المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : وراء السراب ... قليلا / رواية لابراهيم درغوثي / الفصل الأول



ابراهيم درغوثي
24/06/2008, 10:02 AM
ابراهيم درغوثي






وراء السراب ...قليلا






رواية












إهداء



إلى صهري : محمد بن فطوم

و إلى رفاقه عمال المناجم

في قفصة

في تونس

و في كل بقاع الأرض

















فاتحة


... و في الصحراء قال الغيب لي :
أكتب
فقلت : على السراب كتابة أخرى
فقال : أكتب ليخضر السراب
فقلت : ينقصني الغياب
و قلت : لم أتعلم الكلمات بعد .
فقال لي : أكتب لتعرفها
و تعرف أين كنت ، و أين أنت
و كبف جئت ، و من تكون غدا
ضع اسمك في يدي و اكتب
لتعرف من أنا ، و اذهب غماما
في المدى
فكتبت : من يكتب حكايته يرث
أرض الكلام و يملك المعنى تماما


محمود درويش
من ديوان " لماذا تركت الحصان وحيدا "











تنبيه


الإهداء ، و الفاتحة ، و عناوين الفصول ،
و الحواشي ، و ما جاء في الأبواب من تعليقات
و تفسير و شرح قد يبدو فيه للقارئ كثير من الحشو
و التقعر ، هو من وضع الكاتب و لا دخل فيه
لسارد / لساردي هذا النص.



بهذا وجب التنبيه


















الفصل الأول



باسمك اللهم أدخل
هذه القرية آمنا













الباب الأول


و فيه حديث عن عودة " عزيز أمه " إلى عتيقة * التي غادرها و هو شاب للعمل في مناجم الفسفاط التي حفرها الرومان في قرط حدشت ** بعد الاستعمار الجديد لبلاد " افريقية " في عهد مولانا المعظم علي باشا باي دام عزه.
و أخبار عن العذابات التي سامها باي المحال لوالد " عزيز " و ما لاقاه الأهالي من تنكيل يشيب لهوله الولدان












التفت " عزيز السلطاني" يبحث عن عجوزه . رآها واقفة فوق قاعدة تمثال الجدة في وسط الحوش . اقترب منها فسمع نهنهتها و رآها تعض على قماش تنورتها القطني و تبكي . أمسك بيدها الصغيرة و أنزلها برفق من فوق قاعدة التمثال و قادها إلى الغرفة الشرقية التي أعاد تأثيثها بما يكفي عجوزين . أنامها على السرير ، و جلس قربها على حافة الفراش يستمع إلى لهاثها و أنينها المتقطع.
أعرف أن الرجاء و التعنيف لن يفيدا في إسكاتها ، و أعرف أنها لن تعود إلى الهدوء إلا إذا وضعت جمرة فوق جبهتها ، فتأخذها قشعريرة في كامل بدنها ، ثم تهمد و تنام كما ينام أصحاب الكهف . تدخل في نوبة سبات قد تطول عدة أيام ثم تفيق وحدها عندما ينادي المؤذن لصلاة الصبح.
هي هكذا دائما فكأن ناقوسا يسكن رأسها ليدقه مع انبلاج الفجر.
صوت المؤذن يرتفع عاليا،حنونا ،دافئا ، و يصعد على درجات من نور إلى السماء السابعة لا يزعجه سوى خشخشة جهاز التسجيل . و المرأة النائمة قبالة " عزيز " على السرير تفتح عينيها و تعود إلى الحياة ، فتذهب إلى وسط الحوش لتغرق رأسها في حوض الماء البارد ثلاث مرات ثم تنزع عنها الثياب و تصب الماء على أم رأسها صبا متواصلا ليغمر كامل بدنها و يتحول إلى بركة صغيرة تخوض فيها برجليها الحافيتين .
و تحط طيور الصباح على رأسها و على كتفيها و هي تسبح الباري بآلاف الأصوات ثم تنزل على الأرض لترتوي من ماء الجنة.
و تختطف المرأة دلوا ترمي به في قعر بئر مهجورة. و البئر تفتح على ماء زمزم ، بئر جافة منذ عشرات السنين و قعرها يابس كباطن الكف. و لكن الدلاء التي ترمي بها المرأة في جوفها تنزل فارغة و تصعد ملأى بالماء الزلال.
و تواصل المرأة طقوسها العجيبة . تتطهر بالماء إلى أن يشق قرص الشمس جبهة السماء ، فتذهب تحت نخلة الأجداد، تدور تحتها بلا ملل وهي تتمتم بصلاة حفظتها من العبيد الذين تربت بين طبولهم . تدور حول النخلة ساعات طوالا إلى أن يهدها التعب فتخفت حركتها و تفتر همهمتها و تسقط على الأرض من الإعياء.
و يجف ماء البئر مرة أخرى . و يعود قعرها يابسا كالأرض اليباب ، فتطير الطيور عائدة من حيث جاءت. و يقف الرجل في وسط الحوش ماسكا برأس عجوزه بين يديه يجفف لها شعرها و يرمي على بدنها بقايا كسوة قديمة مطرزة بخيوط الذهب و يعود بها إلى الدار الشرقية ليجلسها على كرسي أمام طاولة فتبتلع لقيمات قليلة من الخبز المغموس في العسل ، و تشرب جرعة ماء ، ثم تتشهد و تحمد الله على السلامة.
هي هكذا دائما منذ علقت روحها روحي.
يوم مات أبوها – و كانت بنت عشر و ثلاث – رماها والدي ورائي فوق صهوة الحصان و قال:
- زوجتك فاطمة ، ابنة عمك يا ولد. هي حلالك منذ هذه اللحظة فحافظ عليها كما نحافظ على نور عينيك و لا تفجعني قيها فجيعتي في والدها.
و لكز الجواد الذي كنت أتدرب على ركوبه لكزة خفيفة ، فعدا خببا . و خاصرتني البنت فدق قلبها وراء ظهري ة خفق كرف الحمام المفجوع. ليلتها، ليلة بنيت بفاطمة ، كان أبي يجهز عمي للدفن و يجمع الفرسان للثأر و يلمع السيوف لقطع الأرواح.
وبارك الجميع زواجي. جدتي وحدها رفضت أن تضع يدها على رأسي قبل أن أدفع مهر "فاطمة".
و ذهبت إلى دارها .
أخرجت من صندوقها سيفا صقيلا و جاءت تتوكأ على مقبضه، ثم وضعت الجدة السيف بين يدي و قالت:
- هذه هدية عرسكما يا " عزيز ".
و دخلت في الظلام.
في الصباح ،أفاق العريس فوجد مكان " فاطمة " باردا، و سمع نواح الجدة و بكاء نساء الدار و عويل العبيد فدكته الفاجعة.
قفز من السرير و جرى وراء خطوات البنت. قادته الخطوات المرتبكة خوفا ووجلا إلى الجبانة فرأى " فاطمة " وسط حلقة الرجال تنهنه بصوت خافت.
و ارتفع صوت الإمام فوق أصوات بقية القراء:
ألم* ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين* الذين يؤمنون بالغيب و يقيمون الصلاة و مما رزقناهم ينفقون* و الذين يؤمنون بما أنزل إليك و ما أنزل من قبلك و بالآخرة هم يوقنون* أولئك على هدى من ربهم و أولئك هم المفلحون.
و قبل أن تنفرط الحلقة التي تجمعا حول القبر و يركب الرجال خيولهم المحمحمة و يلوحون ببواريدهم و السيوف، انطلقت "فاطمة" تجري نحو القبر. رفست التراب المبلول برجليها و تمرغت على الأرض و هي تصيح بصوت جرو مضروب.
و سالت دموعها مخلوطة بالكحل على خديها المكتنزين. و تفر ثوب العرس المطرز بالعدس الملون و الودع و بخيوط الذهب.
في الأول ، الجمت المفاجأة الفرسان و المشاة الذين جاءوا يشيعون قائدهم على الحفرة التي طلب منهم أن يجعلوه ينام فيها حينا من الدهر ، قريبا من مرقد الجد الكبير فتركوها تحفر بأظافرها و تقلب التراب على رأسها ثم انقضوا عليها . حاصروها من كل الجهات فلم تستسلم بسهولة وواصلت خوض المعركة خمشا في الوجوه و عضا و سبا مولولة :
- أبي لم يمت ، و ها أنا أرقص أمامكم برجل واحدة. اسمعوا دقة الخلخال و رنة الذهب و تعالوا شاركوني الرقص فقد زفتني الجدة البارحة عريسا لحفيدها.
و ظلت تقفز فوق القبر كالمجنونة إلى أن شل الإمام حركتها. وضع يده على رأسها وراح يقرأ:
و الذين آمنوا و عملوا الصالحات لا نكلف نفسا إلا وسعها أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون* و نزعنا ما في صدورهم من غل تجري من تحتهم الأنهار و قالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا و ما كنا لنهتدي لولا أن هدانا اللهلقد جاءت رسل ربنا بالحق و ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون* و نادى أصحاب الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا قالوا نعم فأدن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين.
وراح الإمام يردد هذه الآيات إلى أن أغمضت " فاطمة " عينيها و نامت واقفة ، فدسها أحد الأعمام في حضنه و قال وهو يهم بمغادرة المقبرة :
- ادفع مهر فاطمة مائة من رؤوس الأعداء. لن أقبل أقل من هذا المهر يا "عزيز ".
وواجه صهيل الخيل و همهمة الفرسان العريس الصغير.
و قدم له سائس حصانه فقفز على ظهره خفيفا كالريشة.
كانت رجلاه تصلان إلى الركاب بمشقة.
و الخوذة الثقيلة تخنقه.
و اللجام الخشن يحز أصابعه حزا .
و لكنه كان فرحا يكاد يطير من النشوة، فهذه هي المرة الأولى التي يقود فيها الفرسان، فصاح :
-سأسبح طليعة باي المحال وراء الجبل ، و سأدفع أكثر مما تطلب يا سيدي.
و غطى النقع ما بين السماء و الأرض في هذه الصحراء الوسيعة.

*****

نامت العجوز باكرا فأخرج " عزيز " من خزانة في الحائط مصاحفه . صفها أمامه على طاولة كبيرة ثم اختار منها مصحفا برواية الإمام
" ورش" . فتح " الكتاب " كما اتفق ، فطالعته صورة " النحل " فقرأ :
" أتى أمر الله فلا تستعجلوه سبحانه و تعالى عما يشركون ". و شدته الآية ، فواصل القراءة " و ضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع و الخوف بما كانوا يصنعون ".
حاول أن يتذكر أول مرة استمع فيها إلى هذه الآيات فخانته الذاكرة. ابتسم لنفسه و عزاها و أغلق المصحف ثم ظل مدة يتملى الزخرف الذي يغطي الغلاف المجلد إلى أن هاجمه النوم فقام ليستلقي بجانب عجوزه. كان بين اليقظة و النوم حين دوى في أذنيه صوت بوق حربي و هزه صهيل الخيل و الضجة المكتومة لجيش قادم من بعيد. و بدأت ترتسم في مخيلته صورة غائمة لفارس يجوب الصحراء.
الفارس ينفخ في نفير فيتجمع حوله خلق كثير من " عتيقة " و من النواحي القريبة و البعيدة عنها فيحدثهم عن المحلة التي بعث بها " باشا " تونس لتؤدب " سلطان عتيقة " و لتثأر لكرامة التركمان الذي ذبحوا قبل أن يجمعوا الإتاوات و المكوس لخزينة " الإيالة" و صناديقها الفارغة.
و يملأ الضجيج الكون : " و هالباي من بياه " ؟
و يقف حصان قائد " المحلة " على الربوة المطلة على القرية ، فتسحره خضرة النخيل. آلاف و آلاف من الشجرة المباركة تمتد على مرمى البصر. بحر داكن من خضرة الزمرد يسحر العينو يملأ القلب بالغبطة.
" سأجعلكم تدفعون " ريالا " ذهبيا عن كل واحدة من هذه الأشجار المباركة و ستعرفون أن هذا السيف بياني يا أولاد الكلب ".
و يصيح القائد و النشوة تهزه :
- حاصروا هذه القرية المارقة يا أصحابي. حاصروها حتى الموت.
و يبث عيونه في كل مكان يسدون منافذ الخروج على المتمترسين وراء الأسوار.
و انتشر جند المحلة و من صاحبها من العياق و السراق و المارقين على القبائل في غابة النخيل فأفسدوا كل شيء صادفهم في طريقهم. قطعوا عراجين البلح و دمروا سواقي الماءو سرحوا خيولهم في مساكب الفصة و البرسيم و ذبحوا الخرفان و سكروا و عربدوا و غنوا أغانيهم الفاجرة ثم وقفوا وراء الأسوار يترقبون أوامر القائد .
و طلب الأشراف مقابلة " الباي " فردوا على أعقابهم . قال لهم :
- لقد أبحت لجندي واحتكم سبعة أيام و لن أكلم اليوم إنسيا .
فعادوا و الحسرة تقطع قلوبهم بعد أن رأوا جناتهم وهي تتحول إلى خراب.
في اليوم السابع، اعتلى مناد من جند " الباي" رأس نخلة تشرف على القبة و صاح بصوت جهوري طالبا من الوجهاء تسليم أنفسهم . قال :

- اخرجوا منها حفاة حاسري الرؤوس.
و أمهلهم ثلاثة أيام.
داخل الأسوار ، كان الصراع شديدا بين المدافعين عن فكرة تسليم المدينة إلى قائد الجيش دون الدخول معه في صراع كفته مائلة من الأول للمحاصرين ، و بين من يرغب في الدفاع عن شرف النخلة الواقفة تحت لهيب النار.
و امتد الحوار و اشتد ، و طال بذيء الكلام عمائم الشيوخ و أنوف الفرسان. و طاش حب البواريد في بعض جهات المدينة. و كادت تقع فتنة لولا أن حسم الشيخ " بدر الدين "إمام الجامع الموقف. قال :
- سأخرج غدا للتفاوض مع قائد المحلة .
في الصباح،قبل طلوع الشمس،خرج جماعة من الأشراف قاصدين خيمة القائد . اعترضهم جند الحراسة في الطريق ففتشوهم و أخذوا أسلحتهم و تركوهم أمام الباب مدة طويلة ثم أذنوا لهم في الدخول . لم يقف القائد لتحيتهم و لم يرد على سلامهم حين طرحوا السلام. و ظل الرجال واقفين تحف بهم النظرات الشامتة من جميع الجهات . و لما يئسوا من الرحمة قال القائد :
- كيف تجرؤون على عصيان " سيدنا" و تستبيحون دم جنده و تتسترون على العصاة المارقين على سلطانه و طاعته؟
و حين هم الشيخ بالكلام رفع في وجهه إصبعا مهددا:
- لا حديث لي معكم الآن . عودوا إلى سيدكم و اطلبوا منه أن يفتح السور و أن يسلم لي كل من شارك في قتل واحد من جنود " سيدنا " و إلا فموعدنا الليلة.
قال الشيخ الإمام:
- سيدي سنسلمك المدينة لكن لنا بعض الشروط.
فرد عليه هازئا:
- اذهب من هنا قبل أن آمر بسلخ جلدك و حشوه بالتبن ورمي لحمك للكلاب الجائعة.
و ترقب القائد الجواب
و لكن الأبواب ظلت مغلقة.
و اشتد وهج الشمس حتى كادت أرواح الجند تفيض.
ورأى القائد طيورا سوداء شبيهة بالغربان تحط على الأسوار و تملأ المكان نعيبا ، فقرر الهجوم مع هبوط الظلام.

*****


عند منتصف الليل سمعت دقا عنيفا على الباب الكبير . و كان لقصرنا عدة أبواب : باب للخدم و العبيد و الفلاحين ، و باب للحريم ، و باب لأكابر القوم . كان هذا الباب لا يفتح إلا في المناسبات الهامة ، زيارة " باي " المحال أيام كان صديقا لوالدي أو استقبال الحجيج العائدين من مكة ، أو تحية للفرسان المنتصرين في غارة.
أفقت مذعورا و أرهفت السمع ، كان دق الباب بالتأكيد على باب الأكابر. و أفاق الإخوة الصغار . نفضنا عنا الأغطية و جرينا داخل السقيفة نستطلع الخبر.
نظرت من وراء شقوق الباب فرأيت رجلا ضخما على ظهر حصان يحمحم.
وقف الرجل يدق الباب بقبضة سيفه و هو يصيح بين الحين و الآخر بنداء أجش:
- افتح يا " سلطان " أنا لا أريد بك شرا.
ورأيت وراء الرجل ظلالا تتحرك . و سمعت همهمة و زفير دواب ، فجريت إلى المطلع المؤدي للسطوح . صعدت الدرجات قفزا فوجدتني أشرف على الساحة العامة.
التفت ذات اليمين وذات الشمال ، فرأيت وجوه رجالنا كالحة . كانوا صامتين . و كانت عيونهم تبرق كعيون الذئاب.
و امتلأت الساحة بالجنود المدججين بالسلاح.
رأيت " باي " المحال يشير إليهم بإصبعه فدكوا الباب بجذع نخلة. حركوا الخشبة جيئة و ذهابا ثم قذفوا بها الباب فانفتح على مصراعيه .
وبرقت عيون الجند ، حمراء كعيون الشياطين.
ورأيت السماء تنفتح و ينهمر منها سيل من الشهب أنار الفضاء حتى كأن آلاف الشموس انفجرت في لحظة واحدة.
و عوى الجند وهم يتدافعون و يتصايحون قبل أن يندفعوا داخل السقيفة . تريثوا لحظات ثم هجموا بعنف سبعة رياح.
تصدى عبيدنا للمهاجمين . رموهم بالحجارة الكبيرة و سكبوا عليهم الزيت الحار كنار الجحيم فولوا الأدبار و جلودهم تلتهب ، ثم كروا مرة أخرى بعد أن غطوا رؤوسهم بالجلود.
رمى العبيد بأنفسهم على الجنود و لكن العصي الغليظة و السيوف التي تسلحوا بها كانت تسقط على الأرض مضرجة بدمائهم.
كانت الأيدي المقصوصة من الأكتاف تضطرب اضطراب الأرواح الملعونة ثم تهمد إلى الأبد. و كانت أرجل المتحاربين تركل الرؤوس التي تعترضها في معابر القصر و ترمي بها في كل الاتجاهات.
و امتلأ القصر بالأشلاء ، فصاح أبي آمرا عبيده بالكف عن المقاومة.
وواصل جند الباي بقر البطون و جدع الأنوف و التمثيل بالقتلى إلى أن لعلع صوت بارودة أبي في الفضاء فارتبك الجند لحظة أصاب رذاذ البارود وجوه بعضهم ثم عادوا يعبرون فوق الجثث التي تكدست في طريقهم . قصدوا الغرف الموصدة من الداخل بمزاليج خشبية فحطموا أبوابها بأرجلهم و أيديهم و تفرقوا داخلها يبحثون عن الذهب و الفضة . مزقوا عقود العقيق من أعناق النساء و افتكوا منهن الخواتم و الأساور و الخلاخيل الذهبية . و اغتصبوا اللاتي حاولن الامتناع وراء صراخ الصبيان و البنات جهارا ، تحت أنظار الغالب و المغلوب.
ووصل القائد فهنأهم بالنصر العظيم و طلب منهم التجمع أمام القصر.
في الساحة، نصب الجند سرادقا عظيما للأمير زينوه برؤوس القتلى . و جيء " بسلطان " مكبلا بالأغلال ، مكسوا بالدم الذي تيبس على جبينه و على عنقه . و لكنه كان يمشي منتصب القامة ، مزهوا كأنه المنتصر. و مشى وراءه العبيد و الأسرى. قادهم الجند إلى خيمة و جدوا فيها الأمير و حاشيته الذي صاح في وجه سلطان :
- و ضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان.
و انخرط في ضحك هستيري و هو ينكت بعصاه رؤوس القتلى... فكفرت بأنعم الله و عاد إلى الضحك المجنون فأذاقها الله لباس الجوع و الخوف بما كانوا يصنعون .
و نادى الشيخ الإمام فجاء يتعثر في خطاه . قال له و هو يضع بين يديه سيفا و صرة نقود ذهبية :
- ما حكم الشرع في هذا المارق عن سلطة " مولانا " يا شيخ الإسلام ؟
و لما طال سكوت الشيخ قال له :
- أظن أنك ستحكم عليه بالموت ، أليس كذلك ؟
فطأطأ الشيخ رأسه
و انتهز باي المحال هذا الحركة ليصيح :
- حكمت عدالة السماء على " سلطان " هذه البلاد ، المارق عن ملة الإسلام و عن " سيدنا " الباي بالموت على رؤوس الأشهاد . و الله على ما أقول وكيل.
و ركب الشيخ بغلته و انصرف.
فاعتلى قائد الجند دكة و نادى :
- باش شاوش ... احضر لي حداد المحلة
و التفت إلى حراسه و طلب منهم أن يخنقوا الأسرى و العبيد .
قال لهم :
- مرروا على الحبال قطعا من الصابون حتى تدخل عميقا في الأعناق.
و جيء بالأسرى و الحبال . و صار الحرس يخنقونهم واحدا بعد الآخر و يدفعون بالمخنوق على الأرض فينتفض مدة ضاربا بيديه و رجليه في كل الاتجاهات ثم يهمد و تخفت حركته.
آخر المخنوقين كان عبدا ضخم الجثة ، طويل القامة ، كبير الرأس .
قال الحرس لقائدهم إنه قتل منهم ثلاثة رجال
فقال لهم : سأجعله عبرة لمن يعتبر.
و طلب منهم أن يخنقوه بحبل قصير و أن يطلقوه في الساحة دون أن يربطوا يديه ورجليه بالحبال.
و قاوم الرجل مدة طويلة ، حمى عنقه بساعديه القويين. وضرب المهاجمين برأسه فأسال كثيرا من دمهم و لكنهم تكاثروا عليه فطرحوه أرضا و شلوا حركتهم ربطوا حبلا حول عنقه و شدوا الحبل بعنف كبير ، و قاموا.
أحس العبد بنفسه خفيفا فانتفض واقفا . مد يديه إلى عنقه محاولا فك عقد الحبل ، فلم يستطع . فجرى صوب باب القصر . قطع مسافة قصيرة ثم هوى على الأرض و قام من جديد . كانت العينان قد انفجرتا . و كان البول يسيل بين فخذيه . فخر على ركبتيه ، و ارتجف مدة قصيرة ، و مات...

ووصل الحداد فذهب رأسا إلى الباي . طلب منه سيده أن يقترب و أسر له ببعض الكلمات . رد الحداد بالسمع و الطاعة و أمر بإخراج
" سلطان " من الخيمة . جاء الرجل يحجل . و ما أن اقترب منه حتى سدد له ضربة قوية بمطرقته . هشمت الضربة عظم الساق ، فهوى على الأرض . و انهال عليه مكسرا عظام الفخذين و الساعدين و الكتفين . صار الحداد يضرب بعنف متشفيا في الرجل الذي فقد وعيه.
و " الباي " يصيح بعد كل ضربة : " زيد... للكلب ".
يقفز مصفقا بيديه كالولد الصغير.
و جاء سائس بحصان هائج يحمحم و يرمح بعنف شديد ، فصار السائس يضربه بخيزرانة على وجهه حتى يزيد في هيجانه . و اقترب الحرس من " سلطان " . أقعى واحد منهم على صدره وربط حول عنقه حبلا مده إلى السائس . شد السائس الحبل إلى ذيل الحصان شدا متينا ثم لكزه بمهماز و تنحى عن طريقه.
دار الحصان في مكان واحد عاضا على الحبل بأسنانه ، رافسا الرجل بحوافره فأصاب منه مقتلا . و لما أعياه الدوران عدا بكل قوته باتجاه الصحراء جارا شلو " سلطان " وراءه على أن انقطع ذيله فركض طليقا وغاب وراء الشفق.
جر جنديان الشلو و قد تحول إلى كتلة من لحم مهروس و دم و تراب و سجوه على الأرض ، في وسط الساحة.
و دخل جند الباي القصر فاتحين ، فبقروا أكياس القمح و أفرغوها وسط الرمال و هشموا خوابي الزيت و كسروا أواني العسل و السمن ، فاختلطت السوائل و جرت في سواق خرجت من الدار و انحدرت باتجاه الواحة.
ووقف قائد المحلة فوق رأس " سلطان " يبيع نخله.
كان ينادي على البساتين يأسمائها. و كان رجال غرباء من الأعراب القاطنين خارج الواحات ، على مشارف الصحراء يدفعون مقابل النخيل ، أكياس الذهب و قطعان الإبل و الخيول المسومة . و كانوا يدسون وسط عمائمهم حجج تمليك مدموغة بخاتم " الباي ".

فايزة شرف الدين
24/06/2008, 07:32 PM
الأخ / إبراهيم
لقد قرأت للأديب جمال الجلاصي فصوله باي العربان .. ثم قرأت لك فصلك الأول هذا .. وأجد أن طرحكما قريبا من بعضكما .. فالأحداث تدرو في الصحراء ، وهناك الباي ثم العربان .. ويبدو أن التراث هو السمة الأساسية لأعمالكما .. وهذا يجعلني أتساءل هذا الذي تكتبانه من الموروث مع إضافة لغة الكاتب وخياله في هذا القص ؟
بالطبع أعمالكما تتسم بالجزالة واللغة المحكمة جدا .. ولكن هنا كما في رواية سابقة .. أجد الدم وطرق القتل الفظيعة تمتلأ بها أحداث الرواية .. وأجدني أشعر بالحيرة أمام قوة الوصف وعنف الأحداث وأيضا الانبهار بما أقرأه .
ومعك في باقي الفصول إن شاء الله .
http://www.10neen.com/up/uploads/3d4a4faa05.jpg (http://www.10neen.com/up/)

ابراهيم درغوثي
24/06/2008, 09:48 PM
أختنا فائزة شرف الدين

سعدت جدا بمرورك على نصي
و سعدت أكثر بتعليقك الجميل

مع ودي الدائم

زاهية بنت البحر
01/07/2008, 12:51 PM
لالالالا مستحيل أن يكون من يفعل ذلك إنسانًا أو حتى حيوانا، لايفعل هذا مسلم أو من يعبد ربًا أو حتى كافرً، ياللبشاعة، ياللقظاعة مؤلم مؤلم ماقرأته هنا أخي المكرم إبراهيم . مستحيل

ابراهيم درغوثي
01/07/2008, 10:09 PM
أختنا زاهية

هذا قليل من كثير عاناها أهلنا في تونس زمن البايات
فيه من الحقيقة ما تناقله الأجداد صغبرا عن كبير حتى وصل إلى سمعي
و فيه من خيال المبدع أيضا

شكرا على القراءة و التعليق