المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : قضية دييغو لوبيز رحمه الله...دروس و عبر.



هشام زليم
15/08/2009, 12:21 PM
قضية دييغو لوبيز رحمه الله...دروس و عبر.



بسم الله الرحمان الرحيم. و الصلاة و السلام على محمد و على آله و صحبه أجمعين.



تقع بلدة بيلاروبيا دي لوس أخوس Villarubia de los Ajos شمال إقليم سيوداد ريال Ciudad Real الواقع وسط إسبانيا و تحديدا شمال إقليم الأندلس و جنوب إقليم طليطلة. بعد سقوط هذه المنطقة بيد نصارى قشتالة حافظ المسلمون بها على دينهم تحت الحكم النصراني و عُرفوا بالمدجنين. و بعد سقوط كامل الدولة الإسلامية سنة 1492م و إصدار قرارات التنصير الإجباري بحق كل المسلمين ابتداءا من 1499م, اضطر سكان بلدة بيلاروبيا لإضمار الإسلام و إظهار النصرانية لعلّهم يفلتون من الجحيم الذي تتوعدهم به الكنيسة إذا لم يعتنقوا عقيدة التثليث. و استمروا على هذا الحال إلى سنة 1611م حيث صدر قرار طردهم من إسبانيا أسوة بباقي المسلمين, فقاوموا هذا القرار مقاومة نادرة– كما بين ذلك الباحث الانجليزي دادسون- حيث حُملوا بالقوة إلى فرنسا فعادوا إلى بيلاروبيا, فحملوا مرة أخرى إلى مرافئ قرطاجنة لترحيلهم إلى المغرب لكنهم فروا قبل أن يصلوا إلى السفن قاصدين بلدتهم , فحاولت السلطات طردهم للمرة الثالثة سنة 1614م لكنها فشلت, فتركتهم بعد أن أعياها إصرارهم.



http://www.wata.cc/forums/imgcache/10322.imgcache.jpg

من بين مسلمي بيلاروبيا, رجل يدعى دييغو لوبيزDiego Lopez كان من بين الآلاف الذين تشبثوا بالأرض الأندلسية رغم أنف قرارات الطرد التي اجتهدت السلطات الإسبانية المحتلة في إصدارها. سنة 1613م و بينما كان معتقلا في السجن الملكي, كشف دييغو أمام الجميع عن عقيدته الإسلامية فشكل هذا الإعلان صفعة قوية على خذ السلطات المدنية التي أحالت ملفه إلى محكمة التفتيش بطليطلة, فقد تحول من ''مجرم عادي'' إلى ''خطر على أمن الدولة و وحدة المجتمع الكاثوليكي''.


جانب من بيلاروبيا
http://www.wata.cc/forums/imgcache/10323.imgcache.jpg


خلال محضر التحقيق معه قدّم عشرة أشخاص شهادات تتهمه بأداء عبادات إسلامية.



قد تبدو للوهلة الأولى هذه الشهادات طبيعية و لا شيء يستدعي الوقوف عندها. لكن الأمر ليس كذلك, فمعلوم عند أهل القانون أن الاعتراف سيد الأدلة و غالبا ما يكون الاعتراف بعد أن تحاصر الشهادات المُدينة المتهم فلا يجد مناصا من الاعتراف بعد أن تغلق منافذ التملص أمامه, أو –و هذه طريقة غير نظيفة البتة- يُنتزع الاعتراف عبر التعذيب و الضغط النفسي و الجسدي. لكن في حالة دييغو نرى شيئا آخر له أبعاد اجتماعية خلّفتها محاكم التفتيش في الحياة اليومية الإسبانية إلى يومنا هذا.



فدييغو سُجن في البداية لدى محاكم مدنية تعالج القضايا الجنائية أي أن جرمه لا علاقة له بالعقيدة, فلم يكن هناك أدنى شك من قبل النصارى في عقيدته النصرانية و لم يكن هناك أي شيء يستدعي إشهار إسلامه, لكن فجأة أعلن أنه مسلم, و هذا اعتراف يكفي أن يجعله حطبا لنار ''مراسيم الإيمان'' أو الأتودافيAutodafe, لهذا قامت السلطات المدنية بتسليمه مباشرة للمحاكم المختصة ب''جرائم العقيدة'' ألا و هي محاكم التفتيش السيئة الذكر.



كان يكفي محكمة التفتيش بطليطلة أمام هذا الاعتراف ''الطوعي'' أن تقدمه مباشرة للموت حرقا و لم تكن في حاجة لاستدعاء الشهود خاصة و أنها أحرقت غيره بناءا على اعترافات انتزعت تحت التعذيب و بناءا على شهادات غير موثوقة, و هي أدلة لا يمكن القبول بها في أي حال من الأحوال, فكيف بمن جاء بقدميه يعترف أنه مسلم, لقد وفّر عليهم جهدا كبيرا كانوا سيبذلونه في التحقيق و التعذيب و استدعاء الشهود.



في حالة دييغو عززت محاكم التفتيش ''الاعتراف'' بعشرة شهادات –أو كما سنرى بعد قليل ''وشايات''- !!! فهل كان هذا الاعتراف في حاجة لشهادات حتى يدينوا دييغو بتهمة الردة؟ و هل كانوا سيطلقون سراحه لو جاءت الشهادات عكس ما اعترف به؟ أم أنها مجرد إجراءات شكلية لا تأثر في مجرى الحكم؟ ثم, هل هؤلاء الشهود تمّ استدعاءهم و أرغموا على الشهادة ضده أم أنهم جاءوا بمحض إرادتهم ليدينوا شخصا رأوه يتعبد بالطريقة الإسلامية؟

لا ندعي حيازة الإجابة على هذه الأسئلة, لكن قد نحوز بعض عناصر الإجابة.



في مقاله القيم حول محكمة التفتيش الإسبانية أبرز عالم الاجتماع و المؤرخ الإسباني خوليو كارو بارخا Julio Caro Baroja أن محاكم التفتيش رسّخت في أوربا –و خاصة إسبانيا- تصرفات و عقليات سيئة استمرّت إلى اليوم:"لو عشت زمن محاكم التفتيش, لكنت ربما عدوا لها بشكل أو بآخر. أما الآن و قد ولّى العصر الذي اشتغلت فيه, عليّ أن أكون عدوا للعادات التي بقيت في دماء العديد من الأسبان حتى اليوم منتقلة من الميدان الديني إلى المجال السياسي و البيروقراطي. عادات كالوشاية, الإبلاغ السري, الانتهازية الرسمية و عيوب أخرى نعرفها بحكم تجربة طويلة''



''إن العيش في السنوات التي عرفت استشراء طبقة الوشاة العامين ''los denunciantes públicos'' –أو الذين أطلق عليهم بالقشتالية القديمة ''النمامون''malsines و باليونانية Sicofantes- يسمح لنا بإعادة خلق أو العيش تاريخيا في فترات أخرى و أجواء أخرى. كما يسمح لنا بمعاينة الآثار الرهيبة للكراهية بين جماعات عرقية''(1)



لم يكن في الحقيقة باستطاعة المفتشين الإحاطة بجميع جوانب الحياة الشخصية للقاطنين بالأراضي الخاضعة لسلطتهم, فلجئوا لتشجيع الناس على الوشاية ببعضهم البعض, فانتشرت هذه الظاهرة في المجتمع انتشار النار في الهشيم فأصبح الابن يشي بوالده, و الأم بابنها و المرأة بزوجها...ناهيك عمن يشي بعدوه و غريمه, و بما أن الكنيسة كانت قد أعلنت الحرب على المورسكيين و اليهود و البروتستانت –و على معتقداتهم و طقوسهم- فقد شكل هؤلاء وجبة دسمة لهواة الوشاية و الإبلاغ عن الجرائم ''العقدية''. هؤلاء الهواة تمّت تسميتهم بالنمامين malsines, و عرّف Covarrubiasكوفاروبياث النمّام ب''من يُبلّغ العدالة سرّا عن بعض المخالفات بنية سيئة و لمصلحته الخاصة'' (2). باروخا بيّن أن أهل النميمة يلعبون دورا كبيرا في أوقات الفتن و المحن و الاستبداد حيث تختلط مفاهيم ''الجريمة'' و ''العدالة'' و تسير وفق إرادة الكنيسة, و تصير النميمة وسيلة للانتقام و القضاء على الخصوم (3), بل و تصير أيضا سلّما يرتقي عبره البعض للتقرب من السلطة سواء الكنسية أو المدنية.



فهؤلاء العشرة الذين شهدوا ضد دييغو لوبيز –على الأقل بعضهم- هم مثال حي للنميمة التي استشرت في المجتمع, هذا لو كانوا بالفعل رأوا دييغو يؤدي عبادات إسلامية. لكن ماذا لو لم يكونوا رأوا شيئا و استغلوا الوضع لتلميع صورتهم ''كنمامين'' أمام المفتشين و تحقيق مكاسب شخصية؟



ثم هناك نقطة أخرى مثيرة للاهتمام, لماذا لم يبلغ الشهود في الحين عن دييغو لمّا رأوه يتعبّد و انتظروا حتى اعترف؟ فإمّا استدعتهم الكنيسة (كأقاربه و أصدقائه و جيرانه) مثلا للتأكد من الماضي الإسلامي و كذلك لاختبارهم, و إما ذهبوا بمحض إرادتهم لإجلاء الشكوك عنهم.



هنا تظهر نظرية أخرى, لقد بيّن الباحث الانجليزي دادسون أن النصارى القدامى لبيلاروبيا كانت تربطهم علاقات طيبة بالمورسكيين (4), و من الممكن أنهم كانوا على علم بإسلام دييغو و أخفوا ذلك عن محاكم التفتيش, و لما انكشف الأمر لم يعد هناك فائدة من الإنكار فأخبروا المحكمة بما رأوا. لكن في هذه الحالة, هل اتخذت محكمة التفتيش إجراءات ضد هؤلاء الذين تستروا على جريمة ضد العقيدة الكاثوليكية ؟ على العموم, لم يذكر المحضر أي شيء عن ذلك.


وسط مدينة بيلاروبيا
http://www.wata.cc/forums/imgcache/10324.imgcache.jpg




و نعود لأخينا دييغو لوبيز رحمه الله الذي لم ينفي ما كيل له من اتهامات في تلك الشهادات العشر بل أقرّها و استمر على عقيدته الإسلامية لسنة و نصف أخرى. و حسب محضر الاتهام فقد كان دييغو ''دائم العناد, و استمرّ في أداء ما شهد به الشهود ضده'' و أكّد للمفتشين أنه ''مسلم, و يجب عليه أن يكون كذلك و أن يعيش و يموت على هذه الملّة''. (5)



هذا الاعتصام الرائع بحبل الله من قبل دييغو جرح كبرياء المفتشين الذين أبوا إلا يردوه عن الإسلام, فاستدعوا مطارنتهم و قساوستهم فزاروا زنزانته و ألقوا عليه الخطب و المواعظ , يرغبونه تارة و يرهبونه تارة أخرى, لكنهم أخفقوا و عادوا بخفي حنين. لم يفقد النصارى الأمل في ثني ابن الإسلام البار عن عقيدته الموحدة فجاء الكاردينال المفتش العام لمحاكم إسبانيا –بشحمه و لحمه- لزنزانة دييغو لعله يحقق ما عجز عنه الآخرون و يحوله إلى الكاثوليكية لكنه أخفق و انقلب خاسئا و هو حسير, فكرر الزيارة مرّة أخرى و تحدث إليه, ليعود الكاردينال هذه المرة بخفي حنين و متأبطا شر المهانة و الخذلان, فدييغو لم يبغ عن الإسلام حولا (6). أمام هذا الصمود العجيب تخلى المحامي الذي عينته المحكمة للدفاع عن دييغو عن موكله و تمّ تسليم ''المتهم'' لتنفيذ حكم الحرق فيه.(7)



و في يوم العاشر من ماي 1615م نظمت محكمة التفتيش بطليطلة ''مرسوم إيمان'' أوتودافي'' أحرقت خلاله الشهيد –بإذن الله- البطل دييغو لوبيز, فرحمه الله و أسكنه فسيح جنانه.(8)



أولئك أجدادي فجئني بمثلهم ---إذا جمعتنا يا ''فرنادنو'' المجامع.





الهوامش



(1)مقال لخوليو كارو باروخا Julio Caro Baroja بعنوان soliloquio sobre la inquisicióny los moriscos

(2)نفس المصدر.

(3)نقس المصدر.

(4)انظر موضوعي ''باحث انجليزي يؤكد بالوثائق أن طرد المورسكيين فشل جزئيا''

(5)من الأرشيف الوطني الإسباني AHN, Inq,, leg 2106/15



(6)ذكرني إصرار النصارى على رد دييغو عن الإسلام بقصة أنسيلم تررميدا Anselm Turmeda, الذي أسلم و أصبح اسمه عبد الله الترجمان. عاش عبد الله على صهوة فرسه (لكثرة ترحاله) حيث ولد سنة 1355 م بميورقة, و درس بليردة Lérida و بولنيا Bolonia , و عيّن سنة 1379م قسيسا,و في الربع الأخير من القرن 14م اعتنق الإسلام بتونس. نبذٌ عبد الله للنصرانية شكل ضربة قاصمة للنصارى, فقد حاولت السلطات بميورقة , و رجال الكنيسة بصقلية و سادة أراغون, بل وحتى البابا بشحمه و لحمه ثنيه عن الإسلام و رده إلى النصرانية, و هو الشيء الذي لم يقر عبد الله أعينهم به. و توفي رحمه الله سنة 1424م.





(7)نفس المصدر

(8)قضية دييغو لوبيز ذكرتها الباحثة الفرنسية جان فيدال Jeanne Vidal في بحثها ''’’Quand on brulait les morisques. الصفحة 86-87.




كتبه هشام بن محمد زليم المغربي.