المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الشخصيات في رواية (سوانح الصمت والسراب)



محمد يحيى قاسمي
02/02/2009, 07:32 PM
كثير من الذين قرؤوا رواية سوانح الصمت والسراب ( 1 ) يقولون إنها رواية تيمتها الأساسية الهجرة . وقد أخالفهم الرأي ؛ من منطلق القراءة الخاصة ؛ فأقول إنها رواية شخصيات لا رواية فضاء ، ولا رواية تيمات .

فالدارس لرواية الهجرة في المغرب يلحظ أن أصحابها عالجوا الموضوع من ثلاث زوايا : ما قبل الرحلة – أثناء الرحلة – ما بعد الرحلة . ويمكن التمثيل للزاوية الأولى برواية الحقيقة المختبئة لوريد الموساوي ، وللزاوية الثانية ( أثناء الرحلة ) برواية قصة معلم انحرف مركبه لمصطفى آدمين . وتمثل روايات يوميات مهاجر سري وأمواج الروح ومن البحر إلى البحر لكل من رشيد نيني ومصطفى شعبان وأحمد أبابري نماذج لرواية ما بعد الرحلة.

أما رواية سوانح الصمت والسراب فلا تظهر فيها تيمة الهجرة إلا في نهايتها وبشكل مفاجئ ، لذلك فالهجرة ليست تيمة في حد ذاتها في الرواية ، إنها الوسيلة فقط . وهي هجرة لم تكتمل ، لأنها أعلنت عن اعتقال الحراكة ، والزج بهم في السجن . والهجرة في الرواية – أخيرا – نموذج فقط تجسدت فيه مظاهر الصراع بين الذات والآخر . من هنا كان لابد من البحث عن التيمة الأساسية في الرواية ، وأعتقد أنها – كما أسلفت - الصراع بين الذات المقهورة والمستبدة وبين الآخر المستبد والمستغل . كيف إذن تجسد هذا الصراع في الرواية من خلال الشخصيات ؟

تصنف الشخصيات في الرواية حسب معايير متنوعة وحسب اختلاف المدارس النقدية ، فهناك الشخصية الأساسية أو المحورية أو المركزية وهناك الشخصية الثانوية وهناك الشخصية العابرة ، وهناك الإيجابية وتقابلها السلبية ، وهناك الشخصية المساعدة وتقابلها المعرقلة ، وهناك الشخصية النامية والشخصية الجاهزة والشخصية النمطية . وهناك الشخصيات الثابتة وتقابلها الشخصيات المتحركة . وتقسم الشخصيات كذلك إلى شخصيات معروفة بأسمائها وشخصيات معروفة بوظائفها ، وشخصيات تأتي في سياق الحدث . وقد تبني الرواية شخصياتها على النقيض أو المماثلة إذا كان للشخصية في الرواية ما يقابلها أ وما يماثلها .

ثم إن الشخصية في العمل السردي قد لا تكون بالضرورة كائنا بشريا . إذ يمكن أن يكون الفضاء شخصية رئيسية أو محورية .

والشخصيات في رواية سوانح الصمت والسراب عديدة ومتشابكة تربك القارئ قبل أن يكتشف أن الرئيسي منها هو سيرة شخصية راوية تدعى بحوص وفد من الظهرة إلى مدينة وجدة لإتمام تعليمه الجامعي ، وبعد بطالة وعطالة قرر تجريب التهريب ، فلم يفلح في ذلك ، وقرر مرة ثانية تجريب التبراح ، فانتهى به المطاف إلى هجرة سرية فاشلة .

ثم إن شخصية بحوص هي الشخصية المركزية أو المحور الذي تدور حوله الأحداث بينما تحضر الشخصيات الأخرى تبعا للحدث الذي تعيشه الشخصية المحورية ، أو تبعا للفضاء الذي مرت به. ومعناه أن الشخصية الجديدة لا تظهر إلا بها ، ولذلك سنعتمد في دراسة الشخصيات الواردة في الرواية عليها ، ويمكن تسمية هذه الشخصيات بشخصيات الحدث أو الفضاء ، أي أن الحدث أو الفضاء الذي تعيشه شخصية بحوص هو الذي يلد هذه الشخصيات . وحين تغيب أسماء هذه الشخصيات أو صفاتها التي يمكن أن تجعل منها شخصية محورية ، وحين تحضر كذلك بشكل جماعي فإنني أفضل تسميتها بالأصوات . وهو مصطلح أقتبسه من الرواية نفسها حيث يتردد كثيرا بين فصولها ، يقول الراوي : ( يتردد صوت من آخر الفضاء ) ( 2 ) ( ينسرب صوت من خلف الباب ) ( 3 ) . ( صاح صوت من الخارج ) ( 4 ) . ( تتعالى الأصوات ) ( 5 ) .

وشخصية بحوص ليست شخصية واحدة ، إنها شخصيات داخل شخصية واحدة ، ولا تتميز الواحدة عن الأخرى إلا بالصفة التي تحملها . فهي شخصية الطالب الجامعي أولا ، وشخصية المهرب ثانيا ، وشخصية البراح ثالثا ، وشخصية المهاجر السري رابعا . لذلك لم يكن من عمل إجرائي سوى ذكره بالصفات التي لازمته في كل فصل .

ويمكن توزيع أصوات / شخصيات الحدث في رواية سوانح الصمت والسراب كما يلي :

أ / أصوات/ شخصيات الجامعة : الفضاء الأول الذي يحكي عنه بحوص ، وهو فضاء جامعة محمد الأول التي درس بها ، وأخذ منها إجازته في الآداب . ونلتقي في فضاء الجامعة بالشخصيات التالية:

- بحوص الطالب : شخصية محورية مركزية معروفة باسمها الذي هو بحوص ، يرد ذكره في جميع فصول الرواية إذا اعتبرنا الترقيم الذي اختاره الروائي دلالة على الفصول .

وللتسمية دلالات كثيرة ، ومن أجل ذلك استرعى اهتمامنا اسم الشخصية المحورية الذي اختير بدقة. ودلالة الاسم هنا التصغير والاحتقار .

بحوص شخصية مثقفة ولها شهادة جامعية : بدليل حيازته على شهادة الإجازة في اللغة العربية كما يدل على ذلك بحثه الذي أنجزه في الأدب الشعبي وتحديدا عن ظاهرة التبراح .

تكتسب شخصية بحوص أهميتها من كونها شخصية ساردة . فهي التي تفتتح الرواية ، وبها تنتهي . ثم إن حضورها سيمكن القارئ من اكتشاف جوانب خفية في الشخصيات الأخرى ، ما كانت لتنكشف لو لم يكن حاضرا .

يقوم السرد على نقل الأحداث بضمير المتكلم المفرد وفي هذا المجال يعتمد الكاتب جلول قاسمي على نمط الرؤية المصاحبة إذ يعرف الراوي أكثر مما تعرفه الشخصيات الأخرى . وفي هذا النمط يعرف القارئ الأحداث من زاوية نظر الراوي ، فهو وحده من ينقل الأحداث ويصور ويرسم المشاهد وينتقي ما يروي ويهمل ما لا يراه مناسبا .

- الأستاذ المشرف : يظهر من الحوار الذي دار بين الطالب بحوص والأستاذ المشرف أن هذا الأخير كان - إلى جانب الخال - السبب في أن يصبح بحوص براحا إذ سيصر على الاهتمام بالأدب المحلي، يقول <<اختر لك موضوعا ظهرويا من بلدتكم ستكون قد أديت خدمة لا تنسى للشعر والشعراء بمنطقتك .. >> ( 6 ) . وحين استعصى الأمر على بحوص دله الأستاذ إلى الموضوع مباشرة : << ألا تشتغل حول موضوع مشهور عندكم ؟ قلت عن أي موضوع تتحدث يا دكتور ؟ علق في لهجة تقدح سعادة : في الحفلات عندكم هنا في المغرب الشرقي حفلات الشيوخ، أقصد كما تسمونها ، شاهدت شخصا يقطع الغناء ويقول كلاما جميلا كالشعر ويناوله المكرمون قدرا لا بأس به من المال ، قال ذلك متعجبا كأنه سيحقق فتحا علميا على حسابي الشخصي >> ( 7 ) .

شخصية الأستاذ المشرف إذن لا اسم لها ، ولا صفة لها سوى نعتها بالدكتور . ويكمن السر في لقب دكتور الذي لا يدل في الرواية على شيء تقتضيه دلالة الأسماء أو الألقاب إلا أن يقصد به التنقيص والجهل والاستغلال . فعبارات مثل " عندكم هنا في المغرب الشرقي " أو قال متعجبا كأنه سيحقق فتحا علميا على حسابي الشخصي " دالة على لك .

- أصوات الطلبة : تغيب أسماء الطلبة ويحضر فضاؤهم الذي هو غرفة صغيرة مرقمة نتنة ذات ستة أسرة . وتحضر سلوكاتهم : ( غناء وعربدة ) : ( الخمرة تدور .. رخيصة استجلبناها في قنينات بلاستيكية من مارشي كوفير ) ( 8 ) . وهي سلوكات يقصد بها التنفيس :يقول أحد الأصوات ( أريحوها ساعة بعد ساعة فإن النفوس إذا كلت صدئت ) ، وتحضر الإشارة ضمن هذه الأصوات / الشخصيات إلى فصائل الطلبة وصراعاتهم الإيديولوجية عبر تعليق أحد الأًصوات : ( لا تنطق بالحديث الشريف وأنت مخمور أيها الحمار ) .

ب / أصوات / شخصيات التهريب :

بعد نيله شهادة الإجازة ، وحين لم تسعفه دراسته الجامعية في الحصول على عمل شريف قرر الطالب بحوص تجريب التهريب ، تهريب السلع الإسبانية من الناظور إلى مدينة وجدة .
ويفاجئنا الكاتب دون مقدمات تذكر بشخصية بحوص في الحافلة يحمل أواني الطاووس المهربة ، فيتحول بحوص بذلك إلى مهرب لا يحكي مغامرته بقدر ما يحكي عن مآل شخصيات لها باع في التهريب وتحضر كما في الفصول السابقة شخصيات وأصوات يمكن تحديدها في ما يلي :

- امرأة لا اسم لها ، ولكن تحضر بأوصاف متعددة . فهي الجارة أي تجلس بجانبه في الحافلة ، وهي الأنثى " أو ما تخيلته كيس أنثى تجلس خلفي " ، وهي الحرمة والسيدة والمرأة البضة السليطة اللسان الشريفة العفيفة الغراء الفرعاء المصقولة العوارض الرشيقة النحيلة . ويستحيل أن تكون هذه الأوصاف المتباينة لامرأة واحدة ، ومعناه أنها أوصاف لكثير من النساء يمارسن هذه الحرفة اللعينة .
- الجمركي : تأتي صورة أحد الجمركيين على لسان بحوص : هو أسود ، والإشارة إلى اللون هنا تومئ إلى سواد القلب . أما الأسنان الفضية الموصوف بها فتحيل على الأكل والمال . وتحضر صفات أخرى للجمركي فيصبح مراقبا ومن أعوان الدولة وهو الشاف . وهي صفات ترمز للسلطة. وتأتي الصورة الثانية للجمركي على لسان المرأة التي صودرت سلعتها فتصفه بالإفراد والإجماع : أسود الإليتين – الخنشوش - عبد مأمور – متكالبون – أولاد الكلاب – القناصة - أصحاب الفوق .

- في صراع المرأة المهربة أو النساء المهربات – كما دلت عليهن أوصافهن - مع الجمركي أو القناصة أو المتكالبين تحضر أصوات مؤازرة للمرأة وأبرز من يمثلها رفيقها أو صاحبها الأشنب المدافع الواعي زيادة على اللزوم .ويحضر الجار وهو رجل مسن ويحضر الخابرون بأسرار الحرفة والخبراء بالشأن التهريبي . وتعداد هذه الأصوات / النماذج يبرز طينة بعض المهربين ومستوياتهم الثقافية وأعمارهم وأجناسهم .

- أما بحوص الشخصية المحورية في الرواية فيحضر هنا بصفته شخصية عاطلة اضطرت إلى التهريب شخصية سلبية لا تتدخل وإنما هي ترى من الخارج ما تتعرض له أصوات المهربين .

ج / أصوات / شخصيات الحفل :

تنتقل بنا شخصية بحوص المحورية بعد فشلها في حرفة التهريب إلى تجريب حرفة جديدة هي التبراح. وهذه الحرفة في الرواية قديمة جديدة ، إذ لا يعلن السارد زمن بدايتها ، ولكننا نجد لها إشارات ثلاثا في الزمن الماضي أو لنقل قبل أن يصبح بحوص براحا رسميا .

أما الإشارة الأولى فحين أوصاه خاله بالحرفة المعنية ( أنت شاعر بالفطرة ..انتماؤك لفيء الشعر وموارد الفن سيجعل منك براحا رائعا ) ( 9 ) . أما الإشارة الثانية لقدم هذه الحرفة عند بحوص فترد أثناء عربدته مع طلبة الحي الجامعي ليتحول إلى براح : ( يناولني صاحبي مكروفونا وهميا ..أخرج ما في أحشائي من كلام حفظته عن خالي : في خاطر لخواطر في خاطر أصحاب الحال ) . أما الإشارة الثالثة فهي ارتباط موضوع البحث الذي أنجزه بحوص باقتراح من أستاذه المشرف بظاهرة التبراح .
لازمه عار الحرفة الملعونة من حينها حتى أصبح بالفعل براحا رسميا .

وفضاء الحرفة المختارة جعل بحوص يلتقي بشخصيات تكون الفرقة الموسيقية التي ينتمي إليها ، ومن أبرز شخصياتها :
- الجيبة : اسم قيدومة الراقصات في الفرقة التي أصبح فيها بحوص براحا . وهو اسم مقتبس من كلمة لاتينية Jupe لها دلالة رمزية توحي بالإثارة والمجون والمغامرة . وتحضر هذه الدلالات في أكثر من وصف ، فحين كانت تتهيأ لحفل الزفاف تزينت بأجمل قفطان وأحسن مجدول ، وقالت ساخرة: (سأشوف لي تدبيرة مع إخواننا أهل الصقور ، هذه فرصتي ، مهنة المتاعب لم ينلنا منها سوى التعب ووجع القلب ) ( 10 ) . ولهذه الشخصية كما لغيرها من الشخصيات قصة ترويها فهي تمثل دورين ، الأول باغية في حي الطوبية بجرادة ، والثانية قيدومة الراقصات في الفرقة التي التحق بها بحوص . لها أولاد نبذوها بسبب حرفتها الأولى والتحقوا بأبيهم في مدينة بني ملال . وفي كل هذا إشارة إلى التمزق الذي تعيشه هذه الشخصية .

- وردية : شخصية لم تتمكن من إتمام تعليمها ( لو قدر أن أواصل تعليمي لكنت أبزق على طينتك ) . شخصية تحمل حزاما أسود دلالة على حملها هموما كبيرة . فرت من اضطهاد في الأطلس ، لتجد نفسها في شرق المغرب . وهي دلالة على أن الاستغلال لم يترك مكانا في المغرب إلا مسه ، ( نجود الظهرة ونجود الأطلس سيان ) ( 11 ) . ودلالة على أن الاستغلال ليس محليا فقط بل هو عربي كذلك . وردية هي الشخصية المماثلة لبحوص : ( أنت أنا وأنا أنت روحان يستجلبان حبا قديما ) . وردية تبحث عن بيت آمن ، وتبحث عن شخصية تثق بها ، فظنت أنه بحوص ، لكن بحوص كان سرابا : ( أنا مجرد سراب ) – فرحلت – ولا نقول اختفت أو اختطفت – رحلت رحلة مكرهة مع أصحاب المال ، أو لنقل إنها فضلت الواقع المر عن السراب الخادع .

ابتداء من الفصل الخامس تظهر الشخصية المحورية الثانية وهي شخصية عبد المنان الكريمي .ويظهر عبد المنان في صورتين : الأولى هو صاحب الحفل ، والثانية هو المسؤول عن الهجرة السرية . ولا تظهر الصورة الثانية إلا في نهاية الرواية ، وتحديدا مع حادث الهجرة . لذلك نرجئ الحديث عن صورة عبد المنان الثانية إلى حينها .

في الصورة الأولى تظهر شخصية عبد المنان بمظهرين كذلك ، مظهر يصفه الراوي ، والآخر يصفه العامة .
في المظهر الذي يقدمه بحوص الراوي يظهر اسم عبد المنان الكريمي وهو اسمه يدل عليه ، فهو عبد للمن لكنه كريم ، شخصية ثرية بدليل بعض الإشارات : ( الدار الكبيرة – عدد الأغنام والأبقار – كثرة الخيام المنصوبة – عشرون راعيا ..) ، ورث ماله عن أبيه .
شخصية برلمانية : يتتبع شكاوى من فوضوا له الإنابة عنهم . وحتى إذا فكر في اعتزال السياسة لأنها شخصية قاربت الستين فإن الحملات الانتخابية المقبلة ستكون للأبناء .
أما المظهر الثاني لعبد المنان ، وهو الحقيقي فلا يستطيع بحوص باعتباره ضيفا وبراحا يعيش فضاء الغناء والرقص والتبراح أن يروي على لسانه ، وإذا أراد استحضار شيء لم يعشه فهو ينقله رواية عن غيره ، لذلك افتعل قصة اختفاء وردية ، فخرج ليبحث عنها ، وهنا يلتقي بشخصيات أمثال محيميد والميلود ومعط الله وأصوات أخرى أصبحت همزة الوصل في وصف حقيقة عبد المنان .
يقول أحدهم : ( لا أحد يعلم كيف تدخل الأعلاف إصطبلاته ، ولا كيف تخزن ..قلة من يملكون مفاتيح اللغز ) . ويقول آخر ( نحن هنا أيضا عملنا أياما بلياليها في تهريب أغنام عبد المنان حتى تقرحت الأيدي الخشنة )، ويقول ثالث : ( ليس في ظهرتنا إلا هذه البضاعة النافقة التي أحاطها عبد المنان بسياج التحريم على غيره ) ( 12 ).

وتحضر صفات أخرى يذكرها الراوي عرضا ، فهو صنم ، صاحب السطوة التي يكسر الصخر ، ورب الخيمة الموبرة ، الخبير بسياسات الأقوام ، والعارف بأخبار الذي أتوا أو الذين سيأتون .

تستوقفنا في وصف عبد المنان قضيتان : أولاهما قضية الوراثة ، وراثة المال ووراثة المناصب ، ثم قضية الأبناء التي تحيل على النقيض المخبر عنه سلفا في الرواية بأن صهيبا هو الابن الوحيد لعبد المنان .

- الزوجة : لا اسم لها ، ولا صوت لها ، ويرد ذكرها حين تتدخل شخصية الراوي فتخبرنا بأن الزوجة فرت من عبد المنان مع عشيقها . وهروبها هذا يحمل دلالات الفرار من القهر والذل رغم غنى الزوج ، ودلالات البحث عن الذات مع الآخر . وتبقى غاية الراوي الأخيرة من هروبها مع عشيقها الطعنَ في شرف عبد المنان .

- صهيب : ابن عبد المنان الوحيد ، من زوجته الهاربة . ولصهيب دلالة واضحة في التاريخ الإسلامي فهو أول من أسلم من الروم ، وقد يكون الاسم دالا على اللون ومعناه أنه يختلف عن لون أبيه ، وسواء أكان الراوي يرمز إلى رومية هذه الشخصية أم لونه فمعناه الطعن في شرف عبد المنان من خلال حكاية زوجته التي فرت مع عشيقها . ومعناه أخيرا أن صهيبا ليس من صلب عبد المنان . ومعناه ثالثا أن هذا الحفل الذي أقامه عبد المنان أو هذه القيامةَ كلها كما يقول المثل الدارجي من أجل شخصية مجهولة الأصل. ثم إن شخصية صهيب رغم كل هذا سلبية لأنها شخصية مسيرة ، تنقاد لشخصية الأب الذي يقرر ويفعل دون استشارة الابن ، يقول الراوي : (فكان صهيب كما أراد أبوه لا كما أراد ) ( 13 ) . وبذلك تصبح شخصية محكومة بدل أن تكون حاكمة مثل شخصية الأب .

-العروس : سهى بن عطا الله : متعلمة ذات عراقة في المجد والنسب ، زواجها كان صفقة بمئات الملايين بين عائلتين متناحرتين على تهريب الأغنام . فأصبحت بذلك هي وصهيب ضحيتين لجشع العائلتين المتسلطتين .

- الضيوف من ( الخليج ) : لا صوت لهم في الرواية إلا من تعليق أحدهم وهو يتناول اللبن : (والله لبن الظهرة يعمل عمايل ) إشارة إلى الرغبة الجنسية الخفية التي سيلبيها عبد المنان : ( طلباتكم أوامر ، ونحن طوع بنانكم ) ( 14 ) . وبالفعل سيلبي رغباتهم من خلال إهدائهم وردية معشوقة حبوص . لتظهر صفة أخرى لعبد المنان لا مجال لتسميتها لأنها تحيل على نفسها .

- المعطي بن المعطي : يقدمه الراوي في صورتين : الأولى بصوت البراح :
- المعطي بن المعطي : اسم الشخصية كاسم الأب ، دلالة على أن هذه الشخصية تمثل استمرار شخصية كانت منذ الأزل .
- ما يحرث ما يواطي : ومعناه أنه شخصية لا تتعب في البحث عن رزقها .
- ما يخضع ما يطاطي : ومعناه أنه شخصية آمرة حاكمة .
- مالو ما هو ليه : الكرم والإنفاق والسخاء .

ويقدم الراوي الصورة الثانية على لسان أحد الحاضرين في حفل الزفاف ، وهي صورة سلبية وتعني أن المال الذي حصل عليه ليس من عرق جبينه وإنما هو مال حرام . والذي يؤكد هذا الأمر ما زكاه الراوي وهو يجعل شخصية المعطي محط سخرية واستهزاء : يقول أحد الحاضرين في الحفل ، وقد رأى الشخصية تنفق إنفاقا غير عادي : ( قبيلة هذا الأشنب التي يتنطع البراح لا تنتج سوى جحافل العاهرات وجماعة اللواطيين .. لا وظيفة لك ..زوجتك تستجدي الأكل والكساء ، بناتك يستعبدن في الدور المجاورة عند أسيادك منذ طالعة النهار .. مالك حرام ورزقك حرام لأنك من صناع الانتخابات ) ( 15 ) .

ومثل عبد المنان والمعطي كثر يكتفي السارد بإعطاء نماذج لهم على لسان جدته : ( سادت عوائد منكرة مجتها الأسماع ولفظتها العيون ..منذ رأينا عبد الجبار يخاتل زوج أخيه ، بينما كان التهامي يضاجع حريم رعاته ..شحت الظهرة لأن سلالة هؤلاء الخنازير أنكروا النعمة ) ( 16 ) .

لم تقتصر رواية سوانج الصمت والسراب على الشخصيات المذكورة سابقا ، بل كان للمجموعات حضور كبير ونعني بهؤلاء مجموعات الفلاحين والنساء ، كل هؤلاء ساهموا في دفع الأحداث وفي استعراض عادات الظهرة في الأفراح . وكانوا عيونا أو أصوات سجل من خلالها جلول قاسمي واقع عينات من البشر . ففي حفل عبد المنان تحضر أصوات بعض المهمشين الذين اكتووا بناره ، تحضر شاهدة على نزواته وتجاوزاته ، وتحضر لتنفس عن كربها أو تحكي مآسيها ، ومن الأصوات التي يذكرها الراوي :
- محيميد : راعي عبد المنان فقد أخويه وزوجته في حادث حريق .
- معط الله : مجذوب يستضاف في الحفلات الخاصة والعامة . يروي قصته العجائبية مع الجن .
وهذه الأصوات وغيرها مثل - الميلود هي التي سترافق بحوص في هجرته السرية .

وقبل المرور إلى شخصيات الهجرة تستوقفني شخصيتان لا تنتميان لأي فضاء من الفضاءات الأربعة المذكورة ، وقد سميتها شخصيات مرجعية ، أو شخصيات القرابة ، وهي شخصيات تقبع في ذات حبوص لا تفارقه رغم بعدها المكاني . وقد أدرجتها ضمن شخصيات الحفل اعتبارا للفضاء الذي أقيم فيه ، فهو موطن حبوص ، موطن الشخصيتين المرجعيتين ، وهما :

-الخال : شخصية تتكرر في الرواية عدة مرات ، وهي شخصية سلبية من منظور الراوي لأنها كانت السبب في تلقينه حرفة التبراح . ومعناها كذلك أن بحوص هو استمرار لشخصية الخال.

- الجدة : شخصية فقيرة ، أمنيتها الوحيدة أن تحج بيت الله . وهي شخصية إيجابية لأنها كانت ترفض حرفة حفيدها بحوص ، من هنا فإن شخصية الجدة هي نقيض لشخصية الخال رغم صلة القرابة بينهما . ومظاهر هذا التباين بين الشخصيتين يمكن في اسم الجدة فهي أم الخير ، وهذا له دلالته .أما الخال فقد اختار طريق الهوان والعار والمذلة. وورث حفيدها حرفة لا تليق بمثقف .
والجدة كما تظهر في الرواية شخصية واعية بدليل أنها كثيرا ما كانت توجه بحوص المثقف الحاصل على شهادة جامعية: ( يا بحوصي ..فهمك قاصر عن إدراك أسرار الظهرة ..إسأل جدتك يا ولدي تخبرك بأنباء الأحراش وأخبار أبناء عراة البطون ..هؤلاء الذين يتاجرون في كل شيء حتى ولو كانت فلذات أكبادهم أو حلائلهم اللائي في بيوتهم من أجل الظفر بكرسي صغير خلف مكتب في مدينة يقال لها العاصمة ) ( 17 ) . وتقول في موضع آخر ناصحة بحوص : ( خذ حذرك يا ولدي ..فأنت رغم تعلمك تبقى في دخيلتي محض براح ) ( 18 ) .

د / أصوات / شخصيات : الهجرة

لم يطق بحوص حرفة البراح فقرر الهجرة فجأة دون سابق إعلان بمعية خمس نساء يذكر أسماء هن ، وهن القيدومة وجمعة وخدوج وخضرة وخناثة وثلاثة من الشيوخ هم محميد ومعط الله والميلود .

وفي انتظار زمن الهجرة يلتقي بحوص بسعيد الناجي ، وهو معلم في قرية أركمان يشكو حاله أو حال رجال التعليم عموما : ( نحن نحمل قفة مثقوبة تحوي أشياء بسيطة كراسات الأولاد ودفتر التنقيط وجذاذات صفراء تشهد على بداية البدايات ، وهذا الوضع لا يكترث له أغنياء المنطقة إذ ليست لهم هموم كهمومنا ولا علاقة لها بما يهم المدرسين أمثالنا هموم من طينة أخرى : الانتخابات البرلمان ) .

إن الوضع الذي يشكو منه سعيد الناجي هو نفسه الذي جعل بحوص يهاجر .لكن الفرق بينهما أن الأول يفضل البقاء والثاني يفر من واقعه : ( على الأقل صاحبي تقفى أثر الوظيفة فساقته إلى هذه البقعة من بلدنا السعيد ..أنا طريق خالي تجرني إلى أحلام الهجرة نحو الضفة الأخرى ) ( 19 ).

وفي زمن الانتظار نفسه تخفت كل الأصوات ويبقى بحوص وحده يعيش الحدث ، حدث رؤيته لعبد المنان . يظهر عبد المنان في صورة مغايرة لصاحب الحفل ، يظهر في قرية أركمان وهو يلبس دجين أزرق وقميص نصف كم وحذاء رياضي خلافا للباسه التقليدي ، يتحدث اللغة الإسبانية بطلاقة . هو رجل يأتي كل مرة من طنجة لما يستوي النصاب يأخذ حصته يوزع الأدوار ثم يرحل.

هكذا يتحول عبد المنان في الرواية من مهرب للأغنام إلى متاجر في الإنسان ، وهي حرفة ليست جديدة عليه إذ يتأكد بحوص لحظتها أن عبد المنان - أو من توهم أنه عبد المنان - تاجرَ قبل ذلك بوردية ، فجعلها بضاعة تهرب إلى دول الخليج .

إن عبد المنان في صورته الثانية يمثل عينة كبيرة من سماسرة الأعراض والمتاجرين في الحرمات .إنه القرش الأعظم بتعبير بحوص ، البارون الحربائي الذي أكل تعب الليالي ، وعرف كيف يستنـزف من الضعفاء كنايات الأوهام .

تلتقي كل هذه الشخصيات رغم اختلافاتها العرضية في نهايتها المأساوية الموحدة ( السجن ) .

إن شخصيات رواية سوانح الصمت والسراب عديدة ومتنوعة ، لا ترتكز على شخصية محورية واحدة ، وإن تبدى أن شخصية بحوص هي المهيمنة فإن تقسيمنا السابق كشف غير ذلك . وهذا التعدد يلزمنا بعض الملاحظات التي نجملها في ما يلي :
• كثيرة هي الشخصيات التي حضرت بأسمائها : بحوص – وردية – عبد المنان – الجيبة – أم الخير – محيميد – الميلود – معط الله – سعيد الناجي ..
• كثيرة كذلك هي الشخصيات التي حضرت بوظيفتها : الأستاذ المشرف – الجمركي – القائد ..
• شخصيات أو أصوات أو مجموعات شاركت في الحدث : الطلبة ضمن فضاء الجامعة – المهربون – الشيوخ والضيوف والنساء والرعاة – المهاجرون السريون .
• شخصيات أو فضاءات واقعية : ميمون سويس شيخ معروف – محمد الخياري– جامعة محمد الأول - حي بوعرفة – حي الطوبية – مارشي كوفير – قرية أركمان – الأطلس – القباب – تيغسالين .
• شخصيات مثقفة : بحوص – أم الخير – الأستاذ المشرف – الطلبة – سعيد الناجي – المهرب المدافع عن المرأة .
• من حيث طبيعتها شخصيات غير مكتملة : فهي سرعان ما تختفي ، أو تختفي باختفاء فضائها.
• شخصيات مهمشة وصامتة وسلبية : بمعنى لا تصارع من أجل التغيير . من هنا استوحى الكاتب الشق الأول من عنوان الرواية ( الصمت ).
• شخصيات متلونة لا تظهر على حقيقتها ، ونموذجها بامتياز عبد المنان ، الذي يظهر في صورتين متناقضتين . أو لنقل إنها زئبقية أو مثل السراب . ومن هنا كذلك يستوحي الكاتب الشق الثاني من الرواية ( السراب ) . ولعل فيها من هذه الناحية شيئا من التقاطع مع رواية سماسرة التراب لبنسالم حميش .
• من حيث البناء المورفولوجي : شخصيات يغيب بناؤها المورفولوجي ، فلا أوصاف ولا أعمار باستثناء ين اثنين ، حين يذكر وردية التي تبلغ عشرين ربيعا ، والمرة الثانية حين يصف عبد المنان الذي يقارب الستين .
• يتم الحديث في البناء الداخلي للشخصيات عن أوصاف واقعية جاهزة مثل الدعارة والحب وحب المال والجنس والسلطة .
• يركز الكاتب على ماضي الشخصيات ، وعلى مشاكلها ، وعلى هامشيتها ، وعلى آمالها : أمل الجدة أن تحج بيت الله الحرام . أمل وردية –قبل اختفائها – بيت زوجية آمن – أمل محيميد ( أن يصير الظهرويون ..شعبا متحضرا مثل بقية الخلق .. وأن يجد له مربطا في حي بوعرفة حتى يضمن لبقية أبنائه مقعدا في الجامعة ) .
وهي كما يتضح آمال المهمشين التي من المفترض ألا تكون أحلاما .
• مظاهر الصراع بين الشخصيات غائبة لكنها تحضر في شكل صراع بين الأصوات مثل صراع الأفكار بين الطلبة ، وصراع المهربين مع الجمارك ، وصراع الباغيات مع القائد ، وصراع المهمشين مع المعطي ، وصراع بحوص مع ذاته .

الهوامش :

- 1 – سوانح الصمت والسراب – جلول قاسمي – دار الأمان – الرباط – 2003 .
- 2 – نفسه – ص 10 .
- 3 – نفسه – ص 10 .
- 4 – نفسه – ص 11 .
- 5 – نفسه – ص 10 .
- 6 – نفسه – ص 13 .
- 7 – نفسه – ص 14 .
- 8 – نفسه – ص 8 – 9 .
- 9 – نفسه – ص 8 .
- 10 – نفسه – ص 40 .
- 11 – نفسه - ص 25 .
- 12 – نفسه – ص 69 .
- 13 – نفسه – ص35 .
- 14 – نفسه – ص 44 .
- 15 – نفسه - 53 .
- 16 – نفسه –ص 46 .
- 17 – نفسه – 47 .
- 18 – نفسه –ص 94 .
- 19 – نفسه – 98 .