المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : إنهم يبيعون فلسطين في سوق النخاسة الدولية



غالب ياسين
25/12/2007, 09:13 AM
في لحظة الكُبوّ أو الاستعصاء النهضوي يسود نوعٌ من شغف مرضي بتدمير المفاهيم الجامعة. يتولي غرفة العمليات عقلٌ خبيث. يطلق شرارات إعلامية هنا وهناك، لا تلبث أن تتخاطفها عيون هؤلاء.
سرعان ما تنقلب لوثاتها إلي أقلام ونظريات وآراء تمتطي صهوة أحداث كئيبة أو كارثية، تمنحها أسماء وألقاباً تفقدها هويتها الأصلية. تعيث فساداً وتبعثراً في ملامح وجهها، حتي لا تكاد تعرف ذاتها في مرآته. فالمقصود بالمفاهيم الجامعة هي كل تلك الألفاظ المتداولة كأقانيم تري الجماعة من خلالها ترميزات لروابطها الإنسانية المتوارثة، أو عاكسة لآمالها المستقبلية. كالأمة والوطن والعدالة والحرية والدين أو الإيديولوجيا. فما يهم الجماعة في نوعية هذه الألفاظ ليس مخزونها من الحقائق أو الآراء النظرية المقولة عنها، بقدر ما تثير في النفوس نوازع النقلة المحببة من الضيق والانحباس نحو الانفتاح والوساعة، والفرار من عزلة الذرة الفردية إلي رحاب الانتماء إلي الكل والاندماج مع الأشباه والأنداد في ذلك المصير العام الشامل بكل ما هو أهلي وإنساني في الكثرة اللامحدودة؛ ولكن هي الكثرة الموصوفة دائماً تحت صيغة الجماعة المتآلفة مع بعضها، المتجانسة بل المتعارفة فيما بينها علي ما هو متجانس من رغباتها المشتركة وعاداتها وسلوكها اليومي والشخصي، وتطلعاتها إلي المستقبل المختلف.
فالأساس في النهضوي هو أنه مفهوم جامع ولا يتأتي ثقافياً أو إجرائياًَ إلا ضداً علي كل ما هو عامل فرقة أو قسمة أو تجزئة. ولذلك فالنهضوي إنما يشتغل علي مفردات القاموس الجماعي. لا يمكنه أن يفترق مثلاً عن (الأمة)، قبل أن تكون مصطلحاً اجتماعياً أو أقنوماً عقائدياً. والتفكر في النهضة يفترض وجود الحامل الطبيعي لعواملها الذي هو الأمة أي الكيان الأكبر الإنساني المتوفر علي إمكانياتها والقابل لحمل أعبائها. ثم إن هذه المعاني الكلية بدءاً من الأمة إلي النهضة إلي الحرية، تظل محتاجة إلي الحراك الواقعي الذي يكسبها تجسيداً اجتماعياً ومادياً علي أرض الواقع. إنها تظل معلقة هكذا في الفراغ الذهني أو العاطفي إن لم يأت المشروع السياسي الذي يكسو هيكلها لحماً وعظماً. فالسياسة في الأمة الناهضة ليست وظيفة لفئة فوقية أو لطبقة متميزة، بل هي الطريقة الوحيدة لوضع كليانية الأمة في سياق التحقق العياني. إنها الأمة المسيسة نهضوياً، والنهضة المتحركة سياسياً. فالإنسان العربي كائن سياسي بضرورة الواقع والتاريخ معاً، وبالتالي فإما أن يكون موجوداً نهضوياً أو لا يكون له أي وجود. ولا تنهار السياسة إلي مجرد حرفة سلطوية، سواء في الحفاظ علي الحكم لدي المسؤولين علي مقاليده، أو لدي الساعين إليه والمتنافسين علي حظوته واختطافه، لا تنهار السياسة إلي مجرد قطيع للموالاة أو قطعان أخري للمعارضة، إلا في مدي إيغالها بالاغتراب عن حضنها الأمومي في رحاب المشروع النهضوي. فإن فساد المجتمع السياسي هو المحصلة الأخيرة لمسلسل الانفصامات المتوالية بين حدَّيْ هذه الثنائية الأنطولوجية عندما لا يعود السياسوي إلا عدواً لدوداً للنهضوي - فلا تصير السياسة في نهاية المطاف إلا حرفة النهب الرسمي المتحصنة وراء القوانين والمناصب العامة. فإن سيادة أوبئة الفساد المعمم سلطوياً واجتماعياً، ليست مجرد أعراض مرضية عابرة، قابلة للإصلاح التشريعي أو الأخلاقوي، إنها علامة العاهات الكبري التي لسرعة تفشيها واعتيادها الآلي تصير خَلْقيةً وأشبه بالفطرية. إنها إشارة الانحلال النهضوي تحت وطأة التفتيت الذري الناجمة عن انفجار قنبلة الانحطاط ملء الفضاءات العامة. وقد فقدت هذه الفضاءات إرادة الرقابة والقدرة علي المحاسبة مع فقدانها لذاتها أصلاً كإرادة للتغيير.
فلا يمكن مكافحة الرذيلة في بيئة من ناس صاروا مغتربين عن بعضهم، متحللين من أبسط انتماءات اسمية أو معنوية لشخصية عامة، توحّد منظورهم الإنساني التزاماتٌ أخلاقية حرة، لكنها مشتركة بين الجميع. والفاسد، حاكماً أو محكوماً، في ظل المجتمع المتحلّل عضوياً، يكاد يصبح قريناً ممكناً لكل مواطن عادي. لن يكون الفاسد إلا شاذاً أو استثنائياً أو معزولاً في هوامش جماعة سوية نظيفة. ذلك أن الكيان السياسي المحبط، الممنوع من نموه الطبيعي المتكامل، يستحيل إلي مستنقع راكد، سكانُه معطوبو التكوين عن غير قصد، من صانع أو مصنوع؛ أو أنهم من دون جريرة مسبقة أو لاحقة بنوعهم البائس. فلا يصح أن يُسألوا عنها فُرادَي، بقدر ما هم جميعاً جاهلون أو متجاهلون لأسبابها، كأنها أمست معصية ميتافيزيقية يمارسونها بنوع من تلقائية صماء بكماء، لكنها متآلفة مع مسالكهم الشخصية. حتي أنها تريحهم فتضعهم وهمياً خارج كل مسؤولية، وإن كانوا هم فعلاءها اليومين أو شركاء الصدفة مع الفعلاء وأعوانهم؛ يعود سؤال الأسئلة المأساوية القديم: هل إلي هذا الحد الفضائحي الصارخ يتخلي العرب عن فلسطينهم. ألم يكن بمقدور العرب إنقاذ فلسطين في كل مرة كان يَعْظُمُ فيها هولُ الكارثة المتجددة، ويبلغ التحدي المصيري أوجه في استفزاز الحمية الإنسانية لدي هذه (الأمة) المغلولة الأيدي دائماً بأصفاد سحرية أو وهمية، لا تريد أن تبحث عن مفتاحها الضائع لكنه الموجود تحت كل العيون التي لا تخاف من رؤية الحقيقة.
فلسطين معني المعاني الجامعة في تاريخ السياسة النهضوية الذي لا تزيده فضائح العرب عند أنفسهم إلا لمعاناً وتألقاً جديداً. إنه الكاشف الحاسم لمفاصل المسيرة النهضوية كلما داهمها الانحطاط مجدداً من أعماق أقبيتها التاريخية. وفصولها المهولة في مسلسل الهزائم العسكرية والسياسية، كانت كذلك تحكي انهيارات هذه المعاني والمفاهيم الكلية لثقافة النهضة. لكن كل انهيار كان بمثابة التجربة المرة المضافة إلي رصيد أمثالها. هنالك تواز مصيري بين التصويب علي المفاهيم أو المعاني الجامعة في ثقافة النهضة وبين تآكل المسؤولية القومية عن فلسطين، وبالتالي علي كل المفاهيم الجامعة التي تساندها الثوابت في البداهة الوجدانية لدي المواطن العادي. وخلال موجات التشويه التي راحت تنال من هيبة العروبة وقداستها العلمانية، أو طهريتها الأخلاقية، بسبب من انحرافات الأنظمة الحاكمة باسمها، ومع التحريف الأكبر والأخطر في النيل من استقلالية العروبة، باعتبارها تمثل ذروة المعاني الجامعة، إذ تم تحميل كاهلها بأوزار تلك الأنظمة المنتهية في واقعها الفعلي إلي مستنقع الفساد المطلق. فجرت محاكمة العروبة غيابياً وإدانتها شعبوياً، كما لو كانت هي المنتجة لعقابيل الانهزام التاريخي وحقبته الرافعة لأعلام النهضة العربية الثانية.
هكذا صار من السهل علي عرب اليوم أن يتابعوا التفرج علي مآسيهم المتلاحقة في معظم ديارهم، بعد أن أمست مشاهد القتل اليومي صوراً تلفزية فحسب. وعندما يُعلن عن بيع فلسطين جملة وتفصيلاً هكذا دفعة واحدة، في سوق النخاسة الدولية، يساهم الإعلام الخشبي في إشهار صفقة المبيع تحت رقم السبعة مليارات ونصف. وهو الثمن الذي سيدفعه (المجتمع الدولي) لشراء الدولة الفلسطينية. إنها نقلة نوعية من مرحلة تسويق الدويلة الفلسطينية كخرافة إسرائيلية أمريكية أولاً، إلي مرحلة إعادة إخراجها علي شكل البضاعة التي لم تعد تخضع إلا لمعايير المبادلة التجارية البحت. هذا الثمن شبه الفلكي الذي يراد له أن يبهر أبصار الزبائن من حاملي حقائب السلطة الفلسطينية، وأتباعهم من سماسرة الدم الفلسطيني في كل مكان من الوطن السليب ومن ضواحيه العربية، هذا الثمن ماذا يشتري حقاً. إنه دفعة من تمويل المخطط التقسيمي الذي آلت إليه آلية الحالة السياسية المبعثرة بين الضفة وغزة. وإنه التمويل الذي يدمر ما تعنيه فلسطين باعتبارها ذروة المفاهيم الجامعة في ثقافة المسيرة النضالية للنهضة العربية الجديدة، فإن بعثرة فلسطين (وطنياً) هذه المرة، وليس إسرائيلياً فحسب، هو ترميز لبعثرة كل وطن عربي آخر، الجارية أفاعيله المستورة أو الظاهرة علي قدم وساق.
أفما كان بمقدور نوع معين من هؤلاء العرب، كعرب الخليج مثلاً، أن يشتروا وحدة فلسطين بثمن صفقة سلاح واحدة، وفي هذا العصر الخرافي من مداخيل آلاف المليارات النفطوية إلي خزائن أصغر شعوب العرب والاسلام، أو بالأحري إلي خزائن حكام هذه الشعوب فحسب. أليس تدمير مفهوم العروبة من حيث هو المفهوم الجامع لكل المفاهيم النهضوية الجامعة الأخري، هو المسؤول عن بعثرة الوجدان الإنساني، وليس الوطني أو القومي فقط، لدي (أمم) القطريات المتفاصلة فيما بينها كقلاع قروسطية منهمّة فقط بتنمية هويات مصطنعة، تسوغ انغلاقها علي صناديق ثرواتها ضداً علي بعضها، ممعنة هكذا في تخطيط خارطة تجزئة جديدة، تضاف إلي خارطة سايكس بيكو، علي أساس الفصل (النوعي) بين دول المليارات ودول الملاليم.
من اللحظات الفاصلة في تاريخ النضال النهضوي أُتيح فيها للحكام العرب إنقاذ فلسطين، ولكنهم تخاذلوا دونها أو تآمر بعض حكامهم علي البعض الآخر خدمة للكرسي أو الجيب أو العدو، أو لكل هذه المرجعيات المقدسة بل المعبودة حقاً دون الآلهة الأخر المبعدة إلي أقصي أعاليها. وفي عصر المال والتمويل والاستثمارات يتقاعس أغلي مال في عالم اليوم عن إنقاذ وطن وشعب وقضية، بل إنه هو المساهم الفعلي، وعلي النطاق العالمي، في صعود أوحش وحوش الغابة الإنسانية إلي أعلي ملكوت المصائر الكونية.
فلماذا لا يشتري المال العربي فلسطين ويهديها إلي أمته، ولا يبيع إسرائيل لأصحابها الأصليين ما وراء المحيطات.
سؤال يدعو إلي السخرية حقاً في زمن الدمع والدم العربي المستباح..
http://www.alquds.co.uk/index.asp?fname=yesterday\23e18.htm&storytitle=ffفي%20عصر%20تدمير%20المفاهيم%20الجامعة :%20إنهم%20يبيعون%20فلسطين%20في%20سوق%20النخاسة%20 الدوليةfff&storytitleb=مطاع%20صفدي&storytitlec=

غالب ياسين
25/12/2007, 09:13 AM
في لحظة الكُبوّ أو الاستعصاء النهضوي يسود نوعٌ من شغف مرضي بتدمير المفاهيم الجامعة. يتولي غرفة العمليات عقلٌ خبيث. يطلق شرارات إعلامية هنا وهناك، لا تلبث أن تتخاطفها عيون هؤلاء.
سرعان ما تنقلب لوثاتها إلي أقلام ونظريات وآراء تمتطي صهوة أحداث كئيبة أو كارثية، تمنحها أسماء وألقاباً تفقدها هويتها الأصلية. تعيث فساداً وتبعثراً في ملامح وجهها، حتي لا تكاد تعرف ذاتها في مرآته. فالمقصود بالمفاهيم الجامعة هي كل تلك الألفاظ المتداولة كأقانيم تري الجماعة من خلالها ترميزات لروابطها الإنسانية المتوارثة، أو عاكسة لآمالها المستقبلية. كالأمة والوطن والعدالة والحرية والدين أو الإيديولوجيا. فما يهم الجماعة في نوعية هذه الألفاظ ليس مخزونها من الحقائق أو الآراء النظرية المقولة عنها، بقدر ما تثير في النفوس نوازع النقلة المحببة من الضيق والانحباس نحو الانفتاح والوساعة، والفرار من عزلة الذرة الفردية إلي رحاب الانتماء إلي الكل والاندماج مع الأشباه والأنداد في ذلك المصير العام الشامل بكل ما هو أهلي وإنساني في الكثرة اللامحدودة؛ ولكن هي الكثرة الموصوفة دائماً تحت صيغة الجماعة المتآلفة مع بعضها، المتجانسة بل المتعارفة فيما بينها علي ما هو متجانس من رغباتها المشتركة وعاداتها وسلوكها اليومي والشخصي، وتطلعاتها إلي المستقبل المختلف.
فالأساس في النهضوي هو أنه مفهوم جامع ولا يتأتي ثقافياً أو إجرائياًَ إلا ضداً علي كل ما هو عامل فرقة أو قسمة أو تجزئة. ولذلك فالنهضوي إنما يشتغل علي مفردات القاموس الجماعي. لا يمكنه أن يفترق مثلاً عن (الأمة)، قبل أن تكون مصطلحاً اجتماعياً أو أقنوماً عقائدياً. والتفكر في النهضة يفترض وجود الحامل الطبيعي لعواملها الذي هو الأمة أي الكيان الأكبر الإنساني المتوفر علي إمكانياتها والقابل لحمل أعبائها. ثم إن هذه المعاني الكلية بدءاً من الأمة إلي النهضة إلي الحرية، تظل محتاجة إلي الحراك الواقعي الذي يكسبها تجسيداً اجتماعياً ومادياً علي أرض الواقع. إنها تظل معلقة هكذا في الفراغ الذهني أو العاطفي إن لم يأت المشروع السياسي الذي يكسو هيكلها لحماً وعظماً. فالسياسة في الأمة الناهضة ليست وظيفة لفئة فوقية أو لطبقة متميزة، بل هي الطريقة الوحيدة لوضع كليانية الأمة في سياق التحقق العياني. إنها الأمة المسيسة نهضوياً، والنهضة المتحركة سياسياً. فالإنسان العربي كائن سياسي بضرورة الواقع والتاريخ معاً، وبالتالي فإما أن يكون موجوداً نهضوياً أو لا يكون له أي وجود. ولا تنهار السياسة إلي مجرد حرفة سلطوية، سواء في الحفاظ علي الحكم لدي المسؤولين علي مقاليده، أو لدي الساعين إليه والمتنافسين علي حظوته واختطافه، لا تنهار السياسة إلي مجرد قطيع للموالاة أو قطعان أخري للمعارضة، إلا في مدي إيغالها بالاغتراب عن حضنها الأمومي في رحاب المشروع النهضوي. فإن فساد المجتمع السياسي هو المحصلة الأخيرة لمسلسل الانفصامات المتوالية بين حدَّيْ هذه الثنائية الأنطولوجية عندما لا يعود السياسوي إلا عدواً لدوداً للنهضوي - فلا تصير السياسة في نهاية المطاف إلا حرفة النهب الرسمي المتحصنة وراء القوانين والمناصب العامة. فإن سيادة أوبئة الفساد المعمم سلطوياً واجتماعياً، ليست مجرد أعراض مرضية عابرة، قابلة للإصلاح التشريعي أو الأخلاقوي، إنها علامة العاهات الكبري التي لسرعة تفشيها واعتيادها الآلي تصير خَلْقيةً وأشبه بالفطرية. إنها إشارة الانحلال النهضوي تحت وطأة التفتيت الذري الناجمة عن انفجار قنبلة الانحطاط ملء الفضاءات العامة. وقد فقدت هذه الفضاءات إرادة الرقابة والقدرة علي المحاسبة مع فقدانها لذاتها أصلاً كإرادة للتغيير.
فلا يمكن مكافحة الرذيلة في بيئة من ناس صاروا مغتربين عن بعضهم، متحللين من أبسط انتماءات اسمية أو معنوية لشخصية عامة، توحّد منظورهم الإنساني التزاماتٌ أخلاقية حرة، لكنها مشتركة بين الجميع. والفاسد، حاكماً أو محكوماً، في ظل المجتمع المتحلّل عضوياً، يكاد يصبح قريناً ممكناً لكل مواطن عادي. لن يكون الفاسد إلا شاذاً أو استثنائياً أو معزولاً في هوامش جماعة سوية نظيفة. ذلك أن الكيان السياسي المحبط، الممنوع من نموه الطبيعي المتكامل، يستحيل إلي مستنقع راكد، سكانُه معطوبو التكوين عن غير قصد، من صانع أو مصنوع؛ أو أنهم من دون جريرة مسبقة أو لاحقة بنوعهم البائس. فلا يصح أن يُسألوا عنها فُرادَي، بقدر ما هم جميعاً جاهلون أو متجاهلون لأسبابها، كأنها أمست معصية ميتافيزيقية يمارسونها بنوع من تلقائية صماء بكماء، لكنها متآلفة مع مسالكهم الشخصية. حتي أنها تريحهم فتضعهم وهمياً خارج كل مسؤولية، وإن كانوا هم فعلاءها اليومين أو شركاء الصدفة مع الفعلاء وأعوانهم؛ يعود سؤال الأسئلة المأساوية القديم: هل إلي هذا الحد الفضائحي الصارخ يتخلي العرب عن فلسطينهم. ألم يكن بمقدور العرب إنقاذ فلسطين في كل مرة كان يَعْظُمُ فيها هولُ الكارثة المتجددة، ويبلغ التحدي المصيري أوجه في استفزاز الحمية الإنسانية لدي هذه (الأمة) المغلولة الأيدي دائماً بأصفاد سحرية أو وهمية، لا تريد أن تبحث عن مفتاحها الضائع لكنه الموجود تحت كل العيون التي لا تخاف من رؤية الحقيقة.
فلسطين معني المعاني الجامعة في تاريخ السياسة النهضوية الذي لا تزيده فضائح العرب عند أنفسهم إلا لمعاناً وتألقاً جديداً. إنه الكاشف الحاسم لمفاصل المسيرة النهضوية كلما داهمها الانحطاط مجدداً من أعماق أقبيتها التاريخية. وفصولها المهولة في مسلسل الهزائم العسكرية والسياسية، كانت كذلك تحكي انهيارات هذه المعاني والمفاهيم الكلية لثقافة النهضة. لكن كل انهيار كان بمثابة التجربة المرة المضافة إلي رصيد أمثالها. هنالك تواز مصيري بين التصويب علي المفاهيم أو المعاني الجامعة في ثقافة النهضة وبين تآكل المسؤولية القومية عن فلسطين، وبالتالي علي كل المفاهيم الجامعة التي تساندها الثوابت في البداهة الوجدانية لدي المواطن العادي. وخلال موجات التشويه التي راحت تنال من هيبة العروبة وقداستها العلمانية، أو طهريتها الأخلاقية، بسبب من انحرافات الأنظمة الحاكمة باسمها، ومع التحريف الأكبر والأخطر في النيل من استقلالية العروبة، باعتبارها تمثل ذروة المعاني الجامعة، إذ تم تحميل كاهلها بأوزار تلك الأنظمة المنتهية في واقعها الفعلي إلي مستنقع الفساد المطلق. فجرت محاكمة العروبة غيابياً وإدانتها شعبوياً، كما لو كانت هي المنتجة لعقابيل الانهزام التاريخي وحقبته الرافعة لأعلام النهضة العربية الثانية.
هكذا صار من السهل علي عرب اليوم أن يتابعوا التفرج علي مآسيهم المتلاحقة في معظم ديارهم، بعد أن أمست مشاهد القتل اليومي صوراً تلفزية فحسب. وعندما يُعلن عن بيع فلسطين جملة وتفصيلاً هكذا دفعة واحدة، في سوق النخاسة الدولية، يساهم الإعلام الخشبي في إشهار صفقة المبيع تحت رقم السبعة مليارات ونصف. وهو الثمن الذي سيدفعه (المجتمع الدولي) لشراء الدولة الفلسطينية. إنها نقلة نوعية من مرحلة تسويق الدويلة الفلسطينية كخرافة إسرائيلية أمريكية أولاً، إلي مرحلة إعادة إخراجها علي شكل البضاعة التي لم تعد تخضع إلا لمعايير المبادلة التجارية البحت. هذا الثمن شبه الفلكي الذي يراد له أن يبهر أبصار الزبائن من حاملي حقائب السلطة الفلسطينية، وأتباعهم من سماسرة الدم الفلسطيني في كل مكان من الوطن السليب ومن ضواحيه العربية، هذا الثمن ماذا يشتري حقاً. إنه دفعة من تمويل المخطط التقسيمي الذي آلت إليه آلية الحالة السياسية المبعثرة بين الضفة وغزة. وإنه التمويل الذي يدمر ما تعنيه فلسطين باعتبارها ذروة المفاهيم الجامعة في ثقافة المسيرة النضالية للنهضة العربية الجديدة، فإن بعثرة فلسطين (وطنياً) هذه المرة، وليس إسرائيلياً فحسب، هو ترميز لبعثرة كل وطن عربي آخر، الجارية أفاعيله المستورة أو الظاهرة علي قدم وساق.
أفما كان بمقدور نوع معين من هؤلاء العرب، كعرب الخليج مثلاً، أن يشتروا وحدة فلسطين بثمن صفقة سلاح واحدة، وفي هذا العصر الخرافي من مداخيل آلاف المليارات النفطوية إلي خزائن أصغر شعوب العرب والاسلام، أو بالأحري إلي خزائن حكام هذه الشعوب فحسب. أليس تدمير مفهوم العروبة من حيث هو المفهوم الجامع لكل المفاهيم النهضوية الجامعة الأخري، هو المسؤول عن بعثرة الوجدان الإنساني، وليس الوطني أو القومي فقط، لدي (أمم) القطريات المتفاصلة فيما بينها كقلاع قروسطية منهمّة فقط بتنمية هويات مصطنعة، تسوغ انغلاقها علي صناديق ثرواتها ضداً علي بعضها، ممعنة هكذا في تخطيط خارطة تجزئة جديدة، تضاف إلي خارطة سايكس بيكو، علي أساس الفصل (النوعي) بين دول المليارات ودول الملاليم.
من اللحظات الفاصلة في تاريخ النضال النهضوي أُتيح فيها للحكام العرب إنقاذ فلسطين، ولكنهم تخاذلوا دونها أو تآمر بعض حكامهم علي البعض الآخر خدمة للكرسي أو الجيب أو العدو، أو لكل هذه المرجعيات المقدسة بل المعبودة حقاً دون الآلهة الأخر المبعدة إلي أقصي أعاليها. وفي عصر المال والتمويل والاستثمارات يتقاعس أغلي مال في عالم اليوم عن إنقاذ وطن وشعب وقضية، بل إنه هو المساهم الفعلي، وعلي النطاق العالمي، في صعود أوحش وحوش الغابة الإنسانية إلي أعلي ملكوت المصائر الكونية.
فلماذا لا يشتري المال العربي فلسطين ويهديها إلي أمته، ولا يبيع إسرائيل لأصحابها الأصليين ما وراء المحيطات.
سؤال يدعو إلي السخرية حقاً في زمن الدمع والدم العربي المستباح..
http://www.alquds.co.uk/index.asp?fname=yesterday\23e18.htm&storytitle=ffفي%20عصر%20تدمير%20المفاهيم%20الجامعة :%20إنهم%20يبيعون%20فلسطين%20في%20سوق%20النخاسة%20 الدوليةfff&storytitleb=مطاع%20صفدي&storytitlec=