المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : نـقيـــــــــضـان



حسن عبدالحميد الدراوي
16/03/2009, 11:09 AM
ذات مســـــاء شـهدت لقاءً ثقافيًا فانبرى فيه فحل من فحول الشـــــعر وأطربنا بقصيدة كلها مديح وثناء وبعد قليل قام آخـر فألقى قصيدة هجاء وظلمة للطريق .
وبعد اللقاء سألت نفسي ماهذا التناقض ؟ أما كان الأجدر بي أن أكتفي بما سمعت أولاً وطربت له وطرب معي له الآخرون ، أسئلة دارت في ذهني ورافقتني في سريري طوال الليل .
وإذ بي في الصباح أعود بذاكرتي لأدبنا العربي لأحتكم إليه فيما سمعت وجلست أتذكر : الفرزدق وجريراً والأخطل وهم يتطلعون لخدمة البيت الأموي ويتنافسون على المسارعة إلى أعتابه فهذا أبو تمام يختص بالمعتصم والبحتري بالمتوكل والمتنبي بسيف الدولة ولعل قصائد المديح لأولئك الشعراء تستوعب معظم دواوينهم وساعتها قلت :
إذن أين هموم ابن الشارع من هذا ؟ وأين مشاعر الأب نحو أبنائه ؟ وأين نبضات الأمهات وآلام المصابين وشكوى الأرملة واليتيم ودعاء المظلوم وأنات الثكالى والمحرومين ؟ وأين تفاعل الشاعر مع أحداث المجتمع الإنساني من حوله ؟
ولكن سرعان ماعدت لأدبنا وتراثنا لأحتكم إليه فأجد النقيض تماماً .
فالأدب العربي عَبـَّر عن الإنسان وعواطفه ومشاعره وأحاسيسه فصور أدق الخلجات وآلامها وآمالها وجعلها ترتفع إلى مصاف الآداب الإنسانية العالية فهذا إسحق بن خلف الشاعر العباسي وهو شاعر من شعراء أبو تمام ووالد أُميمة الفتاة القاصرة في عمر الزهور فيصرح لنا أنه جـاب الفيافي متعاطياً أسباب البحث عن الرزق ليقيم أود ابته أُميمة خوفاً من أن يوسد التراب ويتركها تتجرع كأس اليتم فيقابلها ذوو رحمها من بعده بالجفوة والغلظة فبقول :
لَوْلاَ أُمَيْمةُ لَمْ أَجْزَعْ من العَدم وَلم أجب في اللّيالى حِنْدِسَ الظُّلَمِ
وهذا حطان بن المعلى وهو شاعر مقدام يود لويطوف البراري والقفار ويرتاد المجهول لكنه خائف على أطفاله الصغار فيصفهم بأنهن كزغب القطا فيقول :
لَوْلَا بُنَيَّات كَزُغْب القَطا رُدِدْنِ مِنْ بَعْض إلى بَعْض
لَكَانَ لي مضـرَب واسع في الأرض ذاتِ الطولوالعرض
وَإِنَّما أولادُنَا بَيْننا أكْبَادُنا تمشي على الأرضِ
وهذا ابن الرومي يصور لنا عاطفته نحو الأبناء فيبكي أصدق بكاء لفقد ابنه الأوسط بين يديه التي ترتجف فيواريه التراب وهو الذي رباه فأحسن تربيته فيقول :
بُنيَّ الذي أَهْدَتْه كَفَّاي للثَّرى فيا عِزَّةَ المُهْدَى ويا حسرةَ المُهدِي
فأدبنا العربي يقر لفحول الشعر التراثين أن مَنْ يدفع أكثر يُمدح أكثر فهذا المتنبي تخلى عن أعظم أصحابه وممدوحه سيف الدولة عندما أحس أن الأخير قصر في الاحتفاء به مادياً ومعنويًا فيمم شطر كافور الأخشيدي طمعاً في أن يصل إلى عتباته فيقطعه شيئاً من ديار مـصــر .
والحطيئة أوجع بعض رجالات عصره النابهين لأنهم لم يلتفتوا إليه ولم يضعوا بين يديه شيئاً من عطائهم .
والحقيقة أن الأدب العربي لا ينفي مثل هذه الحقائق لكثيرٍ من أُدباءنا ممن وظفوا طاقتهم الإبداعية في سبيل الكسب من قافية الشعر كذلك لا نستطيع أن ننفي الاتجاه الإنساني عند الكثير من التراثين وقد تفاعلوا مع مشكلاتهم المعاصرة مثل الفقر وغلاء الأسعار وصعوبة الحصول على الأود ولقمة العيش واتخذوا من اللغة وفصاحة اللسان ودماثة الخلق وسيلة لإيصال تلك الهموم للقصر فهذا أبو العتاهية يخاطب الرشيد فيقول :
إني أرى الأَسْعار أسعار الرعية غالية
وأرى اليتامى والأرامل في البيوت الخالية
مَنْ للبطون الجائعات والجسوم العارية
وهذا أبوتمام يرثي محمد بن أحمد الطوسي فيجسد آمال الأمة التي تمثلت في رجل جاهد في الله حق الجهاد ورأى فيه الجموعُ الصدق والإخلاص إلى جانب الشجاعة والإقدام فقال :
فتىً مات بين الطَّعْنِ والضَّربِ ميتةً تقوم مقام النصر إذ فاته النصر
مضى طاهرَ الأثواب لم تَبْقَ روضه غداة ثوى إِلاَّ اشتهت أنها قبر
وهذا الإمام أحمد بن حنبل ظلت صورته رمزاً يحتذى بها عند فتنة خلق القرآن ن وهذا جعفر الراج البغدادي يصور لنا ذلك فيقول :
سقى الله قبْراً حَلَّ فيه ابنُ حنبل من الغيث وسمياً على إِثره ولى
فمن مُبْلغ أصحابه أنني به أفاخرُ أهل العلم في كل مَحفَل
وهذا ابن العلاف يردد في مرثيته السياسية قتل الأديب الشاعر ابن المعتز ، وهذا أبوإسحق الشيرازي يرددفي جوف الليل النجوى ويستنجد بالله الواحد الأحد ليغفر له .
أما أبو الحسن الغزنوي فيردد في قوافيه شعور الإنسان وهو يتعامل مع قبم تختلف عن قيم الآخرين ، وهذا القاضي الجرجاني يرى في بعض معاصريه صفات تبعدهم عن الشهامة والعزة فيصور ذلك شعراً وتراثا خالدا ، وهذا أبو العباس السياري يعقد حواراً بين نفسه وهويحاول كبح جماحها وثورتها .
أما المقنع الكندي الشاعر الأموي يعرض لنا من خلال شعره الفارق الكبير بين الإنسان حين يكون كلا ، وحين يكون عدلاً فشتان بين خلق وخلق ، وشتان بين تربية وتربية وبين سمو ووضاعة .
وهذا ابن الرومي يصور قلقه من المصيبة التي حلت بالبصرة إثر فتنة الزنج حيث استبيحت المدينة بحرماتها وأعراضها وأبكارها .
أخي القارئ :
هؤلاء هم شعراؤنا الأولون يسيرون مع الإنسان بهبوطه وجشعه وأنانيته فيصورون شهواته وطمعه ، كما يصورون سمو الإنسان ورقي فكره وعواطفه وسموها وبذلك يكون الشعر قد صور لنا صورتين للإنسان حينما يكون روحاً سامي’ً ، وحين يكون طيناً لازبا . وإلى الملتقى أستودعكم الله .
حسن عبدالحميد الدراوي