المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الغريق والقشة



ظلال
01/10/2006, 06:25 PM
الغريق والقشة

ها هو الزائر المتطفل على دفء الشمس وزرقة السماء يعود من جديد غير مخالف لميعاده، يعود قارعاً الأبواب والشبابيك ليضيء بكلّ ما يحمل في حناياه قناديل البهجة خلف الجدران، لترتفع نغمات الترانيم وتخترق بقدسيتها القلوب فتقرع أجراس المحبة البريئة.
جاء الشتاء ليقبِّل تراب الأرض، ليحتضن الأودية العطشى والينابيع الضحلة، جاء الشتاء بعد غياب دام سبعة أشهر ليزرع الأمل في قلوب الفلاحين ويخطف الأمل من قلوب آخرين، لأن بعودته رحل هو.
رحل هو عن هذه التي قدّسها المطر في تشرين الأول، استقل الطائرة التي ألقت به إلى أخرى لم تطأها قدماه من قبل، وتلك الأخرى لن تستطيع حمله كما فعلت الأرض المقدسة، على أرض مطار تلك الغريبة أخذ توازنه يختل وجسده يثقل ويثقل والغربة تنخر عظامه شيئاً فشيئاً، فلم يعد له إلاّ الذكريات أنيساً، ذكريات تحكي قصة الرسائل الواهنة التي طالما شاطرته نومه وأحلامه تحت الوسادة.أفكار غريبة لم تخطر بباله من قبل، أفكار تعشق الموت وتحن له، لأنه يخلق الحياة، والحياة في نظره الآن هي اللاشيء، كل شيء يبصره أصبح يوحي باللاشيء حتى الطائرة والمطار والحقائب، همهمات، ضحكات من حوله تُشعره بالعصبية، يخاطب روحه (بشرٌ مجانين، خلقوا للحزن فيضحكون له ويرشقون ببسماتهم أبوابه. يتهامسون فيثقبون طبلة أذني، يحدقون بي فيمزقوني، كلهم أكذوبة إلا أنا، خلقت للحزن فأشاطره كونه حزناً، ولا أكون منافقاً فأرشقه بالقهقهات السكرى دون خمر.
في غمرة كلّ هذا اليأس والتعب ينشد شيئاً ليرتاح فيلقي جسده المثقل على كرسي في قاعة استقبال المطار، تسرقه غفوة، قدمت إليه من عالم بعيد غير عالمه، غفوة ثقيلة كالمخمل، رأى نفسه سجيناً خلف قضبان من حديد، أصابع يديه محشوة بصدأها، وكأنه خلفها منذ مئات بل ألوف السنين . ملابسه رثة، تركت نصف جسده عارياً والبرد يلسعهُ، عيناه عليهما غشاوة، لم يعد يبصر بهما جيداً، يستدير يمنة وشمالاً باحثاً عن شيء لا يعلمه لكنه يريده بلهفة، ثم يراها معلقة على الجدار، حملتها ذرات قلمٍ مغموسة بدم وردي، مشى متثاقلاً نحوها، مد أصابعه الصدئة ليلمسها علّه يعيد إليها الحياة، فأختفت ليبصر مقبرة شاسعة، زرعت بها آلاف اللحوم المتعفنة، ألقى جسده على الأرض، خرجت يده من قبر، إنها هي... يدها...آ...ه، لا، لا.
(اللهم أجعله خيراً، ياله من حلم بشع زاد أحزاني حزناً وهلعاً!) لكنه حين عاد إلى الملموس تسمّر في مكانه، لم يعد يسمع أصوات الضحكات والهمسات الزائفة ولا حتى صراخ عجلات الحقائب، بدا كل شيء فجأة ودون سابق إنذار هادئاً صامتاً إلاّ أحشاؤه فهي متأججة، لم يشعر بيده حين ارتخت وتهاوت حقيبته إلى الأرض، أراد أن يخلع نعليه ويرقص على أرضيه قاعة الاستقبال صارخاً (إنها هي، أنظروا يا بشر، هي نعم، هي). أراد أن يسمعها صوت قصيدة نزار: نوارة قلبي، مروحتي، قنديلي فوق بساتيني، مدّ لي جسراًَ من رائحة الليمون. وضعيني مشطاً عاجياً في عتمة شعرك وانسيني، من أجلك اعتقت نسائي وتركت التاريخ ورائي، وسقطت شهادة ميلادي، وقطعت جميع شرايني).
عيناه تحدقان بها، تتأملان دون أن تشعر كما في السابق. إنها الشيء الوحيد الذي نظر إليه في قاعة الاستقبال وشعر به، رؤيتها كانت بصيص الأمل الوحيد له، إنها هي رائحة الوطن والأحباب، رائحة المطر يلقى بنفسه إلى أحضان التراب، حبه المدفون في شراينه يمده بشيء من الحياة. وفجأة أخذت شفتاه تتفرجان شيئاً فشيئاً لترسما بقلم الحب الصادق والمشاعر الدافئة ابتسامة خفيفة أزاحت غيمة سوداء كانت قابعة فوق رأسه، أنها هي بطولها وجسدها المتناسق مع زيادة في الوزن أضفت عليها لمسة أنثوية رقيقة، هي بعينيها البنيتين الحادتين وبشرتها السمراء الصافية، وأما شعرها ذاك الذي كان يتناثر على كتفها كالشلال بات قصيراً، كبُرت إثنتا عشرة سنة مضت منذ أن رآها لآخر مرة، كان يوم التخرج من الجامعة.
رغبة جامحة تتغلغل فيه، تدغدغ روحه، رغبة مجنونة هائجة لضمها إلى صدره والبكاء على شفتيها المعتقتين بالخمر والصراخ في ووجهها: (أحبك يا مجنونتي، مريض معذب، أموت دونك، اشفقي علي وعلى نفسي المحتضرة.) وكأنها سمعته، آمن لحظتها باتصال الأرواح. تمشي بخفة متجه نحوه، نهض عن الكرسي، وقف كالصنم استعداداً لاستقبالها، ابتسم للمرة الثانية، رمقته بنظرة استهجان، جلست على الكرسي المقابل له دون أي اكتراث وكأنه كرسي كباقي الكراسي التي تصطف من حولها. الصدمة أفقدته صوابه، أحسَّ أن دلو ماء بارد قد سكب على رأسه، شعر بالدوار، لم يستطع النظر إليها لأنه ضعيف هزيل، أمام أنوثتها الدافئة وجمالها البريء، طأطأ رأسه محدقاً بحذائها، لم يستطع التفكير بأي شيء في تلك اللحظة التي سلبته شيئاً من رجولته، ثم نهضت تتمتم (حبيبي، لقد أتيت). صوتها الملائكي الحنون، إنها هي. تذكر تلك الحفلة على مسرح الجامعة حين غنت لفيروز (حبيتك بالصيف، حبيتك بالشتي).
ظن حينها أنها تعني له وتحبه غير قادرة أن تتقدم نحوه مرددة الكلمة التي طالما حلم بها، مبرراً عدم قولها بأنها شرقية محافظة وحساسة، سمع صوتها ارتجف وبسرعة رفع رأسه حين اختفى حذاؤها الأسود، وبقيت حقيبتها على الكرسي، وجسدها بين أحضان غريب، فكانت الصدمة الثانية أقوى وأعنف.
تناول حقيبتها بيديه المرتجفتين وسار وراءها وبصوته المرتجف قال (مدام، لو سمحت، حقيبتك) ابتسمت له دون أن تتفوه بكلمة، خرجت عبر الباب متأبطةً ذراع ذاك الغريب، نظرت للخلف بعينين فيهما سؤال، ثم اختفت في الزحام. ابتسم للمرة الثالثة، فتح محفظته الصغيرة، نظر إلى صورتها، تناول حقيبته، استقل سيارة أجرة، وغاب هو الآخر في الزحام.

ظلال عويس
11/1/2000

حسام الدين نوالي
04/07/2007, 06:15 PM
بكثير من الاحترافية تنسج الكاتبة زخرفا لغويا على بساط السرد، فتأتي اللغة أنيقة لدرجة كبيرة..
يبدأ النص "ها هو الزائر المتطفل على دفء الشمس وزرقة السماء يعود من جديد غير مخالف لميعاده، .."، تماما مثل بطل القصة.. هل كان متطفلا على دفء عشيقين؟..
إن علاقاتنا الاجتماية يحكمها الكثير مما يحكم "السوق" من الحظ، والحسابات، والسرعة، والحكمة وغير ذلك.. وكما في السوق فإن الثبات هو العدو.
هكذا صار وصرنا.
البطل الحالم، العاشق، الوفي، يخذله زمنه، كأنما احتاج لزمن غير زمنه. فيما القارئ يتساءل هل حقا خذله زمنه، أم أن حساباته الخاطئة قادته لأنثى غير أنثاه، هل كانت هي حقا أم شُبهت له؟
مهما يكن، فإن السارد استطاع ترتيب مادته الحكائية، بشكل شعري، فيما أشعر شخصيا أن الخاتمة انفلتت من احترافيته. ذلك ان توقعها لم يمنحها القوة المرجوة.
وما عداها فإن تطور الدراما داخل النص موفق واللغة قوية وأنيقة، وبخاصة في مفتتح النص.

ويا ظلال.. دمت مبدعة

حسام الدين نوالي
04/07/2007, 06:15 PM
بكثير من الاحترافية تنسج الكاتبة زخرفا لغويا على بساط السرد، فتأتي اللغة أنيقة لدرجة كبيرة..
يبدأ النص "ها هو الزائر المتطفل على دفء الشمس وزرقة السماء يعود من جديد غير مخالف لميعاده، .."، تماما مثل بطل القصة.. هل كان متطفلا على دفء عشيقين؟..
إن علاقاتنا الاجتماية يحكمها الكثير مما يحكم "السوق" من الحظ، والحسابات، والسرعة، والحكمة وغير ذلك.. وكما في السوق فإن الثبات هو العدو.
هكذا صار وصرنا.
البطل الحالم، العاشق، الوفي، يخذله زمنه، كأنما احتاج لزمن غير زمنه. فيما القارئ يتساءل هل حقا خذله زمنه، أم أن حساباته الخاطئة قادته لأنثى غير أنثاه، هل كانت هي حقا أم شُبهت له؟
مهما يكن، فإن السارد استطاع ترتيب مادته الحكائية، بشكل شعري، فيما أشعر شخصيا أن الخاتمة انفلتت من احترافيته. ذلك ان توقعها لم يمنحها القوة المرجوة.
وما عداها فإن تطور الدراما داخل النص موفق واللغة قوية وأنيقة، وبخاصة في مفتتح النص.

ويا ظلال.. دمت مبدعة