المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : اسرار صاحب الستر - رواية - الجزء الرابع- ابراهيم درغوثي - تونس



ابراهيم درغوثي
03/01/2007, 02:10 AM
أسرار صاحب الستر
رواية
الجزء الرابع

ابراهيم درغوثي / تونس



سر إغلاق أبواب القصر
دون المتقاضين لدى أمير المؤمنين


اليوم كادت تحصل الفضيحة في قصر أمير المؤمنين . فمن عادته أن لا يسكر في النهار إلى أن دعا ، وهو في غمرة فرحه بصولجان الملك ، بالمغني " عمر الوادي " فوصل والخليفة يتغدى مع أصحابه . فأجلسه بجانبه في صدر المجلس ودعا بالشراب وقال له :
- اشرب في صحة أمير المؤمنين .
ووكل غلاما كطلعة البدر يسقيه ويسره إلى أن طرب ، فغنى بصوت أعذب من خرير الماء . فإذا جارية أخرجت كفا لطيفة من تحت الستر فيها قدح والله ما أدري أيهما أحسن الكف أم القدح . وراحت تسقي الخليفة وهو يطلب المزيد إلى أن غلب عليه السكر ، فأخذ دفافة يدفف بها . وقام يتمايل . فأخذ كل من الحاضرين دفافة فدفف بها أسوة بالأمير .
وتقدم الأمير ، فمشى الصحاب وراءه حتى بلغوا الباب ، وأنا أجري محاولا استبقاءهم في البيت رافعا صوتي بالصياح حتى يبتعد الزوار عن باب القصر :
- ابتعدوا عن الأبواب يا مؤمنين ، فنساء الأمير ذاهبات إلى الحمام .
وأغلقت أبواب القصر دون القوم السكارى ، فعاد الجماعة إلى المجلس وعادت أجمل كف في الدنيا تسقي الأمير من بنت العنب .
وذهبت ، فكلفت جماعة من حرس القصر بطرد المتقاضين لأن الأمير مريض . ثم رجعت إلى المجلس ، فقلت له :
جعلني الله فداء أميري ، اليوم يحضر الناس للتقاضي والتشرف بمقابلتكم ، وقد كانوا قريبا من الأبواب ينتظرون الإذن بالمثول بين أيديكم . ولولا ألطاف الله لرأوكم على هذه الحالة فتكون الفضيحة ويعم البلاء .
فصاح الأمير ، وقد زاد اغتباطه :
- اجلس ، فاشرب معنا .
فقلت متمنعا :
- إنما أنا حاجبك ، فلا تحملني على الشراب فما شربته في النهار قط .
فقال :
قلت اشرب . وهذا أمري . وأنت عبدي وأنا سيدك .
فجعلت أمتنع وهو يلح .
وأجمل كف في الدنيا تلح .
والكأس تلح .
والندمان يلحون .
فلما أعيتهم الحيلة ، دعا الأمير بغلامين فأمسكا بي وفتحا فمي ، فجعل الأمير يصب الخمر في حلقي بالقمع وأنا
أتخبط .
ويزيد " عمر الوادي " في تطريبه بالغناء والشعر ، فيزيد الأمير في صب الخمر في حلقي .
فما قمت إلا وأنا سكران .


سر حرارة غناء " ابن عائشة "

هذا " ابن عائشة " المغني قد وصل . الليلة سنرى العجب ، فلست أدري من أية مادة قدت حنجرته ؟ وكنت قد سمعت قبله غناء معبد والهذلي وعمر الوادي وأبي كامل وسلامة وحبابة ، ولكن عذوبة صوت ابن عائشة لا شبيه لها . إنها ورب البيت تسكر بغير مدام وتجعل السامع يطير في السماوات وهو جالس في مكانه .
بدأ يسكر مباشرة بعد الوصول من السفر ، فقد أوصاني الأمير أن أوكل به جاريتين ، واحدة تطعمه والأخرى تسقيه ليفعل به الخمر فعله قبل ابتداء السهرة .
وكان ابن عائشة قد طاف بالمكان ، فاختار شجرة ياسمين وطلب طنفسة فجلس عليها . ودعا بالشراب فجاءته الجارية بباطية من خمر" الحيرة " المعتق .
فقال لها متشبها بأمير المؤمنين :
يا يرحمك الله ، اسقني بزب فرعون .
فردت البنت وهي تتغنج وتتدلل :
- لا والله ، تلك كأس الخليفة وقد منعت عن الخلق
أجمعين .
فنظرت إلى الكوب المصنوع على هيئة غريبة وتعجبت من إتقان صناعته ومن حجمه الكبير . فقد كان هذا الكوب من الذهب الخالص ، وكان يشع منه نور كنور الشمس .
وازددت إعجابا بأميري الذي لا يشرب إلا من هذه الكأس الفخمة المجلوبة من بلاد الفراعنة .
وظل ابن عائشة يسكر ويعربد ويغني إلى ما بعد منتصف الليل بقليل . حينها وصل الأمير ، فوجد أصحابه في أحسن حال .فقاموا للسلام عليه فرد على سلامهم ودعاهم إلى أن يعودوا إلى ما كانوا عليه . وطلب زب فرعون ، فكرع به ثلاثا . ودارت الكؤوس على الندمان . وحن ابن عائشة على عوده فجس أوتاره وقربه من صدره ، فغمزته أن
غنه :
وخرجت أبغي الأجر محتبسا * فرجعت موفورا من الوزر.
فاقترب من الأمير وهمس بها همسا بعد أن حرك أوتار العود .
فطرب الأمير حتى كفر . وصوت :
- يا غلام ، اسقنا بالسماء السابعة .
وعاد ابن عائشة إلى عوده ، فارتفعت النغمات في صخب كهدير البحر ، ثم عادت هادئة وقورة كرف الحمام . والوليد يحاول الطيران محركا يديه في خفق كخفق الطيور صائحا :
- أحسنت والله يا أميري ، أعد بحق عبد شمس .
ويعود ابن عائشة إلى " الأجر " و " الوزر " و " الصدر " و" النحر " والبدر " و " الصبر " .
والأمير في صياح :
- أعد يا أميري بحق أمية
وترتفع آهات الشاربين تزيد في إمتاعه وتحريك أوجاعه .
فيغمض عينيه ويتنهد وهو يذكر " سعدة " و " سلمى " . حبيبتان سكنتا شغاف القلب ، ثم خرجتا من حيث لم
يحتسب ...
وتنهمك الجواري في رقص صاخب هو أقرب إلى رقص المجانين ، فيخور الأمير :
أعد يا أميري بحق عبد الملك بن مروان .
وتزيد ترنيمات العود في هياج الحاضرين . وترتفع الدندنة ، فيهمس الأمير :
- أعد بحياتي .
أعد يا أميري بحياة الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان ابن الحكم بن أمية بن عبد شمس ... بن آدم عليه رحمة الله وسلامه .
فيقف بن عائشة ، يحتضن العود ، ويغني :
إني رأيت صبيحة النفر حورا نفين عزيمة الصبر
مثل الكواكب في مطالعها بعد العشاء أطفن بالبدر
فخرجت أبغي الأجر محتبسا فرجعت موفورا من الوزر

فقام إليه الوليد ، فأكب عليه وراح يقبله ، فلم يبق عضوا من أعضائه إلا وقبله . وأهوى إلى هنه ، فجعل ابن عائشة يظم فخذيه عليه .

فقال الوليد :
- والله لن أتركك حتى أقبله .
فأبداه له ، فقبل رأسه ، ثم نزع ثيابه فألقاها عليه وبقي مجردا إلى أن أتوه بمثلها .
ووهب له ألف دينار . وحمله على بغلته ، وقال :
- انصرف فقد تركتني على مثل المقلى من حرارة
غنائك .
فوضع على البغلة بساطا من حرير ، وركبها وانصرف . فلحقت به قبل أن يغادر القصر فطلبت منه أن لا يهمس بكلمة ، وأن لا يحكي شيئا مما شاهد وإلا فإن رأسه ستطير من بين كتفيه .
وأعلمته أن للخليفة عيونا في كل مكان ، وأنهم أقرب إليه من أنفاسه .
فقال لي :
- وهل يقال لمثلي هذا الكلام يا صاحب ستر الوليد ؟
وانصرف إلى دابته ، فركبها والنهار يطرق علينا
الأبواب .
فذهبت لأنام قليلا وأستريح من وجع هذه الليلة الرهيبة .





سر الجارية التي صلت بالمؤمنين صلاة الصبح
بالمسجد الجامع .

أعرف جيدا أنه يتعشق جارية من بربر " إفريقية " بيضاء مشوبة بحمرة ، قال له النخاس إنها هدية من الوالي ، وإنها ابنة أمير بربري ارتد عن الإسلام وثار على جيش العرب معتصما بالجبال وصار يحرض على جيش المسلمين ويقول إنهم غزاة كبقية الجيوش الأخرى التي دخلت بلاد البربر .
وبعد أن أجهد الوالي تمكن منه ، فقتله . وزيادة في التشفي منه ومن أتباعه ، باع أولاد الثائر وبناته في سوق النخاسة إلا هذه البنت التي اصطفاها لأمير المؤمنين .
وراقت الجارية للخليفة ، فقربها منه ووكل بها من يعلمها الغناء والرقص والعزف على العود .
وكانت البنت فهيمة ، فأتقنت هذه الفنون وبرعت فيها بسرعة عجيبة .فملكت لب الأمير حتى صار لا يستغني عنها أبدا .
البارحة ، بعد أن انفض المجلس دعا بها فحضرت بين يديه فعاد إلى السكر وعادت إلى الغناء والعزف على العود .
وتناجيا وتلاعبا وهما يتضاحكان ويتمازحان بألفاظ من بذيء الكلام حتى هاج الأمير وماج ، فواقعها وأنا أنظر من وراء الستر . فلما تنحى عنها أذن المؤذن لصلاة الصبح ، فحلف الأمير أن لا يصلي بالناس غيرها .
ارتبكت البنت وصاحت :
- كيف أدخل المسجد يا سيدي وأنا على جنابة ؟ هذا لا يجوز يا أميري ، فاعدل يرحمك الله عن يمينك واتركني أعود إلى بيتي .
فتمسك بها ، وعاد يحلف بأغلظ الأيمان أن لا يصلي بالمسلمين غيرها .
رأيت في عينيها ضراعة وتوسلا ، فأدرت وجهي جهة
الحائط .
وقام الأمير ، فسار أمامها حتى دخلا المسجد .
كانت الشموع تتكاسل ، فتنير المكان بخفوت . وكان عدد المصلين بالمسجد قليلا . والجارية التي ارتدت ملابس الخليفة تركع وتسجد . والحاضرون الذين أذهلهم الصوت القادم من المحراب بين مصدق ومكذب :
- " ما هذا بصوت أمير المؤمنين ، واللعنة على من
افترى . "
تسللت الجارية من أحد أبواب المسجد وذابت في عتمة آخر الليل . وبقيت في المسجد أستمع إلى التعليقات ، ثم مسحت وجهي بكفي وعدت أقف بجانب الستارة إلى أن أشرقت أنوار الصباح فذهبت لأنام .



سر البركة المملوءة خمرا .

اسقني يا يزيد بالقرقارة * قد طربنا وحنت الزمارة
اسقني ، اسقني ، فإن ذنوبي * قد أحاطت فما لها كفارة
" الوليد بن يزيد "

ترقبنا وصول المغني " عطرد " ليلا ، لكن القافلة التي جاء في صحبتها لم تصل إلا مساء اليوم التالي مما أحزن أمير المؤمنين وجعله يسب كل جمالي العالم ويتشاءم من ندمان تلك الليلة ، فلم يكلمهم وإنما شرب أقداحا وذهب لينام باكرا على غير عادته .
ومر اليوم علينا كدرا . خفتت الحركة في القصر . وقل الذهاب والإياب بين الأروقة ، ولم يعد يسمع إلا زعيق الطواويس وصراخها ... إلى أن جاء البشير في المساء يعلن عن وصول القافلة ، فاستبشرت وبعثت أستقدم
" عطرد " إلى القصر وأنا أبالغ في تكريمه إلى أن أفاق الوليد من نومه فبعثت برسول يهنئه بوصول المغني
سالما ، ثم أشخصته إليه بعد أن أصلحت من حاله .
كان الأمير جالسا إلى جانب بركة مبنية بالجليز الفاخر المستورد من القسطنطينية ، تزدان حوافها بالذهب والجواهر الثمينة . والبركة ليست بالكبيرة ، ولكنها يدور الرجل فيها سباحة .
كانت هذه من تحف الأمير التي تملأ كل ليلة خمرا كعين الديك صفاء . وكانت تتوسط دارا ملبسة الحيطان بالوشي المنسوج بالذهب يقيم فيها الأمير سهرات اللهو المجنون .
ليلتها رأيت بجانب الأمي جارية ما شاهدت أجمل منها على وجه البسيطة ، عليها مثل ثيابه ، وفي حجرها عود كانت تدندن عليه وتترنم بألطف القصائد من شعر لعمر بن أبي ربيعة إلى أن وصل " عطرد " ، فاقترب من الأمير ليسلم
عليه .
كان الأمير في إغفاءة ، فأفاق ومد للمغني يدا أصابعها مرصعة بالخواتم اللماعة .
قبل المغني اليد وبقي واقفا مدهوشا حد الفزع من فخامة المكان ، فأشار له الأمير بالجلوس حذو الجارية .
نظر " عطرد " إلى الجارية ، فالتهبت في صدره نيران الدنيا كلها . وتقدم خطوتين إلى الأمام ، فرأى صورته ترتسم على الجدران وفي السقف وعلى أرضية القاعة فقد كانت القاعة تزدان بعشرات من قطع البلور المصقول .
ورأى الجارية تمد له العود، فلم يعرف لمن يمد يده . كانت الصور المرسومة في كل مكان تتراقص أمام ناظريه ، فيتحول الحاضرون في الجلسة إلى صور باذخة الجمال .
رأى " عطرد " عشرات الجواري تمد كل واحدة منهن له بعود ، فكاد يغمى عليه . وقامت الجارية لإنقاذه ، فقادته إلى مجلسها ومدت له العود .
جلس المغني يسترد أنفاسه ، ثم انطلق يغني فجاء والله بالسحر الحلال .
والوليد يقوم ويقعد ، ويضحك ويبكي ، ويصيح ويصمت ، إلى أن غناه هذا الصوت :
إني بحبلك واصل حبلي و بريش نبلك رائش نبلي
و شمائلي ما قد علمت وما نبحت كلابك طارقا مثلي .
فحاف الأمير بطلاق زوجاته ، وببطلان بيعة المسلمين له بالخلافة ، وبخروجه عن ملة الإسلام إن لم يغني المغني هذه الأبيات طوال الليلة ، وسبع ليال بعدها .
ثم شق حلة وشي كانت عليه لا أدري كم قيمتها وتجرد منها حتى صار كما ولدته أمه وألقاها نصفين ، ورمى بنفسه في بركة الخمر ، فنهل منها حتى نقصت نقصانا بينا . وأخرج من البركة وهو كالميت ، فجاءت الجواري بالكوانين فرمين أنواعا من العود على الجمر ذات رائحة ما شممت لها مثيلا في أي مكان آخر من الدور والقصور التي زرتها .
والجارية التي كانت بجانب الأمير تلوح أمام وجهه بمروحة تغمسها في الطيب كل لحظة ، وتعود فتلوح بها من جديد إلى أن أفاق وعادت إليه الحياة .
رأيته يبحث بعينيه عن المغني ، فأشرت إليه بطرف عيني أن اقترب من سيدك . فذهب يقف قرب السرير .
وناداه الأمير فأجلسه بجانبه .
وسمعته يقول له :
- والله يا ابن الزانية لئن تحركت شفتاك بشيء مما جرى ، فبلغني ذلك لأضربن عنقك .
ثم أمر به ، فملىء فمه جواهر .





سر الرجل النازل من السماء .

في بعض الأيام يمتنع أميري عن السكر ويعتكف في بيته لا يكلم أحدا من داخل القصر ولا من الزائرين .
يدوم اعتكافه في بعض المرات شهرا ، ولا يزيد في مرات أخرى عن يوم أو بعض يوم .
بالأمس بدأ اعتكافه . أغلق باب مقصورته بالمزلاج من الداخل ، وأخلد إلى الصمت .ومن عجيب أمره أنه لا يأكل شيئا طيلة تلك المدة .
كنا نوطد النفس على ترقب انتهاء الأمير من اعتكافه ، لما وصل صديقه " الكلبي " .
كنت مع جماعة من أهل القصر نمقت هذا الرجل مقدار حب الوليد له . فهو يقول ب" الثنوية " ، ويقدس الإثنين
الأزليين : النور والظلمة . ويكفر بالرسول محمد وبدين الإسلام الحنيف كفرا بينا . ويجاهر بكفره أمام أمير المؤمنين ، ولا يخجل .
قطع الأمير اعتكافه ليختلي بصاحبه مدة حسبتها طالت دهرا ، ثم طلبني إلى حضرته وذلك " الكلبي " اللعين في صحبته .
رأيت بينهما على طاولة قصيرة القوائم سفطا فيه زئبق ونشادر ، فوقفت أنظر من بعيد إلى أن طلب مني الأمير أن أدنو لأنظر في السفط . فتلكأت ، حتى غضب ونهرني مقرعا
وكان " الكلبي " يبتسم ، ويهمس في أذن الخليفة :
ألم أقل لك إن صاحب سترك أخوف من فأرة يا أمير المؤمنين ؟
ويضحك متشفيا .
فيعود الأمير إلى نهري وتقريعي إلى أن نظرت داخل الجفنة ، فرأيت صورة إنسان .
وطلب مني الكلبي أن أدقق في الصورة ، فدققت فيها النظر إلى أن بدأ الدوار يصيبني .
وامتلأت الغرفة بأصوات ما سمعت لها مثيلا . أصوات امتزج فيها التسبيح بالتكبير والتهليل بلغات أعجمية تتخللها بين الحين والآخر كلمات عربية .
وبدأت الصورة تتحول شيئا فشيئا إلى رجل من لحم ودم .
رجل يسبح وسط الزئبق والنشادر محركا يديه ورجليه .
وكانت عيناه تطرفان . وهو ينظر نحونا بمحياه المليح ولحيته البيضاء الهابطة فوق صدره . لحية زادته هيبة ووقارا تغطي وجها يكاد ينطق بالكلام ، وإن لم يتكلم الرجل .
وتكلم " الكلبي " عوضا عنه ، فكأن حديثه صدى أصوات قادمة من بواكير الماضي .
قال :
- هذا يا مولاي " ماني " الحكيم ، لم يبعث الله نبيا قبله ، ولا يبعث نبيا بعده .
فاستعذت بالله من الشيطان الرجيم ، وقلت بعد أن تغلبت على خوفي ووجلي :
- اتق الله يا أمير المؤمنين ، ولا يغرنك هذا الذي ترى عن دينك ودين آبائك .
فصار " الكلبي " يضحك مقهقها ، وهو يردد :
- ألم أقل لك إن صاحب سترك لن يحتمل هذا الحديث .
فرد عليه الوليد وهو كالخارج لتوه من دهشة أبدية :
- أردت فقط شاهدا يرى ما رأيت لأتأكد أنني لست في حلم .
ودعا الأمير هذا الخبيث للبقاء بيننا أياما ، فلبى الدعوة شاكرا . و مكث في القصر ينام النهار بطوله ولا يصحو إلا عند اشتعال النجوم .
وكان في كل ليلة يأتي بالعجب من فنون السحر، كأن يشعل المصابيح بالنظر ناحيتها ، أو يحرك الحجارة بالإشارة إليها بسبابته ، أو يجلس في الهواء فوق زربية أو طنفسة ، أو يمشي على الماء برجلين حافيتين لا تبتلان
أبدا .
وكان يأكل الجمر بملعقة من ذهب .
أو يكلم الأموات .
يستحضر أرواحهم عندنا في القصر ، فيحكون أمامنا عن عوالم ما سمع بها أحد قبلنا .
مرة أحضر أمامنا روح " آدم " ، وطلب منها أن تحدثنا عن الجنة .
تحركت الروح داخل الجفنة حركات عجيبة ، فأنبتت شجرة تفاح مثقلة بالثمر الجميل : تفاح أحمر وأخضر وأزرق وأصفر وبرتقالي ومن ألوان أخرى لا حصر لها . ألوان لم تعهدها أبدا في التفاح .
أعطى الكلبي للأمير واحدة منها فذاقها فنزل به العمر عشر سنوات. وصار شابا كعهدي به زمن خلافة والده . لكن الكلبي عاد، فمسه بعصا استخرجها من بين طيات ثيابه ، فعاد له عمره الحقيقي .
وخرجت الروح من الجفنة ، فطارت كما تطير العصافير ونحن بين مكذب ومصدق لما نرى ...
ومرة جاءنا بروح سيدنا " نوح " عليه رضوان الله وسلامه وطلب منها أن تحكي لنا عن الطوفان ، فارتجت الغرفة ورأيت وكأن ماء ينزل من السماء ويخرج من تحت الأرض ويفور من بين أصابع الرجل . ماء كالماء وما هو بماء تسبح فوقه سفينة شكلها بديع تخور كالبقرة وتلتهب بأضواء حتى كأن ليلها نهارا .
قال " الكلبي " هذه غواصة ، وستكون من آفات آخر الزمان التي سيركبها الأعور الدجال قبل قيام الساعة
بقليل .
ودخلت روح " نوح " وسط أنوار هذه الآلة وذابت معها في فضاء الغرفة .
وتمادى في استحضار الأرواح إلى أن قدم لنا يوما روح
مولانا " يزيد بن عبد الملك " ، والد أمير المؤمنين .
كانت الروح قد تشكلت أمامنا مضغة ، فعلقة ، فدودة ، بدأت تكبر وتنتفخ رويدا رويدا إلى أن انفلقت وخرج منها شكل هلامي تحول إلى بومة نعبت فوق رؤوسنا ، ثم طارت .
قال أمير المؤمنين :
- هذا فأل سيء يا " كلبي " .
وأقلع عن هذه اللعبة .
وأحس هذا اللعين بضجر الخليفة منه ، فركب على برذون هملاج أشقر من أفره ما يملك الأمير وقال :
- سأخرج اليوم لأرفه عن نفسي ، وسأعود بعد ساعة .
وقصد الخلاء .
ولكنه لم يعد إلى أن قصد أعراب باب القصر عند هبوط الظلام . كانوا يحملون " الكلبي " ميتا وقد انفسخت عنقه ، وبرذونه لا يهدأ عن الركل والصهيل . فمددوه على دكة أمام القصر ، وهموا بالانصراف . لكن الأمير طلب مني أن أستجوبهم وأن أدعو صاحب الشرطة لحضور الاستجواب .
فقلت لهم :
- كيف كانت قصة هذا الرجل ؟
فقال أكثرهم جرأة :
- أقبل علينا على برذونه وكأنه الغمام ، وكنا نعجب لجمال الدابة وحسن راكبها . فما فاتنا حتى انشقت السماء نصفين ورأينا كأن بابا من نار ينفتح فيخرج منه رجل من نور على ثياب بيض وبيده سيف ضوءه يعشي الأبصار .
انقض الرجل النازل من السماء على الرجل الطالع من الأرض ، فأخذ بعضديه فنكسه وضرب برأسه الأرض . فرأينا بروقا تنقدح وسمعنا رعودا تصطخب ، ثم بعج سيف بطن الرجل الراكب على البرذون ، فالتهب وطار كقشة في مهب الريح
بعدها صعد رجل النور إلى السماء . رأيناه يا مولانا يركب على درجات من لهب ، ويدخل في أبواب الليل ، ويوصد الأبواب وراءه بابا وراء باب .
فاحتملنا الرجل وجئناكم به .
لم أصدق كلام هؤلاء الأعراب وتهويلهم لهذه الحادثة ، وأردت مواصلة استجوابهم خاصة بعد ما رأيت الطمع في عيونهم ، وخمنت أنهم أغاروا على هذا الملعون وسلبوه الأموال التي كسبها من الأمير . وتحفز صاحب الشرطة لمعاضدتي لكن أمير المؤمنين وقف في تلك اللحظة ،
وقال :
- قيدوا الحادثة ضد مجهول ، وأقفلوا المحضر .


سر السجدات الثلاث .

مساء ، وصل المغنون . جاءوا من " مدينة " رسول الله تسبقهم أصوات الدفوف والطنابير . حطوا رحالهم خارج أسوار " دمشق " وترقبوا هبوط الليل . ولأن الخليفة حذرهم من دخول المدينة جهارا ، فقد تنكروا في أزياء التجار وبائعي العبيد وأصحاب القوافل ونصبوا خيامهم قرب الباب الكبير الذي إلى أن أذن لصلاة العشاء فانتشروا في شوارع المدينة الهاجعة يسبقهم الدليل إلى قصر السلطان .
وكان مع الجماعة " أشعب " فقد جاءوا به معهم ليزيدوا في غبطة الأمير . فألبسوه سراويل من جلد قرد وعلقوا في عنقه الجلاجل وجعلوه في مقدمة الركب .
كان " أشعب " قصير الأطراف ، يفوق طوله الذراعين بقليل ، له رأس ضخمة فوق عنق قصيرة وغليظة وعينان ضيقتان ثاقبتان وأنف مفلطح وفم واسعة ، وعلى ذقنه شعيرات نابتة هنا وهناك ، وفي قذاله لحية تيس عجوز .
كان " أشعب " وقت الدخول على الأمير يغني ويرمي بالدف في الهواء ليلتقطه في خفة السعادين .
رأيت الأمير والحاضرين يقفون له تعظيما وإجلالا ، وهو لا يلتفت إليهم ، يدور في الساحة مواصلا الغناء والضرب على الدف إلى أن سقط على الأرض مغشيا عليه . فأشار الأمير إلى عبدين من عبيده ، فالتقطاه ورميا به في بركة القصر .
كان " أشعب " يصيح ويخبط برجليه القصيرتين ذات اليمين وذات الشمال إلى أن أشرق بالماء وكاد يموت ، والأمير يضحك عاليا ويقوم ويقعد ويدور في كل الاتجاهات كالمجنون . ثم أشار إلى العبدين ، فأخرجاه من الماء وهو في آخر رمق . ودعا جاريتين فنزعتا عنه ثيابه المبلولة وكستاه حلة من حلل الأمير ، وفرشتا له سريرا كسرير الأمير ، وتركتاه ليستريح .
كان الأمير في استماع إلى شعراء " المدينة " ومغنيها ولكنه ظل ينظر بطرف عين إلى " أشعب " الذي بدأت الحياة تعود إليه شيئا فشيئا إلى أن استوى قائما ، ونادى بصوته الأجش يطلب الطعام ، فجيء له بمائدة عليها جدي مشوي وثمار من كل الألوان وباطية خمر ، ومدت له الجارية الموكلة بخدمته كوبا من الذهب الخالص .
دس " أشعب " الكوب في جيبه وصار يكرع من فم الباطية إلى أن شبع ، فحمد الله وقام يلثم يد أمير المؤمنين .
بش الأمير في وجهه وطلب منه أن يغنيه شعرا يعجبه
قال : إن أجدت ، أعطيتك ألف درهم .
فغنى " أشعب " قصائد كثيرة لم تعجب الأمير .
إلى أن قال :
أشتهي منك منك مكانا مجنبذا
فأجأ فييييييييييييييه بأير كمثل ذا
ليت أيري وحرك يوما تجابذا
فأخذ ذا بشعر ذا وأخذ ذا بقعر ذا

فطرب الأمير حتى كفر .
ثم كشف لأشعب عن أير منعظ ، فارتعد وولى هاربا يجري في أروقة القصر ، والعبدان وراءه إلى أن أمسكا به وأعاداه إلى المجلس .
فقال له الأمير :
- أرأيت مثله ؟
فقال أشعب :
- لا يا أميري ، وحياتك ما رأيت مثل مزمار الآبنوس
هذا .
فقال الأمير
- فاسجد له إذن .
فسجد أشعب ثلاثا ، والحاضرون في ضحك لا ينتهي . إلى أن هدأ الأمير ، فاستجاب له الحاضرون بالهدوء .
ساعتها قال الأمير لأشعب :
- لماذا سجدت ثلاثا عوضا عن واحدة ؟
فرد :
- واحدة لأيرك يا مولاي وثنتين لخصيتيك .
فعاد الأمير إلى الضحك المجنون ، وعاد الندمان يضحكون ويلحون في الضحك .
ثم أمر الأمير الغلمان فرموا أشعب بالجواهر ، فجعل يتلقفها كما يتلقف الصبيان البلح . ثم أغرانا بمشاركته ، فترك كل واحد منا ما في يده ودخل الحلبة . واشستد العراك والصياح والهرج والمرج ، ولم يعد يسمع من الجلبة العالية سوى صراخ " أشعب " الشبيه بصياح جدي في يد الجزار .


dargouthibahi@yahoo.fr