مهند حبيب السماوي
04/04/2008, 01:17 AM
لاتخلو الساحة الفكرية على أختلاف مدارسها الأيديولوجية وتوجهاتها المتنوعة من بحوث ودراسات عديدة وفي اكثر من لغة تتناول موضوع الأرهاب الذي
تفتك آفته العدمية بالكثير من دول العالم وتحرق الأخضر واليابس على
حد سواء , فالبحوث والدراسات حول هذا الموضوع أكثر من ان تحصى, وهي متنوعة تناولت وجوه وأبعاد ظاهرة الأرهاب وتاريخيتها وكل مايتعلق بأسبابها والعوامل التي شكلت النسغ التي تتغذى منه هذا الظاهرة فضلاً عن
نتائجها وآثارها المدمرة على العالم الغربي بشكل عام والعالم العربي والأسلامي بشكل خاص, لذلك لايبدو غريباً أن كتب أحدهم حول هذا الموضوع خصوصاً وكل فترة يحدث تفجير هنا أو هناك يؤدي بحياة الكثير ويُشعل عشرات الأسئلة
النارية والمقالات والبحوث التي تكون بمثابة صدى للحدث الأرهابي الذي
يذهب ضحيته دائماً الأبرياء ممن لاعلاقة لهم بالصراع بين طرفي الحرب .
وقد لاحظت في الواقع ومن خلال أستقرار ومراجعة بسيطة لما كُتب عن هذا الموضوع ان البحوث والمقالات التي كُتبت حوله لم تتناول الجانب الفلسفي في الأرهاب أو بمعنى أكثر دقة ومنسجمة مع بحثي , لم نر بحث يتناول
بالتحليل والدراسة سلوك الأنتحاري من الناحية القيمية الفلسفية !!! كما سأتناوله
هنا في هذا البحث, وهو جانب مهم وضروري فيه يتم تسليط الضوء
على قيمة الفعل الأنتحاري والروئ الثلاثة التي تتحكم بهذه القيمة كما سأمر
عليها تفصيلاً بعد قليل.
وقبل الدخول في أتون هذا الموضوع لابد لي أولاً من تذكير
القارئ الكريم_ من أجل الأيضاح _ بمجموعة من الحقائق التالية:
الأولى:
أن ظاهرة التفجيرات الأنتحارية ليست جديدة من الناحية التاريخية ولكن أنتشارها الأن قد أصبح أوضح بفعل الصراعات السياسية والاجتماعية والأقتصادية والتأويل الخاطئ للدين فضلاً عن تطور وسائل الأعلام الذي تحول
العالم بواسطتها الى قرية صغيرة.
الثانية:
أن الحضارات والثقافات الأنسانية على أختلاف منطلقاتها واشكالها تُمجد وتحترم وتُقدر التضحيات التي يقدمها الأشخاص من أجل وطنهم ودينهم .
الثالثة:
أن هنالك أجماع عقلاني عالمي على رفض قيام الأنسان بقتل نفسه وقتل الأخرين الأبرياء معه لأي سبب كان.
الرابعة:
أن هذه الظاهرة لاتختص بالمسلمين فقط بل أنها قديمة وقديمة جداً حيث أشار تقرير مذهل منشور في " الأورينت برس " عنوانه " العمليات الأنتحارية بدأها اليهود ولم تُختم بالكاميكاز " بتاريخ 26/5/2007 , الى انه في العهد القديم قد ورد ذكر عملية انتحارية حين قام '' شمشون '' بإزاحة أعمدة المعبد الفلسطيني بقوته فوقع عليه وعلى مَن فيه من العموريين الذين حاربوا اليهود وهي أولى العمليات الأنتحارية, ويرى بعض المؤرخين أنّ العمليات الانتحارية بدأت في أثناء الحملات الصليبية عندما قامت سفينة صليبية تحمل فرساناً أطلق عليهم
تسمية " فرسان المعبد " بالأصطدام عمداً بسفينة للعرب المسلمين فغرق بسبب ذلك 140 فارساً من الصليبيين ومعهم آلاف المسلمين , كما قام بعض الجنود من كلا
البلدين في الحرب الفرنسية ـ الإسبانية المعروفة بحرب
البيرينيه (1793ـ 1795) بتنفيذ بعض العمليات الأنتحارية ، وفي الولايات المتحدة ، قام عدد من الأميركيين من بنسلفانيا وفيرجينيا وتكساس بعمليات أنتحارية ضد الجنود المكسيكيين في العام 1863 وكذلك فجّر بعض العساكر الأميركيين من أصل أفريقي أنفسهم في كارولينا الجنوبية في الولايات
المتحدة , وفي الحرب العالمية الأولى ، خاض الجنود الاستراليون الذين كانوا مع قوات الحلفاء هجوماً انتحارياً في مدينة جاليبولي التركية ضد القوات التركية , كما قام بالعمليات الأنتحارية الكاميكاز وهم مجموعة من الطياريين الأنتحاريين اليابانيين الذين يقومون باسقاط طائراتهم بأرادتهم فوق البوراج الأميريكية أواخر الحرب العالمية الثانية من أجل تدميرها , ولازال يقوم بهذه العمليات الأن نمور التاميل والغالبية العظمى منهم هندوس..
ونتيجة لهذا يُصبح الزعم القائل أنه قد بدأ بتنفيذ العمليات الأنتحارية المسلمون أو العرب هو أمر يخلو من الحقيقة وبعيد عن الصواب ويفتقر الى المصداقية وعاري عن الصحة , كما أنه يدل على جهل فاضح ومُخجل بالتاريخ وحقائقه التي ثبتت عبر العصور المختلفة التي شهدت هذه العمليات الأنتحارية.
الخامسة:
أن الأنتحاري الذي أقدم تحليلاً قيمياً له هو من يقوم بتفجير نفسه ليقتل المدنيين الذين ليس لهم علاقة بالصراع الدائر بينه أو بين من يحركه وبين
أعدائه , بل حتى " هو من يقتل أعدائه ويصيب ويقتل المدنيين معهم أيضاً ".
سأحاول في هذه المقالة _ كما أشرت _ دراسة الفعل الأنتحاري من الناحية القيمية ومحاولة مقاربة هذا السلوك من هذه الرؤية الأكسيولوجية مستفيداً من التحليل الفلسفي الذي قدمه جوستاس بوخلر وجون هرمان راندل , حيث أنطلق من التساؤلات التالية :
ماقيمة الفعل الذي يقوم به الأنتحاري ؟
وماهو الأساس الذي يعتمده الأنتحاري حينما يقوم بفعله التفجيري ؟
وكيف نستطيع نحن تقييم فعل الأنتحاري ؟
هنالك ثلاثة أجوبة يمكن ان تبين وتوضح لنا الأجوبة التي بحثت عنها الأسئلة أعلاه .
الجواب الاول:
أساس ذاتي.
الجواب الثاني:
أساس موضوعي.
الجواب الثالث:
أساس ناتج من تفاعل الذات والموضوع.
وساشرح هذه المعايير والأسس أدناه :
الأساس الذاتي:
هنا يكون للفعل قيمة ذاتية في نفسه دون النظر الى أثره الخارجي, فالقيمة هنا تخص الفعل نفسه من غير أي اعتبار لما يمكن أن يحدثه هذا الفعل من نتائج وآثار في الواقع الموضوعي , وهذا يعني أن قيمة أي فعل تستمد من صاحب الفعل نفسه وهي تختلف باختلاف الحضارات المتعددة والثقافات المتنوعة بل يختلف باختلاف الافراد أنفسهم وان كانوا ينتمون الى عين الفضاء الثقافي الذي يفكر الأنتحاري تحت أطاره.
أن الأنتحاري هنا لايعبأ بالآثار التي ترافق فعله ولا النتائج التي تتمخض
عنها , فلايعنيه تمزق أجساد الأطفال ولاهتك أعراض النساء ولا تطاير
اشلاء ضحاياه ....
وهو أيضاً لا يرى أي ضرر سايكولجي أو أجتماعي أو أخلاقي في عمليته الأنتحارية مهما كان هنالك ضرر واضح للعيان لكل امرئ حاول تقييم فعله الأنتحاري بصورة محايدة ونزيهة وموضوعية .
فالأنتحاري لايهتم ولاينظر لكل ذلك مادام يعد نفسه وذاته معياراً لكل نظرة اكسيولوجية ( قيمية ) لفعل معين.
هذا النظرة تعتمد على مبدأين:
1. مبدأ اللذة.
2. مبدأ الرغبة.
ولنبدأ بتحليل عميق لكل من المبدأين:
فبالنسبة للمبدأ الاول نجد أن الأنتحاري يجد لذة في فعله_ قبل الفعل
التفجيري طبعاً _ حتى وأن احترق جسده وتمزق قطعاً وأجزاءاً.
أذن القيمة هنا مرتبطة باللذة , وهي نظرية معروفة ومشهورة جداً في الحقل الاكسيولوجي القيمي , تنص على " ان الفعل الذي يزيد من لذة شخص ما هو شيء قيّم وجيد وعليه الأتيان به وأما الفعل الرديء فهو الذي يسبب للمرئ الماً وعليه تجنبه " .
ولكن دعنا ننقد هذه النظرية وهذا التبرير الذي يستخدمه الأنتحاري...
عندما يقول الأنتحاري أنه يلتذ بهذا الفعل !
فمن أي ناحية تاتيه اللذة بالضبط ؟
أين يدخل عامل اللذة ؟
اذا كان فعل الأنتحار خير ويزيد من لذة الأنتحاري , فبأي معنى ذلك ؟
من جهة اولى , أن فعل الأنتحار أن كان خيراً للفرد المنتحر _ كما يظن هو ويعتقد _ فان القيمة التي تتواجد في هذا الفعل ترتبط بمعيار ذاتي فردي شخصي منفرد لاينظر الى ماحوله من شبكة أجتماعية يعيش فيها المنتحر قبل فعله الأنتحاري وأثناء ذلك ولا الى الضرر المهول المترتب على ذلك .
ومن جهة ثانية , أذا قلنا_ وفقاً لمبدأ اللذة الأول _ أن المنتحر يشعر بلذة فأننا هنا نستخدم مفهوم اللذة بمعنى واسع فضفاض بحيث لايمكن أن ينطبق عليه مفهوم اللذة الأعتيادي , فالمنتحر لايلتذ بذلك في العالم الواقعي , فهو يتمزق جسده ويتشظى اجزاء ويعاني من الم فوق الأحتمال ولذلك يسقط هنا مفهوم اللذة في فعله الأنتحاري بل حتى لو قيل وزعم البعض أن الأنتحاري يرضى بفعله , وهو قد قَبِل ذلك فهذا لايعني أن هذا القبول هو لذة .
ومن جهة ثالثة نرى أن اللذة لوحدها لايمكن أن تبرر وتسوق فعل أوسلوك ما كما لايمكن أن تكون معيار لفعل شيء ما , فالكثير من اللذات الوقتية تُخفي ورائها مصائب ومشكلات وآلام غير محتملة , ولعل التجارب الشخصية والتاريخية للانسان يمكن ان تؤكد ذلك بصورة لاشك فيها خصوصاً اذا سيطرت اللذة على سلوك الأنسان وغدا لايفكر الا بها وانزاح عقله بعيداً عن أداء واجبه الحقيقي بالنسبة للفرد .
أما بالنسبة للمبدأ الثاني الذي يعتمد عليه الأساس الذاتي , فهو مبدأ الرغبة وهو يعتمد على قاعدة فلسفية تقول: بأن الأشياء القيمة هي الأشياء التي نرغب فيها ونفضلها على غيرها , وفي هذا يقول الفيلسوف سبينوزا " نحن لانرغب في شيء لأنه قيم , بل أنه قيم لأننا نرغب فيه".
فالأنتحاري يقوم بتفجير نفسه لأنه يرغب بهذا الفعل سواء كانت هذه الرغبة أو القناعة مبنية ومستندة على أسس عقلية أو على أسس عاطفية , ولكن دعنا نسأل هذا السؤال المهم :
هل مبدأ الرغبة كافي لتبرير الفعل الأنتحاري ؟ وهل يتضمن هذا المبدأ بعض الثغرات والعيوب ؟
وسوف أقوم بتأجيل الجواب عن السؤال الأول حتى أفك قيود السؤال الثاني لأطلاق سراح جوابه الذي سوف يلقي بصيص من النور الكاشف حول كفاية أو عدم كفاية الرغبة لتبرير الفعل الانتحاري !
الا يمكن أن يرغب ألأنسان _ أي أنسان _ في شيء معين مع العلم أنه هذا الشيء ضار وغير نافع ؟
الجواب بسيط نعم , فالكثير يشرب الخمر ويتعاطى المخدرات ويشرب السكائر مع مافي هذه الأمور من سلبيات وأضرار صحية على جسد الانسان وعقله أيضاً , بل ربما نقلب الموضوع ونقول الأيمكن أن لايرغب الأنسان بأشياء مع العلم انها جيدة ومفيدة ؟ فالدواء لايرغب فيه المريض ولايريد أن يتناوله مع مافيه فائدة يمكن ان تعود عليه من خلال تناوله وهذا يعني ان في مبدأ الرغبة ثغرات وعيوب كثير لاتسوّغ أو تبرر _ وهذا جواب السؤال الأول _ الفعل الأنتحاري.
بل يمكن النظر للمسألة من وجهة نظر أخرى مهمة تفضي الى عين النتيجة أعلاه حيث نلاحظ ان بعض الفلاسفة يميز بدقة بين الشيء الذي نرغب فيه وبين الشيء المرغوب فيه فهنالك فرق كبير وفجوة سحيقة بين شيء نرغب فيه وشيء مرغوب فيه , فالأول _ اي الشيء الذي نرغب به _ يعني شيء
يرغب فيه شخص بصورة فردية ذاتية شخصية في حين
الثاني_ أي الشيء المرغوب فيه_ هو الشيء الذي يرغب فيه المجموع ويكون محل اتفاق نسبي على الحاجة والرغبة فيه , وهذا الأتفاق نسبي كما أشرت يختلف أستناداً الى تعدد الثقافات والحضارات والبلدان وتنوع العادات والتقاليد وأختلاف الازمنة بل حتى والأفراد انفسهم الذين يعيشون داخل حضارة او ثقافة او بلد واحد !!!
وهذا التمييز بين الشيء الذي نرغب فيه والشيء المرغوب فيه يؤدي بنا مرة أخرى الى رفض تبرير الفعل الانتحاري من حيث اعتبار قيمته مرتبطة بكونه فعل مرغوب فيه من قبل الفرد فقط لا المجتمع , فالفعل الأنتحاري مع نتائجه اللامعقولة المروعة هو فعل غير مرغوب فيه _ بلاشك _ خصوصاً في المجتمع الذي يقع ضحيتها ويحس بأوجاعه ويدرك ماساته كالعراق وباكستان وافغانستان والاردن ومصر والمملكة العربية السعودية.
الأساس الموضوعي:
لو كان الفعل الأنتحاري ذو اثار فردية فقط ولا يتعلق بالعالم الخارجي الذي يعيش فيه الفرد لأكتفينا بذلك ولما أحتجنا أن نضع أساس موضوعي له لكن للفعل الأنتحاري نتائج واقعية تتعدى عالمه السايكولوجي الضيق وتعبر رؤاه واحلامه وطموحاته واوهامه وهواجسه لتنتقل نحو عالم الواقع الخارجي الذي يضم هذه العوالم الحية التي نعيش معها .
هنا تقاس قيمة الفعل بامتداداته على ارض الواقع, فهي تكمن في موضوعه الذي وقع عليه الفعل ولاتتعلق بالذات الذي قامت بالفعل, لان الأخيرة _أي الرؤية الذاتية_ متغيرة ومتباينة ولايمكن ان تكون معياراً ومقياساً لمعرفة وادراك قيمة شيء ما .
هنا يحاول من يغسل عقل الأنتحاري اقناعه ان في تفجيره هذا انتصار للأسلام وللمسلمين وان العدو سوف يخافه وبالتالي سيتحقق النصر على العدو الذي يحارب الأسلام !! وهذا مايجيش له مشايخ التكفير والأرهاب حينما يمارسون غسل عقول هؤلاء الصبية.
وهذه حجة غريبة قد أثبتت فشلها المزري خلال هذه السنوات التي ضرب الارهاب فيها الكثير من المناطق , فالأنتحاري _ نتيجة التنويم الفكري _لايكترث برغم فداحة الاضرار الشنيعة التي نتجت عن فعله, والسمعة السيئة للمسلمين التي احدثتها هذه الاعمال, بل هل يعرف شيئاً اسمه المصالح والمفاسد كما يتساءل الشيخ البريك ؟
فعلى الارض ومن ناحية واقعية وموضوعية نرى أن امريكا احتلت بعد هجمات سبتمبر الانتحارية اكثر من دولة اسلامية وعززت تواجدها العسكري في المنطقة العربية والأسلامية ,هذا يعني ان هذه التفجيرات قد فشلت في تحقيق مبتغاها من النصر المزعوم التي تدعيه القاعدة وتزعمه وتضحك به على عقول المغفلين والانتحاريين الذين يمارسون القتل والتفخيخ والذبح البهيمي البربري...
الانتحاري لكل اسف يكفر _ وان لم يشعر بذلك _ بالاية القرانية التي
تقول " ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما"...
وهو هنا ايضا يتناسى قول الله سبحانه وتعالى " وقاتلوا فى سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين ".... فسبحانه وتعالى اوصى بقتال من يقاتلون المسلمين ويعتدون عليهم والرد عليهم حق مشروع ...وليس المدنين الأمنين في الشوارع...كما انه تعالى اوصى بعدم الاعتداء وسلب الحقوق وانتهاك الاعراض لأن الله تعالى لايحب المعتدين.... ثم ان لم يكن فعل الانتحاري الذي يقتل المدنين ويمزق اوصالهم ويثير كل هذه الفوضى ..أن لم يكن أعتداء ...فما هو الاعتداء بربكم؟
بل نجد في بعض الأحاديث النبوية مايشير الى ذلك بصورة لاريب فيها , فهدم الكعبة حجراً حجراً أهون على الله من قتل المسلم , بل أن النبي الأعظم صلى الله عليه واله قد أكد ان من يعين على قتل امرئ مسلم بشطر كلمة فانه سوف يأتي يوم القيامة مكتوب بين عينيه آيس من رحمه الله !!! فما بالك بالأنتحاري الذي لايعين على قتل المسلم فقط بل يقتل بايديه وبارادته وبشعوره الكامل , والتاريخ الأسلامي يُحدثنا أن النبي مر في يوم من الأيام بقتيل فقال من به فلم يذكر له أحد فغضب ثم قال والذي نفسي بيده لو أشترك فيه أهل السماء وأهل الأرض لأكبهم الله في النار !
بل الأمر يصل الى أن فقتل المؤمن يعدل عند الله زوال الدنيا كما قال النبي الذي يبدو ان الأنتحاري لايسمعه ولايأخذ باحاديثه هنا ...
الاساس المعتمد على التفاعل بين الموضوع والذات
في الحقيقة هنالك معيار ثالث يحدد قيمة فعل ما _ ومنه الفعل الانتحاري_ حيث يمكن هنا ملاحظة أن الأساس القيمي بفعل معين لايرتبط بالذات كما تقول النظرة الذاتية , ولا بالموضوع الخارجي في حد ذاته كما تقول النظرة الموضوعية , بل أن الأمر يخضع لجانب العلاقة المركبة بين الذاتي والموضوعي في نفس الان.
فقيمة فعل ما هي قيمة علاقة بين الموضوع والذات في وقت ما , فمثلاً عندما يتيه شخص في صحراء أو غابة ويسعى جاهداً لمعرفة مكانه أو الاتجاهات حوله , فان هذا الشخص لن يلقي بالاً أن وجد قطعة من الذهب بقدر مايهتم بوجود بوصلة تعينه على تحديد مكانه أو حتى هاتف نقال لكي يتصل بواسطته بمن يعرف من اجل أنقاذه ( بشرط أن لاتكون من شبكات الهاتف النقال العاملة في العراق والتي قدمت نموذجاً للفشل والاستهانة بالحكومة والشعب ).
نعم ربما في مكان اخر في المدينة سوف يكون لقطعة الذهب قيمة كبيرة تفوق قيمة البوصلة مرات عديدة ولكنه في ظرفه الحالي يفضل جهاز البوصلة على قطعة الذهب.
أذن هنا قيمة الفعل والشيء تتحدد وفق علاقة بين ذات معينة وموضوع ما في ظرف معين وفعل ما لايحمل قيمة في حد ذاته , بل أنه يحمل قيمة بالنسبة لشخص ما وفي ظرف معين بحيث لا تؤدي الى ضرر بالمجتمع وبالفرد.
وبالنسبة للفعل الأنتحاري فأنه قيمته تتحد هنا عن طريق العلاقة بين ذات الأنتحاري والموضوع الذي يقع فعل الأنتحار عليه , ولعل الواقع وماتفرضه معطياته وعلاقة هذا الواقع _ وهو ينتمي الى عالم الموضوع _ بالذات الأنتحارية التي فخخت نفسها وغدت هشيماً واجزاءاً يصعب جمعها !!! هذه العلاقة هي التي تحدد قيمة الفعل الأنتحاري , اي هي قيمة مقيدة ومحددة بفرد معين في ظرف معين كما أشرت اعلاه , ولكن .... نره هنا ايضاً عدم مشروعية الفعل الأنتحاري من المنظور الديني والأنساني ...
المنظور الديني يرفض ذلك وقد مررنا على بعض الايات القرانية والاحاديث الشريفة واذا ما دخلنا في منظومة السلفية الذي تتحرك داخل اطارها أفكار الأنتحاري لرأينا كبار مشايخهم لايؤيدون ذلك ويرفضونه بصورة قاطعة . فنجد التاكيد الشديد على رفض ذلك في أقوال مشايخ السلفية كأبن باز، وابن عثيمين، وآل الشيخ فضلا عن علماء الأزهر كشلتوت، وأبو زهرة، ود. طنطاوي ، فقد قال الشيخ أبن عثيمين حين سُئل عن العمليات الانتحارية (انه قاتل لنفسه وأنه سيعذب في النار) وقال آل الشيخ عنها ايضاً (لا أعلم لها وجهاً شرعياً ) واكد الشيخ العبيكان (تسمية العمليات الانتحارية بالاستشهادية، خاطئة وهي محرمة) , وقال د. زقزوق - وزير الأوقاف المصري - (الانتحاريون ليسوا شهداء، بل يرتكبون جريمة مزدوجة، في حق الله واهب الحياة، وفي الاعتداء على الآخرين) كما ذكر ذلك واحصاها الكاتب عبد الحميد الانصاري .
ولكن وعلى الرغم من كل هذا الاجماع نلاحظ أن الأنتحاري يكتفي بما اقنعه به شيخه من ان العملية لخدمة المسلمين والأسلام , وشيخه طبعاً يسير وفقاً لرؤاه الفردية وتاويلاته الذاتية الخارجة عن أجماع علماء المسلمين الذي لديهم رأي مختلف ومتناقض مع ارائه الشاذه الارهابية , ولهذا ترى ان أسامة بن لادن لايخجل من أن يقول " ليست لفتوى أي عالم رسمي قيمة عندي ".
أذن لا توجد مصلحة دينية في الفعل التفجيري , وحجة الأنتحاري ايضاً مردودة هنا فالأخير يرى _ أو هكذا اقنعوه مشايخ التكفير _ أن في تفجير نفسه أنتصار للأسلام ولحربه التي يخوضها كما تطرقت لها أعلاه , وان الرسول الأعظم صلى الله عليه واله سوف يكون بانتظاره على مأدبة من طعام الجنان لكي يأكل معه, في حين ان ثمرة ونتائج أعمال هؤلاء كانت ضد الاسلام والمسلمين في كافة أرجاء العالم بل لعبت دوراً سياسياً أيجابياً للاطراف التي تزعم تلك الجماعات أنها تحاربها , فالرئيس الامريكي جورج بوش قد استفاد في حملته الانتخابية الثانية من خطابات بن لادن والظواهري وتهديداتهم الفارغة , واستطاع أن يُقنع الناخب الامريكي ان الخطر الارهابي مازال حاضراً ولهذا عليه ان يستمر رئيساً لدورة انتخابية ثانية لكي يُكمل حربه ضد هؤلاء وفعلاً تم له ذلك والحال عينه عند بلير رئيس الوزراء البريطاني الاسبق اذا ان تفجيرات لندن الارهابية الحمقاء قد غيرت وجهة نظر الناخب البريطاني ورفعت شعبية بلير بسرعة مذهلة.
المنظور الأنساني _ الذي ينطلق من المشتركات العقلية الواضحة البديهية العامة لبني البشر _ يرفض ويستنكر ويستهجن بشدة أي عمل يمكن ان يؤدي الى قتل انسان مدني بريء لادخل له في الصراعات والخلافات والحروب , أي عقل هذا الذي يسمح لشخص ان يفجر نفسه ويقتل العشرات من المدنيين الذين لا يختلفون معه في الانسانية , بل أحياناً حتى الذين يشتركون معه في نفس الديانة والمذهب والخط الفكري ؟
بل اي ظرف هذا الذي يسمح لك ايها الأنتحاري ان تبيح قتل طفل واختطاف حياته وأزهاقها كما تفعل احياناً في تفجيرك لنفسك ؟
كيف يمكن لأنسان ما أن يخطف حياة أخر لايعرفه ولم يسبب له أذى ؟
هل حياة الأخر الذي مزقته وقطعته اوصالاً تابعة لك وانت من وهبها له حتى يحق لك ان تسلبها ؟
أن الأسئلة التي تتفجر هنا حول هذا الموضوع تُربكني وتُشعرني بالأسى والحزن والغصة في آن واحد ... وتُجبرني على أنهاء المقال المطول هذا مكتفياً بهذا العرض البسيط الذي قد يتحول في المستقبل الى كتاب يتناول هذا الموضوع الشائك الذي جر على المسلمين الويلات والسمعة السيئة التي لن تُمحى بسهولة من الذاكرة الأنسانية.
صحيفة الوطن
مهند حبيب السماوي
تفتك آفته العدمية بالكثير من دول العالم وتحرق الأخضر واليابس على
حد سواء , فالبحوث والدراسات حول هذا الموضوع أكثر من ان تحصى, وهي متنوعة تناولت وجوه وأبعاد ظاهرة الأرهاب وتاريخيتها وكل مايتعلق بأسبابها والعوامل التي شكلت النسغ التي تتغذى منه هذا الظاهرة فضلاً عن
نتائجها وآثارها المدمرة على العالم الغربي بشكل عام والعالم العربي والأسلامي بشكل خاص, لذلك لايبدو غريباً أن كتب أحدهم حول هذا الموضوع خصوصاً وكل فترة يحدث تفجير هنا أو هناك يؤدي بحياة الكثير ويُشعل عشرات الأسئلة
النارية والمقالات والبحوث التي تكون بمثابة صدى للحدث الأرهابي الذي
يذهب ضحيته دائماً الأبرياء ممن لاعلاقة لهم بالصراع بين طرفي الحرب .
وقد لاحظت في الواقع ومن خلال أستقرار ومراجعة بسيطة لما كُتب عن هذا الموضوع ان البحوث والمقالات التي كُتبت حوله لم تتناول الجانب الفلسفي في الأرهاب أو بمعنى أكثر دقة ومنسجمة مع بحثي , لم نر بحث يتناول
بالتحليل والدراسة سلوك الأنتحاري من الناحية القيمية الفلسفية !!! كما سأتناوله
هنا في هذا البحث, وهو جانب مهم وضروري فيه يتم تسليط الضوء
على قيمة الفعل الأنتحاري والروئ الثلاثة التي تتحكم بهذه القيمة كما سأمر
عليها تفصيلاً بعد قليل.
وقبل الدخول في أتون هذا الموضوع لابد لي أولاً من تذكير
القارئ الكريم_ من أجل الأيضاح _ بمجموعة من الحقائق التالية:
الأولى:
أن ظاهرة التفجيرات الأنتحارية ليست جديدة من الناحية التاريخية ولكن أنتشارها الأن قد أصبح أوضح بفعل الصراعات السياسية والاجتماعية والأقتصادية والتأويل الخاطئ للدين فضلاً عن تطور وسائل الأعلام الذي تحول
العالم بواسطتها الى قرية صغيرة.
الثانية:
أن الحضارات والثقافات الأنسانية على أختلاف منطلقاتها واشكالها تُمجد وتحترم وتُقدر التضحيات التي يقدمها الأشخاص من أجل وطنهم ودينهم .
الثالثة:
أن هنالك أجماع عقلاني عالمي على رفض قيام الأنسان بقتل نفسه وقتل الأخرين الأبرياء معه لأي سبب كان.
الرابعة:
أن هذه الظاهرة لاتختص بالمسلمين فقط بل أنها قديمة وقديمة جداً حيث أشار تقرير مذهل منشور في " الأورينت برس " عنوانه " العمليات الأنتحارية بدأها اليهود ولم تُختم بالكاميكاز " بتاريخ 26/5/2007 , الى انه في العهد القديم قد ورد ذكر عملية انتحارية حين قام '' شمشون '' بإزاحة أعمدة المعبد الفلسطيني بقوته فوقع عليه وعلى مَن فيه من العموريين الذين حاربوا اليهود وهي أولى العمليات الأنتحارية, ويرى بعض المؤرخين أنّ العمليات الانتحارية بدأت في أثناء الحملات الصليبية عندما قامت سفينة صليبية تحمل فرساناً أطلق عليهم
تسمية " فرسان المعبد " بالأصطدام عمداً بسفينة للعرب المسلمين فغرق بسبب ذلك 140 فارساً من الصليبيين ومعهم آلاف المسلمين , كما قام بعض الجنود من كلا
البلدين في الحرب الفرنسية ـ الإسبانية المعروفة بحرب
البيرينيه (1793ـ 1795) بتنفيذ بعض العمليات الأنتحارية ، وفي الولايات المتحدة ، قام عدد من الأميركيين من بنسلفانيا وفيرجينيا وتكساس بعمليات أنتحارية ضد الجنود المكسيكيين في العام 1863 وكذلك فجّر بعض العساكر الأميركيين من أصل أفريقي أنفسهم في كارولينا الجنوبية في الولايات
المتحدة , وفي الحرب العالمية الأولى ، خاض الجنود الاستراليون الذين كانوا مع قوات الحلفاء هجوماً انتحارياً في مدينة جاليبولي التركية ضد القوات التركية , كما قام بالعمليات الأنتحارية الكاميكاز وهم مجموعة من الطياريين الأنتحاريين اليابانيين الذين يقومون باسقاط طائراتهم بأرادتهم فوق البوراج الأميريكية أواخر الحرب العالمية الثانية من أجل تدميرها , ولازال يقوم بهذه العمليات الأن نمور التاميل والغالبية العظمى منهم هندوس..
ونتيجة لهذا يُصبح الزعم القائل أنه قد بدأ بتنفيذ العمليات الأنتحارية المسلمون أو العرب هو أمر يخلو من الحقيقة وبعيد عن الصواب ويفتقر الى المصداقية وعاري عن الصحة , كما أنه يدل على جهل فاضح ومُخجل بالتاريخ وحقائقه التي ثبتت عبر العصور المختلفة التي شهدت هذه العمليات الأنتحارية.
الخامسة:
أن الأنتحاري الذي أقدم تحليلاً قيمياً له هو من يقوم بتفجير نفسه ليقتل المدنيين الذين ليس لهم علاقة بالصراع الدائر بينه أو بين من يحركه وبين
أعدائه , بل حتى " هو من يقتل أعدائه ويصيب ويقتل المدنيين معهم أيضاً ".
سأحاول في هذه المقالة _ كما أشرت _ دراسة الفعل الأنتحاري من الناحية القيمية ومحاولة مقاربة هذا السلوك من هذه الرؤية الأكسيولوجية مستفيداً من التحليل الفلسفي الذي قدمه جوستاس بوخلر وجون هرمان راندل , حيث أنطلق من التساؤلات التالية :
ماقيمة الفعل الذي يقوم به الأنتحاري ؟
وماهو الأساس الذي يعتمده الأنتحاري حينما يقوم بفعله التفجيري ؟
وكيف نستطيع نحن تقييم فعل الأنتحاري ؟
هنالك ثلاثة أجوبة يمكن ان تبين وتوضح لنا الأجوبة التي بحثت عنها الأسئلة أعلاه .
الجواب الاول:
أساس ذاتي.
الجواب الثاني:
أساس موضوعي.
الجواب الثالث:
أساس ناتج من تفاعل الذات والموضوع.
وساشرح هذه المعايير والأسس أدناه :
الأساس الذاتي:
هنا يكون للفعل قيمة ذاتية في نفسه دون النظر الى أثره الخارجي, فالقيمة هنا تخص الفعل نفسه من غير أي اعتبار لما يمكن أن يحدثه هذا الفعل من نتائج وآثار في الواقع الموضوعي , وهذا يعني أن قيمة أي فعل تستمد من صاحب الفعل نفسه وهي تختلف باختلاف الحضارات المتعددة والثقافات المتنوعة بل يختلف باختلاف الافراد أنفسهم وان كانوا ينتمون الى عين الفضاء الثقافي الذي يفكر الأنتحاري تحت أطاره.
أن الأنتحاري هنا لايعبأ بالآثار التي ترافق فعله ولا النتائج التي تتمخض
عنها , فلايعنيه تمزق أجساد الأطفال ولاهتك أعراض النساء ولا تطاير
اشلاء ضحاياه ....
وهو أيضاً لا يرى أي ضرر سايكولجي أو أجتماعي أو أخلاقي في عمليته الأنتحارية مهما كان هنالك ضرر واضح للعيان لكل امرئ حاول تقييم فعله الأنتحاري بصورة محايدة ونزيهة وموضوعية .
فالأنتحاري لايهتم ولاينظر لكل ذلك مادام يعد نفسه وذاته معياراً لكل نظرة اكسيولوجية ( قيمية ) لفعل معين.
هذا النظرة تعتمد على مبدأين:
1. مبدأ اللذة.
2. مبدأ الرغبة.
ولنبدأ بتحليل عميق لكل من المبدأين:
فبالنسبة للمبدأ الاول نجد أن الأنتحاري يجد لذة في فعله_ قبل الفعل
التفجيري طبعاً _ حتى وأن احترق جسده وتمزق قطعاً وأجزاءاً.
أذن القيمة هنا مرتبطة باللذة , وهي نظرية معروفة ومشهورة جداً في الحقل الاكسيولوجي القيمي , تنص على " ان الفعل الذي يزيد من لذة شخص ما هو شيء قيّم وجيد وعليه الأتيان به وأما الفعل الرديء فهو الذي يسبب للمرئ الماً وعليه تجنبه " .
ولكن دعنا ننقد هذه النظرية وهذا التبرير الذي يستخدمه الأنتحاري...
عندما يقول الأنتحاري أنه يلتذ بهذا الفعل !
فمن أي ناحية تاتيه اللذة بالضبط ؟
أين يدخل عامل اللذة ؟
اذا كان فعل الأنتحار خير ويزيد من لذة الأنتحاري , فبأي معنى ذلك ؟
من جهة اولى , أن فعل الأنتحار أن كان خيراً للفرد المنتحر _ كما يظن هو ويعتقد _ فان القيمة التي تتواجد في هذا الفعل ترتبط بمعيار ذاتي فردي شخصي منفرد لاينظر الى ماحوله من شبكة أجتماعية يعيش فيها المنتحر قبل فعله الأنتحاري وأثناء ذلك ولا الى الضرر المهول المترتب على ذلك .
ومن جهة ثانية , أذا قلنا_ وفقاً لمبدأ اللذة الأول _ أن المنتحر يشعر بلذة فأننا هنا نستخدم مفهوم اللذة بمعنى واسع فضفاض بحيث لايمكن أن ينطبق عليه مفهوم اللذة الأعتيادي , فالمنتحر لايلتذ بذلك في العالم الواقعي , فهو يتمزق جسده ويتشظى اجزاء ويعاني من الم فوق الأحتمال ولذلك يسقط هنا مفهوم اللذة في فعله الأنتحاري بل حتى لو قيل وزعم البعض أن الأنتحاري يرضى بفعله , وهو قد قَبِل ذلك فهذا لايعني أن هذا القبول هو لذة .
ومن جهة ثالثة نرى أن اللذة لوحدها لايمكن أن تبرر وتسوق فعل أوسلوك ما كما لايمكن أن تكون معيار لفعل شيء ما , فالكثير من اللذات الوقتية تُخفي ورائها مصائب ومشكلات وآلام غير محتملة , ولعل التجارب الشخصية والتاريخية للانسان يمكن ان تؤكد ذلك بصورة لاشك فيها خصوصاً اذا سيطرت اللذة على سلوك الأنسان وغدا لايفكر الا بها وانزاح عقله بعيداً عن أداء واجبه الحقيقي بالنسبة للفرد .
أما بالنسبة للمبدأ الثاني الذي يعتمد عليه الأساس الذاتي , فهو مبدأ الرغبة وهو يعتمد على قاعدة فلسفية تقول: بأن الأشياء القيمة هي الأشياء التي نرغب فيها ونفضلها على غيرها , وفي هذا يقول الفيلسوف سبينوزا " نحن لانرغب في شيء لأنه قيم , بل أنه قيم لأننا نرغب فيه".
فالأنتحاري يقوم بتفجير نفسه لأنه يرغب بهذا الفعل سواء كانت هذه الرغبة أو القناعة مبنية ومستندة على أسس عقلية أو على أسس عاطفية , ولكن دعنا نسأل هذا السؤال المهم :
هل مبدأ الرغبة كافي لتبرير الفعل الأنتحاري ؟ وهل يتضمن هذا المبدأ بعض الثغرات والعيوب ؟
وسوف أقوم بتأجيل الجواب عن السؤال الأول حتى أفك قيود السؤال الثاني لأطلاق سراح جوابه الذي سوف يلقي بصيص من النور الكاشف حول كفاية أو عدم كفاية الرغبة لتبرير الفعل الانتحاري !
الا يمكن أن يرغب ألأنسان _ أي أنسان _ في شيء معين مع العلم أنه هذا الشيء ضار وغير نافع ؟
الجواب بسيط نعم , فالكثير يشرب الخمر ويتعاطى المخدرات ويشرب السكائر مع مافي هذه الأمور من سلبيات وأضرار صحية على جسد الانسان وعقله أيضاً , بل ربما نقلب الموضوع ونقول الأيمكن أن لايرغب الأنسان بأشياء مع العلم انها جيدة ومفيدة ؟ فالدواء لايرغب فيه المريض ولايريد أن يتناوله مع مافيه فائدة يمكن ان تعود عليه من خلال تناوله وهذا يعني ان في مبدأ الرغبة ثغرات وعيوب كثير لاتسوّغ أو تبرر _ وهذا جواب السؤال الأول _ الفعل الأنتحاري.
بل يمكن النظر للمسألة من وجهة نظر أخرى مهمة تفضي الى عين النتيجة أعلاه حيث نلاحظ ان بعض الفلاسفة يميز بدقة بين الشيء الذي نرغب فيه وبين الشيء المرغوب فيه فهنالك فرق كبير وفجوة سحيقة بين شيء نرغب فيه وشيء مرغوب فيه , فالأول _ اي الشيء الذي نرغب به _ يعني شيء
يرغب فيه شخص بصورة فردية ذاتية شخصية في حين
الثاني_ أي الشيء المرغوب فيه_ هو الشيء الذي يرغب فيه المجموع ويكون محل اتفاق نسبي على الحاجة والرغبة فيه , وهذا الأتفاق نسبي كما أشرت يختلف أستناداً الى تعدد الثقافات والحضارات والبلدان وتنوع العادات والتقاليد وأختلاف الازمنة بل حتى والأفراد انفسهم الذين يعيشون داخل حضارة او ثقافة او بلد واحد !!!
وهذا التمييز بين الشيء الذي نرغب فيه والشيء المرغوب فيه يؤدي بنا مرة أخرى الى رفض تبرير الفعل الانتحاري من حيث اعتبار قيمته مرتبطة بكونه فعل مرغوب فيه من قبل الفرد فقط لا المجتمع , فالفعل الأنتحاري مع نتائجه اللامعقولة المروعة هو فعل غير مرغوب فيه _ بلاشك _ خصوصاً في المجتمع الذي يقع ضحيتها ويحس بأوجاعه ويدرك ماساته كالعراق وباكستان وافغانستان والاردن ومصر والمملكة العربية السعودية.
الأساس الموضوعي:
لو كان الفعل الأنتحاري ذو اثار فردية فقط ولا يتعلق بالعالم الخارجي الذي يعيش فيه الفرد لأكتفينا بذلك ولما أحتجنا أن نضع أساس موضوعي له لكن للفعل الأنتحاري نتائج واقعية تتعدى عالمه السايكولوجي الضيق وتعبر رؤاه واحلامه وطموحاته واوهامه وهواجسه لتنتقل نحو عالم الواقع الخارجي الذي يضم هذه العوالم الحية التي نعيش معها .
هنا تقاس قيمة الفعل بامتداداته على ارض الواقع, فهي تكمن في موضوعه الذي وقع عليه الفعل ولاتتعلق بالذات الذي قامت بالفعل, لان الأخيرة _أي الرؤية الذاتية_ متغيرة ومتباينة ولايمكن ان تكون معياراً ومقياساً لمعرفة وادراك قيمة شيء ما .
هنا يحاول من يغسل عقل الأنتحاري اقناعه ان في تفجيره هذا انتصار للأسلام وللمسلمين وان العدو سوف يخافه وبالتالي سيتحقق النصر على العدو الذي يحارب الأسلام !! وهذا مايجيش له مشايخ التكفير والأرهاب حينما يمارسون غسل عقول هؤلاء الصبية.
وهذه حجة غريبة قد أثبتت فشلها المزري خلال هذه السنوات التي ضرب الارهاب فيها الكثير من المناطق , فالأنتحاري _ نتيجة التنويم الفكري _لايكترث برغم فداحة الاضرار الشنيعة التي نتجت عن فعله, والسمعة السيئة للمسلمين التي احدثتها هذه الاعمال, بل هل يعرف شيئاً اسمه المصالح والمفاسد كما يتساءل الشيخ البريك ؟
فعلى الارض ومن ناحية واقعية وموضوعية نرى أن امريكا احتلت بعد هجمات سبتمبر الانتحارية اكثر من دولة اسلامية وعززت تواجدها العسكري في المنطقة العربية والأسلامية ,هذا يعني ان هذه التفجيرات قد فشلت في تحقيق مبتغاها من النصر المزعوم التي تدعيه القاعدة وتزعمه وتضحك به على عقول المغفلين والانتحاريين الذين يمارسون القتل والتفخيخ والذبح البهيمي البربري...
الانتحاري لكل اسف يكفر _ وان لم يشعر بذلك _ بالاية القرانية التي
تقول " ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما"...
وهو هنا ايضا يتناسى قول الله سبحانه وتعالى " وقاتلوا فى سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين ".... فسبحانه وتعالى اوصى بقتال من يقاتلون المسلمين ويعتدون عليهم والرد عليهم حق مشروع ...وليس المدنين الأمنين في الشوارع...كما انه تعالى اوصى بعدم الاعتداء وسلب الحقوق وانتهاك الاعراض لأن الله تعالى لايحب المعتدين.... ثم ان لم يكن فعل الانتحاري الذي يقتل المدنين ويمزق اوصالهم ويثير كل هذه الفوضى ..أن لم يكن أعتداء ...فما هو الاعتداء بربكم؟
بل نجد في بعض الأحاديث النبوية مايشير الى ذلك بصورة لاريب فيها , فهدم الكعبة حجراً حجراً أهون على الله من قتل المسلم , بل أن النبي الأعظم صلى الله عليه واله قد أكد ان من يعين على قتل امرئ مسلم بشطر كلمة فانه سوف يأتي يوم القيامة مكتوب بين عينيه آيس من رحمه الله !!! فما بالك بالأنتحاري الذي لايعين على قتل المسلم فقط بل يقتل بايديه وبارادته وبشعوره الكامل , والتاريخ الأسلامي يُحدثنا أن النبي مر في يوم من الأيام بقتيل فقال من به فلم يذكر له أحد فغضب ثم قال والذي نفسي بيده لو أشترك فيه أهل السماء وأهل الأرض لأكبهم الله في النار !
بل الأمر يصل الى أن فقتل المؤمن يعدل عند الله زوال الدنيا كما قال النبي الذي يبدو ان الأنتحاري لايسمعه ولايأخذ باحاديثه هنا ...
الاساس المعتمد على التفاعل بين الموضوع والذات
في الحقيقة هنالك معيار ثالث يحدد قيمة فعل ما _ ومنه الفعل الانتحاري_ حيث يمكن هنا ملاحظة أن الأساس القيمي بفعل معين لايرتبط بالذات كما تقول النظرة الذاتية , ولا بالموضوع الخارجي في حد ذاته كما تقول النظرة الموضوعية , بل أن الأمر يخضع لجانب العلاقة المركبة بين الذاتي والموضوعي في نفس الان.
فقيمة فعل ما هي قيمة علاقة بين الموضوع والذات في وقت ما , فمثلاً عندما يتيه شخص في صحراء أو غابة ويسعى جاهداً لمعرفة مكانه أو الاتجاهات حوله , فان هذا الشخص لن يلقي بالاً أن وجد قطعة من الذهب بقدر مايهتم بوجود بوصلة تعينه على تحديد مكانه أو حتى هاتف نقال لكي يتصل بواسطته بمن يعرف من اجل أنقاذه ( بشرط أن لاتكون من شبكات الهاتف النقال العاملة في العراق والتي قدمت نموذجاً للفشل والاستهانة بالحكومة والشعب ).
نعم ربما في مكان اخر في المدينة سوف يكون لقطعة الذهب قيمة كبيرة تفوق قيمة البوصلة مرات عديدة ولكنه في ظرفه الحالي يفضل جهاز البوصلة على قطعة الذهب.
أذن هنا قيمة الفعل والشيء تتحدد وفق علاقة بين ذات معينة وموضوع ما في ظرف معين وفعل ما لايحمل قيمة في حد ذاته , بل أنه يحمل قيمة بالنسبة لشخص ما وفي ظرف معين بحيث لا تؤدي الى ضرر بالمجتمع وبالفرد.
وبالنسبة للفعل الأنتحاري فأنه قيمته تتحد هنا عن طريق العلاقة بين ذات الأنتحاري والموضوع الذي يقع فعل الأنتحار عليه , ولعل الواقع وماتفرضه معطياته وعلاقة هذا الواقع _ وهو ينتمي الى عالم الموضوع _ بالذات الأنتحارية التي فخخت نفسها وغدت هشيماً واجزاءاً يصعب جمعها !!! هذه العلاقة هي التي تحدد قيمة الفعل الأنتحاري , اي هي قيمة مقيدة ومحددة بفرد معين في ظرف معين كما أشرت اعلاه , ولكن .... نره هنا ايضاً عدم مشروعية الفعل الأنتحاري من المنظور الديني والأنساني ...
المنظور الديني يرفض ذلك وقد مررنا على بعض الايات القرانية والاحاديث الشريفة واذا ما دخلنا في منظومة السلفية الذي تتحرك داخل اطارها أفكار الأنتحاري لرأينا كبار مشايخهم لايؤيدون ذلك ويرفضونه بصورة قاطعة . فنجد التاكيد الشديد على رفض ذلك في أقوال مشايخ السلفية كأبن باز، وابن عثيمين، وآل الشيخ فضلا عن علماء الأزهر كشلتوت، وأبو زهرة، ود. طنطاوي ، فقد قال الشيخ أبن عثيمين حين سُئل عن العمليات الانتحارية (انه قاتل لنفسه وأنه سيعذب في النار) وقال آل الشيخ عنها ايضاً (لا أعلم لها وجهاً شرعياً ) واكد الشيخ العبيكان (تسمية العمليات الانتحارية بالاستشهادية، خاطئة وهي محرمة) , وقال د. زقزوق - وزير الأوقاف المصري - (الانتحاريون ليسوا شهداء، بل يرتكبون جريمة مزدوجة، في حق الله واهب الحياة، وفي الاعتداء على الآخرين) كما ذكر ذلك واحصاها الكاتب عبد الحميد الانصاري .
ولكن وعلى الرغم من كل هذا الاجماع نلاحظ أن الأنتحاري يكتفي بما اقنعه به شيخه من ان العملية لخدمة المسلمين والأسلام , وشيخه طبعاً يسير وفقاً لرؤاه الفردية وتاويلاته الذاتية الخارجة عن أجماع علماء المسلمين الذي لديهم رأي مختلف ومتناقض مع ارائه الشاذه الارهابية , ولهذا ترى ان أسامة بن لادن لايخجل من أن يقول " ليست لفتوى أي عالم رسمي قيمة عندي ".
أذن لا توجد مصلحة دينية في الفعل التفجيري , وحجة الأنتحاري ايضاً مردودة هنا فالأخير يرى _ أو هكذا اقنعوه مشايخ التكفير _ أن في تفجير نفسه أنتصار للأسلام ولحربه التي يخوضها كما تطرقت لها أعلاه , وان الرسول الأعظم صلى الله عليه واله سوف يكون بانتظاره على مأدبة من طعام الجنان لكي يأكل معه, في حين ان ثمرة ونتائج أعمال هؤلاء كانت ضد الاسلام والمسلمين في كافة أرجاء العالم بل لعبت دوراً سياسياً أيجابياً للاطراف التي تزعم تلك الجماعات أنها تحاربها , فالرئيس الامريكي جورج بوش قد استفاد في حملته الانتخابية الثانية من خطابات بن لادن والظواهري وتهديداتهم الفارغة , واستطاع أن يُقنع الناخب الامريكي ان الخطر الارهابي مازال حاضراً ولهذا عليه ان يستمر رئيساً لدورة انتخابية ثانية لكي يُكمل حربه ضد هؤلاء وفعلاً تم له ذلك والحال عينه عند بلير رئيس الوزراء البريطاني الاسبق اذا ان تفجيرات لندن الارهابية الحمقاء قد غيرت وجهة نظر الناخب البريطاني ورفعت شعبية بلير بسرعة مذهلة.
المنظور الأنساني _ الذي ينطلق من المشتركات العقلية الواضحة البديهية العامة لبني البشر _ يرفض ويستنكر ويستهجن بشدة أي عمل يمكن ان يؤدي الى قتل انسان مدني بريء لادخل له في الصراعات والخلافات والحروب , أي عقل هذا الذي يسمح لشخص ان يفجر نفسه ويقتل العشرات من المدنيين الذين لا يختلفون معه في الانسانية , بل أحياناً حتى الذين يشتركون معه في نفس الديانة والمذهب والخط الفكري ؟
بل اي ظرف هذا الذي يسمح لك ايها الأنتحاري ان تبيح قتل طفل واختطاف حياته وأزهاقها كما تفعل احياناً في تفجيرك لنفسك ؟
كيف يمكن لأنسان ما أن يخطف حياة أخر لايعرفه ولم يسبب له أذى ؟
هل حياة الأخر الذي مزقته وقطعته اوصالاً تابعة لك وانت من وهبها له حتى يحق لك ان تسلبها ؟
أن الأسئلة التي تتفجر هنا حول هذا الموضوع تُربكني وتُشعرني بالأسى والحزن والغصة في آن واحد ... وتُجبرني على أنهاء المقال المطول هذا مكتفياً بهذا العرض البسيط الذي قد يتحول في المستقبل الى كتاب يتناول هذا الموضوع الشائك الذي جر على المسلمين الويلات والسمعة السيئة التي لن تُمحى بسهولة من الذاكرة الأنسانية.
صحيفة الوطن
مهند حبيب السماوي