المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : كاسك... يا مطر لدرغوثي / د. أيمن بكر



ابراهيم درغوثي
22/01/2009, 09:24 PM
نحو تحليل ثقافي للسرد
قراءة في مجموعة " كأسك يا مطر "
لابراهيم درغوثي

د. أيمن بكر/ مصر



لا يتوقف الهدف من هذه الدراسة عند حدود تحليل مجموعة قصصية ، بل يتعدى ذلك لمناقشة بعض المشكلات التي قد تعترض سبيل الناقد الذي يستخدم بصورة أساسية مقولات النظرية السردية البنيوية Structuralist Narratology ، تتمثل هذه المشكلات في أن تبدو بعض تقنيات النص السردي غير متوافقة مع النموذج التحليلي الذي يستخدمه الناقد إلا بتأويل قد يكون أشبه بلي ذراع النص . و سيتم التعرض لهذه المشكلات عبر تحليل المجموعة القصصية " كأسك يا مطر "( 1 ) للقاص التونسي إبراهيم درغوثي.
حول التقنيات :
يمكن للتحليل السردي البنيوي أن يجد مجالا رحبا لممارسة تقنياته في مجموعة ابراهيم درغوثي ، إذ يستطيع المحلل – منذ القصة الأولى " كأسك يا مطر " – أن يتعرف على تعدد مستويات الرواية ، و كذلك تعدد مستويات التبئير ، كما يمكن أن يلمح نوعا من أنواع التبئير قليلا ما يستخدم في غير الروايات البوليسية ، وهو ما يسمى بالتبئير الداخلي المتعدد Multiple Internal Focalisation الذي يمكن تعريفه، بصورة مبسطة ، بأنه حكاية الحدث نفسه – أو سلسلة الأحداث نفسها – عبر أكثر من منظور لأكثر من شخصية ( 2 ) مثلما نجد في قصة كأسك يا مطر ، حين يتبادل الراوي القاص و الجني صاحب كأس الشاي الأخضر رواية ما حدث في ليلة المليار كل من زاوية اهتمامه . كما يوجد في نصوص المجموعة حركة نشطة بين الأزمنة ، سواء على مستوى الحركة المنطقية بين الحاضر و الماضي و المستقبل القريبين ، أو المزج الفنتازي بين الأزمنة عن طريق استحضار شخصيات يفصلها عن زمن الكتابة مئات السنين و إدماجها في نسيج السرد، و غير ذلك من التقنيات السردية التقليدية في مجال التحليل السردي . يمكن للناقد البنيوي أن يفصل القول فيما سبق و في غيره، و يكون السؤال المهم : ثم ماذا ؟
إضافة للسؤال السابق سيجد الناقد البنيوي أن بعض المقاطع السردية يمكن أن تسبب مشكلات إذ سيبدو أن هذه المقاطع غير متناغمة مع البنية التنظيمية التي يفترض أن تشمل كل المفردات بصورة منسجمة . و سنتعرض لبعض هذه المشكلات أولا ، ثم نحاول طرح توجه تحليلي بديل ، هذا التوجه لا يعطي الأولوية للتحليل التشريحي طبقا لنموذج تحليلي ما ، إذ يبدو أن هذه الأولوية ـ تعتمد على مقولتي " الموضوعية " Objectivity" و الطبيعة العلمية " Scientific Nature " " التين يدعى البحث النقدي القائم على مقولات النظرية السردية ، أنهما من خصائصه ( 3 ) ، على العكس من ذلك يحاول التوجه التحليلي الذي نستخدمه أن يكون واعيا بتخلل " التأويل " لمعظم فعاليات و خطواتها ، ليبلور في النهاية هدفا آخر وهو محاولة التعرف على ما يطرحه النص من وعي ثقافي عام ، وما يمكن أن يدل ذلك عليه من ملامح ثقافية / حضارية تعبر عن تصورات المؤلف ورؤاه عن واقعه الثقافي الذي يعيش ضمنه.

حول عملية الرواية :
تبدأ قصة " كأسك ... يا مطر " بصوت راو خارجي يروي مشهد سقوط المطر على قرية تونسية كانت تنتظره ، فيصفه أولا بقوله : " و يهطل المطر غزيرا ، رحيما ، رحمانا ، وتجري المزاريب فتبتسم الشفاه و تفرح الوجوه الكئيبة " ( كأسك ... يا مطر ص 13 ) ثم يتحول المطر إلى سيل يصفه الراوي بعد ذلك بأنه " يتساقط ثقيلا كالرصاص المذاب ( كأسك يا مطر ص 14) بما يقود أهل
القرية إلى التضرع لله كي يوقف هذا المطر المدمر . إلى هنا يبدو الراوي خارجيا غير مشترك في الأحداث، وغير متجسد كشخصية في عالم السرد ، كما أنه يبدو ساردا للحدث وقت وقوعه فالأفعال التي يستخدمها في رواية المشهد تأتي كلها في زمن المضارع . فبعد هذا المشهد يظهر ما يشبه تغيرا في نبرة الراوي ، حيث ذلك في المقطع التالي:
وتتحول أزقة القرية إلى وديان تجرف المنازل القديمة وزرائب المعيز والدكاكين والجامع الصغير ومقام سيدي عبد السلام والمؤدب الأعمى الذي صلى بالجماعة صلاة الاستسقاء في الأسبوع الفائت وسنابل القمح والشعير النابتة في شغاف القلوب.
سيداتي:
آنساتي:
سادتي:
أيها الملأ الكريم :
الآن سنبدأ في قص حكاية " ليلة المليار " ( كأسك يا مطر ص 15)
فمنذ قول الراوي " سيداتي: ... " يظهر احتمالان فيما يخص عملية الرواية ، الأول أن الراوي الذي قام بحكي المشهد الأول ( مشهد الغرق ) هو نفسه من يحاول أن يبدأ في " قص حكاية ليلة المليار " .
الاحتمال الثاني أن يكون قد حدث انتقال من راو يقع خارج عالم السرد هو من قدم المشهد الأساس الذي يقوم عليه السرد كله في القصة ، إلى راو ثان سيتعرض بالحكي للسهرة التلفزيونية التي أقيمت بمناسبة السيل.
الاحتمالان السابقان مقبولين ، فالأول – أن يكون الراوي واحدا في المقطعين – معزز بالشكل الطباعي – وقد حرصت على إثباته كما جاء في النص – الذي لم يقدم أية علامة على انتقال زمني أو مكاني ، ولم يلمح إلى تغيير الراوي . والاحتمال الثاني – أن يكون الراوي قد تغير – يبدو مقبولا بسبب تغير النبرة الذي أشرت إليه أولا ، ثم بسبب ما سيكتشفه القارئ من أن الراوي الذي بدأ في حكاية ليلة المليار سيلعب دورا في السرد الذي يلي مشهد البداية ، أي إنه شخصية في السرد شاهدت السهرة في التلفاز ، ولم يكن من الذين أصابهم السيل، مما يسبعد معه أن يكون هو نفسه الراوي العليم الذي يبدو مطلعا على دواخل النفوس وقادرا على تخطي جدران البيوت وحكي ما يدور فيها . كما أنه سيحاول – فيما بعد – أن يحكي ما حدث من أمر السيل الذي أغرق القرية (4) ، وكأنه لا يعرف أن هناك راويا قد قام بذلك ، أو لنقل إنه يقدم حكايته عن السيل لمروى عليه مختلف عن ذلك الذي يتوجه له الراوي الأول صاحب المشهد الافتتاحي.
الاحتمالان السابقان يمكنهما أن يتسببا في إرباك الناقد البنيوي الذي يبحث عن تصنيفات غير ملتبسة على المستوى المنطقي ، إنه يبحث عن تنظيم منسجم للعناصر التي " يتركب " منها السرد . يمكن للناقد البنيوي أن يتقبل فكرة تعدد الرواة في النص السردي الواحد ، بما يمكن أن يتبعه من تعدد في المروى عليه – وربما لا يكون هناك تعدد في الأخير مع تعدد الرواة – بشرط أن تكون المسافات والعلائق واضحة بين الرواة بما يسمح للناقد أن يصنع مخططا تصنيفيا لمستويات الرواية.
وما يبدو لي هو أن محاولة تصنيف الرواة – و المروى لهم بالتالي – في قصة " كأسك يا مطر " يمكن أن تتسبب في بعض المشكلات ، إذ كيف نصنف الراوي الذي جاء بعد العرض الافتتاحي ؟ هل هو راو تحت-سردي Hypo-Diegetic Narrator ؟ ولكنه لا يأتي في إطار حكي الراوي الأول ، إنه يفترع مساحة سردية أخرى . وهل يمكن اعتبار الراوي الذي سرد ما حدث في القرية قد قدم سردا إطارا كما تفعل شهرزاد في ألف ليلة وليلة ؟ فإن كان قدم سردا إطارا فأين اختفى هذا الراوي بعد ذلك ؟ وما علاقة السرد الذي يبدأ بقول الراوي البطل " سيداتي ... إلخ " بالسرد السابق عليه – إذا ما اعتبرناه سردا إطارا – على مستوى عملية التصنيف التحليلي ؟ وأي سرد بعد ذلك يمكن اعتباره السرد الأساسي أو الأولى بالرعاية والتحليل باعتباره مركز النص ، هل هو سرد الراوي الأول عن السيل وغرق القرية ؟ أم سرد الراوي / القاص عن علاقته بالجني وانطباعاته عن ليلة المليار ؟ أم سرد الجني صاحب كأس الشاي الأخضر عن رحلته من الفقر إلى الثراء ؟ أم سرد الشحاذ عن تجربته مع الجني ؟بلغة أخرى ، أي سرد يمكن أن نعتبره سردا أساسيا زائفا Pseudodiegetic Narrative ؟ ومن ذلك الراوي الذي ينطق عناوين المقاطع ؟ هل هو الراوي الأول العليم ؟ أم الراوي الشخصية الذي ظهر بعد افتتاحية القصة ؟ أم راو مفترض آخر ؟
هذه الأسئلة وغيرها يمكن للتحليل السردي البنيوي أن يستبعد بعضها ، بدعوى أنه ليس من الضروري أن نستخدم كل التصنيفات التحليلية التي نعرفها في تحليل كل نص ، و يمكن أيضا أن يجد إجابات لها بمجهود لا يخلو من التعسف ، غير أن ما نراه في نص ابراهيم درغوثي ليس مربكا على مستوى الرواية فقط ولكن أيضا على مستوى الزمن.

حول حركة الزمن

في قصة " كأسك يا مطر " هناك مشكلة من نوع غريب ستواجه الناقد البنيوي إذ سيجد خلطا يمكن أن يعتبره خطأ في المخطط الزمني للنص ، غير أنه ، كما ادعى ، لن يستطيع أن يجد له مخرجا على مستوى الحركة المنطقية المفترضة للزمن داخل النص السردي – بما تتضمنه من استرجاعات واستباقات - . إن التحليل البنيوي للسرد يفترض وجود مجموعة من الأحداث الأصلية المتعاقبة بصورة علية وتتابعية على مستوى الزمن – أو ربما متزامنة – وهي الأحداث المجردة التي تسبق البناء الخاص الذي يتعامل معه المتلقي مباشرة ، هذه المجموعة من الأحداث هي ما أطلق عليه الشكلانيون الروس – ومعظم محللي السرد من بعدهم – الأحداث الغفل Fabula (5) .
ويبدو أن الناقد البنيوي سيقع في حيرة إذا أراد أن يستخلص مجموعة الأحداث الغفل لقصة " كأسك يا مطر " في تعاقبها الأصلي المنطقي ، إذ سيكتشف أن حدثا معينا قد وقع قبل وبعد حدث آخر ، بمعنى أن الناقد الذي يحلل المخطط الزمني للقصة سيجد أن الحدث " أ " قد وقع قبل الحدث " ب " و أن الحدث " أ " ذاته – وليس صورة مكررة منه أو حدثا شبيها به – قد وقع أيضا بعد الحدث " ب " .
ولنحاول تحليل كيف كان ذلك :
عندما بدأ الجني ، صاحب مردوخ ، في قص حكايته مع ليلة المليار ، ذكر أنه شاهد السهرة التلفزيونية ، ثم اتصل هاتفيا بأصحابه داعيا إياهم للمشاركة في التبرعات لصالح ضحايا السيول، فرفضوا لسبب واحد رددوه جميعا " نخاف أن يكتشف الفقراء أننا اشترينا " تبان " راقصة بخمسين ألف دينار !! ( كأسك يا مطر ص 22 ) ما يبدو من سلسلة الأحداث السابقة هو أن حدث شراء تبان الراقصة كان سابقا على السهرة التلفزيونية التي تأثر بها صاحب مردوخ مما دفعه للاتصال بأصحابه الذين ردوا عليه الرد السابق ، أي إننا يمكن أن نرتب الأحداث الغفل في هذا المقطع من القصة تصاعديا في الزمن كالآتي :
- شراء تبان الراقصة بخمسين ألف دينار . ( وليكن الحدث أ )
- إذاعة سهرة " ليلة المليار " ومشاهدة صاحب مردوخ لها. ( وليكن الحدث ب )
- اتصال صاحب مردوخ بأصحابه ورفضهم التبرع.( وليكن الحدث ج )
حتى الآن لا توجد مشكلة في التسلسل التتابعي المنطقي للأحداث . غير أن التصاعد في عملية القراءة يكشف عن مشكلة في هذا التنامي المتسلسل، إذ سيتصل الأصدقاء أنفسهم الذين رفضوا التبرع خوفا من كشف أمر تبان الراقصة ، داعين صاحب مردوخ – الذي لم يكد ينهي الحديث الهاتفي معهم – إلى سهرة في نزل الهناء سنكتشف بعد ذلك أنها السهرة نفسها التي تم فيها بيع تبان الراقصة بخمسين ألف دينار. بهذا يكون ترتيب الأحداث الغفل كالآتي : أ-ب-ج-أ- ، أي أن حدث بيع تبان الراقصة نفسه قد حدث مرتين، مرة قبل السهرة التلفزيونية، وقبل اتصال صاحب كأس الشاي الأخضر بأصحابه ، ومرة بعدهما. وما يؤكد وقوع الحدث نفسه في المرة الثانية- أي بعد السهرة التلفزيونية – هو التوافق المتسق بين اتصال الأصدقاء بصاحب مردوخ لدعوته إلى نزل الهناء، وبين ما رواه المتسول صاحب الورقة المتآكلة ذات الخمسة دنانير عند حضوره حفلة مع صاحب مردوخ ( بعد خروج الشيخ المتسول من دار الإذاعة ، أي بعد انتهاء السهرة التلفزيونية غالبا ) هذه الحفلة التي أقيمت في نزل الهناء هي نفسها التي قام الأصدقاء بدعوة صاحب مردوخ إليها – بعد أن أغلقوا معه الهاتف رافضين التبرع – هي نفسها التي بيع فيها تبان راقصة بخمسين ألف دينار ( كأسك يا مطر / ص ص 29-32 ) .
هذا الارتباك في المخطط الزمني يمكن أن يعطل عمل الناقد البنيوي بصورة كاملة ، إذ غالبا ما تأتي الاجتهادات التأويلية له – إن وجدت – تالية على التحليل البنائي التشريحي للنص وإن هو – أي الناقد البنيوي – حاول أن يبرر هذا الارتباك في المخطط الزمني للأحداث ، فلن ينجو في الغالب من تأويلات مفرطة في طرافتها وسذاجتها، كأن يفترض أن حدث بيع تبان الراقصة قد وقع أكثر من مرة ، بالمبلغ نفسه ( خمسين ألف دينار ) وبحضور الأشخاص أنفسهم، وبدون إشارة واحدة لذلك التكرار من قبل الراوي ، أو أن يفترض – دون مبرر من النص – أن الجني صاحب مردوخ قادر على الحركة في الزمن حسبما يشاء، وحتى في هذه الحالة لن يستطيع الناقد البنيوي أن يقيم مخططه الزمني " المنطقي ". وما أظنه في حالتنا تلك هو أن التعامل مع التقنية النصية لا يجب أن يسعى لفرض نموذج تحليلي مسبق يفترض نوعا من المنطقية المؤسسة غالبا على افتراض معرفة الناقد أو المنظر بما يسميه العالم الواقعي أو عالم الخبرات اليومية المعيشة ، بل إنه الأجدى – فيما أرى – أن يكون التعامل مع التقنية هادفا إلى تفسير وجودها – على ما هي عليه دون اللجوء لمخطط تحليلي مسبق – وبلورة دورها ضمن إطار التوجه التحليلي الذي يراه الناقد أكثر مناسبة لمقاربة النص.

تكسير الفواصل بين مستويات الوجود
كما أشرت من قبل، لا يبدو أن وجود الأفكار التأويلية وفعلها يتصدران وعي الناقد البنيوي ، وبالتالي لا يبدو مثل هذا الناقد معتمدا على الفعالية التأويلية إلا بقدر بسيط يحاول به إعطاء المعنى لعمله التشريحي المضني . وهو إذ يفعل ذلك لا يمكنه أن يقوم بتتبع فكرة تأويلية في أكثر من عمل قصصي للكاتب الواحد، إذ سيقف تغير التقنية ، المحتمل ، من قصة لأخرى دون إمكان تتبع فكرة تحليلية واحدة عبر مجموعة قصصية أو عبر عدد من الأعمال الروائية أو القصصية لكاتب معين. ومن ناحية ثانية يبدو انغلاق الناقد السردي البنيوي على نصه وانعزالهما معا عن العالم، يبدو وقد ألغى إمكان أن يستفيد الناقد من تحليلاته في فهم وتحليل الواقع الثقافي/ الحضاري كما ينعكس في النص.
وما أود القيام به على سبيل التجريب في مجموعة الدرغوثي هو تتبع فكرة تحليلية يمكن اختبارها طوال مجموعته " كأسك... يا مطر " واختبار ما إذا كان بمقدور هذه الفكرة أن تفسر الشكل الذي ظهرت به التقنيات السردية داخل النص، خاصة تلك التقنيات المربكة التي أشرنا إليها سابقا؟ وما إذا كانت أيضا قادرة على صنع نافذة نطل منها على " الوعي الحضاري " (6) الذي يمثله النص؟باعتبار النص فعلا حضاريا يتوجه إلى طرف آخر هو المتلقي.
يمكن اختصار الفكرة التي أود استخدامها في سعي النص لدى الدرغوثي – غالبا – لتكسير الفواصل المستقرة في الوعي العام بين مستويات الوجود وعلاقاته ، إنه سعي يستخدم النص السردي أداة بهدف خلخلة الثبات الوعيي بمنطقية وبداهة هذه المستويات وتلك العلاقات، وكذلك بمنطقية وبداهة الفواصل بينها، وما أقصده بهذه المستويات يشمل كل بناء تصنيفي مستقر حضاريا: كالمستويات الاقتصادية التي تصنع التصنيفات الطبقية ، أو المستويات الوجودية التي تصنع تصنيفات لعوالم الكائنات ( عالم الإنس وعالم الجن مثلا ) ، أو المستويات الإعلامية التي تقسم الناس إلى ثنائيات نجم/عادي ، مشهور/مغمور . وكذلك ما ينتج عن هذه المستويات والتصنيفات من علاقات تكتسب استقرارها وبداهة وجودها من استقرار وبداهة هذه المستويات والتصنيفات.
تدور قصة " القناع " حول أسرة مكونة من أب وابنته ، اعتاد الأب أن يذهب إلى النوم بعد الغداء يوميا ، وفي كل مرة يوشك فيها على الاستغراق في النوم يدق جرس الباب، وفي كل مرة لا يستطيع الأب أن يغلب خدر النوم ليعرف من الطارق. ثم يحدث أن يدق الجرس في يوم من الأيام مبكرا عن الميعاد بربع ساعة، فيقوم الأب ليرى مشهدا عجيبا :
رأيت ابنتي تنزع عن وجهها شيئا كالقناع ورأيت البنت التي كانت تضرب الجرس تلبس وجه طفلتي . كانتا تضحكان وتتهامسان بخبث . غطت الزائرة وجهها بالقناع حتى صارت كأنها توأما لإبنتي واتجهت صوب البيت بثبات ... وجاءني من بعيد من نهاية الشارع صوت ابنتي ينادي : سواك ... أمشاط ... علب حناء ... قمصان نوم حريرية ... أحمر شفاه ... علك أمريكاني ( كأسك يا مطر ص ص / 64- 65 ) .
هكذا يبدو النص في صنع التباس فانتازي بين الطفلتين، ترتبك معه بعض مستويات الوجود وعلاقاته المستقرة بصورة بديهية في الوعي العام، يحدث أولا ارتباك لفكرة رابطة الدم من حيث كونها فكرة تقضي بوجود نوع محدد و " طبيعي " أو " بدهي " من العلاقات التي تحدد بدورها مستوى الممكنات المتاحة لكل طرف في العلاقة ، ونوع المسؤولية الواقعة على هذه الأطراف، هذا الارتباك يؤدي بدوره إلى خلخلة فكرة طبيعية" الفروق الاقتصادية بين الناس منذ نعومة أظافرهم .
يمكننا أن نؤكد ما نذهب إليه حين نلمح أوجه التشابه وأوجه التخالف التي أراد النص أن يصطنعها بين الفتاتين، فمن نادية أولى تبدو الفتاة/ البائعة " توأما " لابنة الرجل – بعد تبادل الوجهين – بما يعني اشتراكهما في كل الملامح الجسدية المميزة للفرد ، لدرجة أن الأب يهمس قائلا : "... حتى أن الحيرة أربكتني فلو لم أرها بعيني تتبادل مع ابنتي الوجه لكذبت نفسي" ( كأسك يا مطر ص 65 ). ومن ناحية ثانية يحرص النص على إبراز وجه الخلاف الكبير بين وضعية كلتا الفتلتين الاجتماعية والاقتصادية ، فلا يكتفي بالاختلاف الذي يمكن أن يستنتجه القارئ ، بل يؤكد ذلك عبر مشهد يوضح كيفية تعامل الفتاة/ البائعة مع لعب الطفلة الأخرى ويفصل أشكال وخصائص هذه اللعب، بما يؤكد بدوره الفارق في التكوين على المستويين النفسي والعقلي بين الطفلتين ( كأسك يا مطر /67).
إن السرد هنا يبدو وقد اصطنع وجودا باهتا لطفلتين أراد لهما أن يندمجا لدى المتلقي – ولو للحظات – في طفلة واحدة داخل سياقين مختلفين، راسما صورتين نراهما حولنا كل يوم ونمررهما بوصفهما الشكل
" الطبيعي " للوجود ، ويكون من نتيجة هذا الوجود الباهت الذي يكاد يمزج بين الطفلتين في كائن " إنساني " واحد أنه يبرر هذا أمام المتلقي سؤالا حول طبيعة وجود هذا التفاوت الكبير في الأنصبة بين أطفال العالم، إذ يمكن أن نعتبر النص بذاته فعل تشكيك في بداهة هذا التفاوت أيا كان مبرره . إن النص – طبقا لهذه الرؤية – هو فعل حضاري يكشف عن وعي كامن خلفه يرى كل أطفال العالم طفلا واحدا هو ابني وابنك ، أو لنقل إن مسؤولية هذا الطفل تقع على عاتق كل الناضجين في هذا العالم، دون اعتبار لأولوية علاقات الدم، ودون اعتبار أيضا لبداهة ما تقتضيه هذه العلاقات وما تفرضه أو تنفيه من مسؤوليات.
يمكننا أن نتأكد من هذا التكسير الذي يقوم به نص الدرغوثي لمستويات الوجود ولعلاقاته " الطبيعية " في قصة " غربة ".
في هذه القصة يصطنع النص التباسا وتشويشا على مستوى آخر هو مستوى بنية النجوم ، التي غالبا ما يخلقها الإعلام من بشر يمتهنون أعمالا معينة ، كالممثلين ولاعبي الكرة والسياسيين ومذيعي التلفاز وغيرهم ، في مقابل البشر الذين يطلق عليهم لفظ " عاديين ".
بطلا القصة مدرسان – أو ربما طالبان – من الكائنات الإنسانية " العادية " كما يمكن أن نستنتج من بداية القصة . يدور بينهما الحوار التالي :
" قال : سنرتاح حين نصل المنزل !
قلت : كيف وأمامنا الطبيخ وإحضار الغداء؟
قال : سنجد المائدة جاهزة هذا اليوم !
أردت أن أواصل الحديث إلا أن جملته الأخيرة أوقفتني فقد صار يهذي بكلام المجانين منذ أيام ، وكنت أجاريه في كل مرة حتى لا يغضب ( كأسك ... يا مطر ) ص 57.
إن كلام المجانين الذي يشير إليه الراوي هنا هو ادعاءات صاحبه أنه على علاقة مع نجمات السينما اللواتي تجسدن لديه في الصور التي من المجلات ويسهر معهن في مسامرات أشبه بألف ليلة وليلة.
يقول الراوي :
في الصباح وجدته قد غطى كامل جدران البيت بنبيلة عبيد وشيريهان وإلهام شاهين وليلى علوي و ...
حدثني عنهن بصوت خافت يكاد لا يسمع . قال : حتى لا يذهب عنهن النوم فقد بت الليلة معهن في كلام وسلام إلى أن طلع الصباح فسكتنا عن الكلام المباح.
في الطريق إلى المدرسة همس في أذني : لن نتعب هذا اليوم عند الغداء. لقد وعدتني البارحة " إلهام شاهين " بمائدة من موائد ملوك الحيرة . ولم أكلمه فقد أصبت بأرق جراء ضحكه العالي وصوت مكيف الهواء وضجيج المسجل والتلفزيون. ( كأسك ... يا مطر ) ص 58
هكذا يحكم الراوي " المتزن " العارف ب " طبائع الأمور " على صاحبه بالجنون ، فمن غير المعقول أن تأتي تلك "النجمات" ببساطة ليتسامرن مع شخص " عادي " ، ومن غير المعقول بصورة أكثر جلاء أن تتطوع إحداهن بإعداد المائدة له ولصاحبه.
حتى هذه اللحظة تسير القصة بصورة منطقية متوقعة، إلى أن تأتي النهاية غير المتوقعة لتفتح باب التساؤلات .
تنتهي القصة بالمقطع التالي :
حين وصلنا أمام البيت وضعت المفتاح في القفل ودفعت الباب. وقفت مشدوها في العتبة فقد شممت رائحة الشواء وسمعت خبطا على أواني الأكل في المطبخ ( كأسك ... يا مطر ) ص 58
ههنا مشكلة جديدة أمام الناقد البنيوي في تفسير الظهور غير المنطقي لشخصية من يقوم بالطبخ ، وغالبا ما سيحاول تفسيرها على أن الشخصية المريضة عقليا قد أثرت بالإيحاء على الراوي ، أو أن الشخصية المريضة قد استأجرت أحدا ليلعب دور إلهام شاهين المتوهم في إعداد الغداء . وبغض النظر عن هذا النوع من المقاربات الذي يهدف إلى منطقة الأحداث ، يمكن أن نتلمس مستوى آخر لمقاربة هذه القصة يتسق مع تحليل القصة السابقة.
ماذا لو أن إلهام شاهين هي فعلا من تقوم بإعداد الطعام لهذين الوغدين " العاديين ؟ لا أظن أن هذا الاحتمال يمكن أن ينتفي من ذهن المتلقي ، ما أظنه فعلا هو أن النص يهدف ضمن ما يهدف إليه ، إلى خلق هذا الاحتمال " الجنوني " الذي أراه أول احتمال سيرد إلى ذهن القارئ لشدة مخالفته لتوقعاته ، ولشدة النشوة التي سيستشعرها ذلك القارئ – " العادي " غالبا – من طرافة الفكرة ، إذ لا بأس أن يتماهى القارئ في هذه اللحظة مع البطل ويملأ نفسه بإحساس غير معتاد وهو أن إلهام شاهين تطبخ له دون غيره . بالنسبة لمن إذن نصف هذا الاحتمال بأنه " جنوني " ؟ أظن أن الإجابة ستلقي بنا مباشرة أمام الفرضية التي بدأت بها هذا التحليل ( وهي أن نص الدرغوثي يهدف إلى تكسير الفواصل المستقرة في الوعي العام بين مستويات الوجود وعلاقاته ) . إن احتمال أن تقوم إلهام شاهين بإعداد الغداء لبطلي القصة سيبدو جنونيا بالنسبة لمن يرى أن الفواصل التي اصطنعها الإعلام بين الناس فقسمهم إلى نجوم ، وأنصاف نجوم وعاديين ، هي فواصل " بديهية " لا يمكن تخطيها إلا على مستوى الشطحات الجنونية ، وبالتالي – بالنسبة للبنيات المستقرة – فإن العلاقات بين أطراف هذه القسمة التي اصطنعها الإعلام – بمشاركة " العاديين " من البشر ومباركتهم بالأساس – تتحدد في إعجاب أحد الأطراف بالطرف الآخر، وإبداء الطرف الآخر ( النجم طبعا ) تواضعا لا يتعدى الادعاء ، و لا يتعدى تعبيرات من مثل " وأنا كمان بحبكم والله " ، دون أن تخرج هذه العلاقات التي تحددها البنية إلى حيز التفاعل الإنساني العادي، المتوقع بين أفراد الطبقة الواحدة إعلاميا ( من الممكن مثلا أن نتخيل إلهام شاهين تقوم الطبخ لأمينة رزق عند الضرورة ، وسيصبح هذا من الطرائف التي سيتندر بها العاديون أو يصفونها بالجنون ).
ما استنتجته بعد هذا التحليل أن نص الدرغوثي يشوش ويربك مستويات الوجود الاجتماعي كما تتحدد إعلاميا ، بما ينتج عن ذلك التحديد من تقسيمات على المستويين المادي والمعنوي.
يمكن بالطبع أن نتحدث طويلا عن الإرباكات الزمنية الكثيرة التي يتعامل معها النص دونما التفات سوى إلى بعدها الرمزي ، وأعني تحديدا استحضار شخصيات من أزمنة قديمة داخل سياق حديث ، هذه الإرباكات يمكنها – إلى جانب بعدها الرمزي على مستوى مضمون ما للعمل – أن تشير إلى تلك الرغبة التي ألمحها في معظم نصوص المجموعة ( وربما أيضا في رواية الكاتب " أسرار صاحب الستر " ) لتشويش المستويات والفواصل المستقرة في الوعي العام بين الأزمنة. وربما كانت رغبة الوعي الفني التي صدرت عنه مجموعة " كأسك ... يا مطر " في خلخلة الثوابت هي السبب في استدعاء بعض الشخصيات مقحمة على السرد بهدف خدمة الرمز، الذي يصل إلى درجة كبيرة من الوضوح أحيانا.
(7)
يمكننا الآن أن نعود لتبرير التقنيات التي تبدو مربكة في قصة : كأسك ... يا مطر ( الرواية والزمن ) ، إذ من المقبول – بالنظر إلى الفكرة التأويلية التي استخدمناها – أن يعمد النص إلى خلخلة التقنية المستقرة أيضا ، وضرب منطقيتها الصارمة ، بما يمكن معه اعتبار اعتبار عدم الاهتمام بتجانس التقنية طبقا لنموذج تحليلي مسبق ، وعدم الاهتمام بمنطقيتها قياسا على ما نظنه المنطق السائد في العالم ، هما الطريق الأمثل لتقديم رؤية النص عن فساد البنيات المستقرة في الحضارة المحيطة به. كما يمكن اعتبار هذا التجاوز للمنطقية والتجانس استمرارا لحالة ذوبان الفواصل بين مستويات الوجود ، فلم يعد الزمن يسير بهدوء ومنطقية إلى الأمام ، بل يمكنه أن يعود إلى الخلف ، ليعيد تكرار الحدث نفسه ، في لحظة زمنية أخرى تبرز – إلى جانب ما سبق – مدى قبح الحدث ( أشير هنا إلى حدث بيع كلسون راقصة هاوية بخمسين ألف دينار ) بما يزيد من عمق الإحساس بفساد طبقة معينة في المجتمع التونسي – بل وربما العربي كله - ، وطبيعي أن يقوي ذلك الإحساس بفساد واقع حضاري ما ، من الإحساس بفساد المنطق والمنطلقات الوعيية التي تكمن خلف هذا الواقع. يمكن أن ينطبق التحليل نفسه على عدم اعتناء النص بتمييز الحدود بين الرواة ، وتدافعهم للقيام بعملية الرواية، بما يعد تعبيرا عن رغبة النص في صنع تداخل في الأصوات يتوازى مع رغبة المزج بين مستويات الوجود وتغييم الفواصل بينها.
وفي النهاية أود تأكيد أن هذه المقاربة لنص الدرغوثي ما هي إلا مدخل واحد ، أسعى لأن يكون مشروعا ، ضمن مداخل كثيرة ممكنة لتلك الكتابة الخصيبة.(8)

الهوامش :
1) ابراهيم درغوثي: كأسك ...يا مطر، دار سحر ، تونس ط1 / 1997
2) يراجع فيما يتصل بالتبئير عموما:
* Gerald Prince: Dictionary of narratology ,Scolar,Scolar Press. U.K,1991,p320
* Mieke Bal, Narratology : Introduction to the Theory of Narrative : trans. By Christine Van Boheemen,University of Toronto Press, Canada, 1985, pp 100-1004.
3 ) حول التشكيك في " موضوعية " البحث السردي وفي " طبيعته العلمية " ، وكذلك حول فعالية استراتيجيات التأويل وتخللها في معظم – إن لم يكن في كل عملية القراءة ، انظر :
* Shlomith Rimmon –Kenan , Interpretive Strategies: Interior Monologues , in Ann Fehn, Ingeborg Hoeterey and Maria Tatar ( editors) Neverending Stories
( Princeton University Press: Princeton, New Jersey, 1992) p 101
4 ) راجع محاولة الراوي حكاية الأحداث نفسها عن ما أصاب القرية من السيل ص ص 17-18 .
5 ) " الأحداث الغفل " هو اقتراح الباحث لترجمة مصطلح Fabula . وفيما يتصل بنشأة المصطلح ومفهومه الذي نستخدمه هنا يراجع :
Susana Onega José Angel Garcia Landa ( edit ) , Narratology: An Introduction, Longman Publishing, New York 1996, pp 6-7 , p 230.
6) نستخدم هنا تعبير " الوعي الحضاري " كما يعرفه الناقد الدكتور ناجي رشوان بقوله :
ما أعنيه بتعبير " الوعي الحضاري" يشبه ما يعنيه لوسيان جولدمان بتعبيره " العقل الجمعي " أو ما يعنيه فوكو بتعبيره " الخطاب " ، من حيث افتراضه مجموعة معينة من العوامل والصفات المنهجية العامة يشترك فيها أفراد مجتمع أو لسان معين ، إلا أنه يختلف عنهما في تحديده جانبا واحدا من هذا العقل وحقلا واحدا من حقول هذا الخطاب ألا وهو الجانب الحضاري أو الحقل الحضاري ، أي جانب أو حقل الفعل الاجتماعي الغائي وخلفيته الوعيية . فالوعي الحضاري إذا – في تعريفه المبدئي – يشير إلى المناهج التركيبية والصفات الفكرية والمبادئ النفسية التي على أساسها يعرف الفرد " مكانه الحضاري " في المجتمع ( تاجر ، شاعر ، مدرس ، رب أسرة ، أعزب ، تقليدي ، متحرر ، متمرد ، متبع للأخلاق السائدة ، رحيم ، عادل ، متفهم ، إيجابي ، فاعل ، سلبي ، مستسلم ، محب للفنون ، سطحي ، عميق ... ألخ ) ... ومن ثم لا يختص الوعي الحضاري بالفكر المجرد أو الرؤية الشخصية إلا لو تبدى هذا الفكر وتلك الرؤية في فعل ما ، أو خارجا من حيزهما الشخصي إلى طرف آخر في المجتمع . " أنظر :
- ناجي رشوان ، " الوعي الحضاري وأساطير التصور : البنيوية ، السردية ، التشبيهية ، الهيئة العامة لقصور الثقافة ، مصر ، سلسلة كتابات نقدية ، العدد 107 ، منتصف أغسطس 2000، ص 9
7) من ذلك ما يبدو إنه إقحام لشخصيتي هارون الرشيد والمعتصم في قصة " كأسك ... يا مطر " ، وجعلهما ينطقان بجمل شديدة الوضوح على مستوى ما ترمز إليه من مثل قول الرشيد : " أنا أيضا كنت أشحذ يا حبيبتي بعضا من رزقي المسروق في باطن الصحراء ( ص 34 ) وقول المعتصم : صبرا يا بني سرق الأمريكان جيوبي ( ص 35 ) .
8 ) بعد الانتهاء – تقريبا – من كتابة الخطوط العريضة لدراستي هذه ، وصلني من الأخ إبراهيم درغوثي ، كتاب يحمل عددا من الدراسات القيمة حول إبداع الدرغوثي السردي . وقد لاحظت قدرا من التماس بين ما توصلت إليه وبين ما يراه كل من الدكتور محمد الناصر العجيمي والأستاذة نجاة العدواني ، يتمثل ذلك في قول نجاة العدواني – في معرض تحليلها لرواية " أسرار صاحب الستر " - : " إنني أمام عالم عجيب تمتزج فيه الأحيزة والأزمنة وتتوالد ، ويكثر فيه التقمص والاستنساخ "( حداثة التماسات ، تماس الحداثات : ص 115 ).
لقد لاحظت الباحثة ما توصل إليه البحث دون أن تخرج في باقي تحليلها عن مقولات التحليل البنيوي للسرد الذي تستند إليه تحليلات تودوروف لألف ليلة وليلة ( دونما توثيق ).
أما التماس الذي أشعرني بالطمأنينة لما أذهب إليه فهو التحليل العميق للدكتور محمد الناصر العجيمي للرواة Narrators ( ويدخلهم فيما يسميه أعوان التلفظ ) في قصة " رجل محترم جدا " حين يقول : هكذا لا نعرف على وجه الدقة ، أيصدر الملفوظ القصصي في " رجل محترم جدا " عن لسان الراوي المستعمل ضمير المتكلم أم عن لسان العاهرة ، فإن اتفق أن تعرفنا صوت الأول واجهنا التساؤل عما إذا صدر عنه الخطاب شابا أم يصدر عنه وهو كهل يحضى بالجاه واحترام الناس له ؟ وإن حصلت لنا قناعة أو ما يشبهها بصدور الخطاب عن المرأة انبعث سؤال شبيه بالسابق : هل تتكلم من موقعها الراهن أم الماضي... " ( السابق ص 49 ).
إنه يشكك في وضوح وتجانس عملية الرواية ، وكذلك في وضوح المخطط الزمني – كما يظهر في تساؤله حول المرحلة السنية للراوي - ، حتى يصل الدكتور العجيمي إلى قوله : " المهم أن نلح ، في سياق ما نحن بصدده على أننا مدعوون عندما نلج عالمه القصصي ، إلى التخلي عن مقاييسنا الوضعية والمنطقية ونظمنا المألوفة في قراءتنا للواقع ، بمفهومه المتداول بصرف النظر عن التسمية أو التسميات التي نسندها إليه ونسمه بها " ( السابق ص 55 ).
هذه التحليلات تؤيد – بألفاظ تبدو متطابقة أحيانا – ما توصلت إليه في دراستي هذه ، وإن اختلف توجيه التحليل واختلفت المادة التي صدر عنها كما يمكن للقارئ أن يلاحظ . ولكن لزم التنويه للأمانة العلمية.
أنظر : " حداثة التماسات ، تماس الحداثات : في القصة والرواية لدى ابراهيم درغوثي ، دار سحر للنشر ، تونس أفريل 2000.

بهزاد جلبي
23/01/2009, 11:25 PM
الاستاذ ابراهيم درغوثي المحترم .
تحية رقيقة .
بداية شكرا للدكتور ايمن على القراءة الدقيقة المتعمقة لقصتكم كأسك......يامطر التي مع الاسف لم اقرأها (حبذا لو حصلت عليها ) . لذا لم اتعمق في قراءة تحليل الدكتور ايمن, ومع ذلك ابارككم التألق والابداع في نتاجات تعترضها النقد والتحلبل والدراسة والتي ما هي الى علامة على الابداع
اعتزازي وتقديري مع الافتخار بكم .[you]

ابراهيم درغوثي
29/01/2009, 08:53 PM
عزيزنا بهزاد
شكرا لمروركم الكريم على هذه الدراسة
وشكرا لتقديركم للكاتب واللناقد

سأبعث لكم بالقصة / كأسك ... يا مطر على بريدكم الشخصي
وتقبلوا فائق مودتي