوفا كما قال أرضنا..
من تربتـها نبتنا..
من أريجها أينعنا وأزهرنا..
وعليـها.. فيـها يجب أن نموت..
بين شغاف قلبـها الدافق ندفن..
وهل نحن أول من مات من أجل هذه الأرض..؟
ولن نكون آخر من يموت طبعا..
هذه الأرض قادرة على الإنجاب دائما.. ولن نكون أقل شأنا من أجدادنا.. ولن نترك العار لأبنائنا وأحفادنا.. لابد أن نقاوم، وما سنخسر بعد خسران الأرض.. الأمِّ.. الثدي.. الحضن.. القلب.. الشريان.. الوريد.. الدمِّ..
الدمِّ الأحمر الفوار المتدفق..
النجيع الطاهر الهادر..؟
وهل هناك ما هو أثمن من ذلك وأعز وأغلى؟ وماذا نساوي نحن دون الأرض غير كتلة لحم بلا جذور.. بلا انتماء.. تتقاذفها الحوادث لتنتهي في مكان ما.. في زمان ما.. وتنتـهي إلى الأبد؟؟؟
أعجبني كلامه كثيرا فازددت حبا له وتقديرا.. وتمنيت في قرارة نفسي لو كنتـه.
وأضاءت وجوه الشباب حوله، وأسفرت سماؤها عن إشراقة كادت تبدد سُحب العبوس والقنوط، وكذا ظهر وجه الشيخ وهو يضرب على كتف سليمان ويقول :
- بوركت سليمان.
لكن الشيخ عاد فدعا للتروي وتحكيم العقل حتى لا يقع شعبنا في فخ العدو الماكر الذي يسعى إلى أن يدفع بنا إلى مواجهة غير متكافئة، وبالتالي إلى الموت الجماعي، أي الانتحار حمقا وغباء.
وسكت الجميع مقلبين أبصارهم بين الشيخ والفتى، لقد هزتـهم فتوة سليمان وفاتتـهم حكمة الشيخ.
وارتفع آذان العشاء فقطع حيرتهم، وقام الشيخ من مكانه، وهو يقول:
- بعد صلاة العشاء نجتمع في المسجد لابد أن نخرج بقرار هذه الليلة يخرجنا من حيرتنا هذه، ويفوت الفرصة على أعدائنا.
واندفع الشيخ خارجا، فاندفع الجمع خلفه، لم يبق في البيت إلا خالتي وابنتها ونحن الأطفال.. يضاجع عثمان وعائشة نوما عميقا.. ونسامر نحن صمتا رهيبا مفزعا.
حاولت أن أعود إلى النوم لكني لم أستطع، كنت تعبان.. منهك القوى.. خائر النفس.. مذعور القلب.. تتلاعب أمام عيني كوابيس القتلى والنار والدخان والبيوت المخربة.
وبينما اتكأت زينب لتنام كان نحيب خالتي مازال يشق سكون الليل البهيم، ربابة حزينة الإيقاع … يتيمة الدمع.. لم تستطع أن تتماسك ولا أن تفطن من الصدمة التي وقعت على قلبها الرقيق.
وخالتي شبيـهة أمي في كل شيء.. قدَّها.. امتلاء جسدها.. إشراقة وجهها.. احمرار وجنتيـها.. غزارة شعرها الأشقر الطويل الذي تعودت أن ترسله غدائر.. وعاطفتـها الجياشة.
كانت أمي – رحمها الله- تبكي لكل شيء حتى للفرحة.. تشرق على تضاريس وجهها المتألق.. وتعبق على شفتيـها الرقيقتين.
وكانت تحرم نفسها حتى من ألذ ما تشتـهي لتؤثر بـه الآخرين مهما كان هؤلاء الآخرون.. ومهما كانت درجة قربـهم أو بعدهم عنـها.
وكانت كلما حل يوم الجمعة أعدت طعاما كثيرا لتأخذه معها إلى الجامع حيث تؤدي صلاة الجمعة مع والدي وجدتي، فتعطي ذلك الطعام للفقراء والمعوزين.
ولأنها كانت ماهرة في إعداد أكلاتها الشعبية كانت مضرب المثل في القرية كلها، يستهوي طعامها كل من يذوقه.
وكثيرا ما سمعت أولئك المعوزين الضعفاء المستفيدين من أكلاتـها يرفعون أكف التضرع إلى الله داعين لـها بالخير والحفظ.
وهاهي تموت مقتولة قتلة شنيعة.. لعل الله لم يقبل دعوات أولئك المساكين.
وتحركت أختي الصغيرة عائشة تئن أنينا ضعيفا متقطعا.. فمسحت خالتي دموعها.. استدارت إليها.. ثم أدخلتها حضنها محاولة إعادتها للنوم.
عاد زوج خالتي من صلاة العشاء مهموما، لم يحرك شفتيه، ولم ينطق حتى بالتحية.. انزوى فوق كرسي كان في ركن الحجرة وغرق في التفكير.
ذبحت خالتي صمتـه وهي تسأله.
-ماذا قررتم؟
واصل زوجها طقوس السكوت الحزين فزادت دقات قلبي.. كنت أخشى قرارا مهلكا رغم أني كنت أضع كل ثقتي في الشيخ وحكمتـه.
ولكن أيًّا كان القرار سيكون مفزعا.. ليس لنا خيار، إما المقاومة، وبالتالي التشرد في الجبال المجاورة، ودخـول حرب شرسة، وأعداؤنا يـملكون العدد والعدة.. طائرات.. مزمجرات.. شاحنات.. مدافع.. وجنودا متوحشين مات فيـهم الضمير الإنساني.
وماذا نملك نحن غير هؤلاء البسطاء الذين يفيضون حماسا وتعلقا بالأرض؟
وإما الهجرة.. الهجرة إلى المجهول المخيف المرعب حيث قد نضيِّع كل شيء حتى كرامتنا.
ومزق زوج خالتي شرنقة الصمت، فحدثها أن كل رجال القرية قد اجتمعوا واستقروا على رأي واحد.
وسكت مليا يبتلع ريقه ويعبث بشعر وجهه الذي أطل إلى النور منذ أيام ولم يحلقه.. وخلت هذا المَلِيَّ دهرا، ماذا قرروا؟.. بـماذا حكموا؟
وضجرت خالتي فسبقتني للسؤال.
-انطق، لماذا تقتلنا بصمتك؟
وانتبه زوج خالتي من شروده كأنما لسعتـه أفعى
-أجمعنا على رأي واحد.. الهجرة والمقاومة.
ودخلتُ من جديد دوامة الحيرة.. هذان أمران لا أمر واحد.
وأحس هو بالحيرة في نفوسنا، فأسرع يقطعها، وهو يركز نظراتـه صوب خالتي
-يهاجر الأطفال والنساء والعجزة وبعض الكهول، ويتطوع الباقي للمقاومة.. لا يجوز أن يقول عنا الأعداء أننا تنازلنا عن عمقنا وجذورنا.
وتمنيت لو أن خالتي تسأله عن سليمان.. أين هو الآن..؟ هل سيفارقنا ليلتحق بالمقاومين؟ هذا احتمال قوي جدان بل لعله سيكون أول من يتطوع، وهو أمر بقدر ما يثير في نفسي العزة والافتخار، بقدر ما يزرع فيـها أشواك الخوف واليأس.
لكن خالتي لم تبرح محراب صمتها، نصبت ذراعها اليمنى.. وضعت رأسها في كفها كأنه، رأس تمثال يقف على قاعدته، ومدت ذراعها الأخرى تحتضن عائشة الصغيرة، وسافرت في دروب من التفكير.
لعلها الآن في القرية حيث ماتت أسرتي وكل السكان..
لعلها في المنفى حيث التشرد والجوع والبرد والضياع..
لعلها في الجبال مع ابنـها فلذة كبدها سليمان.. سليمان ابنـها الأكبر الوحيد.
لم تسأل خالتي، أنا أعرفها جيدا، كانت تحمل بين جوانحها نهرا دفاقا من العواطف، ومعه إعصار من الكبرياء والعزة والأنفة.
وبادرها زوجها يخبرها أن ابنهما سليمان سيلتحق بجيش التحرير مع غيره من الشباب، ولقد تم الاتصال والاتفاق على كل الخطوات.
أما هو فسيرافق العائلة حتى الحدود الألبانية طلبا للنجاة.. ليست النجاة من أجل النجاة.. بل من أجل المقاومة.. ليست النجاة من أجل نجاة الأبدان.. بل من أجل نجاة الوطن..
لا بد من الخروج ليكون الشعب بمنأى عن التقتيل والتنكيل.
يجب أن نستمر لنبقى غصة في حلوق الظالمين..
يجب أن نستمر لنبقى حصنا أمام عواصف الشر..
وانفجرت خالتي منتحبة، لم تتفوه بكلمة واحدة تماما، لكن بكاءها كان رسالة واضحة.. كانت رسالة رفض مغادرة الأرض التي امتزجت تربتها المعطاء بدمها وعرقها.. بذكرياتـها وآمالها… بآلامها وأحلامها.
وداهمها زوجها بسيل من الشروحات والتحليلات الكثيرة المعقدة التي لم يهضمها عقلي الصغير، فانفصلت عنهما، وعادت بي الذكرى إلى قريتي الصغيرة الآمنة الوديعة.
تذكرت بكورنا كل صباح نسابق الطير إلى الطبيعة..
تذكرت بقرتنا الحلوب التي أقبلها كل صباح كما أقبل أفراد أسرتي..
تذكرت أصدقائي حين نتجمع عند الساحة العامة وننطلق كالعصافير.. كالفراشات.. نعدو.. نسابق.. نقفز.. تتعالى ضحكاتنا وأحلامنا وآمالنا..
تذكرت المعلم داخل القسم وهو يحرضنا على التنافس.. ترى أين هو معلمي الآن؟ وأين هم أولئك الأصدقاء؟ أمات الجميع حقا فلم ينج إلا عثمان؟ أم نجا غيره؟
وتراقصت بين عيني صورة لعبتي المهشمة، والحوافر البغلية تدوسها فتتطاير أجزاؤها هنا وهناك.
مازالت خالتي تركن إلى الصمت.. ومازال زوجها يروي قصصا مفزعة عن جرائم الصرب في القرى المجاورة، أما الآخرون فكانوا جميعا يغطون في نوم عميق.. عميق..
أحسست بتيار بارد يلسع رأسي فتدثرت بالغطاء وغرقت في النوم.


-3-
تناهى إلى سمعي وقع أقدام وأصوات وحركات وهمسات تملأ الحجرة.. فركت عيني، يظهر أني شبعت نوما هذه المرة.. تأملت ساعة الحائط على الضوء الخافت الذي كان ينبعث في استحياء شديد داخل الحجرة كان العقرب الصغير عند مشارف الخامسة، في حين راح الكبير يلهث متسلقا المرتفع ما بين السابعة والثامنة.
خالتي.. زوجها.. سليمان ابنهما.. أخته زينب.. كلهم كانوا هناك يعملون.. يكومون الأمتعة والأثاث واللباس وسط الحجرة.
أدركت أنـه الرحيل وقد أزفت ساعة الهجرة… من هنا تبدأ… وإلى أين تنتـهي..؟؟ الله أعلم.. كل الذي نعلم أنـها مغامرة صعبة سنخوض خلالـها عباب بحر مارد جبار.. أين ومتى سترسوا قواربنا؟ لسنا ندري.. الأمر موكل للمقادير.. الله وحده يعلم غيبنا.
كان الظلام لا يزال يخيم على القرية.. ونسمات هواء بارد تتسرب من النافذة التي فتحت قليلا.
اكتشفت أن العيون قد اكتشفت يقظتي، فانسللت من فراشي حتى لا أوقظ عائشة.. قمت.. حيَّيْتُهم.. وقصدت المغسل.. ثم عدت فأنهضت صديقي عثمان، وقدمتـه إلى المغسل أيضا..
هناك عادت إلى مخيلتي ذكريات الأيام الماضية الحلوة حين كنت أقصد بيت صديقي عثمان كل صباح لنصطحب معا إلى المدرسة..
كانت أمه - رحمها الله - توصينا خيرا ببعضنا البعض، ثم لا تدعنا ننصرف حتى تملأ محافظنا طعاما خفيفا.. حلوى.. كعكا.. وفواكه.
كنا فرسي رهان، يسبقني تارة، وأسبقه تارة أخرى.. وكان هذا التنافس الحاد يعجب معلمنا فيشجعنا عليـه، ويفخر بنا أمام زملائه المعلمين، وأمام السيد المدير.. وكان الجميع يمطروننا بغيث من التشجيعات والجوائز.
وتذكرت الجوائز.. كل الجوائز التي حصدتها على مدار السنوات الدراسية احتفظ بها في خزانة الكتب في قسم سميته قسم الجوائز.. ماأتعسني! نسيت كل ذلك.. صوري.. جوائزي.. كتبي.. نسيتـها في البيت.. احترقت.. نهبت؟؟ لست أدري.. ووجدت نفسي أخطو خارجا.
وأثناني عن اندفاعي صديقي عثمان وهو يسأل :
- إلى أين تريد؟
واحترت بماذا أجيبه؟؟؟ هل أخبره أني عائد إلى قريتنا لأحضر جوائزي وصوري..؟؟ سيضحك مني ويعتبر التصرف عبثا أو ربما سيصر على مرافقتي ليحضر هو أيضا جوائزه.. هل أكذب عليـه لأتخلص مما وقعت فيـه؟
وأنقذني من حيرتي وهو يطرح سؤالا آخر.
- قل لي يا محمد، على أي شيء استقر رأي الكبار؟ منذ أن نمت لم أفطن حتى الساعة.. كنت متعبا جدا ونمت كالميت تماما تماما.
وباختصار شديد أعلمته حقيقة الهجرة الشاقة المتعبة نحو المجهول فتقبل ذلك بامتعاض شديد ولم يعقب.. ثم عدنا حيث الجميع وانـهمكنا في تناول فطورنا.. دعانا زوج خالتي إلى الاستعداد.. لابد أن نكون رجالا أشداء.. إن الرحلة ستكون طويلة شاقة بدون شك.. وستكون محفوفة بالمخاطر الجسام.. مخاطر الأمراض والصرب وتقلب الطقس.. إن الفصل شتاء والبرد شديد والزاد قليل.
وبسرعة ارتدينا ملابسنا وظهرنا في كامل الاستعداد.. من هذه اللحظة يجب أن نذبح الطفولة والبراءة.. يجب أن نكون رجالا.. القوة والصلابة والصرامة هي السبيل إلى نجاتنا وبقائنا أحياء.. فلنكن رجالا.
أذَّن الفجر.. خرج زوج خالتي وابنه سليمان إلى الجامع، فيما بقينا نحن نرتقب ساعة الانطلاق.
كانت زينب تحاول أن تجمع أكبر قدر ممكن من حوائج البيت.. أما خالتي فقد جلست إلى كرسي واتكأت على طاولة تعيش سبحاتها الحزينة، مازالت تبكي.. دموعُها نهر عظيم تفجر في عينيها، وليس غريبا عليـها لقد ذكرتُ أن عاطفتها مضطرمة مشبوبه دائما، تشبـه إلى حد بعيد عاطفة والدتي- رحمها الله -
وتلاعبت بين بصري صور المجزرة الرهيبة.. دخان ونار وجثث متـهالكة فوق بعضها بالعشرات.. هنا رؤوس بلا أجساد.. هناك أجساد دون رؤوس.. هنالك أجسام عارية وأخرى مكسوة.
وانكمشت على نفسي فزعا وأنا أذكر والدتي تضمنا إليـها في حضنـها الدافئ.. وأحسست بالدفء يغمر كامل جسمي.
أيـها الحنان ضمني إليك..
أيـها الشوق ذوبني فيك..
أيتـها الفرحة الراقصة..
يا ألوان القوزح في عيون الأطفال..
يا حلم الثوار الأبطال..
علت شفتي ابتسامة حلوة.. تكورت على نفسي.. دحوت جسمي كله.. وفجأة اندفعت واقفا صارخا وصوت الرصاص يلعلع فوق ظهر أمي فيحفر فيه خنادق للحقد.. تتدفق براكين دم يفيض فوق جسدي ساخنا دافئا كالحلم
هرعت إلي خالتي فضمتني إليـها محاولة تـهدئتي
- ولدي العزيز، لا تخف أنا معك.
وتماسكت ثم انفجرت باكيا.. كانت عائشة ترقبني في حيرة، وبقربها كان يقف عثمان تمثالا مرمريا ينحدر الدمع من عينـه حبات لؤلؤ.
ولمعت على شاشة ذاكرتي صورة الطفلة الأرنبة أخت عثمان… عسكري ثخين بدين… أصابعه مخالب… أذناه طويلتان… أسنانـه تلمع خارجة بين شفتيـه.. أنفه خرطوم ممتد كجذع شجرة مجتثة يابسة.. كسن فأس.. والمسكينة ذات العام الواحد مقطوعة الرأس محمولة في يده اليمنى من ساقها الأيسر والدم ينزف من رقبتها.. هي أرنب.. لا بل طفلة.. لا بل أرنب.. واختلطت الصور أمام عيني تستفز عواطفي.. أرنب مسلوخة.. وطفلة عارية مقطوعة الرأس.
بدأت الحركة تدب في القرية.. وتناهت إلى مسامعنا أصوات جرارات وشاحنات.. عجلنا بإخراج الأمتعة.. وضعناها في عربة يجرها حصانان.. هي كل ما يملك زوج خالتي المزارع البسيط
مازال النـهار لم يسفر عن وجهه لقد كاد يرفع برقع الليل لتتجلي ملامحه..
من هنا..
في هذه اللحظة ستبدأ الرحلة..
الهجرة..
الهروب..
التيـهان..
سيرسم التاريخ مأساة بشرية أخرى..
رتبنا الأمتعة وأسرعنا نركب.. تكومنا جميعا على خشبة العربة إلا خالتي التي كانت تتمسح بالجدران.. تتمرغ على الأرض.. تعفر وجهها بالتراب في هستيرية وجنون.. وحين هرع إليـها زوجها ليأخذها نفرت غزالة شاردة إلى شجرة عالية متعرشة… احتضنتـها وراحت تقبلها.. تدخلها قلعة الحب.. تجلسها عرش الرباط المقدس.. الميثاق الغليظ.
يقال أن هذه الشجرة المباركة قد زرعتـها مع زوجها حين اقترنا… ورعياها معا… يخشيان عليـها هبوب الرياح.. ووقع البرد.. وحتى النمل حين يتسلق أغصانها وأوراقها.. يغسلانها كل عام فننا فننا… ورقة ورقة … برعما برعما.
وها هي ذي شامخة ذات أغصان وأفنان… وذات ورق وثمار… يجمعان كل عام ثمارها… ويأكلون منها شهيا طيبا احتفاء بذكرى الزواج.
وتذكرت الأيام الخوالي حين كنت أجيء مع والدتي لنحضر هذا الاحتفال، ونأكل من ثمار هذه الشجرة المباركة كما تسميـها خالتي.
ووجدتني أتسلل بعيدا عن الجميع اعتلي أكمة صغيرة.. ورحت أتطلع بعيني الصغيرتين إلى القرية.. إلى مهدي الدافئ حيث نبت لحمي، وأينعت ذكرياتي، وأزهرت آمالي الصغيرة الحلوة.
كانت آخر أردية العتمة قد تهلهلت، وغدت خرقة رثة بالية تهاوت شراشيفها..
وها الفجر راح يمد خيوطه يسعى على الأرض في كبرياء..
وها ملامح القرية تظهر من بعيد عروسا تنام في حضن الجبل، تجللها الأشجار الخضراء الوارفة من كل جهة..
ولم يكن يظهر بجلاء إلا منارة المسجد تشمخ بقامتها، تبكي في حزن رجالا اجتمعوا متطوعين لبنائها ذات صيف وأقاموا عندها حفلا جليلا.
أتصمدين أيتـها المنارة لتبقي شاهدا على أهل القرية؟؟؟ تحكين لكل من يمر بك قصتـهم..
براءتـهم..
جريمة مقتلهم؟ ؟؟
أم أنك ستكتفين برفع الشكوى إلى السماء.. ثم تخرين متـهاوية إلى الأرض..
وأحسست بيد كبيرة تمسكني بحنو كبير من ذراعي اليمنى وتجرني إليـها قائلة :
- لا تحزن إنك عائد إليـها يوما.
كان زوج خالتي قد تبعني حيث أنا.. كانت ملامحه توحي بالتعب الشديد.. تَعِبَ في جمعنا.. وتعب في تضميد آلامنا.. وتعب أيضا في كبت جرحه النازف..
الرجال لا يبكون من عيونـهم بل من ملامحهم.. الرجال لا يبكون دمعا.. وإنما يركمون سحابا أسود قاتما على وجوههم.
تكومنا في العربة الخشبية الباردة رغم ما فرشتـه خالتي تحتنا.. كان الجميع قد حضر نساء ورجالا.. أطفالا وعجزة.. اختلطت أصواتـهم مع نباح الكلاب، وثغاء النعاج، وصياح الديكة.
وأعطى الشيخ إشارة الانطلاق فهرع الجميع في صف كبير تاركين قريتـهم وأرضهم وديارهم ميممين شطر المجهول.. شطر التشرد والضياع.
كل الرؤوس كانت تتمايل ذات اليمين وذات الشمال.. كان الطريق وعرا مليئا بالحفر الصغيرة والحجارة.. وكل العيون كانت تعانق خلفها تضاريس القرية تضمخها بأريج المآقي.
دس عثمان رأسه في حضني فضممته إلي وغطيته.. لقد فقد هذا المسكين كل شيء ولم يعد له من صدر حنون يتكئ عليه… ولعله لن ينام في حضني… لعل خواطره ستذهب بـه بعيدا بعيدا.. إلى أسرته.. إلى ذكرياتـه.. إلى القرية.. إلى المدرسة.. إلى مستقبله المظلم المجهول.. لست أدري.
أثار فضولي زوج خالتي الذي كان يقود العربة لم يكن ينظر أمامه.. كان الحصانان يتبعان الطريق بغريزتـهما.. بل يتبعان العربات التي قبلهما..
لم يكن زوج خالتي يقطع بصره خلفه إلى القرية.. أليست هي مهده وحضنـه ومنشأه؟؟ أليست هي مغرسه ومعرسه؟؟
في كل شبر منها شيء من ذكرياته.. من آلامه وآماله.. ليس أصعب من أن يترك المرء كل ذلك خلفه.. لقد انسلخ من عمره.. بل انسلخ من أجمل أيام عمره التي يعجز عن إعادتـها فيستحضرها بالذاكرة.
وتركت زوج خالتي لأكتشف أن الجميع قد تعلقت أبصارهم بالقرية في صمت مطبق لا يقطعه إلا أزيز المحركات وصرير العربات.
في المقدمة كان الشيخ ومعه بعض القادرين من الرجال على المشي، كانوا يقطعون المسافة كلها من رأس القافلة إلى آخرها.. يعينون من يحتاج إعانة.. ويوجهون من يحتاج توجيها.. ويبعثون في الجميع الأمل.. الأمل الذي لم يجد قلوبا قادرة على احتضانـه.. ولا وجوها قادرة إلى إشراقه.
على وجوه الجميع كان الحزن يتربع إمبراطورا جبارا يلسعها بسياط الحيرة والأسى.. ومن عيون الجميع كانت تتـهاطل الدموع… دموع متبرجة ودموع متحجبة.
بدأت القافلة الآن تغوص وتتوغل بين الجبال الشامخة… جبال اكتست حلة خضراء من الأشجار الملتفة السامقة… وكللت رؤوسها عمائم بيضاء من الثلج… كانت تظهر كالشيوخ يجلسون في وقار… ماذا تخفي هذه القمم العالية خلفها؟؟ أي سر دفين في أعماق هذه الغابات القاهرة؟ لعل رجال جيش التحرير يتخذون من هذه الأماكن مأمنا وملجأ.
وأحسست بالنشوة والعزة..
مازال في شعبنا الأبي من يقاوم..
وحين نكبر سنقاوم..
وحين يبزغ الأبناء والأحفاد نقاوم..
حتى نسترد عزتنا وكرامتنا.
وخطر في بالي خاطر مفزع، ألا يمكن أن يكون في هذه الغابات أعداؤنا؟؟ وسرت في جسدي قشعريرة وأنا أتخيلهم يباغتوننا.. ويعملون فينا أسلحتهم.. مخالبهم.. أنيابهم..
يقطعون رؤوسنا..
يغتالون الأمل من قلوبنا.
نظرت إلى الجبال.. تأملتها.. حاولت أن أتنبأ بأسرارها.. لا شيء فيها سوى حزن عميق… عميق.
أحسست بحركة غير عادية… تعالت الأصوات محدثة ضجيجا… هتكت ستار الصمت السميك… وقفت داخل العربة… نظرت إلى مقدمة القافلة… لقد اعترض طريقنا جنود مدججون بالأسلحة… وخفق قلبي فزعا !! تراءت لي المخالب والأنياب… والخراطيم المدببة… والآذان الطويلة… والوجوه المكسوة شعرا… ولمحت الشيخ ومن معه من رجال يحثون الخطو نحوهم في غير خوف… وبدأت ملامحهم تتبين لي… كانوا رجالا عاديين من البشر تماما.. كيف كنت أتخيلهم على ذلك الشكل المفزع الرهيب؟ لم تكن تظهر على وجوههم علائم الشر.. وهدأت نفسي تماما، وأنا أرى الشيخ يعانقهم، ومثله يفعل الرجال..
هؤلاء إذن رجالنا.. أبطالنا..
ماأسعدني بملاقاتهم ورؤيتهم!
وشرع الشباب ينفصلون عن القافلة يودعون أهليهم في حرارة وينظمون إلى الجنود حتى شكلوا كوكبة كبيرة.. لمحت سليمان يحث الخطى نحو عربتنا، ونزلت خالتي وزينب وبدأ العناق الشديد بينـهما حتى كادوا جميعا يكونون شيئا واحدا.
وحضر زوج خالتي وراح يؤنب زوجتـه في تشجيع لابنـه.
- ابنك رجل يا امرأة، هو الآن أدرك واجبه نحو وطنه وأمته، فلا تحزني ولا تبكي، بل افرحي واسعدي، سليمان مفخرتنا ومفخرة الأمة جمعاء.
ومد سليمان أنامله يكفكف دموع أمه، وهو يقول لأبيـه:
- اهتموا بأنفسكم… طريقنا كلانا سيكون صعبا.. محفوفا بالمخاطر.. ولكن نهايته ستكون مزروعة بالورود الندية الفواحة
سكت لحظات ثم أردف يقول:
- الله معنا.. كل أحرار العالم معنا.. لا تخافوا لسنا وحدنا.. ارحلوا.. ستصلكم رسائلنا وأخبارنا، أينما تكونوا وحيثما تحلوا.
والتحق برفاقه لنصعد العربة حيث كنا، وما هي إلا لحظات حتى انطلقت القافلة من جديد دون أن يبرح الفتية أماكنهم، يرموننا بالحلوى والزهور.. ونرميهم نحن بالدعوات، وتلويح الأيادي، والدموع الممزوجة بأفراح الأمل.
استمر سيرنا ذلك اليوم النـهار كله.. قطعنا وديانا وجبالا ووهادا وسهولا.. كنا نتوقف من حين لآخر يستطلع الدليل الطريق أمامنا ثم يوحي إلينا بمواصلة المسيرة.
الطريق محفوفة بالمخاطر الجسيمة.. والأعداء يتربصون بنا في كل مكان، ولعل قنابل قد وضعت تحت التراب في مكان ما، وهي الآن تتربص بنا لتنقض علينا فتغتال ما تبقى في قلوبنا من بسمات وآمال.
الليل الحالك المظلم وحش مفترس يلهث خلف النـهار فيلتـهم أطرافه التـهاما.. تعبت البـهائم.. وتعبنا نحن أيضا، وزاد عددنا.. صرنا أضعافا، لقد انظم إلى القافلة مئات من الفارين شيوخ وعجائز.. رجال ونساء.. كبار وصغار.. اختلفت أعمارهم وأشكالهم، واتفقوا جميعا في ملامح الحزن والأسى التي كانت تعربد فوق الوجوه الشاحبة الصفراء المتعبة.
توقفت القافلة.. تفرق الناس فملأوا سفح الجبل المعشوشب الندي.. تهالكت العجائز والشيوخ والأطفال يطلبون بشيء من الراحة، لقد أنهكهم السفر.
وشرع القادرون في إعداد أماكن النوم وإشعال النار وتحضير الطعام.
دبت حركة غير عادية.. وتعالت ألسنة اللهب ووهيج الجمر.. وارتفعت روائح أطعمة مختلفة متنوعة.
انزويت بعيدا بمعية عثمان، ورحت أرقب المشهد بصمت.. تذكرت أيام الصيف حيث كنت أقصد والعائلة شواطئ البحر، فنتمتع برماله الذهبية ومياهه الدافئة الناعمة، أو حين نقصد غاباتنا العذراء المفعمة بالعذوبة والفتنة.
وكيف كانت العائلات تلتقي على الطعام الواحد..
ننضجه جميعا..
ونأكله جميعا..
نغني.. ونرقص إلى آخر الليل..
ثم ننام لنقوم صباحا..
إن سحر تلك الأماكن لا يقاوم أبدا.
عين الشيخ رجالا للحراسة والتناوب عليـها واجتمع الباقون معه يتسامرون.. يتعارفون.. ويتحدثون عن واقعهم ومستقبلهم.. ويروون قصصا خيالية عن مجازر اقترفها أعداؤنا في حق العزل من العجزة والرضع والنساء خاصة.. واقترب منا زوج خالتي فطلب منا أن نذهب للعشاء.
تركنا جمع الرجال، وقطعنا جموع الناس حتى عربتنا.. كانت عائشة تنام في حضن أغطية دافئة، بينما جلست خالتي وزينب وفتاة أخرى لم أرها من قبل يتناولن العشاء في صمت.. جلست مع عثمان.. قدمت خالتي لنا الطعام، فأكلنا وكلي فضول إلى معرفة سر هذه الفتاة.. أهي من أبناء القرية قصدت عائلة خالتي للزيارة فحسب؟؟ أم هي من قرى أخرى طوح بها التشريد كما طوح بنا؟؟ ولماذا قصدتنا نحن بالذات إن كان الأمر كذلك؟ وما السر الذي تحمله؟؟
وهممت أن أسألها عن كل ما دار في خلدي لكني تراجعت وكتمت الأمر في نفسي.. ليس كل ما يعلم يقال.. كما كان يوصينا معلمنا دائما.
حين اكتفينا من الأكل دعتنا خالتي أن نركن للنوم لقد كان السفر متعبا وإن تعب يوم الغد سيكون أشد.
نظرت إلى عثمان، فهمت من عينه أنه لا يريد النوم، وتلك كانت رغبتي.. لابد أن نعود حيث الرجال.. يجب أن نستمع منـهم..
كان الجمع قد اكتمل.. مئات الرجال والشباب والشيوخ يتبادلون أطراف الحديث مجموعات مجموعات، ومنـهم من انفرد بمذياع راح ينتقل من إذاعة إلى أخرى يسمع آخر الأنباء.
انجذبنا إلى حلقة الشيخ حيث كان زوج خالتي فقعدنا بجانبـه.

يـــــــــــــــــــتـــــــــــــــــبـــــــــــ ـــع 3