المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : مأساة محاسب



أدهم مطر
01/11/2008, 01:14 AM
" مأساة محاسب ."
كان مكان عملي يبعد عن بيتي مسير عشر دقائق اقطعها يومياً على دراجة هوائية عتيقة استعرتها من أحد أصدقائي ، كنت سعيداً بعملي إلى حدٍ بعيد لأنه وقاني شرّ الفاقةخصوصاً و أنني متزوج
و لدي طفلة ، و لم أعد عاطلًا عن العمل بعد إنهائي لدراستي الجامعية .
أنصاعُ لقيود الروتين اليومي بملء إرادتي ، و في المساء ، أودّع زوجتي _ التي كانت في الماضي زميلتي في الدراسة – وابنتي ثم امتطي دراجتي شاقاً الطريق الزراعي الوعر إلى مكان عملي وهو "مطعم كبير و ناد ليلي فخم فئة الخمس نجوم ."
حين أصل إلى النادي ، أعاني كثيراً من عدم استجابة أطرافي لإرادتي ، وبخاصةٍ أناملي التي تكون قد تجمّدت من شدة الصقيع، و بعد أن أشحن جسدي ببعض الدفء من أحد المكيفات ، ألج الصالة
و أجلس خلف كرسيَّ المخصص ، ذلك أنني كنت أعمل محاسبًا لصالة المطعم .
كان البرنامج الفني يبدأ في العاشرة و النصف ليلًا ، و ينتهي في الثالثة صباحا – بعض الأيام يمتد أكثر من ذلك – و طبيعة عملي سهلة إلى حد ما ، حيث كنت أقوم بجمع طلبات الزبائن على فواتير خاصة ، ثم أجمع النقود ، و أسُلّمها لصاحب النادي – كثيرًا ما كنت أُصاب بالدهشة للمبالغ الطائلة التي كان الزبائن يدفعونها بسخاء و علامات الرضا و السُّكر باديةً على وجوههم المنتفخة،بل
و ُيكرمون النادل الذي استعبدوه ليخدم نزواتهم و ينفذ أوامرهم الغريبة .
في كل يوم خميس ، يستبشر الجميع خيراً ، بما فيهم صاحب النادي و مديرها و"ميتر الخدمة "، قال لي أحد النُدَّلِ ذات مرة :
-" في يوم الخميس يا أستاذ ، لا تعرف من أين تأتيك النقود ، إنه يوم تفرج فيه الكُرَب ، كأنه ليلة القدر ." لكنني كنت أكره هذا اليوم لكثرة ما كانت ترهقني الفواتير المنهمرة ، والمبالغ الخيالية التي تصلني من الزبائن .
تعدّت الساعة الحادية عشر ليلاً ، و لم يكن في الصالة سوى قلة جدا من الزبائن لا يتجاوز عددهم أصابع اليد ، رغم أنه يوم خميس .
بدأ البرنامج الفني في موعده ، وكان ثمة مطرب شاب يزعق تارة، و يعوي حيناً ومن خلفه أعضاء فرقته الموسيقية يعزفون كالمجانين ، و الحضور يتمايلون طرباً و قد لعبت الخمرة في رؤوسهم .
كان السّأم قد بدأ يدبُّ في نفوس العاملين،حينما اندفع أحد الُندّل فجأة إلى داخل الصالة، والبشاشة تغمر وجهه،هرول بين الطاولات بخفّةٍ،وهمس بأذن"الميتر" ثم تابع نحو زملائه المتجمعين حول البار وتمتم بضع كلمات فهمت منها أن أحد"أرباب المال"قد وصل،ومعه ثُلّةٌ من أصحابه و"جواريه ".
لحظات قليلة ، ثم تحولت الصالة إلى خلية نحل ، لا أكاد ألمحُ نادلاً ، إلا و قد امتلأت يداه حاملًا شتى أنواع الأطباق ، وكلها متوجهة نحو طاولة البيك المحاط بالغواني واحدة تمسح كرشه ، و أخرى تضع حبة عنب بين فكيه ، و ما أن يصفق بيديه ، حتى يتكوم كل من في الصالة لتنفيذ أوامره .
في الواحدة صباحا ، بدأت فقرة الرقص الشرقي ، و اعتلت المنصة راقصة عرَّت أكثر مما سترت وراحت تهز نهديها و ردفيها وكأن جسدها قد أصيب بمسّ ، كنت أحدق بالقطع النقدية الكبيرة التي ينثرها الحضور باتجاهها ، و بقدميها العاريتين،تدوس تلك الأوراق التي تحمل تذكارات لأوغاريت
و صلاح الدين وزنوبيا، وآلهة الينبوع .
صحوت من دهشتي ،فوجئت بنادل يناولني كمية كبيرة من النقود – كلها من فئة الخمسمائة ليرة – و قال لي زاعقاً :
_" البيك يريدنا أن نصنع من هذه النقود طوقا كبيراً !!".
نفّذنا الأمر بسرعة ، و عاد النادل إلى البيك الذي وقف،و ترنَّح ، ثم توجّه إلى الراقصة التي طأطأت رأسها بغنج،قلَّدها الطوق بفخرٍ،ثم قبَّلها، وجلس بهدوء ليفرغ كأس وسكي آخر في كرشه المتُخم .
استمر البرنامج الفني حتى السادسة صباحا ، تذكّرتُ ديوني الكثيرة ، و ابنتي التي ستكمل عامها الرابع بعد غد ، و كم طلبت مني أن اشتري لها دراجة صغيرة كدراجة ابنة الجيران ، دمعت عيناي وسط هذا الصخب المجنون ،ترى ، ما قيمة الدموع في مكان كهذا ؟؟
أيقظني نادل آخر من شرودي ثانية ، أخذ فاتورة البيك ، وذهب مسرعاً ، ثم عادومعه كمية من المال ، رماها على الطاولة و انصرف .
عددت النقود ، ألف ، اثنان ، خمسة ، سبعة ، أحد عشر ، و كانت الصدمة ، أربعة عشر ألفا
و خمسمائة ليرة ، و المبلغ المطلوب يزيد بثلاثمائة ليرة ، أخذت النقود وتوجهت إلى عمق الصالة
فلم أجده ، فقد غادر في غمرة انشغالي،رن جرس الهاتف وجاءني صوت صاحب النادي عصبيا :
_ " ماذا تفعل حتى الآن ، اجلب لي النقود ، و تعال فورا . "
جمعت كافة النقود و أخذتها له ، عدّها مرة ، مرتين ، دققها مع الفواتير ، توقف عند فاتورة البيك حدَّق فيَّ د ونما تركيز ، فأدركت أنه سكران ، و قف على قدميه ، ثم صرخ بوجهي :
"– أين باقي النقود أيها المحاسب ؟؟".
ارتبكت ، تلعثم لساني ، حاولت أن أشرح الأمر ، لكنه اقترب مني مُترنّحاً، ثم صفعني بشدة ، وقال
- " أنت مطرود ؟؟؟"
ثم استقلَّ سيارته و ذهب …
- انتهت –
أدهم وهيب مطر