المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : هوس السؤال وحرقة الانشغال.....



حسن العابدي
31/12/2008, 02:51 PM
هـــــوَسُ السـؤال وحُرقــة الانشــــــــغال؟
فـــي " مالُــــه الحْـــــــمــــامْ ؟ " *ـ أما قبل :
يستحق إصدار محمد بنعلي الأول " مالُه لْحْمام ؟" أن يبذل في حقه الكلام، إكراما له ، وإنصافا لصاحبه وإن كان الكلام على الكلام صعبا ومحفوفا بمزالق لا تنكر ، طالما وأن الكلام الأول ـ أقصد فن الزجل عامة ـ لا يمتلك إلى حد الآن،لا نظريا وبالأحرى تطبيقيا استطيقاأوبلاغة يمكن للكلام الثاني ـ وأعني به اللغة الواصفةـ أن يصدر عن جهازها المفاهيمي المستمد من تلك البلاغة ومعها الإستطيقا،للحديث بلغة الزجل عن الزجل كما ينبغي للكلام أن يكون في المغرب الحديث .يستحق إصدار المحتفى به ذلك ، لاعتبارين أساسيين ،هما في ملتي واعتقادي:
1ـ كون محمد بنعلي ابنا شرعيا للثقافة الشعبية ، لأنه تربى في كنفها ، مستمسكا بتلابيبها واغتذى بلبانها صبيا ، ليبََّر بها كبيرا . وكفى بصوت الكتابة من الداخل شهيدا على هذا الوفاء والبر على نحو ما ستوضح في خطوات لاحقة من هذه القراءة المتواضعة ، ولا غرو فقد ورد في الأثر الشعبي " ولد الوْزّْ عْـوَّامْ "ومثله على لسان البارودي " لا بد لابن الأيك أن يترنما."
و بالفعل فقد شدا محمد بنعلي وترنم سابحا في دنيا هواجسه، وكانت باكورة إنتاجه رسالة تكفل بإيصالها زجله الزاجل وحمامه الزجلي بأمانة بالغة، " ماله الحمام ؟ " واقتدار، رغم تقلبات أحوال طقس الإبداع وحالة الطوارئ المعلنة في دوائر النقد.
2ـ هو مبدع يحسن التحرك بين الموسيقى عزفا وإنشادا، وبين أدب الأطفال تأليفا، كتب للطفل أناشيد تولى هو شخصيا تلحينها، ومسرحيات وضع خطاطة تُخرجُها لهذه الفئة من الأعمار بنفسه، كما قام بإخراج بعضها شخصيا. وقد أطلعني ـ مشكورا ـ ذات لقاء ثقافي ـ جمعنا قبل بضعة أشهر ـ على نماذج من تلك الأشعار والمسرحيات بصوته الجميل " الزويريقي " وبين الحين والآخر ، كان يجيب بعفوية الإنسان وتلقائية الفنان على بعض الاستيضاحات ، بما ينم عن إدراك كبير ، وتمكن شديد من حرفته وصناعته ، كما عن ثقافة متنوعة ، تشرب أساسياتها ، هي عدة المبدع الحقيقي وزاد معاده ومآله كلما رام الإبحار في دنيا الإبداع .
وعن هذا المعنى ، عبر الأثر الشعبي بلسان الزجل قائلا :
" اللِّي عنْدو شيخو يْصُولْ فْجْماعا ، بْحالْ اللِّي مْخَبِّي زْرْعو فْـلْكاعا "
وقد حملت تجربة محمد بنعلي الكثير من قسمات هذه الثقافة، واستطاعت أن تحتاز لها مذاقا خاصا، لتقدم الدليل على أن لا شيء يأتي من فراغ... وأنه بالإمكان جعل التراث معاصرا لنا وممتدا فينا .
ـ تمكن هذا الرجل - إلى حد كبير- من تصريف أرصدته المرجعية على مستويات المعجم والدلالة وأصعدة التركيب والصرف والإيقاع ، وأضحى تشكيل الصورة الشعرية قيمة مضافة تطبع الكتابة براهنية وتحين صوتها ، وتجعل من الزجل فنا ممتدا في الحاضر ، محافظا على أصالته . وبعبارة، استطاع محمد بنعلي أن يقدم لنا فن الزجل في حلة معاصرة وأنيقة على مقاس الفرد والجماعة.
1) ـ لا يمكن للعمل الفني إلا أن يكون رسالة متورطة في دم صاحبها ، ورجع صدى متوهج لحركته الداخلية الدائبة ، وصورة إيكوغرافية بالألوان لدواخله الملتهبة ، ورعشة صوفية تلقائية من رعشات روحه الشاخبة ، ونبضا معافى من كينونة لا يمكنها ـ بالتالي ـ إلا أن تكون هي كذلك مرتعشة ، مستوفزة مسفرة ، ضاحكة مستبشرة ومرحة ، ترشح صاحبها لمنصب سفير لمؤسسة الفن بين بني جلدته ، وتمكنه من أوراق اعتماده الدائم ليقوم بوظيفته الجمالية والتربوية بين العالمين ، يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ويلغو ، أو نبيا مبشرا بقيم المحبة ومبادئ الإنسانية والتسامح ، يقاوم ترامي الصحراء وزحف الجليد بمديد قامته الفنية الأصيلة واعتدال طباعه ، كالنخيل ، أبدا لا ينحني ولا يميل ولا يموت إلا واقفا ...
فتحية للواحة الظليلة في زمن النكر والادعاء ، وأفول نجم الروح ، الإنسان أولا والشاعر والفنان محمد بنعلي في البدء والانتهاء .
وألف مرحى بمولوده الإبداعي ـ ولادة طبيعية ـ والمسمى حسب شهادة ميلاده تسميتين هما " مال الحمام ؟ " ثم " ماله الحمام " المحسوب على جنس الزجل في ذكرى ميلاده الأولى بمسقط رأسه عن مطبعة سيندي ، ألف مرحى بين أحضان هذه المقاربة ...
.
بانوراما الكتابة الزجلية بالمغرب :

إن استقراء أوليا لواقع ما يكتب في المغرب الحديث باسم الزجل ، يؤكد بالملموس أن المنطلقات التي تحكم تصور الإبداع في هذا الجنس الإبداعي المكتوب بلغة اليومي ، ولسان حال الناطقين باللسان العربي الدارج، هو التجريب عامة ، في غياب ضوابط مرجعية مشتركة ، أو أفق رؤياوي متقارب ، يوجهان نشاط الإبداع ويحددان مساره عند المبدعين .

ـ إن رهان التجريب رهان مشروع ، يبدو من خلال مقاصده المعلنة سليما ومعافى ، مادام رائده هو البحث الدؤوب عن طرائق وصيغ مستحدثة تحقن الكتابة الزجلية بدماء جديدة ، وعن آفاق مفتوحة وملائمة تمتد إليها عيون الإبداع ويتوق إليها طموح المبدعين بأمل وشوق . ـ لا غبار ولا اعتراض على هذا، فقد صفق الجميع، وانفض كل إلى حال سبيله، ولسان حال واقع الزجل يقول: حسنا ! ، نحن في بداية الطريق، هذه أول خطوة، فدعونا نجرب، وبعدها ننظر...
ـ وما كادت كوكبة المبدعين تشق طريقها نحو الأفق المنشود ، حتى تفرقت السبل بين شعراء الزجل وذهبوا فيما يكتبون مذاهب شتى ، وكانوا طرائق قددا ، وهاموا في كل واد ..وظل الرهان معلقا على برج بابل ، كحدائق بابل ..
ـ وباستثناء نزر قليل من مبدعي قصيدة الزجل الحديثة ، الذين صدروا في تجاربهم عن ثقافة شعبية حقيقية تؤهلهم لذلك ، و تمثل جيد للتراث الشعبي بمختلف مكوناته وروافده على المستويات الموضوعاتية والرؤياوية من جهة ثم الإيقاعية والدلالية والمعجمية من جهة أخرى ، باستثناء هذا النزر النزير، بقيت فئة أخرى من المبدعين في حل من أي التزام أو حتى استئناس بثوابث التراث وهوية النصوص الإبداعية ومكونات الفضاء الشعري لقصيدة الزجل ، وبخاصة عنصر الإيقاع . ذلك أن فريقا من شعراء الزجل اختاروا أن يكتبوا انطلاقا من تصور شخصي فج ، ونزوة فنية عابرة ومحدودة الأفق والإمكانيات ، معولين على ما تزخر به اللغة ـ هكذا يقولون ـ على مستوى ـ تصفيف الملفوظان ـ من طاقة يمكن استثمارها كيفا اتفق ، داخل إيهاب شعبي ، لخلق كيان لغوي يسمونه قصيدة ، بدعوى أن القصيدة قادرة على احتياز إيقاعها الداخلي من خلال بنيتها المغلقة ، ولا حاجة لها بأي بنية إيقاعية مجردة يمكن أن تنسج القصيدة على غرارها إيقاعها الخارجي . وعلى هذا الغرار سارت تجربة قصيدة النثر في الشعر المقابل المسمى بالفصيح . وكأن قصيدة الزجل بالمغرب استغرفتها التجربة و الزمن ، وجعلتها تستنفذ ما بحوزتها من أعاريض شعبية وإيقاعات على اختلافها وتعددها وتنوعها ، ليعلن هؤلاء استنكارهم واستهجانهم ، ويشهروا عقوقهم ، وبركلة واحدة حرة ، يسجلون تمردهم على التراث وعلى الإيقاع ضدا على مراميهم على حين غفلة من جمهور القراء والنقد .

وإذا عرفنا أن قصيدة الزجل ـ شأنها في ذلك شأن قصيدة الشعر المتعارف عليه بالفصيح ـ نشأت في محيط إنشادي وغنائي ، لها أعاريضها وهي المرمات أو القياسات أو " القدود " وكذلك " الطبوع " ، وهذه الأخيرة قياس أو بحر عند المغني ومثلها الميزان ، " الـْمَيازْنْ " إذا عرفنا هذا وما إليه من أنواع القصائد وأقسامها ، أدركنا ما للإيقاع من أهمية في كلتا الشعريتين الفصيحة والشعبية ، أهمية تربطهما بالأصول . (( فالزجل فن التطريب والتغني ويقوم على إيقاع سماعي وتركيب الألفاظ ونظمها على نحو خاص ، والنطق بها بطريقة مخصوصة ...))" .
ليس الإبداع إذن بالتمني ولا بالتحلي كما قد يتوهم البعض . وليس هو أيضا مسألة فورية ولا محمية للحفاظ على الأجناس الأدبية النادرة، المهددة بالانقراض..
لا ، ولا شيء ينشأ من فراغ ـ فالطبيعة نفسها لا تقبل الفراغ كما يؤكد العلم ، وكذلك طبيعة الإبداع ، وإنما على أساس صلب مما تحصل لدى المبدع من ثقافة ، وما تراكم لديه من خبرة بطرائق تركيب الكلام عن طريق السماع ، والقراءة والحفظ ، ودوائر النقد وأضوائه " يكون المبدع راوي مزيان " ، قبل الإقدام على صناعة كلام من جنس ، أو فصيلة الكلام المروي ، وإلا انفلت الزمام وزلت الأقدام ، وسقط الكلام على الكلام في زحمة سباق محموم ، محسوب شكلا على قصيدة الزجل ، انخرطت فيه أصوات شعرية كثيرة في هذه الأيام ، وهي ظاهرة كانت معروفة أيام كان الزجل يرفل في أبهى حلله على عهد القدامى من الرواد ، يقول أحدهم :
(( غــزلي صافي مشـنوع ، ما يلحقـوا من كان ســفيه .
مانـــا داعـي مانــا جحيد
ولكن سوق الكلام دخلوه الهـــرتالا
وكل خشــني ، ولـى يدعى لبــيـق )).
ـ تلك كانت مناوشة خفيفة ـ قادها سؤال مركزي ـ من بين أسئلة أخرى معنية بواقع وآفاق الكتابة الزجلية بالمغرب ، لا يمكن ـ بنظري ـ لنقد مسؤول في مقاربة مسؤولة أن يتخطاه أو يختزله في نوايا ضيقة ، وهو يروم وضع قاطرة قصيدة الزجل على سكة مأمونة ، تفاديا لمزيد من حوادث سوء الفهم والتقدير التي تسببت فيها حركة الزجل ، على أكثر من مستوى ، داخل قصيدة الزجل على يد زمرة من المبدعين ، لا يحترمون قوانين السير ..
ـ هو سؤال لا يحجب غابة أسئلة أخرى ، قد تطرح بدافع الحاجة إليها في سياقات مغايرة للسياق الذي نحن فيه ، كما طرحنا هذا السؤال بدافع الحاجة إليه في معرض حديثها عن تجربة محمد بنعلي التي تعد خصيصة الإيقاع أخص خصائصها في إطار أن صاحبها ( سـجـَّـاي ْ ) . والسـّـجيـة عند أولي الأمر من أمراء شعر الملحون ونقاده القدامى والمحدثين ، السـّــْـجِـيـَّـةهي " هيض وْ لـَىَ غـِـيـظْ " كما سيتضح لنا لاحقا.
ـ إن تلقي / قراءة نص من النصوص أو متن من المتون الإبداعية ، تستضمره أو توجهه ـ سيان ـ طريقة إبداع هذا المتن أو ذاك النص .. وعلى القارئ أن يقوم بعملية حفر وتنقيب دائمة.
وفي حالة ـ " ماله الحمام ؟ " تعلن بصمة صوت المجموعة الزجلية عن هوية إبداع هذه المجموعة كما يشي بها لون جلدتها اللغوي ، وتحددها فصيلة دمها ، ونبض كتابتها من الداخل والخارج معا . يكفي إذن أن نرهن السمع لنبض الكتابة كي نكتشف الأفق الذي تتحرك فيه الكتابة ، وهو أفق متوتر عاصف بالاستفهامات . لا يستكين حتى يبدأ من جديد . ومن هذا التوتر وتراسل الاستفهامات تتكون خيوط اللحمة والسدى في هذا المنجز الشعري الزجلي .
ـ يمكن تشخيص حركية الدلالة واشتغال الكتابة في هذا العمل الشعري نثريا من خلال العلامات التالية :
1 ـ هي كتابة تشتغل بالسؤال وتغذيها حرقة التخمام .
2 ـ نبرة صوتها صدى أمين بالصورة واللون لارتجاجات عنيفة طالت بنى المجتمع رأسيا وأفقيا .
3 ـ على مستوى اشتغالها النصي ، هي كتابة تمتح من سجلات وأرصدة معرفية متنوعة . وترفع ذلك شرطا أساسيا لانتاج معرفة شعرية في الزجل وبالزجل .
4 ـ تفترض بالقوة ، وبالفعل خاصة ، قارئا تخاطبه وتحدد نوعيته .
5 ـ مواصفات أخرى لا يتسع لها صدر هذه الورقة فمعذرة .


مفتاح القراءة :
- الراس يشبه قدرةغير بالتخمام حمات
- ماله الحمام حين حوم راجع مدعور ؟ !
- والخاطر بعد هناه صار كِتور جافل.
- حروف المعنى واضحة والقلم مكسور.
قصيدة : " ماله لحمام؟" .
1 * هي كتابة يؤججها السؤال وتغـذيها حرقة التخمام ..
ـ ضياق العنق والصدر بمحانو
ـ و بليأس صار قلبو حزين
ـ ملكو سؤال يدور فمكانو
ـ ودورة السؤال رجعات طنين.
• ـ الحيرة سؤال مكتوب بلغة صامتة، والسؤال ملفوظ الحيرة وترجمانها اللغوي والوجودي.
تتحدث عناوين قصائد المجموعة الشعرية باستفهامات حادة تعتبر مشتقات لدالية مركزية تقدمها عبارة عنوان المجموعة بملفوظين مختلفين في التركيب لكنهما متراكبان من حيث الدلالة هما :
أ ـ " مالْ الحمام " ؟ الصيغة الأولى ، ما بالحمام ؟
ب ـ مالُه الحمام ؟ الصيغة الثانية ، مابه الحمامُ ؟
ـ وتمتد جذور هذا الاشتقاق أفقيا وعموديا في صلب القصائد حسب ما تمليه طبيعة الموضوعات وحدة القضايا المطروحة.
ـ ولعل إطلالة على عتبات نصوص " ماله الحمام ؟ " تقربنا تدريجيا بالوصف من أتون هذه المجموعة الزاخر.

ـ الملاحظ أن أغلب عناوين القصائد صيغ بأسلوب الإنشاء . ومن طبيعة الأساليب الإنشائية أنها تمتلك قوة إنجازية كفيلة بترجمة حركية الذات ورصد انفعالها وتفاعلها مع المحيط والغير والكون : يعتبر الاستفهام مفتاحا لهذه القوة ، سواء بأصل وضعه البلاغي الدال على السؤال عند افتقاد الجواب ، أو عند خروجه عن مقتضاه لإفادة التساؤل ، الشك ، الانكار ، الحيرة ، التنديد.. وما إلى ذلك من الدلالات الدائرة في فلك الإفادة السابقة حسب تموجات السياق .

ـ عشرة نصوص (10) من أصل 14 نصا (10على 14) هي حصيلة القصائد المصدرة بعنوان محسوب على الإنشاء ، نوردها مصنفة بحسب أنواع الإنشاء ، وبحسب ترتيبها في قائمة الفهرس كالتالي :
1 ـ الاستفهام : بخمسة نصوص هي على التوالي :

1) ـ ماله الحمام ؟ عنوان أول قصيدة توافق المجموعة الشعرية في التسمية ص : ( 5 ـ 7)
2) ـ علاش الوقت يضيع ؟ وتتكون من جزأين ، السرابة 1 والسرابة 2 ( 9ـ 15)
3) ـ سألت كوني كيف بدا . من الملاحظ أن صيغة العنوان خرجت من الخبر إلى الإنشاء دلاليا ( 27 ـ 28)
4) ـ تحديقة . تأملات مطروحة في قالب تساؤلات . ( 29)
5) ـ سألت العين التايهة مالك .. مالك .. عبارة عن مخمسات ، مسدسات ، مسبعات ( 31 ـ 33)

2 ـ النداء
وتمثله 3 قصائد من مشمول قصائد المجموعة وهما:

1) ـ يا الساقي : أول نص قصير ( ص: 17)
ـ يا جامع الشتات : ابتهالات وأماني ومطامح( ص: 19ـ 24).
2- ياراوي: آخر نصوص المجموعة وثاني نص قصير، يعتبر الأحفل بالمتعة من بين نصوص المجموعة .
-3الأمر:
يمثله نص واحد هو عض على اللسان ، ( ص 25)

4 ـ التمني :
حاضر بنص واحد هو الكنكانة ، علما بأن تداعيات التمني التي هي التحسر ، الندم،الرجاء مبثوثة في تضاعيف قصائد أخرى بشكل ملموس مثل السرابة 2.( 53 ـ 57)
ـ من الملاحظ أن باستفهامات الصوت الشعري في منحاها العام ، تتقاسمها اهتمامات وانشغالات تتوزع كما يلي :
1 ـ الواقع المعيش : على مختلف صواعده .
2 ـ ما وراء الواقع والوجود ، مثل التساؤل عن حقيقة الإنسان والوجود مبدأ وانتهاء . فيرتد الصدى جفاء .
ـ تقول عينة من قصيدة " سولت كوني كيف بدا " ؟ ص : 27
سألت على كوني كيف بدا؟
كيف صرت عداد وعدة ؟
لكن سآلي رجع صدى
واش الإنسان يفهم الإنسان ؟
عاودت السؤال ، كذا وكذا
في كل مرة نوجد عقدة.
3 ـ معنى الحياة والوجود وحقيقة النفس:ويحكي عنها المجتزأ التالي من قصيدة
تحديقة ص29
أ ـ حدقت فيك ياذاتي
بعقلي ونظراتي
شكون يجمع شتاتي ؟
وفي قصيدة : سألت العين التايهة . ما وصلت منك غاية .
ب ـ تسألني والنفس تايهة / في فيافي وفلات / جانحة مارسات/ عاشقة لملذات /
ص32
4 ـ فلسفة الجمال الحسي والمعنوي:وهي عبارة عن تأملات تحاول مقاربة الحب والاقتراب من ماهيته المتعالية من خلال آثاره المادية تشير إليها الأبيات التالية : ص : 59
سوْلوني عالحب
كلمة حارو فيها
قلت لهم : معنى
والمعنى فيها وفيها
الحب ، حب ، نبات .
شجرة بدم نسقيها.

وبحسبان أن الحب عاطفة إنسانية وشعور نبيل قديم قدم الإنسانية ، يجدر بنا أن نستشرف موضوعة الحب كما طرحها شعراء الزجل المؤسسون والرواد " سيدي قدور العلمي " نموذجا ، حتى نتمكن من ملامسة طبيعة هذه التيمة في ضوء قصيدة " الحب " لمحمد بنعلي وهذا إجراء نعتبره منهجيا وضروريا لأنه سيمكننا من استجلاء عناصر الائتلاف والاختلاف الحاصلة بين رؤيتين إحداهما سلفية والأخرى معاصرة لنفس الموضوعة .

في هذا الصدد يقدم لنا الأستاذ عبد الرحمن الملحوني الإضاءة التالية عن الحب عند المتصوفة :
(( الحب عندهم ألفة ، بأن يكون الله ورسوله أليفك ، ولامه لذة ، أي لذة الذكر ولذة الحب ، وحاؤه حلم ومغفرة ، وباؤه الأولى براءة من الشرك والشك . وباؤه الثانية بر ومعروف مع عيال الله وخلقه ، فهذا هو الحب الذي يقوم بالدعوة إليه الشيخ عبد القادر العلمي وأتباعه ومريدوه ..))
وقد استخلص أحد الباحثين المغاربة العناصر البانية لموضوعة الحب في قصيدة الساقي " للزجال سيدي عبد القادر العلمي وهي قصيدة خمرية ، بعد أن حدد أقسامها وبين خصائصها قائلا : بنى الشاعر قصيدته على خطة سردية ، يبرز فيها تدرج الحالات واللحظات الشعرية ، بشكل نسقي يتضمن الثوابت الأساسية التي تقوم عليها البنية الدلالية للقصيدة ، وتتركب من مفهوم الحب ، ومفهوم الطبيعة ، ومفهوم الخمرة .. وتتكون القصيدة من سبع وحدات شعرية هي التي تشكل الخطة السردية للقصيدة .. وهكذا فإن قصيدة الساقي باعتبارها قصيدة خمرة تقبل القراءة الصوفية الرمزية .
إن ما يعنينا من مشمول الإضاءة السابقة هو الاقباس التالية :
ـ تفكيك كلمة الحب إلى أصوات ، وإشراب كل صوت مفهوما معينا من طرف الرؤية الشعرية يساعد على إنتاج الدلالة النسقية للقصيدة .
ـ تقسيم القصيدة إلى أقسام سبعة أو تمفصلات دلالية تقبل أكثر من قراءة وتأويل .
ـ انفتاح التجربة على واقعها السوسيو ثقافي والنفسي ..
بين يدي تجربة محمد بنعلي من خلال قصيدة " كلمة حب "

يتحكم في بناء القصيدة نفس المنزع وذات الرؤية التراثية المولعة بتفكيك المادة الصوتية المؤلفة لعنوان القصيدة على نحو يعمل على تحيين نفس الرؤية ولكن عن طريق توسيع النواة الدلالية للكلمة " حب " لتشمل مفاهيم أخرى تدل عليها المفككات بالتفريد والتي تصب مجتمعة في مجرى واحد يموقع دلالة الحب خارج حدود التسمية ويفتحها على اللانهائي واللامحدود ، إليه تشير المفككات ولا تدل عليه بشكل قطعي دلالة العدد على المعدود وهذه المفاهيم هي :
ـ الحرية : لقيت الحا روح فالحياة / والحرية بالحا حلقات
ـ الغيرة : لكن الغيرة شعلات / نار شكون يطفيها / وهابيل سقط فيها .
ـ الألم واللذة : حوا حين فهمات / صرخة ألم تعزيها .
ـ السلام : والسكون يضم الكلمات / والسلام يتبت معانيها
ـ السعادة : كلمة حب تعالج لرواح / يسعد بالله من ذاق ثمارها.
ـ الحياة والطبيعة: بر وبحر ، بنين وبنات / وبر وبركة وبلاد يحكيها.
تلتزم القصيدة بالتقسيم السباعي وبالإيقاع وإن كان من بنية أخرى. وتتحلل مما سوى ذلك مما يطبع قصيدة الساقي.
ـ يهمها القبض على دالية الحب الهاربة ، وتستبطن هذه المحاولة رغبة أكيدة في تفجير دلالة الحب من داخل الكلمة الدالة عليه لغويا ، من أجل تطويعه لحاجات نفسية فردية وجماعية معاصرة ، اقتضت تمتيع الإنسان بما يملأ هذه الحاجيات على نطاق أوسع ، خارج الحدود المضروبة عليه بحكم العادة وتراخي الزمن . وكذلك كان حال الصوفية في سفرهم خارج دائرة الجسد .

2 ـ الكتابة بما هي صدى أمين لارتجاجات ..

نقرأ في افتتاحية قصيدة " ماله الحمام " أول نصوص المجموعة مايلي :
مال لحمام حين حوم راجع مذعور؟
ما نويت الطبع يتبدل من حمام زاجل
مال البسيطة كالبركان واجد يفور؟
يطالعنا مطلع القصيدة ـ أو لنقل تستفتح المجموعة الشعرية ، بصرخة عريضة مادتها جملة باستفهامات يدوزنها الاندهاش ويطبعها الاستغراب ، وكأن قرون استشعار الحدس الشعري ترصد من بعيد أن ثمة شيئا ما غير عادي تماما . فماذا يحدث إذن ؟ أإلى هذه الدرجة تصير الأمور ؟ وهل يعقل أن يغلب التطبع الطبع ؟ وهلم شرا ؟
ـ في ضوء ما يرسله هنا الاستهلال من إشارات ، تتحدد الحياة كما تقدمها هذه التجربة بكونها مزيجا من الشعور بالغربة والألم والاستغراب والإحباط والفكر والحلم ..
من ثم تنبجس الرغبة في الانعتاق من ربقة واقع مأزوم مطعون في حقه بالنقد والإبرام بتهمة مصادرة الروح.
ـ تتحدد الرغبة بأنها شكل من أشكال مساءلة هذا الواقع بدل الإذعان لمقترحاته ، أو هي ضرب من ضروب تمزيق الحجب المضروبة عليه ، بعد أن تقدم الكتابة مذكرة مشفوعة بجرد لأنواع الوهم القاتلة التي أنتجتها ، وعملت على ترويجها قوى المادة المتغطرسة والجهل المتعالم في هذا الواقع .
ـ يعتبر ما سطرته الرؤية الشعرية في " السرابة الأولى من قصيدة " علاش الوقت يضيع " ص : 9 استعارة كبرى لما يعتمل في ما سبق التأشير عليه بالواقع المأزوم فتقول :
ـ مال يوسف ما بغى يظهر
ويفسر لينا المنام ؟
مال الحمام ما بغى يهدر
ويتكلم بصوت الإلهام؟
ـ لقد بلغت الأزمة الشاملة ذروتها ، مبلغها في زمن يوسف كما يحكى القرآن فكان التخبط والشيه وفقدان التوازن السمة المائزة لمجتمع اليوم كما لمجتمع وقتئذ ما أصعب أن تتعطل بوصلة الروح! وأشدد بمسيس الحاجة إلى منقذ في مثل هذه الأحوال وبمعجزات .
وياله من كابوس يحكم قبضته على عالم النهار أيضا !
ـ أما الحلم فتستثمره الرؤية الشاعرية على شكل إشارات دافئة في اتجاه الباطن ، المنطقة الكفيلة بتحقيق التوازن وإنتاج الخلاص ، وهي على صورتين :
1 ) ـ الطبيعة الإنسانية في نسختها الفطرية الأولى قبل أن يلحقها دنس اليومي وإشعاع المادة الجرثومي وإلا فهي بمنزلة باقي الأشياء الأخرى المغرقة في شيئيتها والمنذورة للتلاشي والاضمحلال.
2 ) ـ الروح كبديل معنوي وطبيعي مضاد لإيديولوجيا المادة وغطرستها ، ولذلك نرى صوت الكتابة يفتح بحسب السياق دروبا على الماوراء " ويتيح للإنسان أن يصير شبيها بسائل روحي أو قبس نوراني متعالي المصدر ، يتمددان في العالم ...".

نحو هذه المعارج والمدارج يتدرج بنا الصوت الشعري في قصيدة ما قطعت لياس ص 39:

• العينة الأولى ، المقطع الخماسي :
شفته جاي ، كساه توب الليل
لما يتلاح كلها على فراشو/ لما يتسلخ كلها من كساتو.
لما يتخلوى كلها مع راسو.
تتفتح الودنين
لما تغمض العينين
وتغرق الذات / تفيض عين الحياة.
ـ يرى يونغ وسلبرير " أن كل حلم يمثل رغبات من الماضي ، لكنه يتجه أيضا إلى الحاضر ويدل على أهداف الحالم وطموحاته "
ويعتبر فرويد " أن الصوت الذي يتكلم في أحلامنا ليس صوتنا نحن ، وإنما هو آت من مصدر يتسامى بنا ... ففي نومنا كثيرا ما نكون أبلغ حكمة وأكثر عفة واستقامة مما نحن عليه في اليقظة ... " .
* العينة 2 : المقطع الأخير من نفس القصيدة السابقة يقول :
ما قطعت لياس / اللي مشاو ليه لقدام
بعينو يزيد للقدام / ويحقق الاحلام
ياك الحكمة فالراس
لحكيم ما يقطع لياس
واش يحيى كيف الناس / اللي ماليه احساس ؟!
ـ هكذا يتعرف الحلم بكونه علامة على صراع أزلي بين الظاهر والباطن / البصر والبصيرة/ الرؤيا، سفرا لا ينتهي إلا بانتهاء الحياة وظيفته هي تشخيص التدافع بين صوت الحكمة واللاحكمةإن لم يكن أيضا تجذيفا واعيا ضد قوى المادة والتيارات الجارفة .
ـ تضيق المسافة بين رمزية الحلم وأليغورية الروح في " ماله الحمام؟" ، إلى درجة حلول أحدهما في الآخر حلولا ينهض بديلا لمداليل اختراق المحدود وتجاوز المتناهي من الأفكار والثوابت والأوهام . ومظاهر التخبط المعتملة في سلوك الواقع :
تضيء هذا الجانب الأبيات التالية : ص : 37 ـ 38.
1 ) والتالف اللي زادت شجانو
وحار يبدا بالراس ولا الرجلين
قريص من شعا برق في عيانو
وجلا عنو الجلالة مالعين
طار بالروح والجدع فمكانو
روحه عالقة فحبل متين .
2 ) لما يتهرق الشقا
يذوب على لوسادة
لوسادة طير
يحوم بالراس
الاحلام جنحانو
يسري فالقلب
القلب المسكون
يحضر ويميل
ما قطعت لياس / ص: 41
ـ موطن الشاهد في هذا المجتزأ هو ( القلب المسكون) ، والمسكون هو ، من به مس أو طائف من الشيطان ، يجعله في حالة غير عادية ، مضافا إلى ( يحضر ويميل ) والحضرة طقس طرقي يقوم على حركات الجسد ، وتسميه العامة الجذبة والحال والتحييرة ..
وفي هذا السياق يكون " الحال شكلا من أشكال الإلهام " عند الصوفي والهداوي
كما أن " الجذب تطهير لنفس صاحبه من خيانة العجب والرياء . وضرب من ضروب الاعتزال بالجسد لا بالروح " كما كانت حال الولي سيدي عبد القادر العلمي حسب روايات في الموضوع .
3 ـ على المستوى النصي :
- بعض البنى السوسيو- نصية الكبرى والثقافية .
ـ مجموعة " ماله الحمام " ؟ كتابة تمتح من سجلات متنوعة ، وأرصدة معرفية مختلفة . وترفع هذا الاختلاف وذاك التنوع شرطا أساسيا لإنتاج معرفة شعرية في الزجل وبالزجل. كيف ؟
ـ لاحاجة إلى التذكير بأن من أساسيات الثقافة الشعبية أنها تنفست في مناخ ديني ، وتوطدت عراها بمفاهيم وتصورات تولي للبعد الروحي وحتى الميتولوجي مركز الصدارة ، في حين يبقى ما سوى ذلك من الأبعاد والمكونات الأخرى مسخرا لخدمة البعدين الروحي والميتافيزيقي معا في حدود الإمكان والحاجة وبحسب الزمان والمكان ومقتضيات الأحوال داخل نفس الثقافة .
وفي المحصلة النهائية تبقى لغة الروح هي الـخيط الرفيع الناظم والمنظم لعلاقة الإنسان بالخالق والكون والموجودات في سائر الأحوال ، بتوجيه من قناعة توجب تنمية لوازع الخير لدى الإنسان ، وحتى المتصوف ، فضلا عن المتنسك والعابد البسيطين ـ كل في حدود ـ لا يجد نفسه إلا داخل هذا الأفق الديني ، مجال انبثاق واشتغال المقدس في مقابل الدنيوي والمادي المدنس .
ولذلك ترتفع الغرابة حين تصبح اللغة " ذات قيمة أساسية بالمعنى الدقيق الذي يعطيه ها يدغر لكلمة أساسي : ما يقابل اليومي والمعتاد : ما يفتح الإنسان على كل ما يمسه في صميم كينونته كالموت والزمن والمصير والجمال .. والمعنى والكتابة " وهو ما يطالعنا به صوت الكتابة في هذه المجموعة كما مر بنا . وإذن فلا غرو أن تستصدي الكتابة أجواء كتابات تراثية في مجال القصيدة كشكل ثقافي تعبيري ـ وتتقمص أحوال العارفين ، وأصوات المجاذيب الناطقة بالحكمة ، المتقلبة من حال إلى حال والمبشرة عند اشتداد الأزمات بالفرج أمثال سيدي قدور العلمي ، وعبد الرحمن المجذوب في حلهما وارتحالهما ، وغير هؤلاء كثير ، من أصحاب الجفريات المشهورة . والأعلام المشاهير فيما بعد .*
يضيء هذا المستوى من المستويات الدامغة لصوت الكتابة المجتزآت التالية :
1 ـ الحق فجنبك يالمجذوب السكات مزية
اللي وعظ ما عض على لسانو ، قالو هدار
روم وراود ، لا تجاحد ارباب المعصية
قبلك شحال فيهم وعظوا ناس كثار
شكون ينقذه ولحبال راه تحلو
غير إيل راد بالهداية نعم الخلاق.
2ـ عيطت عليك في واد خالي
عياط العارف
أنا فحماك يالعالي ، ( فبابك ) واقف.
الواد يجري باهوالي
ما غزلت خرايف .
دكمو حلقي بتوب بالي
مشروط لهدوب كيف حالي
غرضهم يدنسو اقوالي
بالحكي الزايف .

ـ من شروط الوجود والوجوب في الإبداع كإنتاجية أن يصدر عن تجربة شخصية لا تستنسخ غيرها أولا ولابد لها أن تكون قد اختمرت ثانية ، وقطعت بسلام ونجاح ثالثا، جميع مراحل النمو الضرورية ، كالتي يقطعها الإنسان ، بصفة طبيعية من الميلاد حتى النضج والاكتمال ، متدرجا من مرحلة إلى أخرى ، حالا بحال . ولعل هذا الشرط المركب هو ما تهجس به الكتابة من خلال أحد المصاحبات النصية المجتزأة من " غابة البكام " مجموعة شعرية جديدة أو قصيدة ، تقع خارج مشمول قصائد " ماله الحمام " الشعرية ، على ظهر الكتاب ، يقول هذا المجتزأ بسحنة طباعية بارزة :
الكلمة يل حبات فالصغر
ما صابت طريق للنشر
تشعشع وتزيد تكبر
تغربل امواج لبحر
تبني من رمالها قصر
لا ريح تهدمـُـه لا مطر
عالي بعلام النصر
ونجمة الحق باينـَــه

ـ وكأن المضمر النص / المسكوت عنه / أو بياض الخطاب ـ لافرق ـ يعرب من احترام الكتابة لمبدإ النمو الطبيعي والتدرج على سلم التجربة والزمن والارتقاء والتمحيص . وتؤكد أنها ليست على عجلة من أمرها ، وإن كان بمقدورها أن تعلن عن صوتها في مراحل سابقة من عمرها الإبداعي لولا أنها كانت تتحرى النضج وتحدوها الرغبة في استكمال أحد شروط وجودها الشكلية ـ مادام شرط الأصالة متوافرا، وها إنها قد فعلت متخطية كل الحواجز، ثابتة الخطى رابطة الجأش.
وكأني ـ مرة أخرى ـ ببياض الخطاب ـ في هذه العتبة الدالة، يفكر بصوت مرتفع وأناة بما معناه: " العجلة والتهافت لا يصنعان مبدعا ولا إبداعا... "
ـ نربط شبكة استفهامات الكتابة في " ماله الحمام ؟" بسؤال تشخيصي يتغيا استجلاء تضاريس الكتابة وطبقاتها الداخلية واستكشاف مكونات نسيجها النصي، ولو بشكل بانورامي لا يفي بالتفاصيل نصوغه متفرعا كالتالي :

1 ـ ما حجية أن تعلن الكتابة عن نسبها الإبداعي إلى جنس الزجل بما هو شكل من أشكال التعبير المحسوبة ثقافيا وتاريخيا على مدونة التراث الشعبي ؟
2 ـ ما المسوغات الفنية المسعفة على ذلك؟
3 ـ إلى أي حد تمكنت الكتابة من بلوغ أهدافها ؟
4 ـ وهل في نيتها أن تضيف شيئا إلى ديوان الزجل المغربي ؟ ماهو ؟ وما مظاهره ؟
5 ـ أم أنها اكتفت في حوارها للتراث بالمعارضة والتقليد ؟

ـ النصوص الغائبة :
دخلت الكتابة في حوار نصي عميق ، جدي وهادئ مع نصوص التراث في شقيه الشعبي والعالم ، فأثمر هذا الحوار النصي نتائج عادت بكبير نفع على خلفية الكتابة وتبلور هذا عمليا في أداء الكتابة فنيا ، ومن حيث التركيب والدلالة والمعجم أيضا . مما أضفى على صوت الكتابة نغما تراثيا وطابعا حكميا.
عرفت الرؤية الشفرية كيف تسخره لإنتاج شخصية " ماله الحمام ؟ " النصية.
وعليه يمكن حصر العناصر المشكلة لبنية النص الغائب والتي منها تأسس الخطاب في هذا المنجز الشعري في الأشكال الثقافية التالية:

1 ـ القرآن الكريم.

من خلال إعادة إنتاج رمزية قصة يوسف وأيوب عليهما السلام، ومعجزة موسى عند عبور البحر، وقصته مع صاحبه الخضر... وكلها تضمينات / عناصر نصية صغرى توسلت بها الرؤية الشعرية لتصريف برنامجها وخدمة دالة الحلم بما يعزز المردود الدلالي للمجموعة الشعرية ككل . وهي :
1 ـ علاش الوقت يضيع ؟ السرابة الثانية . ص : 13
- يجي سيدنا لخضر ينظر
- يفرق زكاته حكمة
- يصير كل قلب معمي يبصر
- ونبراو من هذ النقمة
- سيدنا أيوب بالصبر يحضر
- والصبر أصل النعمة. وفي هذا البيت تناص مع الآية الكريمة " وما يلقاها إلا الذين صبروا .."إنما يلقى الصابرون أجورهم بغير حساب "
- يجي سيدنا موسى بلبطر
- يشق بعصاتو هد الما.
- واللي بغا يرحل يجر.
2 ـ الحكاية والأمثال الشعبية .
أ ـ الحكاية : تعتبر قصيدة " فاطمة " في مؤاداها العام ، توسيعا واستثمارا لنواة دلالية سردية وحكمية ينتصر فيها صوت الحكاية لمعاني الحكمة والبطولة وقوى الروح
والعقل لدى نماذج نسائية شعبية ، وفي نفس الوقت تحمل إشارة تدل على النموذج الإنساني النادر المدجج بالخوارق طالما أحاطت الذاكرة الشعبية أشباهه بهالة من التقديس والإعجاب ( النموذج المفتقد في واقع حال الكتابة )
فاطمة يالمرا / الحرة يالصابرا
طول العمر مكابرا
حارو فيك رجال
بدْراعك عْطاو لْمْثال
شامخَة كلْجبال، عز ووقر وجلال
وفي كل لوقات قايمة
ملكتي كل لوساط
حْكمتك فوق سقراط .
" يلتقي الحلم مع الحكاية الشعبية في أمور كثيرة ... مما يجعلنا نرى في الحكاية الشعبية أفقا يستوعب أحلامنا الجمعية والفردية . وليس هناك مجال أقرب إلى الأساطير والحكايات من الحلم ، لأنه أولا وقبل كل شيء يستعمل نفس اللغة الرمزية التي تقنع وتحجب وراءها حقائق خاصة وتتمنع عن المباشرة والتقرير " وكلاهما يتخذ شكل حكاية مسرودة .
" لذلك يمكننا أن نرى في حكاياتنا الشعبية محاولة لإشباع حاجاتنا الأولية بخلق هذه العوالم المتخيلة التي تفتح أمامنا إمكانية تحقيق مختلف رغباتنا الملحة التي لم نستطع تحقيقها في الحياة اليومية ".
" هذا وإن لكل قطر حدودا معنوية باطنية ، كما له حدود مادية ظاهرة . وفي الحدود المعنوية يحكم الروح ويهيمن ، وليس للقوة المادية أن تقهر أو تبطش أو تستولي على جزء ضئيل ما من هذه المملكة المعنوية الروحية " طالما أن هناك قوة أمنية مدرعة ، تعمل تحت إمرة إرادة ثقافية حضارية متجددة ، لدى الفرد والجماعة . ترابط على هذه الحدود وتعمل في حالة استنفار دائم .
ـ وجب إذن تمنيع هذه المملكة وتحصينها .. فلتتهذب العادات ولتستغل نواحي الخير والفضيلة في الإنسان ، وليعرف الإنسان نفسه حق المعرفة ليشعر بإنسانيته الكاملة .
هكذا يفكر الصوت الشعري في مجموعة " ماله الحمام ؟ " من خلال مجموعة من الآليات على رأسها العلم والتربية وإحياء التراث وربط الماضي بالحاضر . " يا جامع الشتات "
قومو يا قوم مالقمقوم
نفضو على اسفارنا الغبرة .
نجرو القلم المردوم ...
كناشنا ما يضل مركوم
ناخذو من اسلافنا العبرة .
نحييو تاريخنا المعلوم
بأمجاد أمتنا الحرة .
2 ـ الأمثال الشعبية :
الأمثال حكايات مكثفة تستبطن قصة تتجاوز حدود الزمان والمكان والمجتمعات وردت على شكل تضمينات لا تفرغ المثل من محتواه الأصلي وإنما تغازل معناه من بعيد .
وإن كانت تعيد صياغته بملفوظات أخرى تحرره من سلطة صيغته المسكوكة المستحكمة ليؤدي وظيفته السياقية المنوطة به :
ـ يقول المقطع العاشر من قصيدة ماقطعت لياس :
• ـ اللي كثر همو/ يدهن بالدسم فمو
في عيون العديان يلمع
خبز الشمتة محرمو
واخ المصران يتقطع.
والمثال الشعبي الذي يمثل مرجعية هذا المقطع في مدونة الأمثال الشعبية خارج النص هو :
• " كل التبن ، ودهن شواربك بالسمن ، ودوز على عدوك مصبن "
ومثله : " جوعي فكرشي وعنايتي في راسي " .
3 ـ الجفريات :
في هذا الصدد نكتفي باقتطاف نموذج واحد يقوم علامة كبرى ـ من بين نماذج أخرى وهي كثيرة ـ على استرجاع الكتابة لملفوظات بعينها من صلب قصائد كان التوسل والتضرع إلى الله لحن قرارها ومبلغ مرامها . وهي ملفوظات رددتها معظم القصائد / الجفريات ، الموالية للقصيدة المشهورة باللطفية :
نقرأ في المقطع الأخير من قصيدة " يا جامع الشتات : ص : 24
يا مول الالطاف لخفية
بهد الأمة الطف
لا تواخذنا بمعصية
راه اللي طغى ماعف
4 ـ تفترض قارئا محددا تخاطبه هو المعني بأسئلتها والمقصود بندائها:
يا راوي .. تاوي..
وزن بلعقل وغربل
خيط " لوثار" تخبل
والسمع ما تلى يعير:
الطايح من لمساوي
يا راوي ..
يا راوي .. تاوي..
نزل الحرف فـْــى مكانـه
نطق لكلام فى زمانــه
عقرب الساعة تودر
جا السيف في يد رعاوي
يا راوي .. تاوي ..
حط الكف على الصدر
سال القلب يل هدر :
اعلاش الدم يل تكدر
يدور وتصفيه لكلاوي؟ ! ص : 63
ـ الراوي حسب برنامج المجموعة وخطاطة القصيدة هو القاريء : اللبيب، الحصيف ، الواعي المتمثل ، المستوعب جيدا .. وبعبارة ، هو قارئ نوعي .
ـ هو أيضا المتلقي الموكل إليه أن يلعب دور الرواية .. ونقل ما تلقاه إلى الغير في مسلسل لا ينتهي .. من حيث أن الرواية الشفهية والتواتر والسند آلية من آليات انتقال واستهلاك الثقافة الشعبية .
ـ القصيدة على صغر حجمها وقصر قامتها ـ خطاب متوهج ومشحون . والدوال فيه منتقاة بعناية وملفوظاته محبوكة بأناة ، ومستقدمة في مبناها ومعناها من سجلات الملحون ومعجم الجفريات مثل :
راوي ، تاوي ، رعاوي ، هدر ، تخبل ، يعير ، تودر ، تكدر ..

أما فيما يرتد لمعجم الموسيقى فإننا نسجل الوحدات المعجمية التالية :
لوتار ـ الطايح ، المساوي ، السمع ، وزن ..( القصيدة ككل بما هي أغنية ).
.. تم توظيف عبارة " الطايح مالمساوي " كعلامة تنبيه إلى اختلاط الحابل بالنابل ، والجيد بالرديء ، واحتلال الوضيع مرتبة الرفيع وهو ما يعادل تلون القيم واستوائها على صعيد واحد في سوق القيم لدى العموم( السمع ما تلى يعير). المتلقي / الراوي وحده هو القادر على التمييز والتعبير ، وفي تكرير النداء " ياراوي تاوي 3 مارت" . تشديد على هذا الدور لدى المتلقي الخاص أو القارئ النوعي : الذي قد يكون حسب التوصيف النقدي القديم عند مبدعي الزجل ونقاده هو :
عيار الوزن أو " الفتاش " الذي يقوم مقام الناقد في أيامنا .
كائنا ما كانت دلالة " الراوي " في سياق القصيدة ، فإن فضاءها الدلالي ينقلنا بنفس الرؤية إلى فضاء تراثي مماثل في النبرة والأسلوب والتنبيه إلى مواطن الخلل ، وإن كان يأخذ بأسباب أخرى لتعليل أطروحته ويقول ( عن ذلك عبد الرحمن الملحوني ) :

" يا أخ الولهان / يهموم الدنيا الفاتنا
من شطنت لنا عقولنا / عشنا كلحيوان
لا من فاق بتمحانو
وانقلب الزمان / لا لذ فلعيش لا هنا
والدنيا راها مفدنا/ من كثرت لفتان
لا من غادي فيمين
إن الابتلاء بالاستعمار ، وظلم الخونة ، علامة من علامات انقلاب الزمن ، والخروج عن المرمى المنشود ... وهو ما عبر عنه شاعر الملحون بقوله : لا من غادي فيمينو " ويوازيه قول محمد بنعلي :
خيط لوتار تخبل ـ والسمع ما تلى يعير الطايح من لمساوي .
ـ لئن بدت الرؤية الشعرية مسكونة بالسؤال وغير مطمئنة البال لما يعتمل في واقعها من أحوال ، فإنها لا تقول بانسلاخها عن واقعها أو انطوائها ، بقدر ما تقول بإصرارها على الانتماء والانغراس العميق في تربة الواقع ، تؤمن بالحياة والإنسان ، إيمانا وثنيا ، وبمستقبل تشير إليه نماذج شعرية هكذا بصوت الجماعة والوطن الموحد الصاهر لمختلف الإثنيات في بوثقة الهوية :
1 ـ 24 نبنيوها دار عربية / ونوحدو لها السقف
23 تسامي في علاها الثريا / ونردمو هذا الجرف
دراعي على دراعك مزية / والكف يصافح الكف
كلمتنا حروفها سوية / ما فيها ما يتحدف
يا جامع الشتات ص 24 ـ 23
ـ ومن قصيدة الكنكانة اقتراح يقول :
ترجع للوجوه البسمة / الصفا يتخاوا ولما
والصدق يملأ القلوب / تحوم فسمانا حكمة
حنا هو الغالب ما فينا مغلوب. ص: 57
ـ في ضوء الرؤية الشعرية السابقة وتحت وريف ظلالها يبدو محمد بنعلي شاعرا ( سجـّـاي ) أي مطبوعا والسجية في عرف الزجالين القدامى " هيض ولى غيض " ، ما يقابل الرغبة والرهبة في الشعر الفصيح . فالهيض شوق ونقيضه غيظ ويعني القلق والغضب ...
يتحدد " الهيض " عند أهل الملحون بكونه " وصفا لما يعايشه الشاعر ، ويتجاوب معه على مستوى الأحداث والوقائع ، وفي هذا اللون من الشعر الشعبي يمزج شاعر الملحون بين مشاعره الخاصة ، وبين ما يريد أن يتوجه به إلى جماعته العريضة ، ويعطي فيه رأيه "
ـ أما الغيظ عندهم " فهو نقل مشاعر الشاعر وانفعالاته ـ وترجمة ذلك بواسطة مجموعة من القصائد ، تعددت أسماؤها وشعراؤها كالسرابات والعْروبي ..
وكذلك بدا الشاعر محمد بنعلي من خلال قصائد مجموعته " ماله الحمام؟ " كما مر بنا . وخاصة في السرابة الأولى والثانية ، أشد ما يكون الغيظ وهو كظيم ، مثلما بدا في باقي القصائد مهيض الجناح طائر الشوق يغني ألمه .
إلى هذا الحد ، يكتمل قرص الرؤية الشعرية عند نقط تماس سطرتها اللغة الواصفة في هذه الورقة ـ واهمة ـ على شكل خطوط متقطعة ، لا تقدم مسحا دقيقا للمساحة الدلالية التي يغطيها المنجز الشعري ، وأنى لها ذلك ؟ أو لسواها . بحسبها أنها قاربت التخوم وأنجزت استطلاعا أوليا لا يعفينا جميعا من معاودة القراءة والاستكشاف .. نوردها مختصرة في نهاية هذه الورقة كالتالي :
1) ـ كيما يتسنى لها أن تشخص واقعها الذي صدرت عنه وإليه ، اتخذت الكتابة بينها وبين هذا الواقع مسافة للتأمل والتفكير والنقد ، فتحول هذا الواقع إلى مكتوب تسائله الكتابة ، وتحادثه بلغة الزجل ، فنقلته غريبا مدهشا، وكابوسيا بصيغة استفهام عريض علامته هي : " ماله الحمام ؟ " ومن خلال هذا المكتوب أنتجت الكتابة معرفة متعددة الأبعاد، بذاتها أولا وبواقعها تاليا من خلال :
أ ـ الخلفية الثقافية التي صدرت عنها التجربة لتؤسس كينونتها الإبداعية الخاصة والمعاصرة وتنجز برنامجها ، وهي خلفية ثقافية تراثية مغربية، ثرة ومتعددة المستويات .
ب ـ الصورة التي قدمتها عن الواقع الذي أنتجها ، والبدائل المرصودة في الحال والاستقبال لتجاوزه ، في حلة فنية قوامها الحلم و مفردات الروح وقيم الجمال والخير والحكاية والتخييل والشطح والإشراق والجذب ..
2 ) ـ لم تسقط الكتابة من حسابها الفني والتواصلي أن تفكر بالكتابة في الكتابة والإبداع ، بما هي سلطة من سلط المجتمع المعنوية والحضارية العليا . والتي تمارس وظيفتها بتشغيل واستثمار رموز ثقافة المجتمع ، وإعادة إنتاج بعض النماذج الحية منها ، وتسخيرها في التعبير بصوت الجماعة عن طموحات وإخفاقات الفرد والجماعة سويا .
3 ) ـ ولأن الذاكرة النصية لـ " ماله الحمام ؟ " غنية ، فقد اغتنى تبعا لذلك معمار الكتابة النصي بأشكال مختلفة ومتقاطعة من النصوص ، لعبت دورا أساسيا في تعزيز الشبكة الدلالية للكتابة ، فارتفعت بذلك إلى مصاف الكتابات الواعية الرصينة التي تخاطب جمهور القراء كلا بما يفهم من داخل ثقافة مشتركة، لكنها تتوجه بنوع خاص بخطابها ـ المبرمج ـ إلى قارئ نوعي ، تخاطبه وتستقطبه إلى محور اهتماماتها ومدار أسئلتها .
4 ) ـ وعليه أفلا تكون الكتابة قد حققت أحد شروط حداثتها وانخراطها بامتياز في تيار تحديث الزجل المغربي ، واختارت في بداية مشروعها أن تحتل منطقة تخومية راوحت بين ما هو شعبي من حيث شكل التعبير المتمثل في لغتها ومبناها ، وبين ما هو ثقافي أي محتوى التعبير المتضمن في معناها ؟ هي كتابة جميلة يسربلها الفن بأبراده الأصيلة وتجللها الحكمة.

ما أحوج ذا الجمال إلى ما يوقيه من العين !!

5 ) ـ تنتهي المقاربة، وتندلع داخلنا الأسئلة، ويستمر الحوار بيني وبين الزجال محمد بنعلي كالعادة، صريحا، دافئا وحميما، دافقا في جوانب أخرى من نفس الكتاب موضوع المقاربة.


" مقاربة دلالية ونصية *للكتاب في حفل توقيع
أعد لهذا الغرض يوم 04-06-2004
بدار الثقافة / مكناس.

*محمد بنعلي – ماله الحمام /زجل
الطبعة الأولى 2004
مكناس.