المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الرثاء غير المذهبي في الشعر الأردي



إبراهيم محمد إبراهيم
17/11/2008, 10:09 AM
الرثاء غير المذهبي في الشعر الأردي
ينقسم الرثاء في الشعر العربي باعتبار معانيه إلى ثلاثة أقسام :
أولاً : الندب ، وهو البكاء والنواح على الميت بالعبارات المشجية والألفاظ المحزنة التي تصدع القلوب القاسية وتذيب العيون الجامدة ، وهو في أصله إنما يكون على الأهل والأقارب ، وقد يبكي الشاعر نفسه ساعة الاحتضار حين يحس بالموت . وقد ندب الشعراء العرب منذ عصر الجاهلية وحتى عصرنا الحاضر آباءهم وأمهاتهم وزوجاتهم وأبناءهم ، وهذا القسم من الرثاء بتسم بتأجج العاطفة ، والإفراط في النحيب ، وقلة الصبر على المصيبة ، والتحسر على فراق الميت
ونلاحظ على نماذج الندب التي أوردناها أنها جميعاً تشترك في أن الراثين من ذوي علاقات الدم والقرابة ، وأنها تضم بين أبياتها عواطف متأججة وتعبيرات تؤثر في النفوس وتبكيها ، وتقل فيها – إن لم تنعدم – المعاني العميقة والأفكار الدقيقة التي تجبر العقل على الغوص فيها وسبر أغوارها ليدرك كنه ما ترمي إليه من معان وفلسفة تشرح قيمة الحياة والموت وما يتعلق بهما مما يرد على القلب فيشغله ، ويطرأ على الذهن فيحيره .
ثانياً : التأبين ، وأصله الثناء على الشخص حياً وميتاً ، ثم فصر استخدامه على الموتى فقط ، ويقصد به تخليد ذكرى الميت بإبراز فضائله ومحامده ومناقبه من كرم وشجاعة ووفاء وعدل وتقوى وزهد وغيرها من الصفات الحسنة ،
ونلاحظ على نماذج التأبين أنها في معظمها صدرت من غير ذوي علاقات الدم والقرابة ، وقلّ فيها – إن لم ينعدم – البكاء والنواح والأنين ، وتركزت حول إبراز مناقب المتوفى وصفاته الحميدة ليثبت ذكره في قلب من يسمع الرثاء ويعلق بذاكرته ويقدم له صورة تنم عن مدى الخسارة التي حلت بوفاة هذا المتوفى .
ثالثاً : العزاء ، وأصل العزاء الصبر ، ثم اقتصر استعماله في الصب على كارثة الموت والاستسلام لسنة الحياة ، ومحاولة استخراج ما يعين على هذه الصدمة من أفكار وفلسفة يستنتجها الراثي من حادثة الموت هذه ، والعزاء في الغالب يكون لآخر تخفيفاً لآلامه وأحزانه على من فقد ، وقد يكون للنفس على من فقدت أيضاً . والعزاء وإن اتسم بصدق أفكاره ومعانيه إلا أنه في كثير من الأحيان يكون متكلفاً في عواطفه .
وبملاحظة ما سبق يتضح لنا أن تقسيم أشعار " الرثاء " بحسب معانيها إلى ندب وتأبين وعزاء له تبريره المنطقي الذي يستند إليه هذا التقسيم ويجعله أكثر وضوحاً في أذهاننا ، وهذا التبرير هو التدرج النفسي والمنطقي لحالة الراثي عند نظمه لقصيدة الرثاء ، ولنفصل القول بعض الشيء في هذا ، فالرثاء يكون لمن نعرف ولنا به علاقة ، وطبيعي أن تتعدد طرق المعرفة وأشكال العلاقات ودرجاتها ، فمعرفتنا بوالدينا وعلاقتنا بهما تختلف عنها مع غيرهما ، وهكذا معرفتنا وعلاقاتنا بإخواننا وأخواتنا وأبنائنا وبناتنا وزوجاتنا . ومن هنا تختلف درجات الرثاء باختلاف درجات المعرفة والعلاقة بين الراثي والمرثي ، فالصدمة في وفاة الوالدين والأبناء والإخوة والأخوات والزوجات وباقي علاقات الدم والقرابة بترتيبها تكون في الغالب أكبر من الصدمة في وفاة غيرهم ، ولذا يكون الأغلب على رثائهم البكاء الشديد والندب الواضح ، وهو رد فعل نفسي طبيعي ، ويذكرنا بالحديث الشريف الذي جاء فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بامرأة تبكي عند قبر صبي لها ، ، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اتق الله واصبري " . فقالت : إليك عني ، فإنك لم تصب بمصيبتي . ولم تعرفه . فقيل لها إنه النبي صلى الله عليه وسلم فأتت باب النبي صلى الله عليه وسلم ، فلم تجد عنده بوابين ، فقالت : لم أعرفك . فقال : إنما الصبر عند الصدمة الأولى .
ولما مات إبراهيم بن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ذرفت عيناه عليه الصلاة والسلام وقال فيما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم : " إن العين تدمع ، والقلب يحزن ، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا ، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون " .
وبالتالي فإن ما يصدر عن الشعراء عند وفاة من لهم به علاقة دم أو قرابة ، وخاصة إذا لم يكن هناك فارق زمني يكون في الغالب ندباً وبكاءً يصدر عن الأحاسيس والعواطف أكثر مما يصدر عن العقل والفكر والتدبر ، إذ أنه من المنطقي أن يكون للفارق الزمني تأثير كبير في تحديد درجة المرثية إن كانت ندباً أم تأبيناً أم عزاءً ، فكلما ضاق الفارق الزمني بين وقت الوفاة ووقت الرثاء كلما جاءت الأشعار ندباً ، وكلما بعد الفارق الزمني وطال كلما جاءت الأشعار تأبيناً وربما عزاءً ، وهو أمر طبيعي ، فإن أثر الصدمة عند وقوعها - كما سبق أن أشرنا - يكون قوياً معطلاً في كثير من الأحيان للعقل ، وبمرور الوقت يعود للمصدوم وعيه ورشده ويعمل عقله وفكره .وعلى هذا يخلو الندب من المعاني العميقة والأفكار الدقيقة التي تدور حول فلسفة الموت والحياة والخلود ، رغم أنه قد يكون من أصدق الرثاء عاطفة .
أما التأبين فيشترك فيه ذوو علاقات الدم والقرابة مع ذوي العلاقات الأخرى ( كعلاقة التعليم والتعلم كما هو الحال بين التلميذ وأستاذه ، أو كعلاقة الوطنية مثلما هو الحال مع رموز الأمة وزعمائها ، أو كعلاقة الحرفة الواحدة مثلما هو الحال مع أصحاب المجال الواحد في عمل من الأعمال ) وإن زادت نسبة الأخيرين عن الأولين في هذا الخصوص .
وأما العزاء فإن أكثره يكون من غير ذوي علاقات الدم والقرابة ، ويغلب عليه ذوو العلاقات الأخرى مما سبق الإشارة إليه ، إذ أنه إذا كانت العلاقات متباعدة ، أو إذا فصل بين واقعة الموت وكتابة الرثاء زمن طويل هدأت العواطف وتماسكت النفس ، ويكون الفكر هو الغالب على المرثية ، ويغلب عليها المعاني الفلسفية المتعلقة بالحياة والموت والخلود وما إلى ذلك ، وهو ما نطلق عليه في اصطلاح الرثاء " العزاء " .
رغم أن " الرثاء " بمعناه العام - كما أشرنا سابقاً - يعني الحديث عن " ميت " ، وبيان شخصيته وصفاته ومحاسنه ومآثره في قصيدة من الشعر – المرثية - بأسلوب يبعث على إثارة الأحـزان لفراق هذا " الميت " ، ويعمق ذكره في القلوب ، إلا أنه في الأدب الأردي كمصطلح يقتصر على بيان أحداث " كربلاء " واستشهاد الحسين بن علي رضي الله عنهما ، وما يتعلق بذلك من وقائع وأحداث ، وهو ما نسميه بـ " الرثاء المذهبي " ، وذلك لارتباطه بأهل التشيع ، وقد نشأ هذا الفن بهذا التصـور في اللغـة الأرديـة مع بداية الأدب الأردي في منطقة جنوب الهند " الدكن " الذي كان معظم حكام دويلاته المستقلة عن الدولة المركزيـة يعتنقـون المذهب الشيعي ، بينما كان سلاطين الدولة المركزية في شمال الهند من السنة .
على أية حال حظيت " المرثية " المرثية بمكانة كبيرة ، إذ أصبحت من أهم متطلبات الاحتفالات ومجالس العزاء الشيعيـة التي كانت تعقـد على نطـاق واسع في منطقة الجنوب في بلاط السلاطين أو في قصور الأمـراء ، وخاصـة الدولة " العادلشـاهية " والدولة " القطبشاهية " والدولة " النظامشاهية " .
ومع انتقال مركز الثقل الأدبي للغة الأردية من الجنوب إلى الشمال في القرن الثامن عشر الميلادي في عهد السلطان المغولي " أورنكزيب " تطور فن " المرثية " كثيراً ، وخاصة في فترات ضعف الدولة المغولية ، وعلى وجه التحديد في " لكهنو " عاصمة سلطنة " أودهـ " في القرن الثامن عشر الميلادي وحتى منتصف القرن التاسع عشر الميلادي ، حيث كان سلاطين هذه الإمارة وكثيرين من المرتبطين بهم من الشيعة ، والذين يحتفون بالمعتقدات الشيعية ، واستشهاد " الحسين بن علي " رضي الله عنهما مـع كثيرين من آل بيت النبوة رضوان الله عليهم أجمعين في واقعة " كربلاء " على غرار ما كان موجوداً لدى سلاطين الدويلات الإسلامية في الجنوب قبل ضمها إلى الدولة المغولية . ولهذا اتخذت المرثية قالباً فنياً خاصاً بها هو قالب " المسدس " ، وأصبح لها ترتيب خاص بها يتبعه شعراء المراثي عند كتابة مراثيهم وهي على الترتيب :
1 – البداية : جهره ، وهو أن يبـدأ الشـاعر المرثيـة ببعض أشعـار " الحمد " في حمـد الله تعالى والثناء عليه بما هو أهل له ، وبيان صفاته وقدرته ، وبعض أشعار " النعت " في مدح النبي صلى الله عليه وسلم وبيان شمائله ومعجزاته . وربما افتتح بعض شعراء المراثي مراثيهم بالدعاء لأنفسهم ولما يكتبون من أشعار .
2 – الوصف الظاهري : سرابا ، وهو أن يقوم الشاعر ببيان أوصاف أولئك الشهداء الذين سيتناولهم في مرثيته من آل البيت الكرام رضوان الله عليهم أجمعين ، مبيناً شجاعتهم وعزيمتهم وهمتهم وصبرهم .
3 – الوداع : رخصت ، ويقصد به وداع الإمام الحسين ، أو رفاقه للباقين منهم عند نزوله إلى أرض المعركة .
4 – الاقتحام : آمد ، ويقصد به اقتحام المجاهدين من آل البيت الكرام أرض المعركة بشجاعة الأسود ، وما يحدثه هذا من رعب وخوف شديدين في نفوس الأعداء .
5 - الرجز : رجز ، ويقصد به بعض الأراجيز التي كان يرددها شهداء كربلاء عند نزولهم أرض المعركة مبينة شجاعتهم وشجاعة آبائهم وأجدادهم .
6 – المعركة : جنكـ ، وفيه يتناول الشاعر وقائع معركة كربلاء وأحداثها ، وقتال أبطالها للأعداء .
7 – الشهادة : شهادت ، وهي المرحلة التي يصف فيها الشاعر استشهاد الإمام الحسين ورفاقه عليهم جميعاً رضوان الله تعالى .
8 – النواح : بين ، وهي المرحلة التي يصف فيها الشاعر نواح آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم على شهداء كربلاء .
9 – الدعاء : دعا ، ويمثل الجزء الأخير من المرثية ، وفيه يدعو الشاعر لنفسه وللحضور في مجلس العزاء .
هذا ولم يقتصر فن الرثاء على كتابة " المراثي " فقط ، وإنما أصبحت الموسيقى تستخدم في ثنايا قراءة المرثية فيما عرف باسم " سوز خواني " ، وهو التغني في قراءة المراثي بنغمات تتناسب مع موضوعها الحزين ، وانتشرت مجالس العزاء في شهر محرم من كل عام ، ولم يكن عقدها يقتصر على الشيعة فقط ، وإنما كان أهل السنة يعقدونها أيضاً ، بل ومارس الهندوس كذلك هذا التقليد ، وحدث له نوع من التقنين الظاهري والشكلي ، وحددت له الملابس والحلي وألوانها ، فكان اللون الأسود والأزرق هي الألوان التي لا بد أن يرتديها الناس في مجالس العزاء في شهر المحرم من كل عام ، ويمنع منعاً باتاً ارتداء الملابس ذات اللون الأحمر ، وتعم المدينة كلها مسحة من الحزن مع أول يوم من شهر المحرم .
ونظراً لأن المرثية كتبت بكثرة ، سواء بدافع إظهار الحزن والألم على مقتل آل البيت الكرام عليهم رضوان الله أجمعين ، أو بدافع الحصول على المال والشهرة ، باعتبار أن هذا الصنف من الشعر كان مطلوباً لدى السلاطين والأمراء ، بل وعامة الناس بغرض عقد مجالس العزاء ، وقراءة هذه المراثي فيها ، فإن المرثية في كثير من الأحيان فقدت قيمتها الأدبية وخاصة في القرن الثامن عشر ، نظراً لقلة اهتمام الشعراء بلغتها وأسلوبها ، حيث كان حرصهم الأكبر على أن تكون مؤثرة في عواطف الناس مثيرة للبكاء في نفوسهم وهو ما كان يحدث – بطبيعة الحال - في معظم الأحوال باعتبار طبيعة الموضوع نفسه وحب الناس لأهل البيت ، فلم تكن المرثية مؤثرة في متلقيها باعتبارها قطعة أدبية ، وإنما لكونها تدفع إلى مخيلته بأحداث مؤسفة دامية وقعت لآل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيدفعه ذلك إلى البكاء إما تأثراً حقيقياً أو تكلفاً بغرض الحصول على الثواب من الله تعالى لإظهاره الحزن ، وبكائه على مأساة آل البيت الطاهرين ، لكن هذا لا يمنع من القول أن المرثية تطورت فيما بعد ، وأصبحت تشكل قطعة أدبية ذات قيمة فنية في كثير من الأحيان .
ورغم ارتباط فن المرثية كصنف أدبي حين نشـأته بالمذهب الشيعي من حيث كونه فناً ، وتطوره في ظل الذين يعتنقونه تطوراً كبيراً ، مما جعل فن الرثاء في الأدب الأردي يفهم على الوجه الذي ذكرناه فقط ، لكن هذا لا يعني أن المفهوم الأول للرثاء قد زال من الأذهان ، ولم يعد يتناوله الشعراء ، فهو مفهوم مرتبط بوفاة عزيز ، والأعزاء يموتون كما يموت غيرهم ، والأحزان عليهم قائمة . لكن هذا الرثاء أصبح يعرف بـ " الرثاء الشخصي " أو " الرثاء غير المذهبي " ، وأحياناً يعطونه عنواناً هكذا " ... كى ياد مين : في ذكرى ... " ، بمعنى أنه كل رثاء لغير " الحسين " وآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم في واقعة " كربلاء " . هذا ولا يدخل " الرثاء الشخصي " في باب فن " الرثاء " المعروف في الأدب الأردي ، بمعنى اتباعه لقواعد فن المرثية المعروفة والمتداولة . ومن هنا فإن " المرثية " في تعريف الأدب الأردي هي مجموعة الأشعار التي تتحدث عن " كربلاء " وأحداثها . أما " الرثاء الشخصي " فإنه لا يذكر على أنه غرض مستقل من أغراض الشعر الأردي ، وإنما هو مجرد أشعار يبث فيها الشاعر أحزانه وآلامه على وفاة عزيز لديه ، وقد تأتي هذه الأشعار في صورة قطعة ، أو غزلية ، أو قصيدة .
وعلى هذا فإننا نستطيع تقسيم " الرثاء الشخصي " أو " غير المذهبي " في اللغة الأردية إلى ثلاثة أقسام :
1 – القسم الأول : رثاء من تربطهم بالراثي علاقات الدم والقرابة كالآباء والأمهات والأبنـاء والأزواج والزوجات وغيرهم ، وهو الرثاء الذي ستظهر فيه العاطفة بشكل دافق ، ويضج بالبكاء والندب والنواح على المتوفى ، ويقل فيه التفكر والتدبر واستخراج المعاني الدقيقة أو تنعدم .
2 – القسم الثاني : رثاء من لا تربطهم بالراثي علاقات دم أو قرابة كالأصدقاء والأساتذة والتلامذة وغيرهم ، وهو ما يكون من قبيل التأبين للميت بإبراز مناقبه ومحامده من أجل تخليد ذكراه في نفوس المتلقين للرثاء ، ويكون كذلك من قبيل العزاء بمواساة أهل الميت وحثهم على تلقي هذه المصيبة بالقبول والرضا من خلال مناقشة فلسفة الموت والحياة والخلود وما إلى ذلك ، هذا بالإضافة إلى انعكاس حزن الراثي وألمه لوفاة المرثي ، والذي يعد من قيبل الندب .
3 – القسم الثالث : رثاء شخصية قومية أو زعيم من زعماء الأمة ، أو رمز من رموز الوطن ، وهو ما يغلب عليه التأبين والعزاء .
وقد نضيف إلى هذا القسم من الرثاء رثاء " المدن " ، أو ما يطلق عليه باللغة الأردية " شهر آشوب " .
ولعل " الرثاء الشخصي " يتسم بقدر أكبر من الصدق وفوران المشاعر والأحاسيس ، وكذلك التأثير في النفوس مقارنة بـ " الرثاء المذهبي " ، إذ يكون بعيداً عن الافتعال والتصنع والتكلف ، وكلما زادت درجة ارتباط الراثي بالمرثى كلما زادت درجة الصدق والتأثير .