المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الصراع الروسي ـ اليهودي (الصهيوني) حتى عشية الثورة الاشتراكية



جورج حداد
14/07/2009, 09:12 AM
جورج حداد*
منذ ظهورها على المسرح التاريخي في النصف الثاني من القرن العاشر، نشأت روسيا (كأمة ـ دولة موحدة، في اطار المسيحية الشرقية)، في ظروف الصراع الوجودي لروسيا ضد "المملكة اليهودية الخزرية". وكانت معادلة الصراع حينذاك "بسيطة" للغاية: اما ان تستمر وتتوسع "الامة ـ الدولة اليهودية" على حساب وجود "الامة الروسية"؛ واما ان توجد "الامة ـ الدولة الروسية" على انقاض "الامة ـ الدولة اليهودية" الخزرية.
من الجانب "اليهودي" كانت فحوى او "قيمة" هذا الصراع لا تتعدى "قيمة" صفقة تجارية كبرى، بما تحتمله من ربح وخسارة. اما من الجانب الروسي فكانت القضية قضية حياة او ـ في حال الهزيمة ـ موت، او حياة اسوأ من الموت، اي التحول الى "شعب" من قطعان العبيد مستباحي الكرامة خاصة ومهدوري الانسانية عامة.
في القرن العشرين انقذ الشعب الروسي شعوب اوروبا، بمن في ذلك اليهود، من براثن "الوحش النازي". اما في تلك الازمنة المبكرة فقد كانت شعوب شرق وشمال ووسط اوروبا لا تزال في حالة من الضعف والتخلف والتفكك. ولو قدر للشعب الروسي ان يسقط تحت اقدام "مملكة اليهود الخزر" لجاء الدور لبقية شعوب اوروبا، ولتحولت تلك الشعوب، قبل هتلر بألف سنة، الى قطعان عبيد مستباحة لـ"الوحش اليهودي"، الذي هو اكثر انحطاطا وحيوانية بما لا يقاس من "الوحش النازي" ذاته، ذلك ان "النازي" كان يعتبر "العرق الآري او الجرماني" عرقا "متفوقا" بين غيره من "الاعراق الانسانية"؛ اما "الوحش اليهودي" فيعتبر انه هو "العرق الانساني" الاوحد الذي خلقه "اليهوه"، اي انه لم يكن يعترف بإنسانية اي شعب او عرق او جنس آخر غير "اليهود".
وبانتصار الروس على الخزر، قضت "الامة ـ الدولة الروسية" على "الدولة اليهودية"، ولكنها لم تقض على "الامة اليهودية"، لا بصفتها الدينية التي هي لا اكثر من جرب فكروي وهلوسة غيبية لا غير، بل بوصفها فعالية منظمة، مالية ـ اجتماعية ـ اخلاقية ـ ايديولوجية ـ سياسية. وهذه "الفعالية المنظمة"، ذات الطابع "الديني ـ القومي ـ السياسي" الملتبس، والارضية "المالية ـ المافياوية" الواضحة، لا تزال مستمرة بالوجود الى الان.
وبعد هذا الانتصار، اخذ "الروس" مكان "الكنعانيين" في الذهن اليهودي المريض والحاقد، واصبح كل مبرر ـ وامكانية استمرار ـ وجود "الامة" او "الفعالية المنظمة" اليهودية العالمية يتمحور حول امكانية القضاء على "الامة ـ الدولة الروسية"، كشرط الزامي لامكانية تحقيق الهدف النهائي لهذه "الامة!!!" في الهيمنة على شعوب العالم واستعبادها.
وفي جميع الحقبات التاريخية المتتالية كانت هذه المعادلة "البسيطة" تكمن في اساس وجود "الامة ـ الدولة الروسية"، وفي اساس وجود الفعالية اليهودية (فالصهيونية) المنظمة على المدى العالمي برمته. فالحركة المنظمة اليهودية ـ الصهيونية العالمية تدرك تماما، انه طالما ان الدولة الروسية موجودة كدولة، والشعب الروسي موجود كشعب، فإنها، اي الحركة المنظمة اليهودية ـ الصهيونية، تبقى مهددة في صميم وجودها. وجميع القوى الحية للشعب الروسي، ايا كانت انتماءاتها وعقائدها، تدرك ايضا ان الهدف الاساسي والمفصلي للحركة المنظمة اليهودية ـ الصهيونية هو الانتقام من روسيا، والقضاء على الدولة الروسية والشعب الروسي.
وخلال حقبات الحكم القيصري في روسيا، والنضال الشعبي والدمقراطي القاسي ضد القنانة والاقطاعية والرأسمالية واستبداد الحكم الفردي (الاوتوقراطي)، فإن قطاعات واسعة من الجماهير الشعبية اليهودية العادية في روسيا، التي كانت تعاني نتائج الانعكاسات السلبية لممارسات الطغمة المالية اليهودية وسفالاتها ونذالاتها، أدركت ـ اي تلك القطاعات الجماهيرية اليهودية العادية ـ ان حل "المسألة اليهودية"، و"تحرير اليهود"، وتوفير المستقبل الانساني للجماهير الشعبية اليهودية، لا ينفصل عن تحرير المجتمع الروسي وتوفير المستقبل الانساني للجماهير الشعبية الروسية الاخرى، وان هذا المستقبل يقتضي التخلي عن التقوقع "النخبوي" اليهودي والاعتراف بانسانية غير اليهود، ويرتبط بحركة النضال الشعبي لاجل التحرر الانساني والاجتماعي الشامل للشعب الروسي.
وادى هذا الوعي الى انجذاب قطاعات شعبية يهودية متزايدة، ولا سيما في صفوف المثقفين والعمال والحرفيين الواعين، نحو الحركة النضالية والدمقراطية واخيرا الاشتراكية الروسية. وهذا ما كان يصيب بسعار حقيقي الطغمة الدينية ـ المالية اليهودية، التي كانت تتميز حقدا على التقدميين ـ الاندماجيين اليهود، الا انها في الوقت نفسه كانت تحاول ان تستغل الاندماج الشعبي اليهودي في الحركة النضالية الشعبية والدمقراطية والاشتراكية الروسية، لاجل دس العناصر الصهيونية في صفوفها، لتخريبها من الداخل، ولحرفها عن الاتجاهات الصحيحة، ولاستغلالها لاجل زرع الفوضى في روسيا وتخريبها بطريقة غير مباشرة، تمهيدا لتوجيه الضربات القاضية اليها، من قبل "الامة" (="الفعالية المنظمة") اليهودية والصهيونية وحلفائها بالذات.
وبعد انتصار ثورة شباط 1917 الدمقراطية البرجوازية في روسيا، وسقوط النظام القيصري، قفز اليهود الصهاينة الروس الى السلطة، معتبرين ان فرصتهم التاريخية الذهبية لمسح روسيا من الخريطة العالمية قد حلت. وبالرغم من الرغبة الجماهيرية الواسعة بالسلام، وبالرغم من الشعار الذي كان الشيوعيون (البلشفيك) قد رفعوه وهو "الحرب على الحرب"، فإن الحكومة البرجوازية المؤقتة برئاسة الصهيوني كيرنسكي تابعت المشاركة في الحرب، للتوصل الى القضاء على آخر مقومات الحياة في روسيا، ولفتح الطريق امام تمزيق روسيا اربا اربا وتقديمها هدية لمنظومة الاستعمار العالمي ووضعها تحت جزمة الاحتلال المتعدد والمباشر لجميع الدول الاستعمارية الاوروبية واميركا واليابان.
وكانت قيادة الداخل للحزب الاشتراكي ـ الدمقراطي "الشيوعي" (البلشفي) الروسي ذاته مؤيدة للثورة الدمقراطية البرجوازية؛ اي انها لم تكن مدركة تماما لمخاطر المؤامرة الامبريالية ـ الرأسمالية ـ الصهيونية العالمية على روسيا.
وفي مطلع نيسان 1917 عاد لينين الى روسيا. وبالرغم من كل الظروف المأساوية لروسيا، رفع لينين شعار "الثورة الاشتراكية". وكان العامل "القومي"، اكثر بكثير من العامل "الطبقي"، يكمن في صلب التوجه اللينيني نحو الثورة الاشتراكية، وازاحة الرأسمالية عن السلطة. ذلك ان لينين ادرك ان روسيا معرضة للضياع تماما اذا استمرت البرجوازية الروسية في السلطة، وان "دكتاتورية البروليتاريا" الثورية الاشتراكية هي خشبة الخلاص الوحيدة لانقاذ روسيا من الزوال كدولة وكأمة، من جهة، ولاطلاق لهيب الثورة الاشتراكية في اوروبا والعالم، من جهة ثانية.
وطرح لينين ما يسمى "موضوعات نيسان" التي يدافع فيها عن اطروحة الثورة الاشتراكية في روسيا المتخلفة. وكانت "موضوعات نيسان" وشعار "تحيا الثورة الاشتراكية" صفعة في وجه الماركسيين "الجامدين" والانتهازيين في الوقت ذاته، الذين كانوا يرون ان الاشتراكية ينبغي ان تأتي اولا في البلدان الرأسمالية الاكثر تقدما.
وقد دار نقاش عميق وواسع في صفوف الحزب الشيوعي (البلشفي) وغيره من الاطر البروليتارية حول اي طريق تسلك روسيا: طريق الدمقراطية البرجوازية، ام طريق الثورة الاشتراكية. وتغلب اخيرا الخيار اللينيني للسير في خط الثورة الاشتراكية. وخلال هذا النقاش كانت العناصر الصهيونية المكشوفة والمستورة، داخل وخارج الحزب الشيوعي (البلشفي) تدلي برأيها ضد خط الثورة الاشتراكية. ولكنه كان يوجد في قيادة الحزب عنصر ملتبس الموقف هو يوسف جوغاشفيلي (ستالين)، الذي كان قبل مجيء لينين مؤيدا لرأي الاكثرية في دعم الثورة الدمقراطية البرجوازية. ولكنه بعد احتدام النقاش داخل الحزب لم يعد يدلي برأي حازم، متحينا الفرص الى اين تميل الكفة كي يدلي برأيه. وكان هذا المسلك الانتهازي التربصي طبيعيا من قبل ستالين، الذي كان عميلا سريا للبوليس القيصري الروسي. اي انه كان قد "فقد عمله" الاصلي بعد ثورة شباط وسقوط القيصرية. الا ان موقفه الانتهازي الملتبس والمتربص كان موقفا نموذجيا من قبل "عميل سري" يبحث عن "سيد جديد". وقد وجد اخيرا هذا "السيد الجديد" بشخص المنظمة الصهيونية. بحيث تبادلت الستالينية والصهيونية الادوار: اصبح ستالين والستالينية هما "الوجه الاشتراكي" للصهيونية في عملية اخذ القلعة الاشتراكية وتدميرها "من الداخل"، في حين لعبت المنظمة اليهودية ـ الصهيونية دور الاداة السرية المنظمة بيد ستالين والستالينية واخيرا النيوستالينية للتنفيذ العملي لهذا التدمير الداخلي.
ان السير في خط الثورة الاشتراكية كان يعني ببساطة القضاء التام على الصهيونية، عن طريق القضاء على قاعدتها المادية وعلة وجودها وهو النظام الرأسمالي. فبدون المال والرأسمال والربا والعمليات البنكية والشركات الخاصة والاسواق التجارية والمافيات والعصابات والبورصات ماذا يتبقى من "اليهودية العملية"؟ ـ لا شيء. وماذا يتبقى من "الامة" (اي الطغمة "المنظمة" الدينية ـ المالية) اليهودية؟ ـ لا شيء سوى بضعة جرذان رأسماليين مختبئين في جحورهم الى ان يقضي الله امرا كان مفعولا، وبضعة حاخامات عجائز من مخلفات التاريخ، لا حول لهم ولا طول، ويستثيرون الشفقة لا غير، ويحتاجون بضعة ارغفة لسد جوعهم، وبضع قطع صابون لغسل اوساخهم وجربهم الجلدي والفكروي.
ومما اثار جنون الصهيونية العالمية اكثر ما يكون هو ان الاكثرية الساحقة من الجماهير الشعبية اليهودية ذاتها، التي كان يقع على كاهلها كل ثقل الممارسات المعادية للانسانية، من قبل الطغمة الدينية ـ المالية اليهودية، قد جنحت باتجاه خيار الحل "الاندماجي"، واكثر: الحل "الاشتراكي" الانساني، لـ"المسألة اليهودية".
ومع ان الدول الاستعمارية كانت لا تزال غارقة حتى الاذنين في اوحال الحرب العالمية الاولى، ومع ان بريطانيا وفرنسا الاستعماريتين (تحديدا) كانتا غارقتين في مباحثات ترتيب وراثة اراضي الامبراطورية العثمانية، فقد عجلت الصهيونية العالمية في استصدار "وعد بلفور" لانشاء "الوطن القومي اليهودي" في فلسطين.
وكان الهدف من ذلك "يهوديا" بامتياز، و"يهوديا ـ روسيا" بشكل اكثر تحديدا. اي ان الهدف كان بالتحديد هو صرف انظار الجماهير الشعبية اليهودية، في روسيا خاصة، عن الاشتراكية، ووضع "هدف آخر" لها، وهو هدف اقامة "وطن قومي يهودي"، بصرف النظر عن طبيعة النظام الاجتماعي. ولهذه الغاية تحديدا نشأت ما يسمى "الاشتراكية الصهيونية" القائمة على فكرة "الاشتراكية القومية". واذا اجرينا اي بحث تاريخي ملموس، فسنكتشف ان فكرة "الاشتراكية القومية" العنصرية، قد طرحتها الصهيونية العالمية قبل هتلر، وأن هتلر ذاته اخذها عن الصهيونية وطبقها في الاطار الالماني. وهذا "التنازل" الفكري للصهيونية (بادعاء "الاشتراكية!!!") امام الفكر الاشتراكي الحقيقي، كان بهدف وحيد هو اعادة استقطاب الجماهير اليهودية "المضللة" (حسب زعمهم) بالاشتراكية ودفعها للسير من جديد في ركاب الصهيونية.
ـــــــــــ
* كاتب لبناني مستقل