المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الشيعة بين الهوية السياسية وتاريخية الدين



د.أحمد لاشين عبد الحميد
17/05/2009, 01:03 AM
تُمثّل العلاقة الجدلية بين ثالوث (الأسطورة ـ الدين ـ التاريخ) أهم الجدليات التي ينتجها الوعي الإنساني لتحديد هويته الخاصة والمتباينة على مدار الوعي الإنساني بشكل عام،فكل ما تنتجه تلك العلاقة يُعد هو المحدد الرئيسي لكل محاور الوعي الإنساني خاصة على مستوى البنيات التأسيسية التي تكسبه ذاتيته،وهذا ينطبق على كل فكرة أو مذهب أو دين.
فالمذهبية في النهاية هي ذاتية خاصة ناتجة عن آلية فهم الدين بناءاً على البنية الأسطورية وتأويل التاريخ أو استبعاده لصالح تلك الآلية،لتتحول الفكرة بالتدريج إلى معتقد يترسخ في عمق الوعي الاجتماعي،ولدى تطبيق تلك الفكرة على تاريخ الدين الإسلامي،نجد أن كلا المذهبين السني والشيعي قد مارسا كل آليات التعسف لدى تناول الأحداث التاريخية أو النصوص الدينية.فبإنتهاء النبوة ونهاية المرجعية الدينية تحولت القضية للصراع على إمتلاك بديل النبوة فيكون الخليفة لدى المذهب السني والإمام في التشيع.
وكلاهما أنساق مغلقة على ذاتها تهدف في النهاية فرض الوصاية الدينية وما استتبعها من سطوة سياسية وتاريخية ما نزال نعاني منها للآن،وكفى بالدولة الدينية في إيران ،والجماعات الدينية السنية الحركية نموذجاً لكل أشكال التراكم التاريخي الفاسد الناتج عن ذهنية التأويل المتعسف للتاريخ والدين.
ولكن ما يجعل المذهب السني متباين عن التشيع على مدار التاريخ الإسلامي،هو أن المذهب السني قد اعتمد على مفهوم الانغلاق على ذاته والبعد عن كل اجتهاد ممكن إلا في حدود النص القرآني أو السنة النبوية،تحديدأ البعد عن كل اجتهاد بعيد عن آلية الفهم الذي تم توارثه بالتراكم.وظل التشيع يعلن أنه يفتح باب الاجتهاد على مصراعيه،وأنه متوائم من كل مقتضيات العصر على مدار التاريخ،وكأنه يُريد أن يُصدّر لنا أنه بعيد عن كل نشأة سياسية والتي هي بالبديهة ذات بنية منغلقة من الأساس،فبداية التشيع مرتبطة بأحداث الفتنة الكبرى ثم مقتل علي بن أبي طالب،وووصل لذروته مع مقتل الحسين بن علي،هنا بالذات تحول العلويون المناصرون لآل البيت النبوي وحقهم في الخلافة إلى جماعة دينية مذهبية تستخدم كل كيفيات التبرير التعسفي لتُجرد آل البيت من طابعهم التاريخي،إلى شخصيات لها طبيعة مقدسة،بحيث تبدلت السمات التاريخية والصراع السياسي على السلطة إلى أسطورة كاملة منغلقة على ذاتها،أسطورة لها إمتدادها ليس فقط على مستوى الأئمة وهم حفدة علي والحسين،بل ضد كل الأفكار الدينية الأخرى،وانقسم العالم لديهم إلى فريقين الحق والباطل،وصبغت كل الثورات بطابع مقدس أي صراع الإيمان ضد الكفر.ولست هنا محاولاً تسفيه هذا التراث الشيعي الضخم والمهم لفهم طبيعة تطور الوعي المذهبي الإسلامي،ولا أمارس فهم تعسفي ضده ولكنها مجرد محاولة للفهم.فالنشأة السياسية للتشيع تفرض نفسها طوال الوقت على الساحة،حتى مفهوم الاجتهاد الديني ليس على إطلاقه في المذهب الشيعي،فهو طوال الوقت مبني على الفهم المحدود للنص والتاريخ وجدليته.فالسؤال الذي يطرح نفسه هل المذهب الشيعي قد مارس دوراً في الحفاظ على كل السمات الأسطورية المتأصلة في مجتمعاتنا الشرقية،بل هل أسس لكل بنيات العقل الخرافي الذي ساهم بشكل أو بأخر في تمجيد تاريخاً خاصاً هو منتجه؟؟،هذا ما سنحاول طرحه في هذه المقالة.
هناك ثلاث سمات رئيسية تصلح كمدخل لفهم هذا التساؤل في التشيع:
ـ (الإمام بين التاريخي والأسطوري):
الإمام هو التجلي الواضح للدمج بين الهوية الاجتماعية المتمثلة في الزعامة السياسية،والهوية الدينية وفكرة امتداد النبوة أي السلطة الدينية،أي أن الزعيم السياسي مكون في الفكر الشيعي من تقديس للشخصيات التاريخية،بشكل يصعب بل يستحيل معه الفصل بين التاريخ والأسطورة،بل أن التاريخ ذاته يستمد حيويته من الجانب الأسطوري لشخص الإمام،ويظل هذا التقديس مستمراً حتى بعد موت الإمام،فتظهر فكرة زيارة الأضرحة،كطقس ديني مذهبي يؤكد على التبعية الذاتية لشخص الإمام.
ومن النماذج المساقة على تقديس شخص الإمام،ما ورد أنه روي عن علي بن أبي طالب،الخليفة الرابع لدى السنة،والإمام الأول لدى الشيعة،فيروى أنه لحظة ميلاده مرت أمه بعثرات الوضع فذهبت للكعبة وهناك رأت أربعة نساء ساعدوها في ميلاده وهن (مريم،وحواء ،وإمرأة فرعون وأم موسى)،وعندما ولد علي سجد على أرض الكعبة وشهد الشهادتين،وشهد أنه خاتم الأوصياء،وأقام في الكعبة ثلاثة أيام ثم خرج.
وروي كذلك أن النبي (صلى الله عليه وسلم)،كان يتحدث بحديث علي في المعراج وأن الله سبحانه قد اختاره لخلافة النبي في نفس الرحلة التي فرض الله فيها الصلاة على المسلمين.ويُروى أنه في معركة النهروان فاتت علي صلاة المغرب،فدعى الله فعادت له الشمس مرة أخرى ليتم صلاته،وكذلك روي أن النبي قد جاءته هدية عبارة عن بساط من أحد بلدان المشرق،فركب علي بن أبي طالب البساط وطار به وذهب إلى بلاد قابل فيها أهل الكهف وتحدث معهم ثم عاد ،أي تجاوز الزمان والمكان.نلاحظ أن ما حكم تلك الروايات وغيرها والتي تعتبر من عناصر تأسيس المذهب سياق أسطوري وتحويل علي من مجرد تاريخ عادي أو حتى إمام ديني إلى بطل أسطوري تتكون فيه كل عناصر الملحمة الشعبية.
تلك الرؤية معادة في كل شخصيات الأئمة،فالحسين بن علي في كربلاء نجد أن الجن والملائكة وكل أهل السماء والأرض قد جاؤوا لنجدته من الموت المحقق لكنه رفض وأبى إلا الشهادة في سبيل إنقاذ شيعته من العذاب وأنه سيتحمل كل ذنوبهم للنهاية.وأنه بعد موت الحسين انكسفت السماء وأمطرت السماء دماً وتحول الشفق إلى حمرة،وأن دماءه قد صعدت إلى السماء على شكل نور،وهذا له ما يبرره في سياق التشيع،وهو أن الأئمة مخلوقين من نور الله سبحانة وبالتالي لابد من العودة إلى المصدر الإلهي ثانية.
ولكن يمر المذهب بإشكالية غاية في المفصلية وهي موت الحسن العسكري الإمام الحادي عشر لدى الشيعة على يد الحكومة العباسية،نتيجة للخلاف السياسي الذي وقع بينه وبين الخليفة العباسي أنذاك،فهل إنقطع سلسال الأئمة بعد هذه المرحلة! الإجابة بالطبع لا فكانت شخصية محمد بن الحسن العسكري،أو محمد المهدي،وهو الثاني عشر،وهو المهدي المنتظر،والذي تجسددت فيه كل الأشكال الأسطورية والتقديسيه بعد ذلك،فقد غاب الإمام ومازال لحين عودته المنتظرة ليملأ الأرض عدلاً،فروي أنه ولد في النصف من شعبان وسوف يظهر في نفس اليوم،وأول من غسله كان رضوان خازن الجنة،وأنه كجده علي سجد حين ولد وشهد الشهادتين وعدّ كل الأئمة وصولاً إليه.ثم غاب غيبته الصغرى خوفاً من الإضطهاد السياسي العباسي، ثم غيبته الكبرى إلى اللآن،وأنه لدى عودته سوف تنكسف الشمس،(ولنا أن نتخيل ماذا حدث لدى إنكساف الشمس الذي حدث كظاهرة كونية في كل البلاد الشيعية،وهذه فكرة أخرى وهي العلاقة بين الكوني والتاريخي والديني في المذهب الشيعي) وكذلك سوف تظهر ناراً من السماء،وهناك بعض الروايات التي تشير إلى ظهور المهدي مع الحسين بن علي.
كل تلك الحكايات وأكثر تؤكد على أن التشيع قد ساعد في جانب منه على إعادة صياغة للعقل الأسطوري التي يسكن بنية مجتماعتنا بشكل عام،فسمات الأئمة الخارقة،لا تختلف من حيث البناء مع غيرها من سمات الأبطال الملحمين،أو حتى الآلهة في الأساطير.أي أن العقل الأسطوري وتأويلاته وتغييب الجانب التاريخي هو المنطلق الأصيل في تعامل المذهب مع ذاته ومع التاريخ.
ـ (تأويل النص القرآني):
رغم إنقطاع الوحي بعد موت النبي واكتمال القرآن ،ثم تحويله بعد ذلك من الشفاهية إلى الكتابية على شكل نص مدون مكتفي بذاته،إلا أن آليات تفسيره وتأويله ظلت مفتتح للعديد من الأزمات المنهجية والتاريخية وكيفية فهم القرآن بما يتناسب مع أفكار كل مذهب أو فرقة،وبالطبع قد مارس المذهب الشيعي آلياته الخاصة في التعامل مع هذا الموضوع بما يتسق والطبيعة الإعلائية التي يمنحها للأئمة.فطبيعة بين الجماعة أي جماعة دينية وكتابها المقدس الذي يمثل الواسطة بين السماء والأرض هو الذي يُنتج النظرة الكلية لكل تفاصيل تلك الجماعات بل ويُعطيها هويتها التاريخية الخاصة.
وبما أن التعامل مع القرآن سواء تفسيراً أو تأويلاً،يعتمد في النهاية على الطابع اللغوي الذي تمت في الصياغة القرآنية،فلابد أن يُفضي هذا التعامل إلى ما يخدم الوجود التاريخي لمن يقوم بعملية الفهم تلك،وذلك يعتمد على العلاقة التي تتم بين (اللغة ـ التاريخ ـ الوعي)،فمثلاً لدى التعامل الشيعي مع الآية (وفديناه بذبح عظيم) (سورة الصافات آية:107)،يرد عن الإمام علي الرضا ،أن المقصود بالذبح العظيم هو الحسين بن علي ومقتله،وأن الله قد فدى شيعة آل البيت بالحسين،أي أن الشكل اللغوي للآية قد تم ربطه بتاريخية موت الحسين،ثم تكتمل الفكرة بالوعي أو الفكر المذهبي الخاص بالتشيع،فتتحول دلالة الآية من الذبيح لدى السنة (أي كان الخلاف عليه إسماعيل أو اسحاق)،إلى شخصية الأئمة،وكأن القرآن كان يخاطب الشيعة فقط لا غير.
وكذلك نلاحظ أن المذهب لا يتعامل مع تأويل القرآن الكريم لصالح الأئمة فقط،بل يتعدى هذا إلى تحويل القرآن إلى ذات الأئمة،أي أن كل تأويل أو تفسير للقرآن لابد وأن يُفضي إلى الأئمة بشكل بديهي تبعاً للمذهب.وفي أحد الروايات التي تؤسس لهذه الفكرة،أن علي بن أبي طالب قد مر ذات يوم على رجل أعمى يبكي،فسأله غن سبب بكاءه فأجابه أنه لا يتمكن من قراءة القرآن وحفظه،فمسح علي بريقه على لسان الرجل فتمكن من حفظ القرآن وترتيله كاملة.
وفي تأويل لآية أخرى وهي :( ثم لتسألن يومئذ عن النعيم) (سورة التكاثر آية 8)،ورد عن الإمام جعفر الصادق،أن المقصود من النعيم هو آل البيت وأن الله قد أنعم على العباد بهم وسوف يسألهم يوم القيامة عن مدى نصرتهم لهم.وكذلك آية (يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي أستكبرت أم كنت من العالين) (سورة ص آية 75)،ورد تأويل الآية حينما سُئل الرسول عن من هم العالين فأجاب (أنا وعلي وفاطمة والحسن والحسين كنا في سرادق نسبح لله،فسبحت الملائكة بتسيحنا فبل أن يخلق الله آدم بألفي عام).
أي أن العلاقة التي ينتجها المذهب بين القرآن كنص مقدس والأئمة علاقة صميمية لا تنفصل،فعمق القرآن هو الإمام ذاته،وبالتالي نلاحظ أن آلية التأويل التعسفي التي أستخدمها التشيع،ترتبط بشكل أساسي منذ البداية بالتلقي التاريخي لشخصيات الأئمة،واستخدام النص القرآني لصالح الرؤية الأسطورية للتاريخ،والناتجة عن المشكلات السياسية التي أسست التاريخ الديني للمذهب.
ـ الشيعة ورؤية الذات والآخر:
إن الذات تتجسد في (الأنا والنحن) مندمجين،فكل آلام النحن برثها الأنا،فالمجموع يخاطب دينياً بنفس آليات التخاطب الفردي،والشيعة فيما يخص رؤيتهم للذات مبنية على رغبتهم الأكيدة في التحقق والوجود ووضع جذور ثقافية ورؤى دينية تميزهم وتمنحهم الاستقلال عن الأشكال الثقافية المتباينة الموجودة في المجتمعات التي يعيشون فيها.
فكل مآسي الأئمة تحولت إلى طقوس متكررة تتم في كل مناسبة مؤسَس لها تاريخياً في الوجدان الشيعي،كزيارة قبور الأئمة،وطقوس عاشوراء الحسين وتحويل مجرد حادثة تاريخية إلى طقس ديني،كل هذا يؤكد على المحاولات الدائمة للشيعة لترسيخ الذات الجمعية بشكل عام،والتأكيد على الهوية المختلفة لتلك الجماعة التي توحدت رغم اختلاف الدول،إلى جماعة ذات هوية جمعية موحدة.فلا تثير دهشتنا العلاقات الضمنية التي تربط الشيعة في مصر وغيرها من دول العالم بإيران مثلاً.
إيران ذاتها التي أكددت على هويتها الخاصة وأقصد الهوية السياسية بكل نهمها التوسعي،بواسطة إنتماءها للتشيع،أي أن إيران قد استغلت البعد المذهبي وما حققه من تأكيد على الهوية الدينية الجمعية لنشر أفكارها وتوجهاتها الخاصة في الخارج والداخل. وهنا يتجلى الموقف من الأخر،فالذات الجمعية لا تكتمل إلا من خلال هذا الأخر الذي نحمله كل عذابات العالم،ومع كل المحاولات لنفيه إلا أننا نؤسس لوجوده بشكل دائم،وهذا يتضح في المواقف الدينية بين الشيعة والسنة،وكذلك المواقف السياسية بين الشيعة داخل أي بلد بنفس ذات البلد،فأزمة التشيع تكمن في النهاية أن الإنتماء الحقيقي يكون للمذهب لا لشعب أو حكومة أو حتى حزب،ولا يمكن تفسير ذلك بوصفه إتهاماً للشيعة في أي مكان،ولكن هذا من طبيعة الفكر المذهبي ذاته ،فمن الممكن أن يكون مرجع التقليد وهو المنوط بجماعة من الشيعة ملتزمون به وبفتواه،من الممكن أن يكون في إيران في لبنان أو العراق أو غيرهم،ومرتبط به شيعة في مصر أو الشام أو أوروبا مثلاً،أي أن الهوية المذهبية هي التي توحد الشيعة وتحدد موقفهم من الأخر.
أعتقد أن بهذه النقطة يتضح أن المذهب الشيعي قد ساعد بشكل كبير على إرساء الطبيعة اللاعقلانية للفكر المجتمعي،فتحول الإيمان بالله ورسوله إلى الإيمان بعوالم أسطورية موازية أنتجها الوعي الشيعي لصالح الأئمة،بحيث أصبح من المستحيل نزع أي من أقنعة التقديس التي منحوها لهم،فالعقلية الشيعية قد أثارت العديد من التساؤلات التي ما زلنا نحاول الإجابة عليها في محاولة للتوصل إلى بنية العقل الإسلامي بشتى توجهاته المذهبية والاجتماعية،مع القبول بكل أشكال الإيمان الدينية أو غيرها،فكلها محاولات للفهم تقبل النقاش والاختلاف،مع شرط قبول الأخر أي أخر أياً كان.
المقال منشور في جريدة القاهرة بتاريخ 12/5/2009