المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : السنجاب/رواية قصيرة/مختار عبد العليم. الفصل الأول.



مختار عبد العليم
26/06/2009, 08:18 PM
السنجاب...
بقلم: مختار عبد العليم...
مفتتح...
تاريخ المحبة كنز يستبيحه سكان الشقوق التي تملأ حوائط الزمن, باذلة أقصى جهدها لشل مقدرة سطوره على الامتداد, نافثة ريقها لتصنع منه سماءاً تحجب أشعة الشمس وضوء القمر عن غصون الأشجار التي يبني السنجاب فوقها أعشاشه؛ لكن إيمان السنجاب بالغناؤ ومراقصة النجوم يجعل حلمه بكسر الطوق أبداً لن يموت...
[1]
رحلة...
في أوائل أحد الشهور الهجرية خرج العاشقان وحمامة الشوق ترفرف في جنبيهما, وتغني مستعيدة حلاوة لحظات زفافهما, والتي كانت في مثل هذا الوقت منذ ثلاثة أعوام تقريباً, وهما يبادلانها التغريد, ويحلمان برسم لوحة السعادة على جبين النيل الذي وصلا إليه ليستمتعا بتلك المسائية الصيفية. والتي أرسلت فيها الهلالة –أنثى القمر—جنينها ضوءاً في نزهة نيلية, بعد أن استأذنت والده –البدر—قبل أن يرحل عنهما كعادته مسافراً في الأيام. ثم يعاودهما وقد ظفر بالكمال..
فاستقبله النهر مقهقهاً متقافزاً شاكراً أمه باسطاً صفحته مفرشاً يطوي الجنين ويدحرجه بين الضفتين, وينبسط ليفككه النيل إلى هالات صغيرة تزين صدره, وكأنها أوسمة مجد منحتها السماء له. صورة يتعاجب بها على [السين]و[الفرات]و[الراي]و[الأمازون]و[دجلة]و[الدانوب]و[الليطاني]و[الفلجا], في رسائله المعتادة إليهم. ثم يعيد تركيبه عريساً تنتفخ وجنتاه بالنشوة, وأهازيج ضحكاته تشق الفضاء لتطقطق عظام الهلالة, وتقبل شفتيها. ثم تعود لتغوص في الماء؛ فيغوص وراءها, ثم يطفو ليلعب مع صفحة النهر لعبة العروس بالقرب من حصالة العشاق, ومرسم المشاركين في المسابقة القطرية لرسم أقيم الأرداف علواً وهبوطاً, بروزاً وضموراً, تدويراً وتربيعاً واستطالة, امتلاءاً وصفوداً. ومرشق العيون الراصدة لتغلغل الأصابع بالأكف البضة والمعروقة, والخصور اللفافة, على صواميل الأذرع المتمركزة تحت مطاط [الجيب], وأحزمة الفساتين, وشخير العيون على الأكتاف المرتصة بطول السور, وصندل المتشردين باعة الغلب في خيوط المسكنة, وقلل المذلة على نوافذ المتسكعين على نواصي الراقصات الهاربات من الملاهي الليلية, الذين يشترون رنين ابتسامات الكعوب على البلاط, بدس أصابعهم في جيوبهم ليخرجوا نظرات التعالي والاحتقار للملابس الممزقة والوجوه المبقعة؛ فتؤمن الراقصة منهن بصدق كلام نديمها الذي يغرسه في حجرها الضيق كل مساء, وهو يتمنى لو كان في قاع النيل؛ لأخذ شهيق طويلاً يكفيه ليقفز أمامها فوراً, فيغطس ويقب ويأتيها به على طبق من الصدف النيلي قبل أن تطرف عينها, راكعاً متذللاً حتى تقبل؛ فتكافؤه على صدقه بالتقاط ذراعه تلفها حول رقبتها وتدلكها بأناملها ضاغطة إياها في نحرها ولوزتيها, ماضغة إصبعه بشفتيها حتى يتشبع بريقها؛ فترده إلى فمه يستحلبه في غفلة من المارة والجلوس, بعدها يستجيب منهم الكثير لثرثرات الناضرجية مؤجري المراكب والقوارب لمدد تتراوح ما بين الربع والنصف وإلا الربع والساعة, وربما أكثر, كلٌ حسب مروته وحافظته, وحجم ما تمنحه عشيقته من رحمتها ورضاها وسخونة أنفاسها..
وفي لمح البصر تتحول صفحة النهر إلى سرير كبير تتناثر قوائمه وعوارضه, فتقطع حبل الخلاص, وتلقي به نفايات تعافها الكلاب, وتسحق الجنين تحتها؛ فتسقط على الأرض فتاتاً يتعثر فيها الأعمى والبصير, وتخمد قهقهة النيل, وينكسر قلمه, فيزحف على أربع, حتى يصل إلى ضفته, ليستند إليها شيخاً تآكلت عصاه وسقط شعر ذقنه الأبيض, ونُكِّسَت رأسه لفقده المقدرة على التبول..
اسودت الصفحة في عيون الأنبياء والرسل والقديسين, واهترأ ثوب التمتع؛ لذا كانت الهجرة من المكان فرضاً يحث عليه العقل, ويأمر به القلب, فهناك عشرات الأماكن التي نقبلها وتقبلنا لتغير طعم القيء في حلوقنا, وتكسر إحساس الغثيان في أمعائنا. هكذا قالت كرمة لمشاركها عمرها وهي تُلَفِّعه قلبها, وتخرج لسانها لكبري قصر النيل...