غالب ياسين
06/02/2009, 07:42 PM
لقد أفرز العدوان علي غزة العديد من المتناقضات علي المستوي الدولي والإقليمي والوطني, ودلل علي ان عبارات الشجب والإدانة لم تعد وحدها مجدية, وأن هناك واقعا مريرا علي الساحة الدولية يجب أن نتعامل معه باستراتيجيات واقعية عملية, وإحدي هذه الاستراتيجيات هي الاستراتيجية القانونية الفاعلة. لقد اثبتت الأحداث خلال السنوات الأخيرة أن القانون الجنائي الدولي أضحي سلاحا ذا حدين, فمن ناحية يمكن استخدامه في إرساء مباديء العدالة الجنائية الدولية, ومن ناحية أخري يمكن تطويعه لفرض أشكال السيطرة والهيمنة علي دولة أو دول بعينها.
ومؤدي ذلك أن سلاح القانون الجنائي الدولي يجب أن يستخدم بطريقة عملية فاعلة بعيدا عن الانفعالات العاطفية والآمال الكاذبة. وباديء ذي بدء لابد ان نحدد نقطة الانطلاق في التعامل القانوني مع العدوان علي غزة, وذلك بتحديد المصطلحات القانونية المناسبة لوصف هذا العدوان ونتائجه. وكما شاهدنا فقد استخدمت وسائل الإعلام العربية عبارة الحرب علي غزة لوصف ما صدر عن جيش الدفاع الإسرائيلي في غزة, بينما كان يجب أن يطلق عليه وصف الحرب العدوانية أو العدوان علي غزة, لأن وصف الحرب وفقا لقوانين وأعراف الحروب يطلق فقط علي حالة النزاعات المسلحة وما تنطوي عليه من قواعد للاشتباك والقتال بين جيوش نظامية وما حدث في غزة بطبيعة الحال يخالف ذلك. كما شاهدنا في الآونة الأخيرة العديد من المتخصصين وغير المتخصصين في العالم العربي يلوحون بضرورة محاكمة مجرمي الحرب الإسرائيليين أمام المحكمة الجنائية الدولية الدائمة بلاهاي ويطالبون المدعي العام لها بالتحرك للتحقيق في الجرائم التي ارتكبها الاحتلال أثناء العدوان علي غزة. وهذا يشكل مثلا حيا لما قصدته بالآمال الكاذبة التي لا تصادف صحيح الواقع أو القانون. فوفقا للمادة الثانية عشرة من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية ينعقد الاختصاص للمحكمة الجنائية الدولية علي الجرائم التي ترتكب في أقاليم الدول الأطراف في هذا النظام أو من أشخاص يحملون جنسيتها أو إذا قبلت دولة غير طرف الخضوع لهذا النظام, ومن ثم فإن المدعي العام لا يملك تحريك الدعوي إلا إذا توافر أي من هذه الشروط لممارسة الاختصاص, وبذلك ينحسر اختصاص المحكمة الجنائية الدولية عن الجرائم التي تم ارتكابها في غزة من قبل القوات الإسرائيلية, فإسرائيل ليست طرفا في نظام المحكمة, والإقليم الذي ارتكبت به تلك الجرائم لا يخضع أيضا لسيادة دولة طرف لأن السلطة الفسلطينية لم تمنح بعد سلطات الدولة المتطلبة للتصديق علي مثل هذا النظام. إلا أنه تجدر الإشارة إلي أن عدم انضمام دولة إسرائيل إلي اتفاقية انشاء المحكمة الجنائية الدولية لا ينفي مسئوليتها الدولية عن تلك الجرائم. فجميع الأفعال المتقدمة أضحت مجرمة دوليا ليس فقط وفقا للاتفاقيات الدولية السارية, بل أيضا وفقا لقواعد القانون الدولي العرفي الملزم الذي تحرم قواعده المستقرة ارتكاب مثل تلك الجرائم الدولية وترتب المسئولية الدولية علي الدول التي تقترفها والمسئولية الجنائية الفردية للأشخاص المسئولين عن ارتكابها سواء كانوا من ذوي السلطة أو من الأشخاص العاديين.
التساؤل الذي يطرح نفسه علينا الآن هو: ما الذي يجب أن نفعله من الناحية العملية لملاحقة مجرمي الحرب الإسرائيليين؟ وفي اجابتنا عن هذا التساؤل, من خلال الإطار القانوني الذي نلتزم به في هذا المقال, نقترح الخطوات الآتية:
أولا: يجب إقامة الدليل أمام المجتمع الدولي علي ارتكاب القوات الإسرائيلية لجرائم دولية( جرائم الحرب والإبادة الجماعية والجرائم ضد الانسانية) في عدوانها علي غزة خلال المحافل الدولية ووسائل الإعلام, مع الاستناد في ذلك إلي تصريحات المنظمات الحكومية وغير الحكومية, التي أكدت استخدام القوات الإسرائيلية لأسلحة محظورة دوليا.
ثانيا: يجب تعديد الأفعال الإجرامية التي ارتكبتها القوات الإسرائيلية في غزة وتحديدها وتوصيفها بدقة مع نسبتها إلي المسئولين عن ارتكابها بدءا ممن نفذوها من أفراد الجيش الإسرائيلي وصعودا إلي القادة الميدانيين والقادة العسكريين والسياسيين الذين خططوا لها وأمروا بارتكابها, وفقا لمبدأ القيادة التسلسلية وصولا إلي تحديد المسئولية( الجنائية) التسلسلية.
ثالثا: يجب سرعة اتخاذ الاجراءات الفورية لجمع الأدلة المادية وأقوال شهود العيان وحفظ الأفلام والصور الفوتوغرافية الدالة علي ارتكاب الأفعال الإجرامية المتقدمة ـ طبقا لأعلي المعايير الدولية المعمول بها أمام المحاكم الجنائية الدولية الحالية ـ مع الاستعانة في ذلك بخبراء محليين ودوليين وأرشفة وتوثيق تلك الأدلة وإنشاء ملفات خاصة لها تبوب بها الوقائع المختلفة تبعا لأنماط الجرائم المرتكبة تمهيدا لتقديمها للمحاكم المختصة, علي النحو الذي سوف يرد لاحقا.
رابعا: اللجوء إلي الآليات المناسبة للتحقيق في تلك الجرائم وتحديد المحاكم الدولية المختصة بها, ويمكن التعويل في ذلك علي قرار مجلس الأمم المتحدة لحقوق الانسان الصادر أخيرا, بالمطالبة بتشكيل لجنة لتقصي الحقائق لما حدث بغزة. كما يمكن ايضا في ذات السياق أن تلجأ الدول العربية والإسلامية إلي الجمعية العامة للأمم المتحدة من أجل إستصدار قرار يدين الجرائم الإسرائيلية ويؤدي إلي ملاحقة مرتكبيها, وبصفة خاصة في ظل إدانة أمينها العام لما ارتكبته القوات الإسرائيلية في قطاع غزة. وسوف يمهد ذلك للجوء إلي مجلس الأمن لمطالبته بإنشاء محكمة جنائية مؤقتة أو خاصة لمحاكمة المسئولين عن تلك الجرائم.
خامسا: سوف يبقي دائما خيار اللجوء إلي المحاكم الوطنية التي تطبق مبدأ الاختصاص الجنائي العالمي مثل محاكم أسبانيا وبلجيكا ونيوزيلندا وفرنسا وألمانيا متاحا, حيث يتيح لها هذا المبدأ بسط اختصاصها القضائي علي مرتكبي جرائم الحرب وجرائم الابادة الجماعية وإن لم ترتكب في أقاليمها أو من مواطنين يحملون جنسيتها, اعمالا لنص المادة146 من اتفاقية جنيف الرابعة لعام1949 بشأن حماية الأشخاص المدنيين وقت الحرب, والمادة الخامسة من اتفاقية منع جرائم إبادة الجنس البشري والعقاب عليها لعام1948, علما بأن إسرائيل نفسها قد استندت إلي هذا الاختصاص القضائي العالمي عند محاكمتها أحد نازيي الحرب العالمية الثانية المسئولين عن ارتكاب جرائم ضد الانسانية وإبادة جماعية ضد اليهود ويدعي أيخمن وحكم عليه بالإعدام. إلا أن التعويل علي هذا المبدأ سوف يستتبع دراسة تشريعات الدول التي تأخذ به لمعرفة قواعد إقامة الدعاوي الجنائية أمامها, وتحديد الفئات التي تتمتع بالحصانة من تلك الدعاوي.
سادسا: ضرورة إعداد إحصاءات دقيقة بعدد ضحايا العدوان علي غزة من قتلي ومصابين, مع وصف إصاباتهم وما لحق بهم من أضرار أخري مادية ومعنوية بدقة, تمهيدا للمطالبة بالتعويضات القانونية أمام المحاكم المختصة.
--------------------------------------------------------------------------------
مستشار بمحكمة النقض.
*نقلاً عن جريدة الأهرام المصرية.
ومؤدي ذلك أن سلاح القانون الجنائي الدولي يجب أن يستخدم بطريقة عملية فاعلة بعيدا عن الانفعالات العاطفية والآمال الكاذبة. وباديء ذي بدء لابد ان نحدد نقطة الانطلاق في التعامل القانوني مع العدوان علي غزة, وذلك بتحديد المصطلحات القانونية المناسبة لوصف هذا العدوان ونتائجه. وكما شاهدنا فقد استخدمت وسائل الإعلام العربية عبارة الحرب علي غزة لوصف ما صدر عن جيش الدفاع الإسرائيلي في غزة, بينما كان يجب أن يطلق عليه وصف الحرب العدوانية أو العدوان علي غزة, لأن وصف الحرب وفقا لقوانين وأعراف الحروب يطلق فقط علي حالة النزاعات المسلحة وما تنطوي عليه من قواعد للاشتباك والقتال بين جيوش نظامية وما حدث في غزة بطبيعة الحال يخالف ذلك. كما شاهدنا في الآونة الأخيرة العديد من المتخصصين وغير المتخصصين في العالم العربي يلوحون بضرورة محاكمة مجرمي الحرب الإسرائيليين أمام المحكمة الجنائية الدولية الدائمة بلاهاي ويطالبون المدعي العام لها بالتحرك للتحقيق في الجرائم التي ارتكبها الاحتلال أثناء العدوان علي غزة. وهذا يشكل مثلا حيا لما قصدته بالآمال الكاذبة التي لا تصادف صحيح الواقع أو القانون. فوفقا للمادة الثانية عشرة من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية ينعقد الاختصاص للمحكمة الجنائية الدولية علي الجرائم التي ترتكب في أقاليم الدول الأطراف في هذا النظام أو من أشخاص يحملون جنسيتها أو إذا قبلت دولة غير طرف الخضوع لهذا النظام, ومن ثم فإن المدعي العام لا يملك تحريك الدعوي إلا إذا توافر أي من هذه الشروط لممارسة الاختصاص, وبذلك ينحسر اختصاص المحكمة الجنائية الدولية عن الجرائم التي تم ارتكابها في غزة من قبل القوات الإسرائيلية, فإسرائيل ليست طرفا في نظام المحكمة, والإقليم الذي ارتكبت به تلك الجرائم لا يخضع أيضا لسيادة دولة طرف لأن السلطة الفسلطينية لم تمنح بعد سلطات الدولة المتطلبة للتصديق علي مثل هذا النظام. إلا أنه تجدر الإشارة إلي أن عدم انضمام دولة إسرائيل إلي اتفاقية انشاء المحكمة الجنائية الدولية لا ينفي مسئوليتها الدولية عن تلك الجرائم. فجميع الأفعال المتقدمة أضحت مجرمة دوليا ليس فقط وفقا للاتفاقيات الدولية السارية, بل أيضا وفقا لقواعد القانون الدولي العرفي الملزم الذي تحرم قواعده المستقرة ارتكاب مثل تلك الجرائم الدولية وترتب المسئولية الدولية علي الدول التي تقترفها والمسئولية الجنائية الفردية للأشخاص المسئولين عن ارتكابها سواء كانوا من ذوي السلطة أو من الأشخاص العاديين.
التساؤل الذي يطرح نفسه علينا الآن هو: ما الذي يجب أن نفعله من الناحية العملية لملاحقة مجرمي الحرب الإسرائيليين؟ وفي اجابتنا عن هذا التساؤل, من خلال الإطار القانوني الذي نلتزم به في هذا المقال, نقترح الخطوات الآتية:
أولا: يجب إقامة الدليل أمام المجتمع الدولي علي ارتكاب القوات الإسرائيلية لجرائم دولية( جرائم الحرب والإبادة الجماعية والجرائم ضد الانسانية) في عدوانها علي غزة خلال المحافل الدولية ووسائل الإعلام, مع الاستناد في ذلك إلي تصريحات المنظمات الحكومية وغير الحكومية, التي أكدت استخدام القوات الإسرائيلية لأسلحة محظورة دوليا.
ثانيا: يجب تعديد الأفعال الإجرامية التي ارتكبتها القوات الإسرائيلية في غزة وتحديدها وتوصيفها بدقة مع نسبتها إلي المسئولين عن ارتكابها بدءا ممن نفذوها من أفراد الجيش الإسرائيلي وصعودا إلي القادة الميدانيين والقادة العسكريين والسياسيين الذين خططوا لها وأمروا بارتكابها, وفقا لمبدأ القيادة التسلسلية وصولا إلي تحديد المسئولية( الجنائية) التسلسلية.
ثالثا: يجب سرعة اتخاذ الاجراءات الفورية لجمع الأدلة المادية وأقوال شهود العيان وحفظ الأفلام والصور الفوتوغرافية الدالة علي ارتكاب الأفعال الإجرامية المتقدمة ـ طبقا لأعلي المعايير الدولية المعمول بها أمام المحاكم الجنائية الدولية الحالية ـ مع الاستعانة في ذلك بخبراء محليين ودوليين وأرشفة وتوثيق تلك الأدلة وإنشاء ملفات خاصة لها تبوب بها الوقائع المختلفة تبعا لأنماط الجرائم المرتكبة تمهيدا لتقديمها للمحاكم المختصة, علي النحو الذي سوف يرد لاحقا.
رابعا: اللجوء إلي الآليات المناسبة للتحقيق في تلك الجرائم وتحديد المحاكم الدولية المختصة بها, ويمكن التعويل في ذلك علي قرار مجلس الأمم المتحدة لحقوق الانسان الصادر أخيرا, بالمطالبة بتشكيل لجنة لتقصي الحقائق لما حدث بغزة. كما يمكن ايضا في ذات السياق أن تلجأ الدول العربية والإسلامية إلي الجمعية العامة للأمم المتحدة من أجل إستصدار قرار يدين الجرائم الإسرائيلية ويؤدي إلي ملاحقة مرتكبيها, وبصفة خاصة في ظل إدانة أمينها العام لما ارتكبته القوات الإسرائيلية في قطاع غزة. وسوف يمهد ذلك للجوء إلي مجلس الأمن لمطالبته بإنشاء محكمة جنائية مؤقتة أو خاصة لمحاكمة المسئولين عن تلك الجرائم.
خامسا: سوف يبقي دائما خيار اللجوء إلي المحاكم الوطنية التي تطبق مبدأ الاختصاص الجنائي العالمي مثل محاكم أسبانيا وبلجيكا ونيوزيلندا وفرنسا وألمانيا متاحا, حيث يتيح لها هذا المبدأ بسط اختصاصها القضائي علي مرتكبي جرائم الحرب وجرائم الابادة الجماعية وإن لم ترتكب في أقاليمها أو من مواطنين يحملون جنسيتها, اعمالا لنص المادة146 من اتفاقية جنيف الرابعة لعام1949 بشأن حماية الأشخاص المدنيين وقت الحرب, والمادة الخامسة من اتفاقية منع جرائم إبادة الجنس البشري والعقاب عليها لعام1948, علما بأن إسرائيل نفسها قد استندت إلي هذا الاختصاص القضائي العالمي عند محاكمتها أحد نازيي الحرب العالمية الثانية المسئولين عن ارتكاب جرائم ضد الانسانية وإبادة جماعية ضد اليهود ويدعي أيخمن وحكم عليه بالإعدام. إلا أن التعويل علي هذا المبدأ سوف يستتبع دراسة تشريعات الدول التي تأخذ به لمعرفة قواعد إقامة الدعاوي الجنائية أمامها, وتحديد الفئات التي تتمتع بالحصانة من تلك الدعاوي.
سادسا: ضرورة إعداد إحصاءات دقيقة بعدد ضحايا العدوان علي غزة من قتلي ومصابين, مع وصف إصاباتهم وما لحق بهم من أضرار أخري مادية ومعنوية بدقة, تمهيدا للمطالبة بالتعويضات القانونية أمام المحاكم المختصة.
--------------------------------------------------------------------------------
مستشار بمحكمة النقض.
*نقلاً عن جريدة الأهرام المصرية.