المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : وراءالسراب ... قليلا / 12 ابراهيم درغوثي



ابراهيم درغوثي
26/01/2009, 07:46 PM
وراء السراب ... قليلا/12
رواية
ابراهيم درغوثي/ تونس


الفصل الخامس


حكاية " الرومي " الذي عشق مسلمة

الباب الثاني عشر


في ذكر الحادثة التي ذكرت " عزيز السلطاني " بابنة عمه فاطمة التي نسيها في " عتيقة " وأخبار عن الكلاب التي أكلت جثة ابن رئيس المحطة وطرف من مناقب الفرنسي " لويس " الرئيس الجديد لمحطة القطار ، و الماجريات التي قادته إلى قلب " عائشة " البدوية.

1

هممت بمغادرة دكان العطار الطرابلسي حين اقتربت مني عجوز سوداء. مدت لي يدها تطلب صدقة فلم التفت إليها وواصلت طريقي . مشيت بضع خطوات ثم التفت إلى الوراء.
رأيت العجوز واقفة تحت شمس الظهيرة تمد يدها للفراغ . كانت شاحبة ومخذولة فاتجهت إلى ظل ممدود قريبا من المقهى وجلست تمسح عرقها.. تحركت في رأسي ملايين الصور دفعة واحدة حتى أصابني دوار خفيف. وتوقفت صورة كبيرة بالألوان الطبيعية أمام ناظري. هذه المرأة أعرفها . نعم أعرفها بالتأكيد.
وبدأت أراجع ما خبأته الذاكرة.
رأيت " الدار الكبيرة " تعج بالحياة. وسمعت صهيل امرأة يعلو فوق كل الأصوات. أيامها كانت شابة وكنت معجبا بنطقها للغة العربية. صوتها أغن ينطق الحروف بلكنة بلاد السودان فتزدهي الكلمات بين شفتيها وتورق وتزهر وتملأ المكان عطرا وشذى. كنت أعشق عوالمها خاصة إذا ركبتها سورة غضب فتتكلم بيديها ورأسها وتحرك بدنها في كل الاتجاهات . ويختلط عندها الكلام العربي بلغة الأعاجم ، و السباب بالرقص المجنون في غابات إفريقيا . فيشدني إليها هذا الغضب شدا وثيقا . وتدعوني فأستجيب. أقضي الأيام الطويلة في بيتها . وأنام في فراشها لا يزعجني سوى حضور الأعمام عندها بين الفينة و الأخرى . يدخلون ويخرجون سراعا ، فتتعرى لهم أمامي بدون خجل . يلتمع في ألق الصباح بدنها الأبنوسي ، ويرتج نهداها كفرخي حمام يهمان بالطيران. ويركبونها فيفوح في أرجاء الغرفة عطر الند والبخور . ويخرجون ، فأسرح وأمرح في ملكوت الرب مسبحا بحمدها وشكرها.
وفاح شذى الزهور من جديد فاقتربت من المرأة. قطعت عمرا كاملا في بضع خطى، فصدمني عماها. عيناها تتحركان في محجريهما في وجل. ورأسها لا يكف عن الدوران.
كلمتها فلم تجاوبني. كنت كمن يحادث تمثالا.
وكانت في تلك الأيام البعيدة شبيهة بتمثال من الآبنوس. أضجر حضورها حرائر الدار فدسسن لها من حاول قتلها ، ولكنها نجت من كيدهن حتى ظن الجميع أنها محمية بطلاسم جلبتها معها من بلاد الزنوج.
لمستها في يدها فرمشت أجفانها. ورأيت ظل ابتسامة على شفتيها، فعدت إلى محادثتها . لكنها ظلت ساهمة تتحرك كالمخبولة وتميل رأسها يمنة ويسرة.
وبدأت في هزها ، فخافت وحاولت الإفلات مني فتشبثت بها أريد أن أسألها عن الرجال السود الذين غادروا القرية بعد الفاجعة التي ألمت بالعائلة. ثم أشفقت عليها حين رأيتها تضطرب بين يدي اضطراب العصفور في القفص . وهممت بمغادرة المكان . ثم عدت أتريث بعد أن رأيت رجلا يقترب. كان واقفا منذ مدة ، قريبا مني . شده حديثي مع المرأة فقال :
- أنت تحدث بكماء صماء يا رجل
وأضاف حين لاحظ استغرابي :
-هذه العجوز فقدت السمع والنطق أثناء فاجعة انهيار " جبل الوصيف " عام ألف وتسعمائة بعد أن مات كل رجال قبيلتها.
وسألته :
- هل عرفت هؤلاء الرجال قبل الفاجعة ؟
فقال :
- جاءوا مع القافلة التي عادت من " قابس " بعد أن أوصلت غرائر الفسفاط إلى الميناء.
وقال :
- لقد وجد رجال القافلة هذا القبيل الأسود من الرجال والنساء وبعض الأطفال في بحر الرمال المتحركة وهم قاب قوسين أو أدنى من الهلاك، فحملوهم على الجمال وغنى لهم الحادي فامتلأت بطونهم بالمن والسلوى . وعادت العافية إلى الوجوه السمراء والسواعد المفتولة.
ولما دعا داعي الشركة : " حي على خير العمل " لبوا النداء . اقتحموا مجاهل الأنفاق ودفعوا عربات التراب بأكتافهم حين كلت البغال وقاتلوا أشباح الموتى التي ماتوا في الأيام الأولى تحت الردم حتى أجلوهم من المكان. ولكنهم هلكوا بدورهم عن آخرهم خلال الانهيار العظيم . ولم يبق منهم سوى النساء والأطفال وهذه العجوز التي ترى.
وسألته عن النساء الأخريات فقال إنهن تفرقن مع الريح . والباقيات منهن صرن خادمات في منازل مهندسي الشركة.
وعدت أسأل عن الأطفال فهمهم :
- صاروا خدما للنساء الفرنسيات يحملون لهن القفاف حين يذهبن للتبضع من السوق ويدفعون عربات الرضع ويلاعبون الأطفال الصغار والكلاب وقت اشتغال النساء في المطبخ أو خلال نوم القيلولة.
وفتشت عن العجوز فلم أجد لها أثرا . ذابت في سراب الهاجرة.
ونبتت فكرة في رأسي : لا بد أن أعود إلى القرية لأصطحب معي " فاطمة " تلبسني وألبسها في هذه الديار. لقد ذكرتني الزنجية بالوعد الذي قطعته على نفسي وأنا أحاول وضع رجلي داخل ركاب الفرس.

2

بعد أيام ، عدت إلى " عتيقة " أبحث عن
" فاطمة " . كنت أعرف أن عيون " الباشا " تبحث عني في كل مكان ، فلم أجازف بدخول القرية نهارا . ترقبت حتى هبط الليل وطرقت باب أمي. وجدت سريرها باردا ولم أشم رائحة عطرها في المكان فعرفت أن مكروها ألم بها فاشتد وجيب قلبي وخامرتني ظنون شتى.
أعرف أن زوجها شرس وأعرف أنه لن يتورع عن الفتك بها إذا قدر أن مهمتها انتهت. ولكن من أين لي أن أعرف مصيرها ؟ فاشتد وجلي وذهبت إلى قصر " الأجداد" . دخلت من خلال السرداب المفضي إلى الإسطبل وذهبت رأسا إلى بيت " فاطمة " . كانت رائحتها تجذبني نحو بابها بخيوط من عبير. بقيت واقفا أمام الباب مدة حتى هدأت الحركة في الداخل ثم انفتحت في وجهي أبوابها. رأيت " فاطمة " في كامل زينتها ، معطرة ، يقطر الماء من شعرها ، تنظر إلى وجهي وتبتسم. ثم قالت : " عرفت الآن طريقي يا ابن العم . لقد أعلمني
" هاتف " قبل ثلاثة أيام أنك ذكرتني . مر " الهاتف " فوق قصرنا . حط فوق السطوح ونادى ثلاثا : يا فاطمة فخرجت إلى صحن الدار. سمعت الصوت صافيا كالدق على النحاس ولم أر الشخص . وعاد " الهاتف " إلى النداء مرة أخرى : لا تتعبي نفسك في البحث عني ، ولكن هاتي البشارة.
فقلت له :
- ابشر يا " رئي " *
فقال :
- غدا يزورك " عزيز " جهزي نفسك لسفر طويل
وذاب الصوت في السماء الصافية، فتطهرت من رجس الشيطان ولبست لك هذا الثوب الأبيض وأشرعت لك الأبواب السرية

ضممت " فاطمة " إلى صدري وحملت حقيبتها وهممت بالخروج لكنها ذكرتني ببشارة " الرئي ".
قالت : دونك وهذا التيس الأسود ، اذبحه ولطخ الأبواب بدمه.
فبسملت ، وذكرت اسم الله على الذبيحة.
وسال الدم بين الفخذين، فعرفت أني أوفيت بالبشارة.

3

وزمجرت محركات القاطرات من جديد . وأزت العجلات تحت الأثقال. وعاد العمال إلى الأنفاق. وارتفع صياح الباعة في الأسواق ، ورغاء الجمال أمام دكاكين القصابين. وعادت نداءات " البراح " تدعو البدو المعسكرين قريبا من المنجم للالتحاق بإدارة الشركة لجني المال مرة كل نصف شهر عوض التسكع وراء الشياه الهزيلة. فاكتريت منزلا في قرية " فيليب توماس " به غرفتان ومطبخ وبيت خلاء وشبابيك تطل على الشارع . ودفعت مقابل الكراء نصف مرتبي الشهري. قلت : حتى لا أهين فاطمة بالسكن الجماعي مع الأغراب." وقد شجعني على كراء ه>ا المنزل قربه من حنفية الماء العمومية، فالماء عزيز في هذه الديار. وفاطمة لن تقدر على عراك البدويات ومصاولة الرجال حتى تملأ سطلا أو قربة.
وأهمني كثيرا هذا الموضوع ، فصرت أبحث له عن حل في السر والعلن ، إلى أن اهتديت إلى قلب " لويس" حارس الخزانات.
كانت الشركة تجلب الماء من قفصة عن طريق القطار في صهاريج كبيرة أوكلت حراستها للفرنسي " لويس " وشددت في أن يعطي منه نصيبا للأهالي لا يزيد على عشر الكمية . وتمتعت عائلات المهندسين والعمال الأوروبيين بالباقي. فأقاموا المسابح في دورهم وتفننوا في زراعة الأشجار وفي تنسيق الأزهار وتركوا العرب يتقاتلون على قطرة ماء.
قدمت لخازن الماء هدايا صغيرة : عراجين تمر وسلال تين مجلوبة من بلاد الجريد، فوهبني مقابل هذه الهدايا مرغوبي من الماء.
وتطورت علاقتي بهذا الرجل بسرعة عجيبة. طلب مني أن أعلمه اللغة العربية، فتعلمها بيسر. وصار يلبس الجبة الواسعة ويأكل الكسكسي بيديه. ويطلب مني أن أغني له أغاني البدو الحزينة، فينصت لغنائي حتى تبتل عينيه بالدموع ويذبل لونه. ثم راح يسألني عن الإسلام، وعن عادات المسلمين وتقاليدهم مستمعا لأجوبتي بانتباه كبير.
كان " لويس " يختلف كثيرا عن بقية الفرنسيين الذين لم يحاولوا إلا في القليل النادر الاختلاط بالعرب فظلوا يعيشون في عالمهم الصغير، في حيهم الراقي.يتزاورون فيما بينهم ويحيون أعيادهم في قاعة الأفراح الفسيحة . ويلعبون كرة القدم وكرة المضرب والكرة الحديدية في الأماسي، تحت الأشجار الظليلة ، أمام أنظار الحراس المغاربة.
وعلى قدر حب " لويس " للعرب ، كانت كراهية رئيس المحطة لهم كبيرة. اشتط الرجل في منعهم من الاقتراب من خزانات الماء. وأطلق كلبه الضخم وراء الصبيان والنساء فروع الكبير والصغير . وجعل ساحة المحطة مسرحا لتسلية رفاقه عملة سكة الحديد. يترك للنساء الوقت حتى يقتربن من الخزان وينهمكن في فتح الحنفيات فيسيل الماء باردا على أفخاذهن ثم يطلق وراءهن الكلب ، فيعدو خفيفا وراء الملاءات ذات الألوان الفاقعة. وتهرب النساء في كل الاتجاهات وعويلهن يملأ الفضاء ، فيضحك رئيس المحطة حتى يستلقي على قفاه. ثم ينادي كلبه ويظل يلاعبه ويربت عليه إلى أن يهدأ. فيأمر عاملا بغسله تحت الحنفية التي منع قبل قليل ماءها عن البدوية.
وظل رئيس المحطة على هذه الحال إلى أن هجم العرب ذات يوم على جبانة النصارى فهدموا سورها و حفروا قبورها وبعثروا صلبانها وأخرجوا ابن رئيس المحطة الذي مات منذ أيام من قبره وأطعموا لحمه لكلب جائع و ملأوا القبر بالخراء وبالكلام النابي.
وهج رئيس المحطة فعوضه " لويس " الذي صار يفتح الحنفيات لنساء البدو في أوقات معلومة تنام فيها عين الرقيب فيملأن القرب والجرار . وتشرب الحمير والمعيز والنعاج . وتبتل ثياب الأطفال وجلود الكلاب وتسيل المياه في الشارع القريب من المحطة.
كان " لويس " لا يمنع أحدا من الاقتراب من الخزانات إلى أن اكتشف المهندس الأول في الشركة الأمر فهدده بالتبليغ عنه إلى السلط الجهوية . وكلما زاد المهندس في التهديد زاد " لويس " في تساهله مع البدويات اللاتي كن يضحكن بخفر كلما ممرن من تحت شباكي. وحيرني هذا الأمر إلى أن اكتشفت السر ذات قائلة قائظة. خرجت من البيت لجلب سطلين من الماء تبل بهما فاطمة جلدها . فاطمة التي اشتاقت كثيرا لخرير وديان " الجريد" وطيب واحاتها، فجلب انتباهي وقوف أتان أمام باب دار رئيس المحطة. اقتربت من الباب الموارب ودخلت بدون استئذان . رأيت عائشة البدوية واقفة وراء زجاج نافذة. كانت تقبل الزجاج بشبق. وزدت اقترابا فرأيت " لويس " وراء الزجاج من الجهة الأخرى يقبل البدوية من وراء بلور النافذة. جعل الرجل والمرأة البلور حاجزا بينهما وانهمكا في قبلة محمومة أنستهما الدنيا وما فيها.
حين أفاقت عائشة من القبلة وجدتني وراءها، فاصفر وجهها وشهقت :
- يا ويلي... سيقتلني أهلي...
وفرت باتجاه الأتان. وضعت القلال الأربعة في الزنبيل ، ووضعت القربة على ظهرها وضربت البهيمة بعصاها وذابت وراء منازل حي المحطة.
بعد مدة خرج " لويس " من داره باسما فتلقيته مغضبا .
قلت له إن ما أتاه أمرا جللا وحذرته من أهلها، ثم هددته:
- سيقتلونك لو اكتشفوا سر هذه الخلوة
فقال إنه يحبها وإنه يريد الزواج منها.
ألجمتني المفاجأة ولم أعرف بماذا أرد عليه. لكنني تمالكت نفسي في الأخير وطلبت منه أن لا يعود إلى مثل هذا الحديث لأن دين الإسلام يمنع " الكافر " من وطء مسلمة .
فاربد وجهه وتمتم :
- يعني أترك ديني حتى أتزوج من " عائشة ؟
فقلت :
- نعم يا صاحبي . وإلا فلن تشم صخابها بعد اليوم
فرد على سخريتي محتجا :
- ولكنني أعرف فرنسيات متزوجات من تونسيين ، فلم أحرم من عائشة ؟
فعدت أؤكد له بأن ديننا الحنيف يسمح لرجالنا بنكاح الكتابيات ويمنع أن يطأ نساءنا غير المسلمين.
رأيت على وجهه علامات استغراب تمتزج بالبلاهة والتحدي والسخرية من حديثي. وظل مدة يلحس شفتيه وهو يردد :
- لكن عائشة حلوة ولن أفرط فيها أبدا
وذهبت أبترد تحت الحنفية وأملأ الماء لفاطمة . ونسيت حكاية " الرومي " الذي يريد الزواج من البدوية . لكن الفرنسي ما نسي غزالته فظل يلتقي بها خلسة مرة في بيته ومرات وراء كثبان الرمال . وما عاد العشقان يكتفيان بالقبل من وراء الزجاج بل صار الرجل يلحس من شهد حبيبته ويأكل من تفاح صدرها ويعوم في بحرها...
إلى أن اكتشف أهلها الأمر.


* الرئي:هو جنس من الجن له صوت مسموع وجسم غير مرئي يحيط صاحبه بالأسرار ويطلعه على الغيب.
ذكره أبو علي القالي في كتاب " الأمالي "
1/ 132- 134
كما تراجع قصص عن الرئي في تفسير ابن كثير
، 6 ( 300-3001)