المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : السلوك البشري بين اللذة والالم



تميم فخري الدباغ
18/12/2006, 09:05 AM
السلوك البشري بين اللذة والالم

من منشورات الدكتور فخري الدباغ رحمة الله عليه
في مجلة العربي الكويتي
(السلوك) تفكير أو عمل يقوم به المخلوق ويتجه به وجهة معينة قد توصله إلى هدف أو تقربه منه .
وقد يكون السلوك مستجدا جديدا باعتباره حدث في تلك الفترة لأول مرة من قبل الشخص ، وقد يكون سلوكا مكرورا معادا بصورة تكاد تكون صورة طبق الأصل أو مقاربة لما سبقها . وفي جميع الأحوال .. وإذا كان سلوكا مستحدثا أو قديما فإنه يستند إلى (أوليات) أو (خلقيات) ينشأ عنها ويرجع إليها ، وفي موضوع الخلقيات هذه ومكونات السلوك وأهدافه ودواعي تكراره أو خفوته واختفائه تدور مختلف النظريات والفلسفات والأبحاث منذ أقدم مراحل الفكر البشري حتى الآن ، بل لعل (السلوك) هولب الفلسفات والمبادئ جميعا لأنه موضع اهتمام الدراسات : الدينية والخلقية والنفسية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية .
إن تعدد المدارس النفسية وكثرتها في تفسير السلوك ومنشئه واتجاهه شيء طبيعي ، لأن علم النفس هو في الحقيقة وبإيجاز (علم السلوك) . ومع أن كثرة الدراسات والنظريات أصبحت مصدر حيرة وتردد للكثيرين نظرا لما تقدمه كل منها من حجج وبراهين مختلفة ومتضاربة ، إلا أن ما يخيل لنا أنها نظرية جديدة قد نجدها بصيغة وشكل آخر في نظرية ظهرت قبلها بمئات السنين .. ومنذ عهد أرسطو وأفلاطون وأبن رشد والغزالي وأبن خلدون .


محركات السلوك :
إن الذي يدعو للتساؤل حقا هو : ما الذي يدفع المرء إلى تبني سلوك معين في ظرف معين .. ثم إلى تغييره أو تكراره في ظرف آخر ؟ .. هل هي العادة ؟ .. هل هي السهولة ؟ .. هل هي اللذة ؟ .. هل هي المكاسب ؟ .. أو هي المثل والمبادئ والأخلاق ؟ .. أو أن الإنسان مجرد ماكنة تتلقى الإيعازات بشكل أوامر عصبية وهورمونات وإفرازات ورموز في الجينات والكرموسومات حاملات الصفات الوراثية للكائن البشري ؟ ..
إن الطفل الصغير (يتعلم) الابتعاد عن النار بعد أن يعاني ألم الحرق من مدفأة أو عود ثقاب ، فهو سلوك يمكن تفسيره بتجنب الألم أو إيثار اللذة ، كذلك يدرك البالغ أن السرقة سلوك غير مقبول ويعاقب عليه بحكم الدين والأخلاق والقوانين المرعية ووجود عقاب صريح له ، فهو إذن لا يسرق لعوامل أخلاقية – اجتماعية ، أما إذا سرق فعندئذ يجيء علم النفس والاجتماع ليفسرا ذلك بأنه (مدفوع) إلى السرقة إما لسهولة الكسب غير المشروع وإما لفقر مدقع أو لمرض نفسي يعبر عن حاجة رمزية ذات دلالة بعيدة عن التمرد والنقمة ضد الأسرة أو المجتمع أو الحاجة إلى الامتلاك أو الحنان ... الخ .
إذن ، فسلوك الإنسان يرتبط بعوامل كثيرة متعددة تقرر نوعية وحدته واتجاهه ، وقد حاول الفلاسفة وعلماء النفس وضع معادلات وقواعد لربط هذه العوامل ، ومن أشهر هذه التفاسير : نظرية اللذة والألم ، وفلسفة الرواقيين ، ونظرية قانون التأثير ، والسلوكية الآلية ، والحتمية ، والإرادة الحرة .... الخ مما سنتطرق إلى أبرزها .
ويمكن حصر محركات السلوك بثلاث مجموعات من الدوافع والمحفزات :
1- ما يدركه ويحسه الفرد قبل أن يقدم على عمل ما مباشرة ...
2- ما يجري في ذهنه قبل فترة طويلة من الفعل ...
3- ما يعلق عليه في المستقبل من أهداف ونتائج إذا ما قام بالفعل ...
إلا أن هذه المجموعات الثلاث يمكن أن تنحصر في أثنين فقط هي :
* الدوافع والحوافز الداخلية .
* النتائج المترتبة على السلوك ...
ولا يمكن الفصل التام بين النتائج والحوافز الداخلية دائما كما بينَّ أرسطو في كتابه الموسوم (De anima ) إذ يقول : (عندما توجد اللذة والألم فلا بد من وجود الرغبة ، والرغبة تدفع إلى اللذة ..) وهذا يعني أن السلوك الذي يعتمد على (النتيجة) إنما الهدف إلى نتيجة مرضية ومجزية – أي لذيذة ، أو على الأقل (غير مؤذية) .
السلوك .. وقانون التأثير :
جاء بهذه النظرية العالم النفساني (ثورندايك) بعد أن أجرى تجاربه على الحيوانات . وهي من النظريات المهمة في علم النفس الحديث ، وقانون التأثير يشبه إلى حد ما نظرية اللذة في السلوك ، إذ يمكن إيجازه بأن المخلوق الذي يفكر في شيء أو يقوم بفعل يعود بالراحة أو الاستقرار ، أي يزيل عنه حالة التوتر والقلق ، عندئذ يتأثر بذلك ويصبح نمط ذلك الفعل راسخا في جهازه العصبي فإذا ما صادف أن مر بظروف مشابهة فإنه يلجأ إلى سلوك نفس الفعل دون تردد أو تفكير جديد في فعل مغاير ، ويمكن تعريف القانون بما يلي : ( إن العقاب أو المكافأة من أقوى الأدوات والوسائل لاختيار الأفعال المرغوب فيها وتثبيتها وحذف غير المرغوب واستبعاده منها) . فإذا وجدت حالة واحدة لها عدة استجابات فإن الاستجابات التي تصاحبها أو تتبعها مباشرة ذات لذة ورضا للمخلوق تبقى أشد ارتباطا بتلك الحالة إذا عادت ، وعلى العكس من ذلك تضعف الرابطة إذا كانت النتيجة مؤلمة .
إن نقطة الضعف في هذه النظرية إنها تتجاهل شخصية الإنسان وتعتبر الناس سواسية تجاه كل الحوافز ، وهذا ما لا ينطبق على الواقع ، فالحافز الواحد قد يؤدي إلى سلوكين متضادين في شخصيتين مختلفتين وإلى بضعة أنماط من السلوك إذا أقتضى الأمر .
بين القنفذ والثعلب ...
يقول أحد علماء النفس إنه مهما تعددت تصرفاتنا وردود أفعالنا فبالإمكان تصنيفها إلى مجموعتين :
بسيطة ، وهي ما دعاها بأسلوب القنفذ ...
ومعقدة ، وهي ما دعاها بأسلوب الثعلب ...
ولإيضاح ما يقصده بذلك نقول ، إن القنفذ – وهو حيوان يعيش على أكل الحشرات والنمل ، وله جلد مكسو بشوكات إبرية مؤذية لمن يلمسها ، وكل ما يفعله القنفذ هو أحد سلوكين : إما أن ينبسط وتنام شوكات جلده على بعضها ويسير ألهوينا بحثا عن طعامه وشؤونه الأخرى .. أو أنه يتكور على نفسه فتبرز الشوكات لدرء الخطر عنه ويصبح كرة هامدة ثابتة في مكانها لا تتحرك ، وتؤذي من يقترب منها ، ويتخذ القنفذ وضعية الكرة في كل حالة مغايرة لحالة الارتياح ، أي أنها استجابة بسيطة واحدة لعشرات الحالات والحوافز المختلفة عن الراحة ، سلوك واحد بسيط وجواب واحد مكرر .
ومن البشر من يؤثر سلوك القنفذ تقريبا ، لكن أمثال هؤلاء ندرة نادرة ... لأن السلوك البشري أشد تعقيدا وأكثر صورا وأشكالا من تلك .
أما سلوك الثعلب ، فعلى النقيض من ذلك فلكل حالة أو ظرف نجد الثعلب يعد لها العدة ويضع بضعة حلول وردود ، وبتعدد الظروف تتعدد الحلول وتتشابك وتتعقد .
وقد عرف الفلاسفة الإغريق هذين النمطين من السلوك منذ القدم ، وخلد القنفذ والثعلب في الأدب العالمي منذ القرن السابع قبل الميلاد إذ ذكره (أرخيلاكس) ، أما (ايرازموس) في عام 150 م فقد قال ما يلي : (للثعلب عدة حيل .. وللقنفذ حيلة واحدة – لكنها أحسن الحيل ..) ، وقيل في الثعلب : (لدى الثعلب حلول أكثر مما لديه من مشاكل !!) .
ومن البشر من يماثل الثعلب في سلوكها – أي بأعداد من الاستجابات لكل طارئ أو حدث مع حذر شديد ومكر وريبة ، وهؤلاء ليسوا ندرة ، والانتهازيون كذلك رائدهم الثعلب وأساليبه لأنهم يهيئون ردود الأفعال ويحسبون الحسابات الدقيقة كي لا تفوتهم فرصة أو غنيمة ، أما الإنسان السوي العادي فإنه يستجيب بسلوك معين ، ولا يتشابه اثنان في سلوك واحد تجاه حافز واحد ، فالتعقيد وتعدد الأنماط السلوكية لدى الناس الاعتياديين لا يتأتى عن الوسوسة ، بل عن اختلاف عوامل أخرى كالشخصية والظروف الاجتماعية والثقافية والتربية والتجارب والفطنة ...الخ .
ما هي حقيقة اللذة ؟
وقد ظهرت نظرية اللذة كعامل حيوي في تحريك السلوك منذ عهد اريستيبوس وأفلاطون وأرسطو وأبيقور ، ثم ظهرت في القرنين السابع والثامن عشر من خلال كتابات ديكارت وهوبز ، أما (بنتام) فقد ربط اللذة بالسياسة والاقتصاد ، وتغلغلت مدرسته في الفكر الغربي ، وجاء فرويد عام 1911 بنظريته النفسية عن (اللذة ومبدأ الواقع) .
وكانت تجارب (بافلوف) على الحيوانات تؤكد أن (المكافأة) تعزز من اتجاه الحيوان نحو عادة معينة ، أما عدم المكافأة (الحرمان أو الألم ) فتؤدي إلى نسيان العادات القديمة وضمورها وقال (فيخنر) عالم الجمال عام 1873 إن اللذة تنجم عن الحالات التي تساعد على الاستقرار .
غير أن اللذة التي يعنيها أحدهم لا تنطبق على نفس المعنى الذي يقصده الآخر ..
وإذا كانت اللذة هي المحرك الأساسي للسلوك سواء كانت دافعا داخليا أو حافزا جانبيا من الخارج ، فهل يعني ذلك أن الإنسان يعيش ويتحرك في عالم من المتع فحسب ؟
صحيح أن هناك أناسا يقيسون اللذة بمقدار ما يغرفون من متع جنسية أو بقدر ما يلتهمون من أطعمة شهية أو بضخامة ما يمتلكون من ثروة وأرصدة مصرفية ، بيد أن الواقع لا يؤيد ذلك تماما ، إذن كيف نفسر سلوك من يموت في ساحة المعركة وهو سعيد .. ومن يضحي بمتاع الدنيا من أجل ساعة تجلٍّ وتعبد في حضرة الخالق .. ومن يقتل نفسه حرقا ليعبر عن استنكاره ورفضه لقضية ما .. ومن يؤثر السجن على الاستسلام والمسايرة والحياة الناعمة ؟ .
الجواب على ذلك أن اللذة لا تعني المتعة الحسية – المادية فقط ، بل الشعور الذاتي بالرضا والاسترخاء والسعادة ، فالسعادة الذاتية – الوجودية هي اللذة الحقيقية ، لذلك نرى أن الإنسان الذي لا يشعر بالراحة في عمل سيقدم عليه أو يعرف ويتوقع نتائجه السيئة يمتنع عنه ويتردد في الإقدام عليه ، و (الامتناع) بحد ذاته هو لذة أخرى من زاوية أخرى ، فتجنب التوتر والقلق وعذاب الضمير هو سعادة حقيقية تكافئ وتعوض عن أية متعة حسية .
اللذة إذن هي معنى ومبدأ وفكر .. هي كل ما يدخل الرضا في قلب الإنسان . وبهذه النظرة لا نجد معضلة في تفسير السلوك ، فهناك لذة حقيقية لمن يتمسك بمبادئ الأخلاق .. ولمن يفضل الإخلاص على الخيانة .. ولمن يؤثر الضنك والدخل المحدود على الكسب الحرام والربا والاحتكار .. ولمن يرى الموت خلودا إذا كان يدافع عن وطنه ومبادئه ، فهناك لذة حسية ولذة أخلاقية ولذة عقائدية – فكرية ، أي أن الإنسان قد يجد اللذة في تحمل المشاق أو السجن أو التعذيب كي يحقق هدفه البعيد ، فالطريق إلى اللذة ليس طريقا واحدا .. وإذا اختلفت وسائل اللذة .. فإن الشعور الذاتي واحد .
ضد اللذة :
إن كثرة المؤيدين لنظرية اللذة في توجيه السلوك لا تعني عدم وجود معارضين لها .. فقد انتقد مفكرون آخرون مبدأ اللذة والألم وجاءوا ببدائل له .
فقد اعتبر (تولمان) أن القيمة الهادفة هي المهمة في توجيه السلوك ، أي أن ما يتوقعه الإنسان من نتيجة هو الذي يقرر نوعية سلوكه .. وهذا ما يشبه النظرية التي تقول إن الإنسان عندما يقوم بعمل ما ، ويتلقى ايعازات إيجابية مشجعة لنوازعه مطمئنة لآماله – بغض النظر عن اللذة – فإنه يستمر على العمل والمتابعة ، وعلى العكس من ذلك ، فقد تكون الإيعازات السلبية معوقة له ، وهذا ما أطلق عليه (التغذية الإيجابية للفعل) وهي نظرية تماثل جدا نظرية (ثورندايك) عن قانون التأثير .
ولا يعتبر (مكدوجل) اللذة من أصل مكونات السلوك بل مؤثرة فيه فقط ... ولم يؤيد أصحاب (مدرسة الاستنباط) في علم النفس كون اللذة والألم محركين وحيدين للسلوك .
وقد رفض (واتسون) مؤسس النظرية السلوكية نظرية اللذة وتبعه أصحاب نظرية التعلم الحديثة – وهي السلوكية المعاصرة – بنفي مبدأ اللذة كعامل في السلوك واعتبروا (إزالة التوتر) و (إشباع الحاجة) المحرك الأهم في تثبيت السلوك وتعزيزه .
ومن المنطقي جدا تفسير هذا الرفض لمبدأ اللذة بأنه (التفاف) على النتيجة لأن كل ما ذكرناه من اصطلاحات وتفاسير علمية ما هي إلا مرادفات لمعنى اللذة – بمعناها الأوسع الذي تطرقنا إليه ، فإذا كان إنسان يجد لذته في الربح الحرام وآخر يجدها في التقشف والتعبد فإنهما توصلا عقليا – أولا شعوريا – إلى ذلك نتيجة سلسلة طويلة من التجارب والظروف الحيوية التي حاول تفسير آليتها أصحاب نظريات قانون التأثير أو السلوكيون أو جماعة بافلوف أو فرويد ... الخ ..
وأخيرا ...
وكما أن الحقيقة الكبرى لا تزال خافية على الإنسان .. فكل أجزاء الحقيقة أيضا تعوزها المعرفة ، والسلوك البشري لا زال غامضا على علوم النفس والاجتماع والطب والهندسة الإلكترونية والفلسفة . لكن ذلك لن يثبط محاولة الإنسان اكتشاف ذاته وما حواليه ، فحياة البشرية في مرحلة استكشاف .. ولا نزال في أولى المراحل إليها كما رأينا . وعندما يتوصل الإنسان إلى معرفة عوامل سلوكه ومحركاته فإن نظرته إلى الكون والحياة ستكون حتما نظرة أخرى ، وسيكون مبدؤه – حتما – مبدأ آخر .
إن كل نظرية تستأهل منا التقدير والاعتبار لأنها محاولة جديدة للوصول إلى الحقيقـة ، وحتى النظريـة الخاطئة الفاشلـة هي حافز لإيجـاد نظرية أصلح . وهي من هذه الزاوية مفيدة للوصول إلى العصر الذي نعيشه .