المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : السجال بين التاريخ والكتاب المقدس العبري



عيسى بن ضيف الله حداد
22/12/2008, 06:42 PM
السجال بين التاريخ الفعلي والكتاب المقدس العبري - حلقة 1

السجال بين التاريخ والكتاب - مستمدة من كتاب في طريق الصدور - د - عيسى حداد
-------------
بدا لنا ونحن نتقدم هنا للإدلاء بدلونا في مواجهة علمية للكتاب، بتحرر من كل أسر التقييد، أن نستهل عملنا بنمط من التمهيد، الذي سيكّون منطلق الرؤية لنا في تطبيق أداة منهجية خاصة، تجد مكانها إلى جانب الأدوات الأخرى التي تداعت لتعمل في حقل تاريخيات أسفار العهد القديم.
في واقع الأمر، كنا من قبل في كتابنا السابق " أفكار وأسرار في التوراة والأسفار " قد طبقنا تلك الأداة المنهجية، التي وضعناها تحت عنوان " البحث الإركيولوجي في موقع النص المقدس الحبري "، ولما قد زعمنا أنها تقدم إضافة ما، عنّ لنا أن نعود إليها ها هنا..
والسؤال: ما هو الأساس الموضوعي الذي يجعل من هذا النص بمثابة موقع إركيولوجي، يستدعي التحرّي في متونه بمثيل مقارب لتلك المواقع..
في واقع الأمر، إن أي نص من النصوص، يمكن أن يشكّل بحد ذاته موقعاً ما قابلاً لعملية الغوص والتحري، أما في حال التمنع والاستثناء عن هذا الإجراء فأنه كالهراء لا يستحق العناء.. على أننا نجد هنا ثمة مستندين هامين يدعمان منظورنا وهما: الأول رؤية التاريخ فيه أو رؤية من التاريخ عليه. أما الثاني، فهي طبيعة هذا النص من حيث سماته وطريقة تشكلّه ودوافع هذا التشكّل..
رؤى من التاريخ في حقل النص
من القديم في التاريخ
على مرآى من نهاية القرن الميلادي الأول، ظهر عدد من المؤرخين الإغريق واللاتين الذين شككوا ورفضوا بما أتى من مرويات في كتب الأسفار والتوراة، واعتبروا ما أتى بها محض هراء..
ولقد ظهر ذلك السجال بين هؤلاء الفلاسفة وبين المنافحين عن اليهودية، حول تاريخيات الكتاب المقدس الحبري، عبر سياق السجال العام حول طبيعة اللاهوت اليهودي الحبري، من حيث كونه يجري على نسق قبلي ويدير ظهره لسائر البشر..
والجدير بالذكر، أن الكتاب المقدس الحبري ظهر عبر صيغة إغريقية حملت اسم الترجمة السبعونية، وذلك في حد من الزمن يتراوح بين القرن الثالث والثاني ق م - مما قد أتاح المجال للفلاسفة وللمؤرخين الإغريق المناظرة بشأنه. وكانت تلك الترجمة قد ظهرت تلبية للسياسية الثقافية الإغريقية التي عملت على الإطلاع على مجمل المأثورات المتداولة في المنطقة.. (والجدير بالذكر، أن هذا النص قد عبر مسيرة تحول وتطور كالنص الرسمي..)
ومن بين أبرز هؤلاء القدماء جاء أتباع الفلسفة الإغريقية الرواقية، حيث وجهوا نقداً لاذعاً لليهودية وشرائعها، كديانة مغلقة معادية لسائر البشرية، وأن التاريخ المروي فيها لا أساس له من الصحة، من أشهر هؤلاء، يتم ذكر بوسيدونيوس الأفامي Posidonius ( أفاميا - سوريا/78 ق م) ومعاصره أبوللونيوس Apollonius وكلاهما من مدرسة رودس. ويضاف لهذه اللائحة ليسماك Lysimaque، الذي يُعتقد أنه ينتمي إلى مدرسة الإسكندرية. ومن بعدهم يأتي أحد أشهر أتباعهم، أبيون Apionوهو ابن بوسيدونيوس. وكان أبيون قد كتب العديد من الكتب وشهّر باليهودية، ولاقت كتبه رواجاً كبيراً في كل أنحاء الإمبراطورية وعلى الخصوص لدى الإمبراطور (السوري الأصل من جهة الأم) كراكلا. غير أن كتب هؤلاء قد راحت إلى الضياع، ولم يعرف بالضبط من كتاباتهم إلا بعض النتف التي قد ذكرها خصومهم كيوسيفوس اليهودي. وقد عمل هذا الأخير على دحض كتابات أبيون من بعد مماته.
ويبدو ان أبيون قد اعتقد بأن موسى قد قاد مجموعة من مرضى الجذام في مسيرة سيناء، وذلك على غرار مانتيون المصري.. ( قد تكون كلمة إيبرو مشتقة من الاسم اللاتيني لهذا المرض " Lepre "- ربما لهذا الاسم صلة ما بذلك ؟ ).
ولا شك أن عملية إخفاء كتب هؤلاء الفلاسفة والمفكرين تعكس قيمة كتاباتهم، ولولا ذلك لما عملت المؤسسة الرسمية على القضاء المبرم على هذه الكتب، حين أصبحت المسيحية ظلاً لسلطة الإمبراطورية.
والجدير بالنظر، أن الإسكندرية التي احتضنت جالية يهودية كبيرة وفعالة في تلك الحقبة الزمنية، قد شهدت بالمقابل نشاطاً فكرياً خصباً على يد هؤلاء الفلاسفة وفي طليعتهم أبيون..
وتذكر المعلومات التاريخية، أن أهالي الإسكندرية قد ضاقوا ذرعاً بالجالية اليهودية القاطنة بين ظهرانيهم ( عام 38 م) فأوفدوا فيلسوفهم أبيون إلى الإمبراطور كراكلا، وكان لليهود مندوبهم وهو فيلون الملقب بالأسكندراني.. تميز موقف كركلا بالسلبية إزاء فيلون اليهودي، إلى درجة أنه رفض مقابلته..
الجدير أن ندرك على طرف هذه الواقعة، أن الجالية اليهودية في الإسكندرية وفيلسوفها فيلون، قد مثّلا الحالة اليهودية الأقل تطرفاً والأكثر انفتاحاً من بقية الجماعات اليهودية. بالرغم من ذلك لم يستسغ مواطني الإسكندرية ما يبديه اليهود من نزعات الاستعلاء المنبثقة من خطاب النص المقدس الحبري.. وأرى أن لهذه الواقعة إيحاءات تاريخية جمة، تظهر مدى التوتر الحاصل بين الجالية اليهودية ومحيطها، ولا شك أن للممارسات اليهودية المتعصبة والمغلقة على الذات دوراً فاعلاً في تأجيج هذا التوتر. ويظهر أن هذا الموقف قد خص اليهود وكتابهم المقدس كتاريخ ورؤية، بالترافق ودون تفريق.
على أثر هؤلاء جاء أتباع التيارات الغنوصية المسيحية للتنديد بفكر التوراة وتاريخيته، من بينهم ساتورنن Saturnin أو Saturnilus، جوستن Justin، فالينتانValentin وقد ذهب بعضهم وعلى رأسهم فالينتان إلى حد اعتبار هذه الكتابات مزورة.
على خطى هؤلاء ظهر لدى المسيحية الأولى مارسيون وأتباعه، ومنهم لوسيان Lucien و تاتيّن Tatien (
السوري)، وقد أظهروا التباين الجذري بين العهد القديم الحبري والعهد الجديد المسيحي. وقد تمتعت كتابتها بشهرة واسعة، غير أن هذه الكتابات قد راحت بدورها إلى الضياع، ولم يبق منها غير العنوان وما قيل عن أفكارها، في كتابات مضادة لها..
لم يكتف مارسيون ومدرسته في رفض العهد القديم الحبري وإلهه، إنما قد تمادوا بإقصاء عناصر التأثر باليهودية من إنجيلهم (لوقا)،ومن بينها حذف الصلة السلالية المزعومة بين داوُد والمخلص (يسوع).
وفي كتابات سارت على مذهب مارسيون من بينها، كتابات Homelies Clementiens التي تشككت بكون موسى كتب التوراة، بالاستناد إلى كونه قد أٌعلن عن موته من قبل مرويات التوراة ذاتها.(تثنية الإشتراع 34).. فهل بوسع موسى والحالة هذه الكتابة بعد موته ؟ كما تم التساؤل عن واقعة العثور على التوراة في المعبد بعد رحيل موسى بما يقارب 500 عام.. ثم عن واقعة إتلافها بعد حريق المعبد على يد نبوخذ نصر. (VIGOUROUX F ص127- 128).
في واقع الأمر، لقد تم إعادة الاعتبار لأفكار تاتيّنTatien ومن قبله مارسيون وغيرهما، من قبل الباحثين العلمانيين في عصر الأنوار الذين عثروا على أسلافهم، في مدرسة تاتيّن وصحبه.
ومن بين أشهر الفلاسفة القدماء، يأتي سيلس (Celes – 178 م) الذي اعتبر في كتابه (الخطاب الحق): أن التوراة لا تمثل أكثر من تاريخ ترهات بدائية وفظة تم وضعها من قبل اليهود. وقد دخل في سجال مع الأسطورة التوراتية المتمثلة بمطلع سفر التكوين ووصفها بحكايات عجائز، كما اعتبر قصة الطوفان وما لحق بها كسفينة نوح، لا تعدو أكثر من قصص أطفال.. (المصدر VIGOUROUX ص138- 151).
كتاب ضد أبيون: لعل أوضح المقاربات التي تُظهر موقف هؤلاء الفلاسفة، من تاريخيات التوراة والأسفار- وقد ضاعت جل آثارهم- هو ما أتى عن منظورهم من قبل أعدائهم، ولا سيما عبر ما ذكره المؤرخ يوسيفوس فيلون (37- 100 م) كرد على المؤرخين الإغريق واللاتين، في كتابه ضد أبيون. ويمكن اعتبار هذا المؤلف ( فلافيس أو فيلون) كممثل لنمط من اليهودية السائدة حينئذ..
ويُظهِر هذا الكتاب، أن هؤلاء الفلاسفة والمؤرخون قد رفضوا السرد التوراتي بما يخص بلاد الشام، وأستندوا في رفضهم على معطيات موضوعية، من بينها: غياب أي أضرحة أو شواهد أثرية تشهد بقبول ذلك التاريخ، في الوقت الذي تبدو فيه شواهد الحضارات المصرية والفينيقية والبابلية والإغريقية، على حضور تاريخ عريق، لا يدانيه الريب..
وبنى هؤلاء رفضهم للتاريخ التوراتي إعتماداً على معطى ملموس، يتعلق بعدم ورود أي ذكر لأي وجود (يهوذي/ عبري/ إسرائيلي) في السجلات والحوليات المصرية الكثيرة أو في كتابات المؤرخين، وأشاروا إلى غياب أي دعم لذلك التاريخ في كتب مؤرخي صور وجبيل ومدن ساحل بلاد الشام, وعدم وجود ذكر لأقوام التوراة في حوليات تلك المدن. وركز هؤلاء على عدم وجود إشارة إلى عبرانيين في الحوليات الكلدانية، التي أُفترض أنهم إنطلقوا من بين ظهرانيهم، وفقاً للرواية التورتية..
في واقع الحال، لقد ظهر في السجلات الآشورية والبابلية ما يمكن أن يدعم وجود تاريخي لإسرائليين في عصر المملكة، حمل في الغالب تسمية بيت عمري أو بيت داود، على غرار التسميات الأخرى، غير أن هذه الشواهد لاتتسق قطعاً مع تاريخيات الأسفار- بل تذهب إلى نقيضها، كما سنرى..
مع المؤرخ هيرودت (الملقب بأبي التاريخ - القرن الخامس ق م): اعتمد عدد من المؤرخين القدامى في رفض تاريخيات التوراة والأسفار على غياب أي إشارة للأحداث التوراتية لدى هذا المؤرخ العملاق. وكان هيرودت قد زار مصر وبلاد الشام وبابل، وكتب عن التاريخ إنطلاقاً من مشاهداته ومن ما سمعه من أهالي المنطقة. حيث لم يظهر أي أثر ليهوذيين أو عبرانيين عبر ما كتب. كما خلا كتابه من أي إشارة كانت، إلى مملكة داود وسليمان أو إلى توراة، أو إلى أي شىء عن أورسليم أو هيكل أورسليم، أو إلى أي من مصطلحات الخطاب التوراتي المتداولة..
ولما كانت هذه الواقعة بقيمتها التاريخية، قد وضعت يوسيفوس فيلون (المؤرخ اليهوذي) في زاوية الحرج، فقد أجهد ذاته- وهو المنافح عن اليهوذية - على محاولة إيجاد مخرج يغطي فيه هذه الفجوة، فتعامل مع هذه المسألة بحذلقة، وقد أتت كالآتي، حيث ذكر" كتب هيرودت في القسم الثاني من مؤلفه " التاريخ " عن عادة ختان الذكور: إن الشعوب الوحيدة التي تمارس ختان أعضائها التناسلية هم الكلخ والمصريون والأثيوبيون. لكنّ الفينيقيين وأولئك السوريين الذين يقطنون فلسطين يعترفون بأنهم تعلموا ذلك من المصريين.. " ولكي يجد فيلون مخرجاً آخر، يغطي به هذه الواقعة الجديدة المتمثلة بتوصيف سكان فلسطين بالسوريين، ذهب مسرعاً ليقول " مايقوله هيرودت.. سوريو فلسطين مختونون، لكن ليس ثمة مختونون من أهل فلسطين بإستثناء اليهوذيين.. " " وهكذا بالتلفيق المعهود يصبح سوريو فلسطين يهوذيين، إلا أن الحقائق لا بد أن تنجلي لتستعصي على معاول التلفيق " ( المصدر، ص181).- ( بدورنا نقول، أنّى لفيلون التيقن من ذلك، مادام الجميع قد أخذوا الختان من مصر..!! )..
والحقيقة أن هيرودت لا يشير إلى يهوذا أو إسرائيل أو عبرانيين أو توراة أو حتى سبي بابلي، في حين من المفترض أن السبي البابلي قد حدث قبل سنوات قليلة قبل تدوين هيروت لكتابه " التاريخ " – ( ليس من المستبعد أنه لم يظهر بعد من وجود لتلك الأسماء – يهوذا، إسرائيل، عبرانيين - من حيث تكون دلالاتها قد إندمجت في ظل أسماء أخرى، لأن التمايز لم يظهر بعد، وشأن التوراة لم يحن ظهورها بعد – كما نرى). في واقع الأمر مازال شأن التلفيق في الأسماء والتاريخ جارياً على كل قدم وساق، حيث مازال يجري في هذا السبيل، التداول مع كلمات من أمثال عالم التوراة أو عالم الإنجيل لتغطي مساحات المنطقة الممتدة من الفرات إلى النيل..
لعل زخم تلك المقاربات النقدية لليهودية كدين ونصوص وتاريخ، في تلك الحقبة الزمنية المواكبة لفضاء القرن الميلادي الأول والثاني، يدعم منظورنا القائل بأن اليهودية لم تظهر كدين شبه مكتمل إلا في فضاء
ذلك الزمن.
في واقع الأمر، لقد حملت المسيحية الشرقية حتى العصور الوسطى ميسم الشك بوثوقية العهد القديم العبري، وقد ظهر ذلك جلياً في مؤلف يحمل اسم كتاب التاريخ، من تأليف محبوب المنبجي" ( مطران منبج)، حيث ذكر بصريح العبارة " هتكت اليهود بما غيروا من الكتب "(ص 89) - كما نوه " بتوراة اليهود الفاسدة " (ص 45).
وهنا، ألا لا يتوهمنّ أحد علينا ليرى، أن هذا السجال قد دارت دورته بين دوائر متباعدة، لا، ولا، إنما ذا كان في ذات الدائرة، وما هؤلاء المساجلين والمتساجلين إلا نخب تنتمي إلى مللٍ متجاورة ومتداخلة، يجمعها فضاء سياسي ثقافي مشترك، في ظل من نظام إمبراطوري مترامي الأطراف. - يتبع..