المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : راوية الطوق - 5 ة-



غريب عسقلاني
06/10/2008, 05:06 PM
غريب عسقلاني – رواية الطوق – 5 -

ـ 5 ـ

الآليات تجعر، تمتص صرير الرياح، الإشارات المتقطعة في الشارع العريض، تذوب مع هدير الدبابات، صمت مفاجئ، هرولة الأقدام الثقيلة تدب على أرض الزقاق، هلع يسكن البيوت، أسنان الغاوي تصطك، الألم في كتف الجعباص تحت اللزقة سكين يلعب في اللحم، يقطع الكتف. يصحو الصغار مع قشعريرة اليقظة المفاجئة، شفاه ترتعش مزرّقة, حتى الرضيع في حضن زوجة الأستاذ فهيم تجمد البكاء في حلقة فصمت، وأم صابر تقرأ آية الكرسي للمرة العاشرة، غير المرات التي تلخبطت في القراءة، يونس في حضنها يخبئ رأسه، يسكنه الخوف من بحث الجنود عن قاذفي الحجارة. أم خليل تحدث حسنة بصمت أن تأخذ بالها من أخوتها, تهمس في أذنها:
- ما بعرفش، ما شفتش، ما سمعتش.
حسنة تومئ بالالتزام، ترهف السمع تقول:
- دخلوا بيت الأستاذ فهيم.
- بدأوا التفتيش من آخر الزقاق.
أبو محمود يمسح الحجرة بعينيه، يتمتم:
- قدر ومكتوب، الصبر يا الله.
وسميرة تحضن صورة عليّ المعلقة على الجدار "أين أنت يا ترى وهل تسلم الجرة هذه المرة" وتطلعت إلى فرجات القرميد.

***

الضوء يتسرب من فرجات قرميد السقف، أشعلوا كشافاتهم فأضاءوا المنزل، أقدام تدب، يعتلون الجدران، يصوبون البنادق، طرقات قوية، اندفعوا، الباب مفتوح وقع أولهم بقوة اندفاعه، ووقع الثاني عليه، زخات رصاص ملأت السماء انتشروا والأستاذ فهيم بينهم، لا يدري كيف فتحوا باب الحجرة عليه وسحبوه الى الحوش، بنادقهم في صدره، لكمة قوية نالت من صدغه، وضوء الكشاف يلسع بؤبؤ عينه:
- ارفع يديك
رفع يديه.
- شو اسمك
- فهيم عوض الله، معلم في مدرسة الوكالة.
كعب البندقية، يدفعه يصلبه على الحائط،, كيف حملته ساقاه.
- هويتك.
الهوية في يد الضابط، يدقق في البيانات.
- يديك على رأسك، اخرج.
خرجوا، صرخت زوجته، وصرخ أولاده، انفلت صغير نحو أبيه صرخ الضابط:
- ما حدا يخرج من الدار.

***
إنهد حيل الرجل، وانكمش في زاوية الغرفة، وخرجت سعدية وجهاً لوجه معهم في الحوش، زحفت زوجة الغاوي حتى وقفت خلف ابنتها، سأل الضابط:
- ما في رجال هون؟
- ما في غير أبي المريض.
تضرعت الزوجة:
- يا خواجة، الزلمة عيان، مرمي في الفراش.
دخلوا عليه الغرفة، صرخوا:
- أوقف يا حمار
وقف متخشباً.
- شو اسمك؟
- محمد الغاوي.
أخذوا الهوية، ضربات قليلة تتقافز تصعد إلى حلقومه، آلة الكشف تزن في أرضية الغرفة، رطن الجنود واتجهوا صوب الباب.
- خرج.
قفزت سعدية بينهم وبين أبيها.
- أبي مريض، البرد يقتله.
كف غليظة هبدتها على رأسها، فتضمخت دماً، صرخت:
- اتركوا المرضى يا ..
تحركت أجزاء بندقية، تكومت الزوجة فوق ابنتها، وتوسل الغاوي:
- في عرضك يا خواجة أنا طالع..

***
شاط أحدهم موقد الكاز، فوقعت إحدى قوائمه ومال على جنبه، رفعوا اللحاف فاختبأ يونس في حضن جدته حبس أنفاسه "نفس الخواجات الذين ضربهم بالحجارة"، وتمنى لو تسلل خارج الطوق ويقي عند أمه، قالوا:
- وين الرجال اللي اتخبوا عندك
- ما في غير هالولد اليتيم.
- قومي عن الفرشة.
وقفت ولم ترخ يدها عن الصبي، قلّبوا الفراش وداروا في الحوش، سأل الجندي:
- وين رجال البيت.
- زلمتي راح في البلاد وابني مات غريب ديار.
قهقه وقذف اللحاف بعيداً:
- يعني باقية أنت والصبي، بكره بتموتوا.
- بعيد الشر إن شاء الله الأعادي.
وقف الجندي، ووقف لسانها، الكلمة وطلعت وما يقطع الرأس إلا الذي خلقها، كل الأعادي ولا ظفر يونس، تحويشة العمر، خرج الجندي:
- كلاب.
وتمتمت العجوز في سرها "ما في كلاب وانتم على وجه الأرض".

***
وقف الجعباص وراء الباب، حتى يتفادى الضرب أو الركل المفاجئ، جسمه مرضوض لا يتحمل هبوب الريح، كل همه أن يفلت من البهدلة، البيت أمامهم يفتشوه، والبغل إذا طمعوا به يأخذوه.
دخلوا وأحاطوا به، نظراته الكسيرة تنتقل على وجوههم، نخزه أحدهم بماسورة البندقية، تراجع فاصطدم بجندي آخر لطعه على كتفه، طقطقت عظامه تحت اللزقة، يد عاجلته تبعج مساحة وجهه:
- مخرب.
- لا والله يا خواجا.
جهاز الكشف يرسل إشاراته، يتوقف الأزيز ثم يعود، يعطي دقات يصرخ به الجندي الذي يجس الأرض بالجهاز:
- ارقد على الأرض، احفر، شو مخبى في الأرض.
- ولا شئ يا خواجا.
- احفر يا حمار
ماذا يوجد في الأرض؟ "هل دفنوا شيئاً في غيابه؟"، الجهاز ما زال يرسل إشاراته، خراب ديار يا جعباص، أصابعه تغوص في الرمل تصطدم بجسم صلب، أزيز الجهاز يعلو، الجنود يبتعدون، يصوبون بنادقهم نحوه، أصابعه تتكلس، يزيح الرمل، سيخ حديد طويل يغوص في الأرض، هدأت أنفاسه، وتد حديد دقه لربط الفرس، ضاعت الفرس واندمل الوتد، والله يخرب بيتكم سيخ حديد يرعبكم ويخرب بيتي، نزع السيخ وقال كمن خرج من قاع البئر:
- قضيب حديد يا خواجا
ضيقوا عليه الدائرة، أمسك أحدهم بالسيخ:
- من خبأه في الأرض.
- أنا، كنت أربط فيه الفرس، أصل أنا عربي أسوق الكارة.
نخزه بالسيخ.
- ارفع يديك واخرج برة..
***
ردت أم خليل:
- ما فيش رجال في البيت.
سأل الضابط:
- وين زلمة
- جوزي ابعدتوه إلى الأردن، وابني بيشتغل في أريحا.
- يعني جوزك مخرب، وابنك كمان مخرب.
- إذا كانوا مخربين..
وأمسكت عن الكلام، كادت تقول إذا كانا مخربين اقتلوهما، ركزت نظراتها في وجه الضابط ولسان حالها يقول "فتشوا الدار إذا وجدتم شيئاً فخذوه وخذونا، نعرف كيف نخفي الأشياء عنكم"
قلبوا الدار، ونزعوا الأغطية عن الصغار، أخرجوهم إلى الحوش يرتعدون من الخوف والبرد، سعالهم يخرج حاداً من صدورهم، الهزء في عينيها "لم يبق شيء هنا، الشباب أخذوها ومضوا وقريباً تصلكم الهدايا، غداً سنسرب البقية أمام أعينكم، تحت الأبطن، وبين أثداء الصبايا، نساء مثل البدور تمر من أمامكم، كتل سوداء تتحرك، القنعة والداير، الزي الأسود له مهمات أخرى في المخيم غير الحداد". جذبها الجندي، نترت يدها:
- احنا بنعرف كل شئ.
موتوا بغيظكم، قالت بهدوء:
- البرد قتل الأطفال، حرام عليكم.
دقها في صدرها.
- من كان مختبئ عندك؟
سحبت بطانية، لفت الأولاد بها، وشبكت يديها على صدرها، وقفت متنمرة، قشعريرة تسرى في بدنها، اهتزت قامات الجنود، قلامات أظافر تتراقص في عتمة الدار، تخرج إلى الزقاق.

***

قفز قلبها من صدرها، سكن إطار الصورة. الجالسة على الجدار، ابتسامته الخفيفة أسفل شاربة، تتبدل دمعه في عينها، لم تسقط. يد خشنة تنزع الصورة من مكانها وصوت يفح:
- صورة من هذه؟
قال أبو محمود:
- هذه صورة ابن أخي عليّ
يقلب الضابط في أوراقه، أبو محمود لا يصدق عينه، صورة أخرى لعلي مثبتة على ورقة في يد الضابط، ترتجف سميرة "عليّ" مطارد للجنود!! صدقت توقعاته وها هو مقبوض عليه، ملصق على ورقة المطاردة، الضابط يكز على أسنانه:
- شوف يا شيخ هذه صورة عليّ
- الله يعلم يا خواجة يخلق من الشبه أربعين.
- دلني عليه أحسن لحياته، بلاش يموت.
ترتعش شفتا الرجل، عقله يعمل بسرعة "عليّ" خارج الطوق، ماذا يريدون منه، يراوغ:
- عليّ موظف في الوكالة، ما بيتدخل في شيء من شغله لداره، يمكن واحد غيره يا خواجا.
- دلني عليه يسلم هو، وتسلم انت.
"ربنا يدلكم على عزرائيل، مجانين، تحترق الدنيا ولا أسلمه لك"، الضابط يهزه بعنف.
- وين عليّ
- أنا مش عارف، والله ما بعرف.
سميرة مشدوهة لا تفارق الصورة، تلامس زجاج البرواز، الضابط يبعد يدها, يبرق الخاتم في إصبعها.
- انت زوجته
تتعلق الدمعة على الأهداب تأبى السقوط.
- دلينا عليه بلاش نطخه ويموت.
أبو محمود يقف بين الضابط وسميرة:
- أنتم جيش قهر البر والبحر، عايزين من ختيار وبنت يدلوكم عليه، إذا كنتم قد حالكم أمسكوه.
صرخ الضابط:
- ارفعوا أيديكم واطلعوا بره.

***
الفجــر:

لم تبزغ الشمس كعادتها، رجعوا إلى الحارة دون ضوضاء، دون جنود، رؤوس مهزومة على الصدور، لم يرجع أبو محمود، ولم ترجع سميرة، دلفوا إلى بيوتهم، يخرجون عن الصمت ليعودا إلى الصمت قالت سعدية:
- ايش اللي صار.
- أخذوا أبو محمود وابنته.
وأجهش الغاوي بالبكاء:
- دعسوا في بطنها، مزقوا ثيابها، كشفوا صدرها.
شرق، نهنهات الدموع وقفت في حلقه.
ولم يصدق الأستاذ فهيم ما رأى.
- بنت عنيدة، سبتهم، بصقت عليهم وهي تحت الضرب.
تساءلت زوجته.
- يا ترى بيرجعوأ
- قالوا إما يسلموا "عليّ" أو يظلوا في الحبس.
كل الأحاديث في البيوت حول العجوز والصبية، لم يتحدث أحد عن نفسه نسوا الضرب والكدمات، حتى الغاوي امتص دقات البساطير، ولكنهم تناسوا أبواب البيوت مفتوحة رغم تحذيرات الجنود.
- أغلقوا الأبواب ولا تخرجوا من البيوت