المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : شطحات



محمد صباح الحواصلي
30/09/2006, 11:08 PM
شطحات

محمد صباح الحواصلي

عربدة


أمريكا دخلتني ولم أدخلها, ولا داعي للحلفان. دخلتني من مطار نيويورك, وكنت أحسب أنه بإمكاني أن أدخلها من "باب الجابية". كان ذلك يا مولاي القاريء في الحادي والعشرين من كانون الأول 1991. من يومها, أي منذ اللحظة الأولى, منذ الخطوة الأولى, منذ الدهشة الأولى, منذ الخوزاق الأول, وأمريكا تعربد في حواري دمي, تركل بجزمتها تنكات القمامة القابعة في زوايا أحيائي القديمة, وتجوب أزقة خلاياي ويلوِّح راعي بقرها بحبله عاليا ليطوق بأنشوطته أجمل أصص الزهور الراكنة على حافة شباك يناجي القمر, يشدها ويرميها.
وتحاول أن تسرق من تلافيف دماغي ذكريات عزيزة كنت قد لففتها بورق السولوفان لحمايتها, وبحبشَتْ بصندوق عقليتي وتكويني ( ولست أدري كيف استطاعَتْ أن تفتحه وقد أغلقته بقفلين ماركة (يال) ووضعْتُ في داخلة كمشة كريات النفتلين كي لا يقرضَ العتُ تراثي) نعم كيف أستطاعت الخبيثة أن تدخل مخي, وتجلس فوق مجلدات "تاريخ دمشق" لابن عساكر, وتعبث بكتبي وتلقي بها خلف ظهرها فشهدت بام عقلي نزار قباني يلملم القبل والنهود والنهنهات التي هرَّت من دواوينه, ورأيت عبد الرحمن منيف يجمع كتبه السميكة غاضبا وقد تبعثرت أوراقها وهو يبسق "تفو على هذا الزمان", ورأيت أيضا ساطع الحصري وقد وضع يديه على خصرة مذهولا وهو يناديني: "صباح.. راجع؟", ورأيتها تصنع طائرات ورقية بدواوين ممدوح عدوان وأحمد عبد المعطي حجازي ومحمد الماغوط والمثقب العبدي, وابن حمديس الأندلسي وتطلقها فوق سماء دمشق. ورأيت أيضا, ويا لهول ما رأيت, رأيتها تتغوط وتمسح خلفيتها بورق كتاب اسمه "منمنمات على جدران دمشق القديمة". صرخت في خلقتها وحاولت دفعها خارج صومعتي, لحظتها هاجمني مرافقوها المسلحون ورموني خارج ذاكرتي, فأرتطمت بطرمبة ماء خربة بنزلة جوزة الحدبة, لكنني سرعان ما وقفت ونفضت ثيابي مما علق عليها من تراب الوطن وهرولت عبر شارع "مادسون" المفضي إلى بحيرة واشنطن حيث جلست هناك على قمة صخرة "أذكروني دائما" مشرفاً على البحيرة وأنا أبكي, تارة من الألم, وتارة من الفرح, ويمسح دموعي مشرد أمريكي في نفسه شيء آخر غير الجوع والحرمان.



على راحة يدها



منذ اللحظة الأولى قلتُ لأمريكا: لا..
لن تعربدي في أزقة تراثي ومعتقدي, ولن اسمح لك أن تبولي على جدران مدننا القديمة, وتبصبصي على نساء الشام, وتسرقي من على الأساطيح ملابسهن الداخلية وتتنشقينها بفيتشية هاورد سترين , ولن يعربد بطلك ومثلك الأعلى هنري ميلر بحريمي.
وقلت لها أيضا ليكن بيننا اتفاق منذ البداية وهو أن أدخلك كما أشاء بدولارات ضرائبي التي ادفعها لك عند بداية كل مصيبة تنزلينها بأمم خلق الله, وعند نهاية كل سنة يعد القراصنة غنائمهم, وعند كل مرة أدخل بها محلاتكم لأشتري حاجياتي وكتبي ودفاتري وأقلامي ومحايات قصصي القصيرة التي لم أكتبها بعد, وأن أختار منك ما أشاء وأرمي ما أشاء.
أتفقنا؟
فقالت لي أمريكا: ليس من طبعي أن أقول (لا) لزبائني.. لكنني في النهاية أصل إلى ما أريد.
وأنا إلى الآن ما أزال أعيش حالة هروب وتنبه لكي لا أقع ضحية في قبضة أمريكا وتأخذ مني ما تريد..
ولو أنتَ, يا مولاي القاريء, تمكنت من أن تحلق وتنظر إلى هروبي من علٍ لعجبْتَ بما أبذل من ركض ودوران بطولي على راحة يدها.


بونانزا



رآني "جو" الأخ الأصغر في المسلسل الأمريكي "بونانزا" وقال لي:
" وين رايح يا أبو أحمد؟"
قلت له: "رايح ادافع عن وطني سورية وأقف مع اخواني ضد قوى الشر والعدوان.."
وكان جو مستعدا فوق صهوة جواده حين قال لي متحمسا:
"إذن هيا بنا.. بروح معك يا مُواطني"
كان اتجاهنا واحدا, أما هدفنا فكان مختلفا. أعطاني حصانا وانطلقنا في صحاري هوليود تصاحبنا موسيقى المسلسل المشوقة. تن ترلن ترلن ترلنتنتين.


الحفرة



أنا قلت لكم إنني لم أدخل أمريكا بل هي التي دخلتني. دخلتني بدباباتها وجنودها وطائراتها وصواريخها عابرة القارات التي عبرت فضائي سبع مرات ثم استقرت فوق غرفتي التي أكتب فيها قصصي القصيرة ودارت فوقها سبع دورات, وفشخت فيها سبع فشخات, ثم خبطت بجزمتها قائلة:
احفر هنا..
قلت لها: ما أنا بحافر.
قالت: احفر.
قلت ما أنا بحافر.
ثم أخيرا قالت: احفر اسم أمريكا فلن تخيبك!
فقلت في سري: يا ولد احفر مالك أد أمريكا.. ثم إنها بلد الأحلام, ولا بد من أن تفوز يوما بعضة من حلمها.
فحفرت.. وظللت أحفر وهي تقول لي احفر كمان.. وأنا أحفر وأحفر وهي تقول أحفر كمان حتى صارت الحفرة عميقة عمق تفكيري وأحلامي فنزلتها وتابعت الحفر بهمة ونشاط وكلي أمل بأن يرنَّ ازميلي بكنز الأحلام التي لم تخيب أحدا ممن قدموا بلاد الأفلام. وعندما صارت حفرتي عميقة عمق الإحساس بالخيبة, وكبيرة كبر احلامي البالونية, مسحت عرق جبيني وبسطتُ جسدي وعدلت من ظهري المنهك وانتظرت أمريكا أن تقول لي كفاك حفرا. بيد أنها لم تنبث بكلمة. حينها رفعت راسي من مكاني وسط الحفرة فلم أرَ أمريكا, بل رأيت نفسي وحيدا وسط حفرة كالقبر امست بفضل جهودي عميقة.
وربما للشطحات تتمة


محمد صباح الحواصلي كاتب سوري مقيم في الولايات المتحدة
sabahhawasli@yahoo.com

صبيحة شبر
01/10/2006, 04:34 PM
المبدع القدير محمد صباح الحواصلي
ونظل نحفر استجابة لامر امريكا ، علنا نظفر بالاحلام السعيدة ، والاماني الجميلة ، واذا بنا ندرك اخيرا ، اننا نحرث الخيبة ، ونستولي على الفاقة ، ونكنز الغربة والصقيع
تحية لقلمك المبدع ايها القاص الرائع

محمد صباح الحواصلي
03/10/2006, 08:09 PM
المبدع القدير محمد صباح الحواصلي
ونظل نحفر استجابة لامر امريكا ، علنا نظفر بالاحلام السعيدة ، والاماني الجميلة ، واذا بنا ندرك اخيرا ، اننا نحرث الخيبة ، ونستولي على الفاقة ، ونكنز الغربة والصقيع
تحية لقلمك المبدع ايها القاص الرائع

---------------------------------
وتحية للأديبة الرائعة صبيحة شبر التي طالما امتعتنا بقصصها الرصينة الجوالة في النفس البشرية وخيباتها وانتظاراتها..
مع مودتي وتقديري
محمد صباح الحواصلي