المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : اختيار العتبات



محمد يحيى قاسمي
22/03/2009, 05:51 PM
عند اشتغالي بنقد الشعر بالمغرب أثار انتباهي اهتمام نقاد المغرب بقضايا نقدية عديدة ومتنوعة ، ومنها المقدمات والتصديرات و ما يصطلح عليه بالعتبات أو المصاحبات النصية .

لقد اعتاد الشعراء المعاصرون أن يقدموا لدواوينهم بمقدمات يكتبونها هم أنفسهم ، أو يكتبها أدباء ونقاد لهم حضورهم ووزنهم الوطني أو القومي . وقلما تخلو مجموعة شعرية ؛ خصوصا تلك التي ظهرت مع بداية القرن العشرين ؛ من هذه المقدمات . أما طبيعتها ومضامينها فإنها لا تكاد تخرج عن التقريظ الذي يحتفي بصاحب المجموعة الشعرية وبعمله ، ونادرا ما تمتد إليهما يد النقد . لذلك وصفت أغلب المقدمات ؛ في إطار الحديث عنها باعتبارها خطابا نقديا ؛ بأنها إخوانيات لا ترقى إلى مفهوم التقديم . ونستثني من هذه المجموعات الشعرية واحدة أثارت كثيرا من الجدل ، إنها ( أحلام الفجر ) للشاعر المراكشي عبد القادر حسن .
ومعنى الاختيار الذي وضعناه لعنوان هذا العرض قد يكون في غير محله ، وقد يكون مبهما يحتاج إلى شرح وتفسير ، فليس الغرض من هذا العنوان الإجابة عن كيف اختار الشاعر عتباته ؟ وليس الغرض تفسير عتبات المجموعة الشعرية عتبة عتبة ، ولكن القصد أن نجيب عن السؤال التالي : هل وفق الشاعر في اختيار عتباته ؟ ذلك بأن سوء الاختيار قد يجر على الشاعر كثيرا من النقد وهو ما حدث للشاعر عبد القادر حسن .
تتضمن مجموعة أحلام الفجر عتبات عدة منها :
- العنوان
- الإهداء
- تصدير عبارة عن بيتين شعريين للشاعر .
- العتبة الرابعة : صورة مربعة لهلال تتوسطه ثلاث نجيمات .
- العتبة الخامسة : تقديم بقلم الأستاذ عبد الله إبراهيم .
- العتبة السادسة : خاتمة المجموعة وهي بقلم الشاعر .
ولم تثر عتبات ( العنوان – الإهداء – المربع الهلالي ) أي اهتمام من لدن الدارسين ؛ ولم ينتبه إليها ؛ ولم تثر شيئا من الجدل . فهي ليست مما يعنينا في هذا العرض .

وعلى العكس من العتبات المذكورة حركت عتبات ( التصدير – والتقديم – والخاتمة ) كثيرا من الأنامل ، فأسالت كثيرا من الحبر ، ودبجت كثيرا من المقالات والمؤلفات ، فأثارت بذلك كثيرا من الجدل هو جدير بالمتابعة والدرس .
التصدير :
صدر الشاعر عبد القادر حسن مجموعته الشعرية ببيتين شعريين يقول فيهما :

أنَا قُوَّةٌ جَبّارَةٌ لا ترَى لَها مَقَرّاً وَلَوْ قَدْ جاوَزتْ فَلَك النجْمِ
أنَا مِثْل نَفْسِي لا أرَى لِي مُشابِها وَإنْ كانَ هذا القَوْلُ جلَّ عَنِ الفَهْمِ 1
والبيتان أخذهما الشاعر من قصيدة بعنوان ( شاعر النبوغ ) ، وهي القصيدة الثامنة والعشرون في المجموعة الشعرية .

واعتمادا على ما جاء في عتبات التصدير والتقديم والخاتمة ثار بعضهم على صاحب المجموعة الشعرية وكفروه ؛ وإن كان المقصود – في نظري – صاحب التقديم أيضا .

يذكر الشاعر عبد القادر حسن في حوار له أن السلطات المحلية – مراكش فترتئذ – أوعزت لأحد العلماء بالقيام بعريضة قصد تكفيره بناء على ما ورد في البيتين اللذين صدر بهما مجموعته الشعرية ، يقول : << أخذوا هذين البيتين وقدموهما ضمن عريضة موقعة ، وكفروني فيها لأنني أدعي أنني قوة جبارة ؛ والجبار هو الله ؛ والقوة الكبرى هي الله >> 2 .

وقد قام أكثر من واحد لانتقاد الشاعر لأنه وصف نفسه بالقوة الجبارة ، والقوة الجبارة هي الله ، ولم يصلنا من نصوص الخصوم إلا مقال وقعه ( ناقد غيور ) ينقد فيه الشاعر عبد القادر حسن لأنه صدر ديوانه ببيتين شعريين ، أعلن من خلالهما تمرده على السلطة الإصلاحية . فاتهمه ( الناقد الغيور ) بالقصور قائلا : << وإذا كانت أخلاقك التي أعيذ منها شباب المغرب هي ما قرأناه لك في قصيدتك ( شاعر النبوغ) فأعتقد أنك تزحلقت فيها وفي غيرها، فادعيت أكثر من الدعوى ، ونسبت لنفسك أكثر من الواقع .. رفقا بنا وبنفسك يا شاعر النبوغ فإننا لم نتعود هذه الجرأة على الله وشعائره ، وإن مغربنا حماه الله وحماك لا يستسيغ الإلحاد ولا يحفل بنزعات شاذة أو بنزعات جريئة>> 3 .

ورد صاحب ( أحلام الفجر ) على ( الناقد الغيور ) متهما إياه باتباع وسائل هدامة وغير مجدية في النقد . واعترف أن في ديوانه هفوات << قل أن يسلم منها فطاحل الشعراء >> ، وأن فيه كذلك << قطعا قد لا ترضي أنصار الأدب الرسمي والغيورين عليه ، ولكنها جميلة على كل حال ، فكم من شاعر بئيس لم يفهمه قومه ولكن التاريخ أنصفه بعد ذلك وأظهر من شأنه >> 4 .

وحتى لا تستغل العقيدة في الرجم بالباطل ، ويحرف الصراع بين العلماء عن مقاصده الأساسية ، وحتى ينكشف اللبس ويظهر الحق نهض محمد بن عبد الله المؤقت المراكشي مدافعا عن الشاعر عبد القادر حسن ، فألف كتابا سماه : ( الجيوش الجرارة في كشف الغطاء عن حقائق القوة الجبارة ) .

وينحصر كتاب ( الجيوش الجرارة ..) قي مقدمة ومقصد وخاتمة ) .فأما المقدمة ففي معنى قوله : (أنا قوة جبارة ) . وأما المقصد ففي بيان ما تقتضيه هذه القوى الإنسانية . وأما الخاتمة ففي بيان الأسباب التي تنهض الأمة الإسلامية .
ويصرح مؤلف كتاب ( الجيوش الجرارة في كشف الغطاء عن حقائق الجبابرة ) في خطبة الكتاب ما يلي: << ولما وقفت على قول وطنينا الأستاذ السيد عبد القادر بن الحسن بادئ بدء ديوانه أحلام الفجر وهو : ( أنا قوة جبارة .. ) عن لي أن أعلق عليه بحثا مستفيضا ، وينحصر في مقدمة ومقصد وخاتمة . أما المقدمة ففي معنى قوله : ( أنا قوة جبارة ) .. وأما المقصد ففي بيان ما تقتضيه هذه القوى الإنسانية . وأما الخاتمة ففي بيان الأسباب التي تنهض الأمة الإسلامية >> 5 .

فالسبب المباشر إذن في تأليف الكتاب السابق هو عتبات المجموعة الشعرية ، أو بالأحرى ما قوبل بها من نقد عنيف من لدن خصومه ، بلغ إلى حد تكفير الشاعر ورميه بأشنع النعوت .

هكذا تجر عتبات المجموعة الشعرية المكونة من تصدير وتقديم وخاتمة إلى صراع تاريخي طرفاه عقليتان متناقضتان وموقفان متعارضان ، وهو ما سيكشف عنه المؤلف بتفصيل في (الجيوش الجرارة .. ) منطلقا من البيتين السابقين ، متجاوزا بذلك الخصومة الأدبية السطحية إلى مسارب الواقع وتشابكه6.
يكشف صاحب كتاب ( الجيوش الجرارة ..) المقصود من القوة الجبارة في الإنسان ؛ وموضوعاتها وعناصرها ؛ وهو كشف يؤكد أن لا بدع في أن يخاطب الإنسان نفسه ، أو يقول عنها : ( أنا قوة جبارة ) حتى ينكر عليه ذلك ، بل إن ما ينكر عليه لزوما هو أن يجهل أنه قوة جبارة تقتضي العلم والسلوك وفق أن الإنسان حقا قوة جبارة لا حد لمداها . 7

وفي القسم الثاني من الكتاب يبين المؤلف ما تقتضيه هذه القوى الإنسانية ( أي قواه الجبارة ) وذلك باعتبار أن الحق تعالى جعل النوع الإنساني خليفة في الأرض لإظهار أحكامه وسنته الشرعية ، وسننه الكونية الطبيعية بما وهبهم من المدارك التي يبينون بها أسرار خليقته ، ويظهرون بها بديع صنعه ، وإنما أعدهم للخلافة لأنهم غير محدودي العلم ، وغير محدودي الاستعداد .

إن المؤلف يبدأ من حيث بدأ الشاعر ؛ من الجملة الأولى في البيت الأول : ( أنا قوة جبارة.. ) ، أي من جوهر القضية التي أثارت ما أثارت ليكشف الغطاء أولا عن القصد من التعبير المألوف لدى الناس بالضمير ( أنا ) ، وينطلق من ثمة إلى شعاب هذه الأنا التي أخبر الشاعر عن قوتها ، وإلى الكشف عن أوجه هذه القوة ، وإمكاناتها ووظائفها ، وما إلى ذلك . 8

هكذا يكون المؤلف قد استوفى القول في كشف الغطاء عن معنى القوة الجبارة ، وعن مظاهرها ووظائفها ، بما يقطع أن لا قيام للوجود الإنساني بدونها . وبذلك يكون قد احتج بقوة لقول الشاعر ( أنا قوة جبارة ) ، فأثبت موافقته للطبيعة الإنسانية والقيم العقدية فجاء خطاب الكتاب على هذا الأساس << ذا طبيعة استدلالية انتقادية توجيهية ، ينتقد دعوى ويثبت خلافها ، وينتقد سلوكات ومواقف ويحفز على نقيضها ، ممارسا نقدا مضاعفا على هذا النحو >> 9 .

لقد انطلق مؤلف ( الجيوش الجرارة ) من بيتين شعريين فأضاء ، وكشف ، وأول ، وخرج، وآزر ، وانتقد ، ووجه ؛ متجاوزا في كل ذلك الشعر إلى العقيدة والمجتمع والسياسة والثقافة والأخلاق والتاريخ ، فكان نقده شبكة نقود ، وانتقاده شبكة انتقادات ، كان خطابه شاملا لمستويات عدة ، ولمقاصد متعددة تشمل منظومة العقيدة والعمل بمختلف روافدها وعناصرها المتداخلة . 10

إن الحركة النقدية التي أعقبت ظهور ديوان أحلام الفجر << تعبر عن تطور الحياة الأدبية بمغرب أواخر الثلاثين ، وتكشف عن نجاح الخصومات النقدية وتحريكها للعديد من الأقلام >> 11 ، فبيتان من الشعر أسالا كثيرا من الحبر ملأ صفحات طويلة من صحافة المغرب ، وملأ أربع عشرة ومائتي صفحة من كتاب ( الجيوش الجرارة .. ) .

أقول أخيرا إذا كان الشاعر عبد القادر حسن قد وفق في اختيار عتبات ( العنوان – الإهداء – والرسم ) فإنه لم يوفق – في نظري – في اختيار تصديره ، ولم يوفق – ليس في مقدم ديوانه – بل في اختيار ما ينبغي أن يكون عليه التقديم . ولم يوفق في اختيار خاتمته الاضطرارية لأنه زكى آراء مقدمه فجر عليه سوء اختياره العتبات ما وقفنا عنده . ولولا ابن المؤقت لكان الأمر مختلفا الآن ، وربما أحرقت المجموعة إن لم يحرق صاحبها .

الهوامش :

1 - هذان البيتان أثبتهما الشاعر على غلاف ديوانه ( أحلام الفجر ) الصادر سنة 1936 ، تحت صورته ، وقد كان يومها حدثا لم يبلغ العشرين بعد .
2 – أنوال الثقافي – ع 163 – 19 يناير 1985 – ص 8 .
3 – نقد وتحليل لديوان أحلام الفجر – مجلة النبوغ – ج 2 – س1 – جمادى الثانية 1358 – غشت 1939 – ص 41 .
4- رأي حول أحلام الفجر – جريدة المغرب – ع 216 – 18 غشت 1939 .
5 - الجيوش الجرارة .. – ص : 3 .
6 - النقد المضاعف في كتاب الجيوش الجرارة – محمد زهير –- مجلة كلية اللغة العربية – مراكش- ع1- ص : 226.
7 - الجيوش الجرارة – المقدمة – ص : 4 – 61 .
8 - النقد المضاعف .. : محمد زهير – ص 229 .
9 - نفسه – ص : 232 .
10 - نفسه – ص : 236 .
11 - الخصومات النقدية بالمغرب في الثلاثين – رسالة مرقونة بالرباط – 1991 - ص : 273.