المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : رواية سبع الليالى الجزء الاول بقلم ناجى السنباطى



ناجى السنباطى
07/09/2009, 02:30 AM
" مقدمة لابد منها : لكي يقرأها النقاد "

إذا إتبع الكاتب خطى السابقين في إبداعاته المختلفة فهو لم يأت بجديد صحيح وأنه يستفيد منهم الكثير ولكنها استفادة المتعلم كما فعلوا هم وما زالوا يفعلون ولكنه عندما يكتب فهو يكتب ما خرج به نفسه وبطريقة عرضه هو نفسه وإذا كان أولو الأوائل وقد وضعوا قواعد وموازين في الكتابة كأحد فروع الإبداع في الحياة فهم من قبل ومن بعد بشر فكروا وحذروا ووضعوا ونفذوا ونحن أيضاً بشر نفعل مثلما يفعلون ونملك عقلاً ونملك قلباً ونملك في زعمنا قدرة على الخلق الفكري وعلى كل حال نحن نكتب عن الواقع وأيضاً عن الخيال وما الأدب إلا واقع مخلوط بالخيال وقد يكون الخيال واقعاً لبيئة ما أو مكان ما أو زمان ما ولكنه في ذهن الكاتب وفي بيئته وفي مكانه وفي زمانه شكلا آخر محض خيال نسجه فأحسن نسجه وأخرجه أثواباً مختلفة جميلة أو قبيحة وقد يكون أيضاً واقعاً مستقبلياً أو قد يكون ماضياً تليداً أي أن الفرق أن هناك تحركاً في الزمان وفي المكان أو في كلاهما معاً وما الحياة إلا حركة متصلة ومستمرة ولكنها في نظرتها الجزئية مجموعة من الحركات البسيطة والتي تبدو كل منها في حالة سكون ولكنها في إتصالها وفي إستقرارها حركة دائبة ومتوثبة .
وعلى هذا فالرواية في منهجي هي إنعكاس لهذه الحياة ومن ثم فهي تركب من الاف ( المنمنمات الصغيرة ) التي تدور حول الفكرة الرئيسية وهذه المنمنمات الصغيرة صلب الرواية ولكن كل منها يمثل قصة قصيرة تعشق بجانب أخرى وثالثة فهي إذن تمثل الحياة كما هي . وحياتنا ما هي إلا مجموعة من القصص والحكايات القصيرة اللحظة أي كما قلنا الحركة البسيطة ولكن كل هذا في عمر الزمن الممتد تشكل لحمية واحدة هو ما يترجم فيما يسمى بالرواية ومن ثم فإن الرواية هذه بل وخطنا أيضاً هو تأصيل الشخصية الرئيسية ومتابعة الفروع المحيطة بها كما يدور الالكترون حول نواة الذرة .وعلى هذا فالشخصيات تدور حول الشخصية الرئيسية فى حالة تفاعل فيما بينهما على ارض الواقع وعلى ارض الخيال والصراع إذن في بناء الرواية ليس صراعاً تقليدياً بين شخصيتين بقدر ما هو صراع البطل مع الطبقة أو البيئة أو الموقف أو مع نفسه أيضاً او مع الاخرين وأيضاً مع موقفه في سلم الحياة ما بين إرتفاع وإنخفاض . هو صراع له داخلي أو صراع خارجي طول الحياة وهذا هو الفهم الحقيقي في نظرنا لحياة الشخصية التي تدور حولها الأحداث .
ومن البديهي أن إنتاجنا الإبداعي في مجالات الأدب أو غيره لا يعكس بالضرورة إتجاه الكاتب أو إنتماءه وبالتالي فلا يكون رد الفعل لدى النقاد من هذا المنظور ولكي نرتاح جميعاً فإتجاهي وإنتمائي هو الاستقال عن كل التقسيمات المعروفة ولكنه إستقلالاً فعالاً وليس سلبياً وهو ليس تعادلياً بقدر ما هو تكاملي فالحياة تتسع للجميع وكل وشأنه في إتجاهه وإنتمائه ومن البديهي أيضاً أن أحداث الرواية لا تقر بأي حال عن ذات الكاتب أو حياته وإنما هي حياة رواية فيها من واقع الأخريين وخيالهم في بيئات متعددة وأمكنة متعددة . وأزمنة متعددة . وأخيلة متعددة لكنها فى نفس الوقت متعددة المستوياتلمن يريد ان يتعمق ومن غير المعقول أن يمر أي كاتب بكل أحداث ما يكتبه والكاتب دائماً مراقباً للأحداث وليس جزءاً منها (لمؤلف)


سبع الليالي
الجزء الأول
نهر النيل ما أحلاك ومياه فيضانك تعطي الخير والنعيم وفي فجر الليالي ينطلق الصيادون كل يحمل شباكه المصنوعة بأيديهم يشقون الطريق فى رحلات صيد كثيرة وكبيرة يعودون بعدها حاملين خيرات الله من أسماك أنواع مختلفة لذة للآكليين ,يذهبون ويعودون مع الصباح ونسمات الندى الرقيقة تداعب وجوههم ترطبها برذاذها الجميل . يتحملون قرصات البرد ولكن كل شيء يهون أمام لقمة العيش وتكاليف الحياة . أيام وراء أيام ونفس رحلة الحياة اليومية من البيوت المتلاصقة المبنية من الطوب اللبن ومن الأنوار المضاءة بالجاز ومن الجلابيب المحصورة حول الخصور ومن تجاعيد الزمان فوق الوجوه ومن قسمات الصبايا في عمر الورود تنطلق الرحلة اليومية لتنتهي مع الصباح فسوق القرية حيث ترص في عبوات مفتوحة صنعت من خوص النخيل . وفي ساعات الصباح الأولى تباع لمن يريد من كبار القوم ومن صغارهم كل حسب مقدرته وحسب إمكانياته ويعودون ويحسبون ويقسمون ما بقي بعد المصاريف فيما بينهم فيشتري كل منهم حاجاته وأغراضه ويعودون إلى منازلهم طارحين ما جاد الله عليهم بين أسرهم راضيين قانعيين بما كسبوا شاكرين حامدين لربهم وكما في كل مكان وفي كل زمان يوجد المعلم ويوجد الريس ويوجد المساعدون ويوجد الشغالة كذلك مجتمع السماكين نفس التقسيم ونفس الترتيب .
إشترى الجميع من فلاحين وعمال وموظفين وعلية القوم سمكاً ولحماً وخضاراً وعادوا الى بيوتهم نفس البيوت ونفس الملامح ونفس الصفات . كان ذلك في الصباح الباكر وسرعان ماإنطلق كل منهم الى حقولهم والى وظائفهم المنتشرة في مسافات ليست ببعيدة عن القرية وعبر طرق لم تصلح أو تفلح بعد .
ذهب عباس إالى السوق ومعه مرجان فرحيين مستبشريين بيوم جميل من أيام خدمتهما كخفيرين في معية العمدة . هذا اليوم منحهما العمدة مبلغاً من المال قال لهما : هذا لكما وهذا المبلغ الأخر إذهبا به الىالسوق وأحضرا ما لذ وطاب لزوم هذا اليوم المبارك ... فردوا عليه : لا توصينا يا عمدتنا وهل يداني هذا اليوم .... يوم ... أنه مولد الجميل ابن الجميل . وضحكا ضحكتهما المعهودة فقال لهما العمدة إذهبا ياأولاد ..... فضحكا لمداعبته وهو الصارم القاسي .. وانطلقا الى السوق على السماك أبو ودن .
- أوزن
- كم أقة .... يا رجال العمدة !
- كل ما معك من السمك الكبير !
- هي وليمة إذن .
- وأكثر من هذا ياأبو ودن ...
- الثمن غالي .. وسأوزن لكما .. وإذا سألكما العمدة فقولا له الثمن غالي ... غلو المناسبة ولا تزيدا
- أنت كذلك يا أبو ودن ... هل ترضى بالقليل إفعل ما بدا لك وهمس مرجان لعباس .. وقال سأذهب لإحضار الخضار والطماطم وأوصي على الجزار وعلى العمال والعاملات ومساعدي الطبخ . وتحمل أنت السمك .. وتعرج على الفكهاني وتختار أجود ما عنده وأما اللحم فالعجول بالدوار تنتظر الميعاد .
- فر مرجان تاركاً المسئولية الكبرى على عباس كعادته والجميع ينظرون لهما في السوق ويخمنون لابد أن العمدة لديه ضيوف من الكبار وإلا لما هذا الكم الهائل من المشتروات .. عباس ومرجان مرة واحدة إن واحداً منهما يكفي ليشتري بلداً ويضربون كفاً بكف ويقولون غداُ نعرف السبب والمسبب ويظهر المستور فقال أحدهم وهو يمر : لا داعي لكل هذا لقد جاء ولد جديد للعمدةفارتاح الناس إلا أنهم أخذوا في تعداد مواليده وضيوفه في مثل هذه المناسبات بينما مرجان قد وصل المنزل . أما عباس فقد اشترى كل ما جادت به قريحته لزوم الفرحة التي عمت الجميع وانطلق لا يلوي على شيئ إلا العودة الى مقر العمودية حيث ينتظره الجميع وعلى رأسهم العمدة وهو في ذلك ما بين حمل ثقيل وخفة حركة أتت بهاالفرحة فرحته بأن يحمل كل ما يلزم لإعداد حفل ميلاد عرفان نجل العمدة ووجد مرجان ضاحكاً من حمله !! لم يكن الابن الأول له بل له في ذلك سابق خلفة . كان هناك رجاء ابنه البكر ثم جاء هذا العرفان مع مطلع الفجر وكانت هناك فتاة أتت من قبل سموها رشيدة ولم يكن الأخير فقد جاء بعده إسماعيل وميرفت وبينهما عبد الرحمن ثم سامية . حضر الجميع للتهنئة والمباركة منذ تباشير الصباح وتعطلت الأعمال الخاصة ببمارسة العمودية . والخاصة بأعمال العمدة . خاصةً من فلاحة وزراعة وحساب . وكان الطباخون في مطابخهم يعدون العدة من أقدار كبيرة ملئت باللحم والثريد والخضار والأسماك كل فيما قدر له أن يكون حاوياً لهذا . وبينما هم على هذا الحال كانت الخادمات في سبيلهن لفرش الموائد في الصالة الكبيرة من المنزل ووضع الأطباق والفضيات في شكل بديع وترتيب الكراسي حسب الأهمية والترتيب .كان المنزل فسيحاً وله عدة صالات إحداها لكبار القوم وموائدهم أما صغارهم من طباخين وشغالين وشغالات وخفر وخلافه فقد أعدت لهم صالة خلفية فرشت بالسجاد ووضعت عليها موائد خشبية تقرب من الأرض " طبليات " وتبدأ حركتها بعد أن تنتهي وليمة كبار القوم .بينما الجميع في حركة دائبة كان كبار القوم يتبادلون الأحاديث الودية فيما بينهم وكان العمدة هو نوارة الحفل ما بين ترحيب وتوديع وتهنئة وتوزيع الإبتسامات هنا وهناك .
- مبروك يا عمدة . قالها عبد الستار صديقه وحبيبه قالها كما قالها من قبل وكما قالها من بعد وإنتحى به جانباً راجعاً به الى الذكريات وكم هي كثيرة وعديدة مذكراً إياه بمنحته في هذه المناسبات فابتسم العمدة إبتسامة ملء شدقيه وأخرج من جيبه ورقة من ذات المائة فدسها عبد الستار في جيبه وأطلق ضحكته المفرقعة معلقاً بقوله : عادة ما تقطعها يا عمدة ! كان صديقه رغم فقر عبد الستار وثراء العمدة ولكنها علاقة عمر وتهويمات جلسات طالت كثيراً حتى نستطيع أن نحسبها زماناً ومكاناً وأشخاصاً وأحداثاً . لعلها علة الزمان أن يربط بينهما كما ربط بين متناقضات كثيرة في تيار الحياة المتدفق عبر الزمن . وفي هذا الجو العامر بالبهجة والسرور دارت النرجيلة بين من يشرب .وتنشق دخانها من لم يشرب وأما أكواب الشربات فلم تنقطع ولم تنته .أحاديث طويلة إمتدت منذ الصباح في كل شيء وفي كا إتجاه وكان جمرة الشهير بالفشار يطلق نكاته فيضحك لها الجميع ويزدادوا ضحكاً حتى يستلقوا على أظهرهم ثم يضحكون مرة أخرى بعد أن يتذكروا ما ألقى به فيتلقفه نديمه وغريمه عجوة فيفند ما قاله ويسفه قول غريمه ثم يلقي بأخرى من العيار الثقيل فتلقف كل ما قاله جمرة . فيرد عليه الأخير قيأكل نكاته وهكذا دواليك .
- كان ذلك قتلاً للوقت وإنتظارا لسعادة المأمور لإفتتاح المائدة وما قرب وقت الغداء حتى أخذ الجوع كل مأخذ بهم رغم كم المشروبات الهائل ما بين شربات وحلو ودخان وخلافه . إلا أن نسمات رائحة الأطعمة هلت وتسللت من المطابخ حتى وصلت خياشيمهم فازداد ريقهم وجفت حلوقهم وتآكلت أمعائهم والعمدة يرحب ويرحب .
- شرفتونا يا رجالة أهلاً وسهلاً خلاص هانت كل شيء جاهز والجميع يرد في جوع عجيب ونهم غريب لا تشغل بالك نحن نتسامر أليس كذلك يا جماعة فيرد الجميع نعم ولكنها بفم المجاملة .. أما لا فقد إنغرست في أعماقهم ...وبدت على وجوههم فأحدثت بها تجاعيد أطالت أعمارهم لمن شاهدهم ولمن نظر منهم في مرآة . فلما ظهر على الباب ثلة من شيخ البلد وشيخ الخفر والخفر وبعض الجنود هب الجميع وقوفاً فقد كان ذلك إيذاناً بحلول سعادة المأمور وإنطلق شيخ البلد ومعه شيخ الخفر يسران في كل أذن من أذني العمدة أن سعادته قد وصل ... فإنطلق العمدة وإبنه رجاء الى الباب الخارجي الكبير وورائهم كبار القوم لإستقباله ورحب به العمدة وصحبه أيما ترحيب وإنطلق الجميع الى الداخل وهو يتقدهم فجلس في كرسي الديوان الكبير وجلس الجميع حواليه ووقف الحرس على الأبواب كل حسب مكانته وكل حسب رتبته بينما حثالة الناس قد إلتفت الدار كلها في طوابير تمتد إالى الباب الخلفي لتأخذ حقها من عجول البقر والجاموس التي ذبحت بيد جزار ماهر ليتولى متولي كاتب حسابات العمدة توزيعها حسبما يرى وحسبما يتراءى له وحسبما يختلس منها هو وشلة من أعوانه.
بعد أن استراح سعادته أقبل العمدة بين يديه وشكره شكراً جزيلاً وعدد خصاله وصفاته الطيبة وأنه من أسرة أصيلة كبيرة بالشرقية وأنه حافظ الأمن والنظام في هذه المنطقة من أعمال مديرية الدقهلية وأخذ الجميع يلهج بالثناء والإستحسان وأصوات الحثالة بالخارج تتصاعد وتتشاجر والمتولي وأعوانه يؤدبها بعصاه المصنوعة من التوت الممتاز ثم صمت الجميع بالداخل حينما نطق العمدة بكلمته التقليدية: الغدا جاهز يا سعادة المأمور .......فنهض سعادته ونهض بعده كبار القوم كل في مكانه وبأدب بالغ لم نره في جلستهم قبل وصوله وكأن سهم الله قد نزل عليهم ولم يكونوا إلا لحظة إحترام ولم تكن من قبل ولا من بعد موجودة إلا في وجود أمثاله وأترابه ..
في الطابق الثاني إلتفت النسوة حول صفية هانم مهنئين مطلقين الزغاريد مشعلين البخور مقيمين الطقوس والعادات ضاربين على الطبول مطلقين الحناجر في غناء شعبي بديع . ورغم تعب الولادة وصلافة المرأة وقوة شخصيتها ما زالت مسيطرة في إصدار الأوامر والتعليمات الى خدمها وحشمها فاليوم يجب أن يكون كما تكون الأيام من أمثاله فلابد أن يكون على أحسن ما يكون وأفضل مما كان . وأن لا يختلط الحابل بالنابل وأن تشرف عزيزة على الطباخين وتحية على رشيدة وأولاد رجاء اليتامى الذين عاشوا في كنف جدتهم بعد موت والدتهم وأن تفتح الحجرات جميعها أمام الحاضرات وأن يقفل الباب الرئيسي الموصل إلى الجزء الأمامي من المنزل المخصص للرجال وأن يفتح باب آخر موصل ما بين المطابخ ومكان الصالات المعدة للغذاء .وحضرت السيدة سيادة حرم سعادة المأمور فإنسحبت النسوة من حجرةالسيدة صفية عدا نسوة من كبارالقوم يعرفن بعضهن البعض منذ أمد ليس بقصير وتحادثن في كل شيء عن المعيشة في القرية وصعوبة المواصلات الى المدينة وعن شتاء القرية وصيفها وعن المنطقة وما يحيط بها وعن التحرر الذي ظهر بالمدينة والموضات والتي جلبنها معهن من إنجلترا رأساً . كانت أحاديث النسوة ثرثارة في أشياء تخصهن وأشياء تخص أزواجهن وهن في زي محتشم وإن أخذت بعض تباشير التطور تظهر في ملابسهن وأحاديثهن وفي وجوهن .
كانت زوجة المأمور زوجة من أصل تركي عاشت في منطقة المنصورة والتقت بزوجها المأمور في مدينة المنصورة وبدأت مشوارها معه في الأماكن التي تنقل إليها ما بين الصعيد والأسكندرية والمنصورة والقاهرة ثم المنطقة التي وقعت فيها هذه الأحداث من أعمال مديرية الدقهلية وقد نقلت معها الى النسوة من صفوة أصدقائها من زوجات كبار القوم والعمد . نقلت معها ما تراه من تطور من ملابس ومكياج وأحاديث وآخر الأخبار عن خروج النسوة في المدن كاشفات الرأس بلا( ملس) أو ملاية لف . وقد قلدتها بعض النسوة ومنهم السيدة صفية التي لم تكن هي الأخرى إلا أحد أبناء العائلات الكبيرة التي جاءت الى المنطقة واستقرت منذ زمن طويل وما حديث اليوم بينهن إلا استمرار لأحاديث سابقة جمعتهن فيهن مناسبات مختلفة ومتبادلة على مرور الأيام والشهور والسنين .
- قالت صفية : ألم تر عرفان ؟
- سيادة : اسمه عرفان ؟
- صفية : نعم لقد نذرت ووعدت أن يكون اسمه عرفان .
- سيادة : ولكن اسمه ليس أوريجينال .
- صفية : ولكن فيه معنى الوفاء .
- سيادة : على بركة الله ... أستأذن يا ست صفية .
- صفية : لم نجلس إلا القليل وجلستك لا تشبع أتذكرين تلك الأيام التي كنا فيها نتزاور كم ذهبنا ومشينا الى المصايف والى المشاتي وكانت معنا الشلة كلها رئيفة هانم وسميعة هانم وسهير هانم وهناء هانم كلهن كن معنا .....
- سيادة : الأيام تغير وتتغير كل واحدة منهن بعدت أراضيها وتشتت بيننا الأيام أو هي شتتنا . منهن التي ذهبت الى مكان بعيد والتي سافرت الى أوروبا ولم تعد والتي ذهبت الى لقاء ربها ...
- صفية : والله يا ست سيادة أحسن الأيام ما ذهبت ولن تعوض وانحنت سيادة على صفية تقبلها من الخدين بينما عزيزة تحمل هدايا زوجة العمدة للست سيادة وتنسل وراءها من الباب الخلفي الى عربة خاصة بها فتضع ما لذ وطاب في الحقيبة الخلفية
وتجلس الضيفة أمام مقود العربة وتنطلق بها مسرعة بينما حثالة القوم يتركون شجارهم ويبحلقون في تلك السيدة التي تقود عربة وتنطلق بها مسرعة وقد تعلق بأذيالها صبية منهم ما لبثوا أن وقعوا على ظهورهم لدى أول فرملة!!
عادوا كما كانو يتزاحمون حول متولي وهو يأمر وينظر ويقرر ثم يوزع حتى انتهى ما كان من لحم ومشتملاته فنظر اليهم وقال :خلاص لم يعد المزيد. فرد عليه بعضهم : ولكننا لم نأخذ والكل أخذ . فأخذ يقرعهم وينذرهم بعصا التوت ثم قال لخلفاوي : من لم يأخذ من هؤلاء فلينتظر ليأكل بعد إنتهاء الموائد الكبرى وليجلسوا حتى هذا في نظام حول الأشجار الملتفة ولا داعي للهياج والتلويح بالأيدي والتزاحم فالخير كثير واللحم كثير والمرق كثير فانبعج كل منهم على الأرض بجوار شجرة والتفوا حول أنفسهم في حديث طويل دار حول اليوم وما أحلاه والغداء الممتاز الذي ينتظرهم وأهم من ذلك أن لا مشاكل اليوم وليس هناك مد على الأرجل في غرفة( التليفون) فالكل مشغول عنهم والفرحة لا تعادلها فرحة أعادها الله علينا وأكثر منها ففيها كل شيء مباح نرقص ونلعب ونتطاول على البنيان ونذوق اللحم ونصرخ ونلهث ونتاخر ونتشاجر ونتفرج على علية القوم دون ملام أو عقاب .
قال زكريا وهو يشد نفساً من عقب سيجارة : أما علمتم ؟ فالتفت إليه القوم لقد فعلها مرة أخرى قالوا : من ؟ قال : علي الشرقاوي ! تركزت الأنظار أكثر و أكثر عليه وهو يحكي وهو يبطء في الحديث فقد شد أنظارهم جميعاً ونسوا وعد الغذاء بعد المائد الكبيرة وأخذ يتلاعب بعواطفهم ويقول أن علي الشرقاوي ذلك المغامر المعروف بالناحية قد سطا على أحد تجار القطن ..وأخذ ما أخذ ورد الجميع : لعله سيد أحمد فابتسم زكريا وشد نفساً آخر ثم رمى العقب في وجه أحدهم دون أن يبالي ودون أن يثور الآخر وقال : نعم هو بعينه فردوا : لعل الحال قد وقف به .. فذهب الى صاحبنا كلما لم يجد صيداً فرد زكريا : دائماً يتم هذا فأنتم تعرفونه ضاق به الحال وقد خرج من السجن قريباً وليس في جيبه مليم .. فرد أحدهم : وكيف دخل السجن ؟! فأجابه آخر كما يدخله كل مرة . لكن زكريا لا علي الشرقاوي لا يدخل السجن إلا إذا غير عمله .. هو يسرق المنازل وقد أوعز إليه بعض لصوص المواشي أن يذهب معهم فهربوا ووقع هو وكأنه حظ سيء كل ما غير مهنته وقع وذهب الى السجن .
- أتدرون ما قال له سيد أحمد ...؟
- ماذا قال ...؟
- ليس معي شيء يا شرقاوي
- لديك الكثير يا سيد أحمد
- كله في البورصة يا شرقاوي .. خسرت كتير يا شرقاوي
- ما رأيك .. وإلا ...
فهمها سيد أحمد فأعطاه ما أراد وذهب من حيث أتى نزل بيديه ورأسه الى أسفل وأرجله الى أعلى كما فعل وهو صاعد كقرد أو بهلوان وذهب الى وكره السري فرد آخر ما لنا وهذا ؟
نحن جياع نحن جياع فتصاعد الصراخ ونسى الجميع علي الشرقاوي وحكاياته فرد خلفاوي : لسه بدري البهوات ما زالوا يأكلون ..فرد أحدهم بسخرية .. أيأكلون أم يطبخون ..؟
فقال حسين وهو يقسم سيجارته نصفين فيعطي أحدهما لربيع وينفث النصف الآخر نحن جالسون على على بطونهم أو على ظهورهم أو على قلوبهم حتى نأكل ونشرب وندخن . فرد الجميع أي والله جالسون وماذا وراءنا ...
قل لنا يا حسين ماذا فعلت حينما دخلت السجن وضربت زميلك فصرخ .
- كنت ألاعبه ويلاعبني فقال لي أنت تغش في الورق وسرقت نقودي فحملته الى أعلى وكان قليل الحجم وضربته .في سقف الحجرة!! فسقط يتلوى على الأرض من الألم والدماء تنزف منه وقد ضاعت نقوده وليس له بخبراتي وأساليبي وهو متهم في تهمة جديدة أن يعيش بها في حياتنا أقصد سجننا وقد عرفناه وخبزناه وصار بيتاً وملاذاً . ثم أخرجت من جيبي نصف موس وشرحت به وجهي ...
- ألم تخف ... تشرح وجهك بموس ؟!
- تعودت عليها وأني أشرحه بفن !! وقلت إلحقوني ضربني بمطواة .. دمائي تنزف
- وهكذا فلت من العقاب . وأصبح لي صبياً طوال مدة سجنه . أأ مر فيطيع !
- بينما هم على هذا الحال يتناقلون الحكايات والروايات ما بين حقيقة ووهم ولكنهم مصدقوه على كل حال . جاء صوت الخلفاوي من بعيد .. هلم أنت وهو وهي هلموا.. ياغجر ! حان الميعاد فالحقوا ما بقى قبل أن يضيع في سلة المهملات أو سلال متولي !!
فاندفع الجميع في قتال عنيف وتكاتلوا على الباب فانفتح على مصراعيه فقال لهم متولي : بنظام . بنظام يا غجر فجلسوا في أدب فقال لهم : (اطفحوا). فهجموا بأيديهم وأسنانهم ورؤوسهم . فما مرت نصف ساعة حتى أتوا على البقايا ومصمصوا العظام و( تكرعوا ) وحمدوا الله وحمدوا العمدة ودعوا له بطول الإخصاب ودعوا لعرفان بالعمر المديد والفأل السعيد ثم انفضوا كما أتوا وذهبوا يتسكعون في الطرقات وعلى المقاهي ولم يمروا مرة أخرى من أمام المنزل فليس مسموح لهم بالمرور من أمامه كما غير مسموح لكل راكب مطية أن يستمر راكباً بل عليه أن ينزل وإلا ذاق ضربات عصا الخيزران المنقوعة في الزيت حتى اشتدت وقويت خاصة شيخ البلد عز الرجال لزوم أمثال من يتجرأ ويمتطي حماراً أمام المنزل أو من يرفض العمل بحقل العمدة أو من يتشبه بالأعيان وهو دونهم بكثير في عرفه وتقديره.
كان هذا اليوم هو يوم السماح ودونه العمر كله ..عاد الرجال الى غرفة المضيفة فجلسوا بعد أن جلس المأمور وجاء الشاي ثم جاءت القهوة ثم إصطفت الصفوف وتحلقت قي شكل بديع ثم قام الجالسون في نفس النظام والترتيب واستأذن سعادته في الإنصراف فقوبل بنفس الإستقبال وأخذ العمدة على جانب ووضع يده على كتفه وتمشى في الممر الخارجي حتى الباب الرئيسي وأخذ يحدثه
- أخبار الشرقاوي أيه يا عمدة ...؟
- عال والحمد لله ....
- فيه مشاكل ..؟
- لأ يا سعادة المأمور عموما هو لا يمارس نشاطه هنا
- عال .. نحن لا نريد مشاكل إضافية ....
- ولكنه يزور سيد أحمد
- وكيف يكون ذلك ..
- كما تعرف سعادتكم ولكنه لم يقدم شكوى
- على كل حال لا نريد ذلك ..
- أمرك يا سعادة الباشا .....
ثم دارت العربة وإنطلقت هي الأخرى وعاد العمدة الى مضيفته وقد قارب الوقت على المساء فعلقت اللمبات الكهربائية وأضيئت بماكينة جاءت من المدينة وحضر الجميع حفلاً ساهراً بينما مكبرات الصوت خارج المنزل وداخله وبدأ شاعر الربابة سيد حواس وفرقته في الأنشاد والترتيل .
أول ما نبدي القول صلوا علىالرسول نبي عربي شال البشارة سيد القوم .. حكايتنا حكاية ورواية حكوها في ألف زمان ملك الأماني يا غالي تصحى مع الأيام .. العمر يمضي سريع وأنت فيه نسيان .. القلب لما يهيج بالذكرى والأنغام ... تسمع كلام الغنى .. حلو كما الأيام ..
في يوم من الأيام كان فيه طير من الطيور جميل قوي ومغرور في الشكل والتصوير تقول طاووس أمور أو حتى جميل عصفور أصله ماهوش مغرور .. حصل اللي كان وكان .. ومات فيه عصفور .. قالوا لمين الدور .. نادى واحد قال : أنا اللي لابس الدور .. رد واحد تاني : إكفي عليه ماجور أنا اللي لابس الدور .. أم وأم وأم .. رد الشيخ الجليل هاتوا اللي قاعد جنب النخيل .. أنا رد وقال آه .. أنت رئيس الطير .. حافظ على العهد في خير .. وإحمي عرين الطير .. مسك المهام بتمام ونادى في الغابات .. أنا ملاك الطير أنا ملاك الخير . رد عليه الطير عاش .. عاش . مرت الأيام لما الغرور ملاه ترك العرين وتاه وعاش الحياه بهواه وقع في حب فتاة عصفورة من إياه قال القرار وياه والكل من رعاياه واللي يقول آه يسمع ما لا يرضاه .. نسى اللي كانوا معاه .. صبح وحيد يا ولداه هجم عليه غربان في يوم من الأيام .. صار بلا جناحين .. صرخ يا طيري يا هوه انا اللى منكم ياهوه سابوه .. سابوه .. سابوه .. وصلي على اللي يشفع فيك .. دي أخرة اللي يعمل ديك.. والدنيا تقول وتقول خد مني وأنا أديك . وحط ايدي في إيديك .. تبني .. تعلي فيك ودي أخرة الغدار يمشي بلا أخيار .. يمشي مع الأشرار .. صلي .. صلي .. على المختار ...
أخذ الشاعر على الربابة ينتقل من حكاية الى أخرى حتى تسلطن الحاضرون وطالبوه بالإعادة مرة وثانية وثالثة ووقف حلاوة والمجيدي ورجب يرقصون في رقصات بديعة بالعصا وبدونها حتى صاحت الديكة ووصل الأذان الى أعماقهم .. فقام العمدة وقال : صلاة الفجر قد حضرت . من يأتي معي الى المسجد فلبوا نداءه جميعاً إلا بعضهم آثر الإنصراف فأدى الصلاة ومن معه وذهب كل منهم الى حال سبيله.
عاد الى المنزل فصعد الى السيدة صفية وإطمأن على حالها وحاورها وناوشها وابتسم لها وقال : ليلة من ليالي العمر .. الحمد لله .. مرت في فرح وبسلام وخرج منها الجميع راضيين مسروريين ولقد رأيت سعادته على أحسن حال وهذا بلوغ الأمال ولم أقصر ولم أغدر ولم ينتش في عمري فرحة مثل هذه الفرحة ولك أنت الفضل والرجعى .. ومنك الحياة تعطيني ليتك كنت خلف الستار ترين ما أبهجنا جميعاً وأنزل السرور علينا آه . كما هي ليلة وكم هي فرحة ناءت بحملها الأقدار وناءت بحملنا الاقدار وتهنا فيها يا صفية وعشنا فيه الحلو والمر . أتذكرين ؟وكان لنا ما طابت به الأعين وعززت بنا الأيام مراكزنا وآمالنا ونسينا غدر الغادرين وضحكت لنا بعد تبسم.
أتدرين ؟ شاعر اليوم أنشد حتى الصباح حكاياته ملأت قلوبنا بالبهجة وأنعشتنا . وصلينا الفجر وأتى معي الصالحون وحتى الفجار كانت ليلة ولم ينسانا جمرة وغريمه عجوة أسمعت آخر فشرة ؟ قال جمرة أنه اشترى سمكة وزنها نصف أقية لكنه أخرج منها بطروخا ً وزنه ثلاثة أرباع الأقية . ها .. ها . فرد عليه عجوة وهذا شيء ما رأيكم يا جماعة أنني نزلت الى حقل القمح فأخذت منه سنبلة ففركتها فإذا ما وزنتها فقد تعدت الأقية . وضحكنا ضحكاً كيراً أما ( الأكل ) فقد كان كثيراً وجميلاً وخاصة طبقك المفضل ( كشكوشة ) أمرت به وقدمه الطباخ على أفضل ما يكون وقد تمتع به الكثيرون .
ردت صفية : كله من خيرك يا أبو العيال ليلتنا ايضا كانت جميلة لقد حضرن نساء رجالك وأصحابك وعلى رأسهن زوجة المأمور وعشنا ليلة لا تقل عن ليلتكم وطوفنا فيها على كل شيء في المدينة وعندنا وعرفن الكثير ملابس- موضة- حكايات أغرب من الخيال .. ولم ينقصنا إلا من سافر ومن ذهب . لقد كانت صحبة عمر يا عمدة . وما تلك الليلة إلا من عدة ليالي . عشناها من قبل . يتربوا في عزك وتعيش لهم العمر .. حتى تراهم نبتاً صالحاً . فرد عليها شاكراً ثم إستأذن في الذهاب الى حجرته فردت عليه بضحكة ودودة ودخل هو في حجرته ثم رمى بجسده على فراشه . دون أن يخلع ملابسه وما هي إلا دقائق حتى ذهب في نوم عميق علا شخيره فيه إلى أعلى طبقة في موسيقا ولكنها موسيقى خشنة كموسيقى الجاز .
مرت الأيام في سيرها المعتاد وعاد كل إلى عمله يسيره كما هو وكما فعل مئات المرات وإنشغل رجاء في الحقل والمدرسة الخاصة به حبث يديرها كأفضل ما يكون ثم إلتفت لدراسته للحقوق مدرسة الزعماء كما يقولون وفي تربية أخته رشيدة داخل المنزل وفي تربية أولاده من سكينة وتنشئتهم كما يرى وكما يأمل . ثم جرت الأيام سريعة وجاء بعد العرفان كما قلنا إسماعيل وميرفت وعبد الرحمن وسامية ولكنهم لم يلقوا كما لاقى صاحبنا من فرح ومرح وكانت الأيام الطويلة كفيلة بأن تجعل ذلك شيئاً عادياً وفرحاً عادياً وكان عرفان قد شب عن الطوق وأخذ يتعامل مع البيئة التي تحيط به فدخل الكتاب وحفظ القرآن عدة مرات ولكنه أُدب أيضاً بالمنزل فعاش عيشة حافلة!!
إن ذلك لا يمنع أنه التقط في ذاكرته جلسات المضيفة بحلوها ومرها وأحداث غرفة التليفون بكل ما لها وما عليها فملأت عليه حواسه وشغلت كل تفكيره . وكان أبوه كعادته يصرف أمور العمودية . ولم يقلق عليه حياته إلا علي الشرقاوي الذي لعب به ما لعب حتى عقد معه إتفاقية عدم إعتداء على نطاق إختصاصه وحدود إشرافه وما لبث أن إرتاح منه قليلاً حينما أتهم بجريمة قتل فأودع السجن وذلك لدى قيامه مع بعض الأشرار بسرقة مواشي من عند الثلاث كباري وقتله لأحد أصحابها أثناء فراره وهكذا كما قلنا كان يقع حينما يتغير نشاطه ومجال إجرامه ورغم كل هذا ورغم أننا لا نحبذ جريمة ما أو عمل شرير إلا أن بعض الأهالي كانوا يعطفون عليه ويفخرون به لعطفه على الفقراء منهم ووضعهم في حمايته . فلما دخل السجن إرتاح العمدة قليلاً إلا أن الشرقاوي أخذ يفكر ويفكر ويعمل الفكر كيف يخرج من هذا المأزق . أخذ علي يحتال علىطريقة يخرج بها بينما وهو في ذلك يحادث نفسه أكان لابد من سرقة البهائم أنت متخصص في كار محدد ألا وهو سرقة المنازل فلماذا تغير نشاطك . كلما غيرته وقعت في قبضة البوليس . بينما هو كذلك طلب للزيارة فوجد زوجته هند البيومية إبنة المعلم مرسي التي أخذها أخذاً دون أن يجرأ الأخير على أن يقف في طريقه أو يوقف سير الأمور كما يشتهي الشرقاوي ويبغي .
- إزيك يا شرقاوي .... قالتها هند وهي تسلمه حلة من المحشي فتشها رجال السجن قبل الدخول الى حجرة الإستقبال .
- إزيك انت يا هند وكيف الأولاد .
- عال ... العال
- قلت لك بلاش الكار ده مادام ما بتفهمش فيه
- أهو اللي حصل حصل ... جبت السجاير ؟
- خرطوشة تحت الملاية .. خدها حطها في حلة المحشي .
- تعجبيني بنت معلم بصحيح .
- شوفي إسمعي الكلام ده تمام قوي إستني أما العسكري يبعد شوية . شوفي يا أم العيال المرة الجاية تجيبي معاكي حلتين مدور بالوز والفراخ وتحطي فيهم مخدر تقيل قوي وتعلمي الحتة اللي هاكل منها بأي حاجة . بس أوعي تقولي لحد.
- حاضر يا معلم شرقاوي
- مع السلامة يا هند معلهشي أيام وتعدي .
- تعدي يا اخويا بإذن الله تعدي ..
خرجت هند من عند الشرقاوي وفي زيارتها التالية أحضرت ما أوصى به الشرقاوي فجلس كأفضل ما يكون الجلوس وكان قد تأدب أي أدب قبل هذا وتأدب مع الحراس قبل ذلك فإطمأنوا إليه . وركنوا إلى الدعة والهدوء وأخذوا منه السجائر وأعطاهم الحلة الكبرى .فأكلوا حتى شبعوا فما إنتهت الوليمة وكل من يحضر يأكل حتى غرقوا في نوم عميق . فلبس االشرقاوي لبس أحدهم وخرج فلم يجد في طريقه أحد حتى وصل إلى البوابة فسلم على زميله وما هو بزميله . فرد التحية بأحسن منها فوجد عربة مكشوفة فركبها وإنطلقت الى حيث مخبأه وكان المخبأ نفق تحت الأرض كان مخصصاً لري المياه ثم هجر لقناة أخرى مبطن من الداخل بالأسمنت . وبه حجرات صغيرة أقامها بمعونة أعوانه وكلما وردت إليه الإشارة إنطلق منه فلا يظهر له أثر وبه وعن طريقه يعبر إلى نهر النيل فيركب صندل خفيف يدور بمحرك وينطلق إ‘لى مكان أخر .
وردت إشارة مستعجلة للعمدة الشرقاوي هرب إنقلب العمدة رأساً على عقب وأخذ يجري شمالاً ويميناً كشوال قطن ثمين . وأطاح بكل من قابله . وأطلق الأوامر في كل مكان ولكل شخص ابحثوا عنه في كل مكان . ولك كل هذا بلا جدوى وبلا طائل . كان الشرقاوي قد ذاب في الهواء أو كما يقول المثل فص ملح وداب .
إنتشرت العيون في كل مكان وفي كل زمان تبحث وتتحرى عن معلومات توصل إاليه وهنا نطق شيخ الخفر سراج أنا أعرف مكانه يا حضرة العمدة صمت الجميع وأشار العمدة بيديه ليخرج الجميع .
- هه يا سراج مكانه فين ؟
- يا حضرة العمدة بس أكني مقلتش حاجة .
- كأنك
- تعرف تعيلب تاجر الحشيش
- أعرفه ماخلاص تاب ..
- لسه ما تابش يا عمدة .. ابعت هاته وهدده إما يساعدكم أو يتعملوا كمين وينشد..هيقولك تبت شد عليه يا عمدة ..
- طيب خلاص إمشي انت دي الوقت ...
خرج سراج والتفت حوله رجال الادارة فقال لهم بلغت العمدة أنه هرب في الصندل الخفيف وراح الحامول فرد الجميع استحساناً لمنطق شيخهم فقد أبعد عنهم إنتقام الشرقاوي لو عرف الحقيقة يوماً . لم يركن العمدة الى تكليف خفير من خفره بذلك الأمر وشد رحاله على المديرية فطلب مقابلة سعادة الحكمدار وأدلى إليه بكل المعلومات . أصدر سعادة الحكمدار تعليماته لأحد المخبريين السريين غير المعروفين وأرسل في طلب تعيلب . سأله تعيلب الحمد لله تبنا والحمد لله ياباشا
قال له : إجراء روتيني فاستمهله قليلاً وخبأ ما في عمته الكبيرة الملفوفة حول رأسه بطريقة المماليك القديمة ولبس أفضل ما عنده وذهب معه الى المديرية فقابله بعض الضباط فاعلن توبته للمرة الألف وهو يقسم بأغلظ الايمان وهو من كل ما أعلنه بريء ولكنه ما حدث وما فعل .. فأسر اليه بما يريدونه منه . فقال : أنا لا أعرف عنه شيئاً . يا رجل انه صديقك .. كان صديقي ... لا داعي للف والدوران .. نحن نعرف عنك كل شيء .. تساعدنا وإما .. قال لهم : لكنه صديقي .. صداقتي به ترجع الى ربع قرن أو يزيد قالوا له لقد خانك هو الآخر وأفشى سرك من قبل . قال لا لم يكن هو . كان المليجي بك .. قالوا ومن أعلمه هو الذي أعلمه . بتربتين الحشيش .. وكان لنا ما كان معك . وأخذت يومها خمساً من السنوات . قال سأقول لكم .. ولكن لا تقولوا .. إني قلت لكم .. وحدث الاتفاق ..
الشرقاوي الآن خارج المنطقة سيعود بعد أيام . بعد أن أوحى لكم بأنه اختفى في أحراش الحامول . لن يدخل من نفق النهر .. سيذهب في زي امرأة لن تعرفوه . فقد أتقن ذلك أكثر من مرة .. ستفتشون المنزل لن تجدوه .. كما فتشتموه من قبل . الشرقاوي في المنزل وليس في المنزل . الخدعة ببساطة انه حول بدروم أسفل المنزل ..إلى مكان سري عندما تأتيه الإشارة يهبط إليه وتضع زوجته قطعة من الخشب فوق فتحة المخبأ أسفل السرير ثم تغطيه بسجادة وتشون فوقها بعض الأشياء ..
- إذن سوف تدخل .. وتعطينا الإشارة ..
- سأعطيها لكم ... حينما أخرج .. وأخرج المنديل لأمسح وجهي .. ولا أنسيكم أنه مسلح بمدفع رشاش .
- وهو كذلك .
وفي اليوم الموعود وقبل هبوط المساء بقليل انتشرت الشرطة حول المكان في ملابس مدنية ولم يشك أحد فيهم وبعد قليل خرج تعيلب وهو يمسح وجهه بالمنديل فانطلق رجال الشرطة في هجمة سريعة على المنزل . وعلى كافة المخارج .. فلما سمع الشرقاوي الطرقات السريعة وصوت أحذية الشرطة الثقيلة .. قال لهند افتحي بعد ما انزل .. لقد فعلها ابن العاهرة تعيلب وهو تعلب وفتح مدخل المخبأ وتسلح بالمدفع الرشاش ونزل الى المخبأ وبه ما يحتاجه من معيشة ثم أعادت هند الوضع الى ما كان عليه وأجلست أولادها حول الطبلية وافترشت الارض بثقلها الذي يبلغ طناًُ من اللحم الصافي .. واخذت توزع اللحم على الاولاد ...!!
فلما لم يتم فتح الباب هجم رجال الشرطة .. ومعهم من قبل ( اذن النيابة ) واقتحموا الباب . وسألوها عنه .. فإلتوت في الاجابة وقالت علمي علمكم فأخذوها وأولادها خارج المنزل .. وتقدم رقيب عبد العال المطحون . فرفع السرير عن مكانه وأزاح الأثقال بعيداً فوجد فتحة المكان فنادى رئيس المأمورية عليه فلم يرد فطلب من الرقيب أن ينزع المدخل الخشبي بحرص فإذا ما قام بهذا إذا بزخة من رشاش الشرقاوي يصيبه في مصرع فإرتمى على الارض والدماء تنزف منه وحملته عربة اسعاف أحضرت على عجل لكنه لفظ أنفاسه في الطريق .. بينما رئيس المأمورية الضابط أحمد الداخلي ينادي على الشرقاوي بالتسليم لكن الشرقاوي رفض التسليم وقال بصريح العبارة على جثتي .. عملها ابن المركوب تعيلب الكلب فما كان من الشاويش عجمي الميسراوي إلا أن تقدم ورمى (بجرم) من التراب في المخبأ لكن رشاش الشرقاوي عاجله بطلقة في كتفه فتحامل على العسكري (النحاس ). وخرج به بعيداً لكن التراب لم يفعل شيئاً ولم يتلف المدفع الخاص بالشرقاوي . لكنه أتاح الفرصة لكي يعاجله الضابط أحمد الداخلي بطلقة قاتله من مسدسه الميري أردته قليلاً . وجاءت عربة الاسعاف مرة أخرى لتحمل جثته الى المشرحة فصرخت زوجته هند . وقالت منك لله يا بن تعيلب لابد أبويا ياخد بتارك يا شرقاوي .
انطلقت الاشاعات تلف الكفر والبلد أن الشرقاوي مات بعد أن قتل رقيب من البوليس وأصاب شاويش ولكن الاشاعات كانت تضخم الحقيقة . أكثر من ذلك بكثير وبينما العمدة في مقر العمودية إذ به يصرخ حينما وجد ابنه عرفان يحمل مسدسه ويصوبه في براءة الاطفال فتحايل عليه الخفير مرجان حتى أخذ منه المسدس والجميع في حالة رعب وإذا بالتليفون يرن .. ويبلغه تعيلب .. مبروك يا عمدة مات الشرقاوي فذهب مسرعاً الى المركز ليتابع الاجراءات ... ونبه عليه بالحرص والحذر من أعوان الشرقاوي .
في اليوم التالي أفردت الصحف مساحة كبيرة ً للحادثة تحت مانشيت عريض ( مصرع شقي خطير بعد معركة مع رجال الشرطة .. .الشرطة تخسر شهيدا ً وإصابة عسكري ثم جاءت بالتفاصيل الكاملة التي رواها مندوبوالصحف الذين حضروا لمكان الحادث مع رسم كروكي للمنزل والمخبأ السري.
تزوجت رشيدة من الشهاوي بك . أحد أعيان البلدة وتركت منزلها الى المنزل الآخر محاطة بالرعاية والليالي الملاح . وكبر عرفان . واسماعيل وعبد الرحمن وميرفت وسامية . كل حسب سنه واوانه . ونحن لا نغوص في كل هؤلاء الا بمقدار يسير فمناط قصتنا عرفان وتاريخ حياته . وتاريخ اسرته . وتاريخ بلده . وكم هي حياة زاخرة بكل الانفعالت وكل الاحداث الهامة وهو صغير يلهو . بدأت ثورة 1919 بزعامة سعد زغلول ورفاقه . ومضى عن الطوق الزمن يرتفع سناً ويزداد خبرة وممارسة ومعاناة حتى وصل الى ما وصل اليه . ولكنه لم يمارس التعليم كأخيه رجاء الذي حصل على أجازة الحقوق واشتغل محامياً بالاسكندرية وسلك طريقا اخر وحياة اخرى وتزوج من اخرى تدعى نجاة وشق طريقه فيما بعد حتى وصل في يوم من الايام بعد ثورة 1952 الى عضوية البرلمان ثم عاد مرة اخرى الى المحاماة وترأس جمعية المحافظة علىالقرآن الكريم حتى توفى وقد ترك خلفه رجالاً في مجالات مختلفة . أما ميرفت فقد كبرت وتزوجت من شيخ البلد عز الرجال وشقت حياه اخرى ولحقتها فيما بعد سامية وتزوجت من أحد الاعيان يدعى ابراهيم وأما اسماعيل فقد اشتغل بشركة تأمين ثم تركها وتزوج من نادية بنت شيخ الخفر رغم معارضة اسرته ثم اشتغل ناظرا لمحطة السكة الحديد . حتى حدث تصادم بين قطاريين فأدين وترك الخدمة ليعمل مندوبا ً بالقطعة بشركة التأمين حتى احيل الى المعاش الصحي . وأما عبد الرحمن فقد حصل على الابتدائية القديمة وانتظم بسلك وزارة الصحة فن تحليل حتى وصل الى مدير اداري وكان عمله بواسطة أحد رجال الاحزاب في ذلك الزمان .أما عرفان فقد حصل على الابتدائية هو الاخر ولكنه كان فلتة زمانه . ذكاء خارق وممارسه وخبرة تحملها عن قرب من والده العمدة . وأمه ذات الاصول الرفيعة . والحق يقال أنه تمتع بما لا يتمتع به أحد من اخوانه أو أصدقاءه . كان نحيفاً . ولكنه كان أنيقاً وكما حفظ القرآن إلا أنه مارس كل شيء ومر بكل شيء.وكم فعل الخدع في أصدقاءه ويخرج منها مبتسماً راضيا مطمئناً كان دائما يلبس البدلة الافرنجي . ولم يلبس الجلباب المطرز بعيدان القصب الذهبية إلا في المنزل وكان يرى أنه خلق من أجل أن يكون وأنه لابد أن يكون عرف كل شيء في مراحل عمره المختلفة ومارس كل شيء ولم يلو حياته لوياً ولكنه لوى الحياة كما أراد . تعدى العشرين أو يزيد وعاصر كل التيارات السياسية التي ظهرت على الساحة من أحزاب مختلفة وكان والده وفدياً ثم هو من بعده سعدياً وكل إخوانه واسرته . فقد كان ذلك تراثأ أن يكون الاتجاه اتجاه واحد ولا خروج ولم تكن تلك الاسرة ترى في الاحزاب الا وجاهة للعائلة وارتباطات اسرية اكثر من فكر وانتماء ولم يكن يهمها في ذلك من بعيد أو قريب معنى الحزب والفرق بينه وبين غيره من الاحزاب . ولم يكن هو كذلك فقط بل كان رياضياً يحمل الحديد ليقوي عضلاته ويشرب الخمر ويلعب الورق ويدخن الحشيش ويرافق النساء ليباهي اقرانه وكان دائماً كريماً سخياً حتى وهو صغير وكان رفاقه يضحكون عليه ويحملونه من المنزل الى المدرسة مقابل قروش قليلة ينثرها عليهم فرحاً مستبشراً ولما كبر قليلاً كان يعطي جنيهاً لمن يقول له عرفان بك . تشبهاً لما يراه .
لم يعرف الحب طريقه ولم يعرفه . كانت حياته هي من أريدها لتساعده . هكذا خلقه . هكذا تفكيره وهكذا مضت به الحياة وفي يوم من الايام وقد كبر الرجل الكبير وأصابه المرض وكبرت والدته ولكنها ما زالت في عنفوان شخصيتها .
تأمل ابنه الباقي معه في المنزل وبعض اخوانه الصغار وقا ل له هيه يا عرفان . أما حان الآوان . فمال عرفان في حركة رشيقة مخاطبا والديه تحت امركما . فقالا له :فتاة طيبة من اسرة كبيرة رأيناها جميلة بيضاء خجولة عذراء لم تر مثلها من قبل.. كان يريدها خير الدين ابن عمها ولكننا نستطيع ان نضغط على الشيخ محمد فهو صديق وقريب لنا . فما قولك ؟ أنتم وما ترغبون ولن ارد لكما طلباً . فقالا على بركة الله .غدا أكلم الشيخ محمد وأستشيره في الامر وما برح النوم يذهب ويعود حتى طلع الصباح على الجميع .
خرج العمدة في أبهته وذهب الى منزل الشيخ محمد فخرج له حجاج وقال له الشيخ محمد نائم يا حضرة العمدة اتفضل في المضيفة فدخل وهو يقول حتى هذا الوقت ... نوم العوافي ، سلم على الست الهانم وأيقظه من النوم قام الشيخ محمد فلبس قفطانه البديع ومن تحته جلباب أبيض ناصع البياض وفي يده عصا مطعمة بالأبنوس وكان قد استيقظ منذ قليل ولكنه كان يغسل ويتعطر ويهندم ملابسه فوق جسده الطويل العريض وينسق شاربه الجميل ويحكم العمة الملفوفة حول طربوش ومرة طاقية موشاة بالذهب ومشى في عظمة ووجاهة كأحد الأعيان وأحد الوجهاء حتى فتح باب المضيفة فوجد العمدة فأخذه بالأحضان وتحادثا في شتى المواضيع عن الزراعة وعن الفلاحة وعن الفواكه خاصة وكانت زراعة جديدة على المنطقة ثم فاتحه العمدة فيما أتى من أجله . فقال له ابنتك وأنت والدها واستأذنه أن يسأل امها الهانم الكبيرة فترددت قليلاً ولكنها قالت له الكلمة .. كلمتك ولكن ( خير الدين ) فقال لها خير الدين صرف النظر وأخذه عمله بالبوليس وسمعت أنه خطب من طنطا حيث مقر عمله الجديد فقالت : فلنسألها : قال لها ليس لها خيار فهو ابن العمدة وهو قريب لنا وعلى كل ادعيها فلما اتت قالت القول قولكما فذهب الشيخ محمد عائدا من داخله منزله الكبير الى المضيفة وطلب من حجاج أن يحضر الشربات وطالت الجلسة والأولاد واقفون في خدمة الشيخين وتنوعت الأحاديث وتحدد موعد كتب الكتاب ويوم الفرح وقام الشيخ العمدة محملاً بالهدايا فخوراً بما أنجز وعمت الفرحة في كل منزل هنا في منزل العروس وهناك في منزل العريس.
في يوم الفرح الموعود بعد أن تمت الإجراءات انتقلت العروس الي منزل العريس وأطلقت الأعيرة النارية ابتهاجاً وفرحاً وامتدت الزينات سبع ليالي وذبحت الخرفان والعجول والجواميس على طول المسافة وعاد الجميع كل الى بيته ولم تنته الأفراح والليالي الملاح ولكن ما إن إنتهت الأيام الأولى حتى ظهرت سيطرة السيدة صفية فقابلت روح الحياة عروسة ابنها . فقالت لها اسمعي يا ابنتي ، الان انتقلت الى منزل جديد له تقاليده وعاداته فعليك أن تلتزمي بها وزيارتك لأهلك بإذن مني أنا ولا يأتون إلا بميعاد ولك جزء من شئون المنزل ولكن ليس لك أن تستقبلي هدايا من أهلك ولا طعام ولا شراب فالحمد لله الخير وافر ولسنا في حاجة وأن تعرفي أنني هنا سيدة البيت فلا تتطاولي الى أعلى من ذلك ولا تنتظري أن تؤمري فتطاعي فالمنزل كبير ويحتاج الى تعاون الجميع ولكن كما يقول المثل مركب بريسين تغرق والجميع يعرف ذلك ووالدتك تعرف طباعنا ومزاجنا فلا تنتظري أن تشكي اليها فليس لدينا شكاوي واذا جاءت فاجلسي في بيت أمك وما اخترتك الا لصفاتك وخصالك الطيبة وسألت عنك الجميع فأثنوا عليك وعرفان جزء مني وعجينة شكلتها صحيح له معزة خاصة عندي لكنها لا تخرج عن واجب الطاعة وعن واجب احترام أمه ولك الحرية فيما عدا ذلك .
وافقت روح الحياة على كل كلمة بإيماءة من رأسها وهي في الحقيقة لم توافق ولكنها لا تملك إلا أن تعلن ذلك بإيماءة من رأسها وسواء وافقت أو رفضت فليس يحرك هذا فتيلاً ثم استأذنت وانصرفت وفي السر كانت تراسل أمها عن طريق أخويها عبد الموجود وأخته نجوى . كانا ياتيان إليها في الخفاء ويعطيانها ما لذ وطاب فتخفيه في حجرتها ورآها عرفان أكثر من مرة فابتسم وقال لها سانقل هذا الى الوالدة فأخذت تعطيه كل الوعود كزوجة فضحك كثيراً واقتطف منها عربون الوفاء بعدم الإفشاء قبلة أو يزيد عن ذلك قليلاً أو كثيراً فهي حلاله في كافة الأحوال .
استمر الحال على هذا المنوال واستمر المنزل على هذا وازداد تعب رب المنزل ولكنه تحامل على نفسه وتحدث مع ضيفه الكبير والمسئول العظيم في الحزب الحاكم في هذا الأوان وقال له أبحث عن تشغيل ابني عرفان والمكان موجود ويبقىتوصيتكم الكريمة.
أثنى عليه المسئول وقال له نحن نريد أن نكافئك عل أياديك البيضاء في الإنتخابات الأخيرة وزعيمنا الجليل لا يفتأ يذكرك بكل خير . وهذا كارت مني الى حسني بك ناظر التفتيش فاذهب اليه وستجد خيراً بإذن الله .أخذ الرجل المريض إبنه في اليوم التالي للزيارة ومعه ابنه عرفان راكبين العربة المجرورة بحصانين وذهبا الى التفتيش فقابلهما حسني بك مقابلة كريمة وأصدر أمرا الى شئون الموظفين فألحق عرفان بالتفتيش في وظيفة إدارية والإستلام في اليوم التالي .فشكر الرجل وانحنى شاكراً وعاد هو وإبنه والفرحة تملأه ولكن الرجل فوجيء لدى عودته بنبأ سيء حيث خسر كل شيء بالمضاربة في البورصة فقد كان عمله لا يمنعه من ممارسة التجارة ومشاركة سيد أحمد في المتاجرة في القطن وخلافه ولم يقم الرجل بعدها تدهورت صحته وما هي إلا أيام إلا وقد انتقل الى الرحمن واعتذر عرفان عن تأخره في استلام العمل وقابل حسني بك في العزاء فقدر له الظروف وأخذ هو إخوانه يقسمون الباقي من التركة فبقى له القليل وترك المنزل مفتوحاً للسيدة الوالدة وأنحى الناس باللائمة على العمدة وسيد أحمد لأنهما وضعا كل شيء مع الخواجة موسى يعقوب فباع فيهما واشترى ولكن ذلك لم يمنع ما وقع ولم يقلل من خسائرهما وما لبثوا شهراً أو أقل قليلاً حتى لحقت الوالدة بالوالد فقسموا المنزل فيما بينهما وكان من نصيب عرفان الدور الثالث فقفله وحمل حاجاته على وابور بمقطورة تاركاً البلدة بكل ما فيها الى التفتيش بادئاً حياة جديدة وكم هي مرحلة بكل المعايير .
التفتيش أبعدية من الأبعديات الملكية ولكن يوجد بها مجموعة من المنازل الحكومية الفاخرة وبها محطة للبحوث الزراعية وأخرى لتربية المواشي وتحسين السلالات ولكن عمل عرفان بالتفتيش عملاً ادارياً ولكنه قربه من مراكز المسئوليه وأمسك الخيط وأقسم ألا يفلت منه . كانت الأعمال روتينية ومارسها كما أرادوا لها أن تكون وبينما عرفان يمارسها كان يقوي نفسه بالإطلاع على الكتب والدوريات ويقوم بالتراجم خير ما يكون وظل على هذا الحال وعندما حان ميعاد زوجته للولادة عادت الى البلدة . وأتت له بعادل ثم عادت السيرة سيرتها الأولى لكنه كان دائماً يناوشها ويقول لها لو كنت أعلم ذلك ما تزوجتك فتقول له وأنت تطول ذلك من قبل أومن بعد ذلك فيضحك ويفتح( الشوفينيرة) ويخرج زجاجة الخمر ويصبها في جوفه ثم ينطلق على سجيته يحمل إبنه على ظهره
ويقول له ( سوق الحمار ).
كان عرفان يفعل ما يحلو له ويلعب ما يحلو له ولم يمنع ذلك من قيامه في إجازته للبلدة أن يجلس مع أقرانه ويلهو معهم لهواً بريئاً .
ذهب مرةالى المنصورة وجلس معهم لدى أحد التجار ثم حملهم بعلب الجبن وقال لهم أثناء النقل أن بها حشيش مهرب فملكهم الرعب حتى وصلوا الى البلدة وما هنأ لهم حال وما إنصلح لهم طريق حتى دلفوا الى بيوتهم وفتحوا العلب فإذا هي جبن من النوع الممتاز فخرجوا اليه وأقسموا أن يلعبوا به كما لعب بهم ووضعوا له المخدر في الشراب وحملوه ورموه خارج البلدة عرياناً ولما أفاق أخذ يجري بسرواله فقط والناس ينظرون نحوه ويضحكون حتى وصل منزله عريانا موضع سخرية الجميع وهو الذي كان يعطي جنيهاً لمن يقول له يا بك .
انطلقت الحركة شديدة قوية وانتظمت الإدارة كما لم تنتظم من قبل وانهمك الجميع كل في عمله الدؤوب .وتناقل عرفان أفندي وعبد اللطيف أفندي وجهاد أفندي احاديث تقول ان القصر الريفي الكبير سوف يستقبل اليوم ضيفاً كبيراً كان ذلك الضيف أحد الزعماء وقد تم التحفظ عليه في التفتيش وحلت معه الحركة والحراسة والنشاط وكان ذلك شيئاً طبيعياً فقد شهد هذا المكان مثل هذا من قبل وكان ذلك مدعاة للحكايات المستمرة كل يوم وحضر معه عائلته جميعاً بكل ما فيها من ارستقراطية وفي يوم من الأيام طلب حسني بك مدير الادارة لمقابلة الزعيم فقد كان متاحاً له أن يأخذ حقه من الترحيب والإجلال.
تأهب حسني بك لهذا اليوم . وذهب في حلة أنيقة وشيعه العاملون بالإدارة بالفرحة والبهجة وقال جهاد أفندي قد يكون له نصيب يوماً ما . فرد عليه عبد اللطيف أفندي أي نصيب سيعود الزعيم يوماً ولا يتذكره . ما هي إلا تقلبات سياسة وليس تحفظاً بالمعنى المفهوم وحينما يعود ينسى كل شيء كيف يتذكر الطرق المهدمة ورائحة الروث ولدغات الناموس ونور الكلوبات في الشوارع والماكينة ذات الصوت المزعج وأين النادي وحمامات السباحة وسينما المساء وجلسات الباشوات وكبار القوم ونادي السيارات وقفشات الكبار حينما يخلعن برقع الرسميات ويرقصون عشرة بلدي أما سمعت أن رئيس إحدى الحكومات كان يجتمع برؤسائه في عوامه منيرة المهدية تلك المطربة المعروفة فرد عليهم عبد السلام أفندي مشرف الأنفار يا أستاذ وما فيها لينعم بالعز سويعات ويتشرف بمقابلة دولة الباشا فضحك حلمي فراش الإدارة وقال لماذا لم يأخذني معه لأعمل لسعادته ودولته القهوة الممتازة بتاعتي . فضحك الجميع وانكبوا على العمل كجراد ياكل الاخضر واليابس .ذهب حسني بك فتقدم من المنزل الكبير وأخرج ما يثبت شخصيته فقابله رئيس الحرس وسمح له بالدخول وأوصله إلى كبير الخدم فأخذه الى صالة واسعة ممتدة ومنه الى غرفة مدير مكتب دولته لبيب أفندي الأسيوطي فاستقبله استقبالاً فاتراً وتفضل فأعطاه سيجاراً وتفضل فأشعلها له وقال له دقائق ويطلبك دولته حيث لديه زيارات من الأقرباء .. وتناول معه أثناءذلك موضوعات شتى سأله عن المكان وتاريخه وطرق مواصلاته ولم ينطق حسني بك الا بما يراه ملائماً فالحواجز ما زالت موجودة بينه وبين الاستاذ لبيب الأسيوطي .
قال له لبيب الأسيوطي : نريد تنظيفات أكثر وأن ترسل بعض الفلاحات لخدمة كل الحاشية فلا توجد بالمنزل خدمات والاسرة كما تعرف قد أخذت على معيشة المدينة ونريد منك أن ترسل لنا أيضاً بعض الفلاحين لشراء حاجياتنا وللخدمة بالمنازل وأعطاه قائمة بالأسماء كل حسب مركزه وكل حسب موقعه فأخذها حسني بك بتأفف لكنه نفذها بحذافيرها .وبعد دقائق دخل مدير المكتب فأعلم دولته بوجود حسني بك فدعاه للدخول فدخل وهو في قمة أناقته وفي قمة سياسته . وقال له : شرفتم دولتكم بلدتنا المتواضعة فرد عليه قائلاً : اجلس يا حسني أفندي وقدم له زوجته قائلاً : سوزان هانم حرمنا . وابننا وائل وابنتنا تيتي . وهذا الصغير كريم ونقول له كيمو . فأومأ برأسه لكل منهم محيياً في أدب جم . ثم خاطبه قائلاً قليلاً من الوقت ونعود الى حيث كنا فالأيام كما تعرف يوم لك ويوم لنا ويوم عليك ويوم بك والسياسة تقلبات وبحور ولكننا نأمل أن يفوز حزبنا في الإنتخابات القادمة ونعود كما كنا فبارك حسني أفندي ذلك وأيده ثم أردف دولته . ونحن نريد أحد الشبان النشيطين لكي يأخذ أعباء السكرتارية معنا هنا في الرسميات وفي المنزل وعلى قدرة من الفهم والذكاء والثقافة . أجنبية وعربية هذا بالإضافة الى القائمة التي سلمها لك لبيب ... فرد عليه حسني بك عندي بغيتكم .. فرد دولته : هنا في هذا البلد الريفي . واندهشت سوزان هانم لذلك .. وسخر أولادها وتحادث الجميع بالإنجليزية وضحكوا جميعاً وابتسم حسني أفندي مجاملاً لهم .. نعم هنا يا صاحب الدولة .. شاب من أسرة كبيرة بالناحية أبوه عمدة البلد الذي يحمل التفتيش إسمه قريب من وكيل حزبكم الموقر يملك من الصفات ما ترى أن يكون عليه فإذا ما أمرتم جاء اليكم على وجه السرعة . فرد عليه صاحب الدولة إذن ليأتي في السابعة مساءاً . ثم مد دولته يده الى علبة سيجاره فأخرج سيجار هافانا العظيم وأشعله بما يبدو أنتهاء المقابلة فقام حسني بك واستأذن في الإنصراف وهو يتراجع الى الخلف حتى وصل الباب وهو يلعن في سره البروتوكول الذي لم يرض عنه أبداً رغم عمق معرفته به وسلم على لبيب أفندي الاسيوطي فرد عليه بروح طيبة لم يألفها في دخوله .واتجه الى الباب الخارجي مشيعاً بمثل ما دخل وانطلق مسرعاً الى عمله وجلس الى مكتبه ودق الجرس طالباً عرفان أفندي فرد عليه حلمي الفراش عرفان أفندي في دورة المياه . قال له اطلبه على وجه السرعة .. كان عرفان قد أصابه اسهال اثر أكلة فسيخ ضخمة ويبدو أن بها بكتيريا متعفنة لم تكن معروفة أساءت الىمعدته فأخذ يدخل ويخرج الحمام الف مرة وكما هو عادته أخذ يأخذ الوصفات التي وصفوها له دون جدوى وإذا هو يجلس القرفصاء ويعاند نفسه ومعدته بعنف فلعن حلمى بألف لعنه وقال له ابعد يا حلمي عني في هذه الساعة فالغمة فوق ما أحتمل ..قل له قليلاً من الوقت وأحضر ... قال له حلمي لقد طلبك على وجه السرعة فإغتم عرفان وقال له سلام قولاً من رب رحيم ماذا دهاني هذا اليوم إنه من تلك الملعونة التي أحضرت أكلة الفسيخ شربات الخدامة الملعونة في ذوقها ثم أسر في عقله وفي ذهنه .. ولولا جمالاها الخلاب .. ما سمحت لها يوما بالجلوس معنا ولكنها تستغل هذا أيما استغلال ولولا خدمتها للست روح الحياة لطردتها شر طردة... ثم نطق بأعلى صوته شد حيلك يا عرفان شد . ولكن حلمي لم يدعه يكمل الكلمة ونزل على الباب بكل قوته فما كان من عرفان الا أن تنظف كما عن له وتهندم وفتح الباب وقال له لن أغفرها لك يا حلمي وموعدنا الغد ... فضحك حلمي ضحكة عريضة وقال له شفيتم... سلامتها !!.. اني أعرف كيف أرضيك..( جوني وكر معتبر!! ) قال له لفها وأودعها مكتبي .. فقال له أمرك يا عرفان بك والآن حسني بك يطلبك فتحامل على نفسه عرفان وانطلق الى مكتب مديره وطرق الباب وهو يمسك بيده الأخرى بطنه حتى لا تفلت ....قال له حسني بك :
- أين أنت يا عرفان ؟
- ألم طرأ بي ... وأي ألم بعيد عن سيادتكم اسهال عنيف.
- أي أكل أكلت ؟..
- ألحت علي الملعونة بأكلة فسيخ..
- وتنسانا يا عرفان ,,,,,,,,,,,,,,,,,,,!
- لفافتكم موجودة .. ولكنها قلبت معدتي
- معدتك رقيقة يا عرفان لقد أخذت على الرفاهية في منزل العائلة ..
كان حسني يتحاور معه كصديق فهو قبل كل شيء يعرفه وتربطه بأسرته صفة الصهر والنسب والصداقة ..ولم يتضح له ذلك في حينه ولكن الايام أثبتت له صحة ذلك ولكنه أمام الزملاء كان يعامله كواحد منهم ولم يميز بينهم الا بالكفاءة دون محاباة أو قرابة وإن كان توظيفهم جميعاً جاء طبقاً لرغبات سامية فهذه طبيعة الحياة وليس لتغييرها طريق ..
قال عرفان طلبتني سيادتكم وجئت مسرعاً فرد عليه حسني :كنت لدى دولة الباشا وطلب مني طلب وجدت أنت له ...
- أنا .........؟
- نعم أنت ...
- وكيف يكون ذلك ...؟
- يريد شاباً مثلك سكرتيراً لدولته ...
- ولماذا أنا بالذات ...؟
- لانك أنت الملائم والميعاد اليوم السابعة مساءاً
- ولكن كما ترى المرض يلاحقني..........
- لدي حبوب توقفه تماماً أحضرتها لدى زيارتي السابقة لسويسرا مع العائلة ....
- اذا كان هذا فأين أجدها ..؟
- استعد وسوف أحضرها لك ... ونادى على حلمي وطلب منه الذهاب الى المنزل واحضار الحبوب المذكورة فذهب حلمي واحضرها فنادى حسني على عرفان وسلمه ثلاثة منها وقال له واحدة الان مع كوب من الشاي واخرى لدى العودة الى المنزل والثالثة قبل الذهاب بساعة فشكره عرفان على حسن ضيفه وعلى ما قدمه له من جلائل الأعمال ... وعاد الى مكتبه يصرف شئونه ويتحادث مع زملائه وهم غير مصدقين لما يحدث فقال لهم لا تندهشوا ولا يصيبكم العجب العجاب فالدنيا خليط من الحقيقة والأوهام وقديماً قالوا تعيش كتير .. تشوف كتير .. وموش بعيدة على ربك .
انتهى ميعاد العمل وذهب كل منهم الى حال سبيله وكل منهم يتحاور مع نفسه عن وضع الدنيا وما فيها وسبحان الوهاب يعطي من يشاء بغير حساب وذهب عرفان الى حلاقه الخاص بعد أن أخذ الحبة الأولى واطمأنت بطنه قليلاً وترن في أذنيه كلمات زملائه لا تخف فالخوف شيم الضعاف .. والنفس التي جبلت على الخوف تظل دائماً نفساً ضعيفة .. يحملها جسماً أكثر ضعفاً تكلم بجرأة وناقش بإحترام ولا تنحني حتى لا تفقد نفسك ونفقدك أيضاً وإن من خاف من الذئب أتى له ولا تكن كالأطفال يخافون أشباحاا وهمية لا وجود لها ولا عفاريت تأتي من الغيب وانما العفاريت هم البشر وتذكر حكاية صالح حينما كان يلبس أسود في أسود ويجلس في الظلام ثم يقوم قليلاً قليلاً حتى يصبح في حجمه الطبيعي ويفتح مظلته فيخاف الناس المرور من هذا الشارع ويتناقلون الأخبار أنه عفريت من الجن فيفر الناس من هذا الشارع . وتنتقل الاشاعات مبالغاً فيها إنه الخوف الذي قهر الناس وجعلهم يخافون المرور من شارع معين فلا تعيش الخوف بنفسك وتجسده أضعافاً وأضعافا فتفر من شارع هو شارع من وهم ومحض خيال وتهيؤات خوف تحدث بما في داخل نفسك إن طلب منك رأياً أو اصمت فالصمت أبلغ من الكلام في حينه ولكنه ليس في كل الأحوال وهكذا حالك وأنت أقدر على فهم ما يحيط بك فإذا ما وجدت ما يتسلل الى نفسك من ضعف فتراجع ولا تخف فإنك بهذا أعظم أثراً وأكثر احتراماً ولا تقلل من شأنك وأنت الرجاء والبقاء مرهون بك ..
دلف عرفان الى محل الحلاقة وهو محل صغير ضيق به كرسي للحلاقة ودكة خشبية ومرآه كبيرة وقد زينت جدرانه بصور الأبطال والفنانات والفاتنات وايات من القرآن الكريم فلما رآه سيد الحلاق هب من مقعده بجسده الذى يحيطه كتلاً من الشحم تمثل كرشاً كبيراً.. أصلع الرأس الا قليله .
قال من قلبه :
-أهلا عرفان بك ...
- أهلا وسهلا ...
- لم نرك منذ شهور
- كنت مشغولاً .
- ذقن ولا شعر؟
- إفعل ما تراه صالحاً
- الى أين العزم إن شاء الله.
- عنت لي زيارة ما طلبتها .
- لعله خير بعون الله
- هو الخير كله ان قدر الرحمن
ثم شده سيد الى كرسي الحلاقة وأحكم وضع الفوط البيضاء المنشاة ثم إتجه الى أدواته يعالجها وينظفها ثم توكل على الهادي وأعمل ماكيناته في شعره وهو يتحدث دائماً الى زبونه فلما ينكفأ الى الأمام شد رأسه الى الخلف . لا تخسر الطبخة فهذه الحلاقة ستذكرني بها الأيام وأخذ يقول ويقول وعرفان في إتجاه أخر عن موعد الحفلة أو موعد المقابلة وكيف يلبس وكيف يتحدث وكيف يناقش وهل ستفلت معدته أم ستظل ساكنة بفضل الحبوب ....
بينما سيد يقص شعرة من هنا وأخرى من هناك .. يقول له لن ينصلح شعرك إلا إذا وزنته بيدي!! وتوليته بالعلاج فيضحك عرفان ... لو تعهدت عجلاً بالرعاية لكان أولى ...أم أنك تركت علاج الحمير والبهائم فرد سيد لم أتركها .. فهي تدر علي الربح الكثير بعكس حلاقة البشر .. فهي تغطي التكاليف بالتمام ولا تترك كثيراً ندخره وكل يوم نشتري كل جديد في معدات الحلاقة وكم هي غالية .. هذا علاوة على ذلك أنني نقيب الحلاقين وهذا يقتضي مني أن يظل الدكان مفتوحاً وقد عرض علي أن أذهب الى المدينة فرفضت وجاء لي عقد للعمل بكوافير رجالي في الخارج فرفضت فتبسم عرفان لحديثه وقال له انك انك مثل الشجرة العجوز تضرب بأصولها في الأرض ويزداد لحائها سمكاً مع الزمن .. ثابتة قوية ولكنها لا تبخل بثمارها أبداً أنت ابن هذه الأرض الطيبة وأنت من تنحني له الرؤوس الايكفيك هذا فخراً فضحك سيد واهتز كرشه الذي أخذ يداعب جسد الزبون .. عرفان .. وهو لا يستطيع أن يتحرك قيد أنملة وقال له تعهدت حلاقتك منذ كنت طفلاً .. وها أنت تشب عن الطوق ... وما زلت أنت أنت .. ولكن أما سمعت ما حدث لبرهان .. برهان عبد التواب فقال له ما سمعت .. شيئاً فالمشاغل تأخذني ..ضحك سيد ضحكة أكثر من الأولى واهتز كرشه أكثر من الهزة الأولى وتحرك عرفان أكثر من الأولى فشده بيده الى الكرسي وقال له رأسك الى الخلف قليلاً ثم قال كان شاباً ممتازاً ومكافحاً مجتهداً لكنه تعرض لصدمة فاق منها قليلاً لقد ذهب الى الخارج وعمل بالصحافة والكتابة وكما تعرف .. فهو صحفي وكاتب منذ أمد طويل لكنه عاد مصدوماً ليفاجأ بصدمة أخرى كما تعرف توفت والدته ولكنه تعرض لصدمة ثالثة .. فرد عرفان هذا عجيب أهو " مجمع صدمات " فرد عليه سيد لقد جئت بالحقيقة كلها .. ولكن الصدمة الأخيرة أهم و أصعب ... انهم بعض الناس .. بعض الناس من أهله أعماهم المال فأخذوا يشيعون عليه ما هو ليس حقيقة .. وإنما كله إفتراء وكذب لقد خافوا أن يفلت منهم بماله وماله عندهم من حقوق نعرفها جميعا ولا يعرف هو منها إلا القيل ...
وهو في الخارج قرأوا( فتحته) على واحدة منهم وانتهت الفتحة كما بدأت قبل أن يعود من الخارج وهم الذين فسخوها عشرون شهراً لم يأت وبدأت هذه الحكاية وانتهت وهو بالخارج ... فاستوقفه عرفان وماذا في ذلك مجرد قراءة فتحة لا ذهبت ولا راحت .. ولا تشكل .. أية حقوق شرعاً أو قانوناً هو كذلك ولكنهم أشاعوا عليه .. أنه كتب كتابه .. وهذا ليس حقيقة أيضاً
- ولماذا كل هذا وهو منهم ..
- الثروة التي استولوا عليها جميعاً أنهم يخشون أن يطالبهم بها او يفتح الملفات القديمة إذا ما تزوج أخرى.فقالوا نعم متزوج كذباً وافتراء وبهتاناً فهو لم يكن موجوداً أبداً ولكن كما قلت لك طمع النفوس يقتل النفوس وتاه الولد كلما تقدم لواحدة ردوه برقة ولم يقولوا له شيئاً غير أن كل شيء قسمة ونصيب
- والناس لماذا لا تقول الحقيقة ..
- الناس كل مشغول بهمه وبلاويه ..
- إذن عليه أن يلجأالى القضاء ليوقفهم عند حدهم
- هذا ما سمعت أنه سوف يقوم به وسمعت أنه أقسم ان كل من أشاع ضده إشاعة أو زور ورقة ضده ...أو استجرأ على حقه .. سوف ينال جزاءه ..
- معه حق .. معه حق ... كل الحق ....
فرد سيد أنت دائماً صاحب ضمير حي ... وصريح في الحق .. لا تخشى لومة لائم ..
- هذا هو ما نريده من الناس جميعاً ...
- ونعم ما تقول ... لقد قال لهم بعض الناس .. ولكن بعيداً عن برهان إتركوه يشق طريقه .. وأعطوه حقوقه واجعلوه يكون أسرة .. فلقد اختار هو فتاة ورآها الملائمة له .. فاجعلوه يبدأ وينطلق ولا داعي لللإشاعات فإنه يستطيع أن يفعل ما يريده دون أن تدروا ..
- وماذا كان ردهم ...؟
- ضحكوا بلا سبب .. ضحكة صفراء .. وقالوا ما لكم أنتم ولدنا ونحن أحرار .. ابعدوا عنا .. يا حملة السوء .. وكذبوا وزادوا في كذبهم .. ابننا مريض .. وسيشفى بعض قليل .
- وانصرف الناس
- انصرفوا فكل يعرف الرد مقدماً
- وبرهان ماذا يفعل الآن ...
- انه مصمم على الانتقام ... ما دامت المودة لم يعد لها باباً
- معه الله .. معه الله . في هذا الزمان الاغبر ..
- نعيماً يا أستاذ عرفان .. لترى حلاقتك في المرآة ...
التدرج ممتاز الشعر مقصوص حسب الموضة ثم قام عرفان فنفح سيد ما طابت له نفسه وقال له إذا جاء اليك برهان فشد على يديه وأبلغه مني السلام وقل له قف وكافح ولا تخش الشائعات فإنها زوبعة في فنجان سرعان ما تنتهي واصمد ولا تيأس وسيقف معك الكثيرون وسيفقدون هم بخداعهم وكذبهم كل شيء وكما طارطير وإرتفع إلا كما طار وقع والقبور تأخذ الناس لحماً وعظماً ويتحولون إلى تراب كما جاءوا مجردين من كل مال ومن كل عقار ومن كل خردلة . ثم سلم عرفان على سيد.. فشد على يديه بحرارة . وقال له لا تحرمنا من زيارتك ورسالتك اعتبرها وصلت ...
******
غادر عرفان المحل كانت الساعة تشير الى الرابعة فأخذ الحبة الثانية ولم يعد يشعر بأي قلقلة .... تعلق به بعض الصبية في ملابس رثة فنفحهم بعض النقود وتحاشى في مسيرته أكوام الزبالة وبرك المياه حتى وصل الى منزله فطرق الباب ودخل... قالت روح الحياة أين كنت طوال هذا اليوم .. رد بأن العمل حتى الثانية ثم عرجت على الحلاق فشذبت شعري ونعمت ذقني فهلمي ..عليك بإعداد الغذاء حتى أخذ حماماً فاليوم يوم عصيب ولدي أعمال كثيرة وأشرفها مقابلة صاحب الدولة .
لم تفهم روح الحياة شيئاً من هذه المقابلات أو هذه الألقاب لكنها ردت عليه فليعاونك الله .. ثم ذهبت فأمرت شربات بإعداد الغذاء فلما انتهى عرفان من الحمام كان الغذاء قد أعد فتناوله بسرعة عجيبة وتناول بعده الشاي ثم أعدت له شربات النرجيلة .. فأخذ يشد فيها وعقله يدور بعيداً عن مكانه وجلسته هناك في المنزل الكبير حيث الميعاد السابعة مساءاً فلما حان الميعاد إلا قليلاً نهض فلبس أحلى ما لديه ومشط شعره ونظف أسنانه بمعجون أسنان ظهر في السوق لأول مرة وقارن بينه وبين السواك فوجد الأخير أحسن وأعظم .. ولكن معجون الأسنان موضه جديدة ..
إنطلق عرفان في طريقه الموعود وأخذ الحبة الثالة وإن فات ميعادها وعلى كل حال فقد استقرت المعدة تماماً وما هي إلا دقائق حتى وصل الى المنزل الكبير ومر بإجراءات الأمن التقليدية . ثم دخل مكتب لبيب الأسيوطي فعرفه بنفسه وقابله باحترام وتقدير وتناول معه الشاي على غير عادته وأخذ يناقشه في معلومات مختلفة وثقافات شتى ليسبر غوره ويعرف طبائعه وخصائصه ثم إستأذن منه ودخل على صاحب الدولة فأبلغه بحضوره فسأله وما رأيك فيه ... رد بأن اللقاء الأول لا يعطي انطباعاً حقيقياً ولكنه يوحي بالثقة وإن كانت ملامحه توشي بأنه متطلع وهو في ذلك مثله مثل الشباب في بداياتهم يحدوهم الطموح وإن لم يعلنوا عنه فابتسم صاحب الدولة وطمأن لبيب أنه رجله مهما طالت الايام وتقلبت الأحوال فهي عشرة عمر طويلة تدرج معه في مناصبه وعرف مميزاته وعيوبه وعرف كيف يعالج الأمور بحكمة وروية وكيف يتحدث ومتى يصمت ومتى يتكلم وكيف يحفظ أسراره ويخفي ما يجب أن يخفى وأن يكون الأطرش في الزفة أو المطرب في الأفراح والليالي الملاح وما عرفان الا سكرتير للامور العاجلة وخدمات الاسرة وقد كبرت يا لبيب على هذه الأمور فإرتاح لبيب لقوله.. ولكنه اضاف لولا دولتكم لقدمت استقالتي منذ أمد مديد ولكنها العشرة هي التي تبقيني وهي التي ترضيني في كل الأحوال وكلنا من رجالك في وقت عز فيه الرجال فضحك دولته وقال أرسله الي فانطلق لبيب شاكراً عائداً الى مكتبه والتفت الى عرفان وقال له دولته في انتظارك فقام عرفان فى خفة ونشاط وأقفل زرارات جاكتته ونقر على الباب باحترام ورقة ثم دخل الى مكتب دولته فنادى عليه الاخيربابتسامة حانية ودعاه للجلوس فجلس بعد تردد فبادره دولته بأنه يعرف عنه كل شيءوأنه أعده ليكون سكرتيرا له طوال مدة إقامته فشكره عرفان وقال له أرجو ان أكون عند حسن ظن سيادتكم ......... وتناقش دولته معه شارحاً الظروف والأحوال عارضاً أن لبيب مكانته محفوظة لا تمس وأن اختصاصاته غير ما يكلف به عرفان وذكره أن هذه الإقامة لن تطول وإن في الجو ما ينذر بعودتنا الى ما كنافيه وعرفه بأفراد عائلته وائل وتيتي وكريم وسوزان وأن وائل بمدرسة الطب العليا .. وتيتي تدرس الأداب وكريم بالمرحلة الابتدائية أما زوجته سوزان حاصلة على الاداب قسم انجليزي..فدعا عرفان لهم بطول العمروالتفوق والسعادة في ظل رعاية دولته ثم إنصرفت ألاسرة إلى الداخل فساله دولته ما هي أحوال الناس ؟!
فرد عليه بأنها تسير كما تسير الحياة .!!!..
فقال له قل بصراحة فلست بمسئول الأن حتى تخشى واذا لم نعرف الحقيقة بدون تزيين وديكور فكيف نعالج الامور وهي تبدو لنا جميلة رغدة فلا بد من الحقيقة من أمثالكم نعرف بها كيف نخطو خطواتنا وننهج نهجا سليماً ثم قام دولته فصب كأساً لنفسه وقال له أتشرب قال : لا يا دولة الباشا ... فقال له تأدباً أم حقيقة قال له تأدباً فرد عليه تعجبني صراحتك فصب له كأساً فطلب منه أن يحكي بصراحة كما طلب الشراب بصراحة وأدب فتحدث عرفان عن أحوال البلدة والبلاد المجاورة فأنصت اليه دولته لمدة ساعة أو يزيد وختم عرفان حديثه بأن الحقيقة تستطيع أن تعرفها سيادتكم ما دمتم غير مسئول فالناس تغلق افواهها أمام السلطة .. وتفتحها في أحوال اخرى واذا اردتم الحقيقة واضحة جلية فإنزلوا الى الشارع دون أن يكون معداً لها من قبل اجعلوها مفاجأة تجدون الحقيقة أمامكم بحلوها ومرها.
دق الهاتف فإنشغل دولته به وبدا من الحديث أنه يحدث زوجته وانها تريد ان تأخذ جولة في البلدة لتعرف معالمها وجمعياتها وغير ذلك من الأعمال الاجتماعية فرد عليها سأرسل لك عرفان سكرتيري وقد عرفتيه منذقليل... وهو خير من يقوم بهذه المهمة ووضع سماعة التليفون وخاطبه في الموضوع فوافق على الفور وقال له إصعد الان إلى .. الطابق العلوي وقابل الست والأولاد . فإستأذن عرفان وخرج وسلم على الأستاذ لبيب فرد عليه مبروك .. يا عرفان .. وعليك أن تكون على قدر المسئولية ، فشكره عرفان مجاملاً له ... منكم نتعلم الكثير .. وصعد الى الطابق العلوي فقابلته السيدة الفضلى وعرفها بنفسه .. ثم دخلا في حديث طويل عن المنطقة وأسرته والناس والعادات والتقاليد ، ثم جاءت تيتي ووائل وكريم فسلموا عليه واندمجوا في مناقشات عديدة حتى قالت لهم الوالدة سوزان هانم لقد تعبتم الرجل أكثر مما يحتمل ، يكفي هذا ... ودعوه على العشاء فرفض شاكراً لهم ، واستأذن على أن يقوم بتدبير موعد لهم لزيارة أهم المعالم في المنطقة ، فقال لهم .. لعل القدر أراد لكم أن تروا ما لم تروه .. يوم الخميس القادم .. مولد سيدي أبي الحمايل ، فإذا أردتم صحبتكم الى المولد وهو يوم لا ينسى في العمر خاصة أنه شيء جديد عليكم . فرحبوا جمعاً في سعادة بالغة ...إنصرف عرفان الى منزله وتحادث مع روح الحياة عن المقابلة وما تم فيها .. فحذرته من نساء الطبقة الراقية فقال لها البعد شاسع ، والمسافات تعد بالسنين فإطمأنت ...ودعت شربات لتحضير العشاء .. ثم أخذ يلاعب عادل ويهدهده حتى نام وإنتقل الى مكتبه ... يقرأ في أنواع شتى من الكتب .. عربية وأجنبية .. بينما شربات .. تعد النرجيلة .. وهو يداعبها حيناً وحيناً .. بينما روح الحياة تقوم روح الحياة بأشغال الإبرة .. لتقتل به الوقت الممتد .. ولم يخف عليها أبداً حركات زوجها مع شربات .. فهو كتلة متناقضات قلما تجدها في رجل .. ولكنه يوازن بينها جميعاً .. حتى تخاله مرة رجل دين ومرة أخرى رجل ليالي .. وثالثة دمث الأخلاق .. وأخرى يتحدث بلغة الحواري .. ولكنه دائماً وأبداً دمثاً في معاملاته للغير .. ولو أنه إستثمر كل هذا في الشيءالخير .. لكان أكثر إطمئناناً لها من عبث الليالي .. ومخاوف الأيام من طبعه المتقلب.
إستأذنت روح الحياة للذهاب الى الفراش فقام معها وقال لها .. أعدي لفافة من الفسيخ للأستاذ حسني . فقد وعدته بها .. فأمرت شربات بإعدادها ليأخذها في الصباح ثم دلف إلى سريره .. فوجده دافئاً ليناً فطلب منها حلاله .. فتمنعت ثم قالت له ..أما تنتهي أبداً فقال لها وكيف يكون ذلك إنك العسل المصفى مذابا في كأس حياتي .. وهل لنا إلا أن نشرب منه حتى الثمالة فردت عليه ولكنك تشرب النارجيلة بكيفها .. والخمرة المعتقة . ولا مانع من أن تغازل النساء .. حتى شربات .. قال لها : ويبقى أنت تجددي كل هذا وتتربعين على قمة كل هذا فيذوب الجميع وتبقين .. فاستسلمت له قانعة راضية مستأنسة .. فما حان الصباح .. حتى قام مكبراً وأخذ حمامه .. وتناول فطوره وأخذ لفافة الفسيخ وذهب الى عمله القديم .. فسلم اللفافة الى حسني بك . ثم ذهب الى مكتبه .. وأخذ يجرد ما فيه .. فيسلمها إلى عبد اللطيف أفندي بصفته أكبر الموجودين . ثم وجد زجاجة ( الجوني وكر ) التي أخفاها له حلمي الفراش فأخذها وقال ضاحكا : هذه ليست عهدة رسمية .. ثم تجاذب أطراف الحديث مع زملائه وسألوه عن المقابلة .. فرد عليهم بأدب واحترام .. وأخذ يتحدث عن كل شيء .. فقالوا له لعله الخير كله ... فقال لا أحد يدري أين الخير ولا أحد يدري أخير أريد بي أم شرا أريد بي .. لكنهم أردفوا ... ولكن الأيام سعادتها في القصور قال وقد تكون في الأكواخ ... فقهقه جهاد أفندي وعوج طربوشه وقال .. إنك عجيب في أمرك وأقسم بكل الأقسام أنك ابن شوارع ولست ابن عمدة فضحك عرفان وقال .. دائماً انت هكذا تقلب الجد هزلا ً ولولا معزة خاصة لقتلتك على كلمتك هذه فرد عبد السلام أفندي مالكم اليوم يا جماعة وكنتم دائماً مهزارين في كل شيء فلما تقلبونها نكداً وهي فرحة لنا جميعاً فقد نستفيد منه يوماً ما ... إذا ما وصل دولته الى الحكم أليس كذلك......يا عرفان بك .. فرد عبد اللطيف ... إقفلوها سيرة .. وتحدثوا بأدب .. فالضحك يجلي القلوب .. ولكنه إذا تحول إلى مسخرة فقد الغرض منه فدخل عليهم حلمي الفراش وقال لهم : اليوم .. شاي الظهر على حسابي .. وإتركوا الخلاف والشقاق .. فما عرفناه من قبل وكنا أخوة .. لا رئيس ولا مرؤوس فماذا أصابكم فعاد الجميع إلى ما كانوا عليه من ود وقام جهاد أفندي فأخذ عرفان بالأحضان ثم إنحنى على يده يقبلها فشدها عرفان .. فحبا على رأسه فتراجع عرفان إلى الخلف ..وتصافى الجميع فإذا حلمي الفراش يطلب عرفان " حسني بك عاوزك " فقام عرفان وطرق على باب رئيسه فاستقبله أحسن إستقبال وشكره على اللفافة فرد عليه بأحسن منها وقال له ولكن عليك بالحبوب فضحك حسني وقال له : معدتي حديد ... ثم إنتقل معه الى المقابلة وأنه قابل لبيب فأثنى على عرفان فعرف منه كل شيء وتمنى له مستقبلاً زاهراً ثم سلم عليه فإنصرف إلى مكتبه وسلم على زملاءه ثم حمل حاجاته وفىمعيته حلمي الفراش .. إلى منزله إستعداداً لعمله الجديد وقبل أن يدخل منزله قال له حلمي .. الآن أنت في قمة نشاطك .. وفي أسعد أيامك .. ولي طلب واحد أرجو ألا تبخل علي به .. فقال له ما هو يا حلمي .. فابتسم حلمي وقال .. شربات .. أريدها لي ... وأرجو ألا تخذلني ... فوعده خيراً ولكنه قال له ... ولكن علي أن أسألها ... فرد عليه .. هي موافقة .. فابتسم عر فان إليه .. ونطق .. أتلعبون من ورائي .. فقال حلمي .. إنها سنة الله فقال له .. على كل حال مبروك ...
فتح الباب بمفتاحه الخاص .. ونادى على شربات .. فحملت عنه أغراضه وقال لها .. أين الست .. فقالت له .. عند جارتنا حرم الأستاذ تامر ..فقال لها أتراك كبرت ...دون أن أدري ... أم أنني لا أرى
- من قال هذا يا سيدي ؟
- قالها آخر .. وأنا غير مصدق ...
- كثيرون يخطبون ودي وأنا لا أبالي ..
- لماذا ...؟
- أنني قانعة بالعيش في كنفك ...
- ولكن لابد لك من الزواج ..
- ما تراه سليماً .. عليك به ... ولك عليك ألا تندم ..
- أندم على ماذا ...
- لقد كنت مجاملاً لي دائماً وحسبته حباً لكنني أراه عطفاً ...
- أضحكتني .. ولكن آن لك أن تتزوجي ...
- كما تريد ...
- اذهبي الآن واطلبي سيدتك ...
عادت روح الحياه فبادرها بقوله أين كنت فردت الوقت طويل وأقطعه مع زوجة الأستاذ تامر .. فرد بأن عليها ألا تخرج وأن تعرف مواعيده ...فلم ترد .. وأدركت بحكم الأيام أن السكوت خير من المجادلة ، ثم هدأ قليلاً ، وأسر إليها بطلب حلمي الإقتران .. بشربات .. فضحكت وقالت لكنها تقوم بكل شيء ، فأجابها بأنه سوف يتفاهم مع حلمي على ذلك ، ثم نادى شربات ، يا شربات .. فابتسمت وقال لها حذري من يكون .. فقالت لعله حلمي .. ، فرد عليها : نعم حلمي .. ما قولك ؟ على بركة الله .. على بركة الله إذن .. الآن عليك بالغذاء .. فأتت إليه .. بمحشي ورق العنب .. ومحشي كوسة .. باللحمة المفرومة .. وغير ذلك من السلاطات .. وعصير الليمون .. ثم جاءت بالشراب .. فقال لها النرجيلة على الغذاء والشراب في المساء .. ثم إسترخى على الكنبة الإستانبولي العريضة .. وهو يعاني من تلك الأكلة الدسمة .. وقال الآن أحبس بالنرجيلة .. فهى تهضم الزلط .
في المساء حضر حلمي ومعه بعض الأغراض التي ترضي عرفان .. ومعه أغراض خاصة.. وأخذ يعدله الجلسة ..فلما أحس منه إرتياحاً ، سأله في طلبه ، فقال له أنت دائما ً لحوح ، فعبس حلمي ، فقال له .. هون عليك .. لقد وافقت وموعدنا الخميس القادم .. ففرح حلمي وقال له .. لك علي دائما ً الأيادي البيضاء .. ولا أعرف كيف أرد الجميل لك .. فأجابه ترده أن تظل تعمل معنا .. وتذهب معك في المساء إلى منزلك ، فرد حلمي وهل يكون إلا ذلك .. إنها ستظل في خدمتكم .. ما طال العمر ولن يكون للست روح إلا شربات حتى تقول لها . الآن لا أريدك .. لقد مللتك .. وهنا (أقفل) عرفان الحديث ، بأن الميعاد في الثانية ظهراً حتى يلحق بميعاده لدى أسرة دولة الباشا .. ودخلت شربات ، فقدمت الشاي .. فقال حلمي .. بعد إذن الأستاذ عرفان فليكن شربات ... خذي ما أحضرته فاليوم لا يعادله يوم .. والسرور قد غمرنا وأنت اليوم .. يا وردتي ويازهرتي .. ولك أن تشكري رب نعمتنا .. عرفان بك ...فرد عرفان أستغفر الله .. وإنسحبت شربات في ضحكة خجولة .. تحمل أغراضها .. وتذوب الشربات في الماء ..!! وهي توزع على الست الهانم .. فقالت لها .. مبروك ليكي ...ويحين الآن أن تطلقي زغرودة .. ففيها كل سعادتك .. ولو أجدتها لفعلتها .. ففرقعت شربات زغرودة من الأعماق وحملت شرباتها لعرفان بك .. فشرب حتىإمتلأ .. وغض النظر عن مداعبات .. شربات وحلمي .. وقال لهما اليوم يومكما .. وإنسحب إلى الداخل ...
قام عرفان من نومه مبكراً .. فقد دخل إلى سريره مبكراً ..فتناول فطوره .. ثم ذهب نشيطاً طليقاَ إلى عمله الجديد .. وقد رتب أوراقه وملفاته .. ثم دخل إلىمكتبه الجديد .. وألقى بالتحية إلى لبيب الأسيوطي .. وتحددت الإختصاصات بينهما .. في رضاء وسعادة .. وأخذ يباشر أعماله .. وإلتقى بمجموعة السكرتارية الخاصة بمكتبه فتعرف عليهم.. وتعرفوا عليه .. ورمقوه بنظرات غريبة .. ثم سرعان ما ذاب الحاجز .. وتآلفوا وتعاونوا ....
ثم ناداه دولة الباشا .. فلبى النداء مسرعاً .. وقال له اليوم أريدك بالمنزل مساءاً .. كان المنزل واحداً في الصباح وفي المساء .. ولكنه في الصباح مخصصً للمقابلات الرسمية .. وفي المساء للمقابلات الإجتماعية ..ولم يختلف أحد على أن وجود دولته في هذه المنطقة لا يعني تحفظاً بالمعنى المتعارف عليه ..وإنما هو بعد بالدرجة الأولى .. عن القاهرة .. فما زال كل شيء يتم كما كان أيام الرسميات .. قال الباشا أريدك في المساء .. فسوف يزورني .. سعادة وزير الصحة السابق .. ووزير الظل الحالي .. جوهري باشا ، وعليك أن تكون موجوداً لإحتياجي إليك فرد عرفان بالإيجاب ..
في المساء .. ذهب إلى المنزل الكبير ، فوجد الإستعدادات على أشدها وراجع كل شيء بدقة فصا ر كأنه كبير التشريفات .. ثم هل سعادته .. فقابله عرفان بكل تقدير .. وقدم له نفسه .. ثم إنحنى ليقبل يد زوجته صوفي هانم .. وسلم بعطف وحنان على أولاده ..ثم إستأذن في إخبار دولته .. فما هي إلا دقائق .. حتى اجتمع شمل العائلتين .. وكانت بينهما صلة مصاهرة .. فإندمجوا في جلسة عائلية .. وإنسحب دولته ومعاليه ورافقهما عرفان .. فأثنى دولته على عرفان بصوت عالي وعبر معاليه عن إعجابه بعرفان .. ثم تناقشا في أمور عدة .. وقال معاليه ...
- هناك أخبار طيبة يا دولة الباشا ...
- لا تأتي إلا بكل خير ...
- هناك أقاويل أن حكومة أمين باشا ذاهبة ...
- إذن فنحن في الطريق ..ولكن متى ذلك ..
- هي مجرد أقاويل .. ولكنها تدور منذ اسبوعين ...
- إذن علينا أن نستعد ...
- فلنستعد يا باشا .. وننتظر عودتك إلى القاهرة ...
- ما رأيت فرحا ً مثل هذا الكلام .. وما رأيت صديقاً مثلك .. أنت الذي تزورني ولا تخشى شيئاً والعقارب كلها خرجت لتلدغ ... بعدما داهنت زمناً .. ولكن هذه طبيعة الأيام ...
- يبدوا أن عرفان هذا فألاً طيباً علينا ..
- لا أؤمن بهذا .. ولكنه بادرة خير .. فقد نجحت إبنتي .. وإنتقلت إلى الصف الرابع بعد سقوط عامين .. ونجح وائل وحصل على بكالوريوس الطب ..ونجح كريم وإنتقل إلى السنة النهائية في الإبتدائية ... لكنني أعود فأقرر .. أنها أمور بيد الله .. وهو المعلي وهو المخفض ..
- ولكن لي تمني على دولتكم ...
- تمني ..نلبي ..
- أريد ... الصحة !!
- وهي لك ...
- وأريد عرفان .. سكرتير اً لي ...
- إنك لم تره .. إلا اليوم .. أما تنتظر حتى تحكم ..
- يكفيني ما رأيته اليوم .. فأنا أحكم على الرجال من أول نظرة ..
- إذن هو لك .. هل توافق يا عرفان ..؟
- الأمر أمر دولتكم ...
- وكما تعرف دولتكم .. أنتم لا تستغنون عن لبيب الأسيوطي .. إذن فلتترك لنا عرفان .. وهو كذلك!! .
- يا خميسي ..القهوة يا خميسي .. كان خميسي بالقرب من الباب ينتظر طلباتهم .. ويسمع دون أن يتكلم ، ولكنه يحدث نفسه .. ، يتحدثون في أحاديث مختلفة ، ويذكرون الله كثيراً في أحاديثهم ، ولكنهم يشربون الخمرة ويرقصون رجالاً ونساءاً .. ويعيشون حالات وحالات ، ولكنه سبحانه مدبر الأمور .. وما علينا .. إلا السمع والطاعة .. وإلا سمعنا ما لا يرضينا .. ثم أعد القهوة ، كما طلبا ، وتقدم ووضع ما في يديه .. وإنصرف .. فقال دولته يخدمني منذ سنين عدة .. ليس له إلا عمله .. وزوجته إمرأة عجوز .. يعيشان في حجرة بالحديقة .. في منزلنا بالزمالك .. ، والآن إرتحلا معي .. إلى هنا .. ويعيشان .. في نفس الحجرة بحديقة هذا المنزل ...
فقال له معاليه .. هؤلاء الخدم ليسوا منا .. فلا تعطف عليهم .. أكثر مما يكون .. وهم يتربصون بنا .. لولا أنهم لا يملكون ..لتحقيق مآربهم .. فإحذرهم دولتك .. ولا تنسى ذلك أبداً ..فرد دولته .. أن خيالك قد شط يا جوهري .. وأنت تعرف أن هؤلا ء صامتون .. لا يبحثون .. إلا عن لقمة العيش .. ولا يشغلهم . إلا هذا ثم أنني رغم كل ذلك لا أنسى بدايتنا جميعاً .. وعندما أنسى ذلك أعود فأتذكر .. فأرجع إلى العطف عليهم .. ولكن بحدود .. ونحن يوم في إرتفاع ويوم في إنخفاض .. فمن يضمن لنا حلاوة الأيام .. وبهجتها ..
- نحن رابضون يا باشا .. ولن تغير الأيام ما نحن فيه ..رغم ما سمعته من الأفكار الغريبة علينا .. والتي تسللت إلينا من الخارج ما بين إداعاءات الماركسية ونظرات الليبراليين . تأثراً بالثورة الفرنسية .. فلا تخش شيئاً وإحذرهم .. فهو صمت غريب أو هو تحفز .. ما بين القط والفأر .. تحفز ينتهز الفرصة ..
- ما رأيك يا عرفان .. في هذا .. آسف لأقوالي ..
- فرد دولته ..عرفان .. ابن أصول قوية فلا تخشى معه هذا الحديث .. لكن عرفان .. نطق وقال .. ليس لي في السياسة باباً .. فأنا سكرتير دولته الأمين .. وعملي هو مناطي وشغلي الشاغل ..فضحك دولته وسعادته .. وقالا .. دبلوماسي أنت يا عرفان .. ولن تترك الخيط أبداً .. فلا تشده بعنف .. حتى لا يقطع .. فقال : أنا بدولتكم وبدون ذلك لا شيء .. ولقد تركت خلفي كل شيء إلا عملي .. .. وأنا بعون الله وبكم سوف أصر على نجاحي في عملي .. فشكرا له حسن حديثه ، ولباقته ، ثم قطع الحديث ، دخول الأولاد ، فعلت صيحاتهم على صوت الكبار .. وذا ب الجميع في لعب وهرج ومرج .. ضاعت فيه كل الرسميات .. ثم إنطلق الجميع إلى الحديقة .. يلعبون عسكر وحرامية .. فلعب دولته ومعاليه دور الحرامية .. ولعب الأولاد دور العسكر .. ولعب عرفان دور ممثل النيابة .. ثم تركوا ذلك ولعبوا الكرة .. فإنقسموا إلى فريقين .. فريق الأسد المرعب .. وفريق الفأر الرمادي ..، ثم إنتقلوا إلى الطاولة .. ، فالشطرنج .. فى الوقت ذاته كانت أدوات شي اللحم .. في الهواء الطلقمعدة وجاهزة للشوى فلما وضع اللحم وباشر الخدم تهيئته تحت إشراف دولته .. حتى إستوى .. أقبلوا عليه بنهم .. حتى أتوا عليه.
- إنتحت سوزان هانم .. بصوفي هانم زوجة الجوهري باشا ..وأخذا يتبادلان الحديث .. عن أيام القاهرة الحلوة .. وعن رحلتهما الأخيرة للسياحة في فرنسا وألمانيا ، وإنتحى الأولاد في حكايات وذكريات الدراسة ..وبدا أن هناك تفاهماً وتبادلاً .. بين وائل وسعاد ابنة الجوهري باشا وحاولت تيتي أن تجذب عرفان .. ولكنها وجدت منه صدا وتحفظاً .. فقالت له .. أما زلت فلاحاً .. فضحك وقال .. هناك مثل بلدي يقول ( يا نحلة لا تلدعيني ولا عايز عسل منك ..) فردت بدلال أنا ألدغ .. فقال لها .. معاذ الله .. ولكني أقول معنى المثل .. ولا أقصد الألفاظ ذاتها .. فإبتسمت وقالت يعجبني .. سعة إطلاعك .. ولكن أليس للهو سبيلاً لديك فقال لها .. لي زوجة مخلصة .. فردت ولكن الآن . أنت معنا .. فلم لا تكون مثلنا .. فأجابها .. وظيفتي .. سكرتارية والدك .. ولست أفهم في غيرها .. .. فردت بخبث .. إذن فلنتعامل كأصدقاء فقال لها .. وهو ما تبغين ..
لم يكن عرفان بالطاهر العفيف .. وإنما كان زير نساء ، ولكنه أراد أن لا يخلط عمله، بذلك ، حتى لا يضمن ،ألا يعيقه مثل هذا ، أو يوقف تقدمه ، إنه يتحدث بتحفظ ، بينما ذكرياته كثيرة في هذا المجال ، آخرها شربات .. التي زوجها لحلمي .. بإتفاق بينهما .. ولكنه آثر ألا يغامر فيرى ما ليس يعجبه ،ولكنه أرادأيضا أن يعطي الإحساس بالإحترام ، وأن يبقى الخيط متصلاً دون أن ينقطع .. هكذا علمته الأيام .. وعلمته التجارب والسنون .. فلما قارب اليوم على الإنتهاء .. ، أذن له دولته ..بالإنصراف .. ،،،فتفضل بعض الصبية وأعطوه كمية من الحلويات لأسرته فحملها شاكراً ، لكنه متأففاً ، فليس من عادته قبول ذلك ، وهو الكريم الذي يعطي جنيهاً ليقال له يا بك .. فلما دخل المنزل .. سلم على من فيه .. وقفز على الكنبة الإستانبولي .. ونام عليها دون حراك .. حتى وجد شربات توقظه من نومه ....
****************
هاهي الأيام ، كما هي تكرار ممل وغريب ، ولكنها متجددة لعرفان .. فأيام المنزل الكبير تختلف عن منزل الإدارة بالتفتيش .. ، فكل يوم جديد في جديد ، وزوجته ذهبت لتضع مولوده الثاني ..جدير ، أسماء غريبة بدأ يختارها ، وهو لا يعلم شيئاً عن إخوانه وأسرته .. إلا في مثل هذه المناسبات ، ولكنه لا يلقى لها بالاً ، وإنما تمر مروراً سريعاً بلا توقف .. وفي العام الذي يلي الذي نحن فيه .. ، جاءت بغدير ، ثم تمر سنوات لتأتي بميرفت تيمناً بأخته ميرفت .. وها نحن نعود إليه ، وقد جاء يوم الخميس ، وذهب الى الأسرة العلية ، فصحب كل من فيها ، وذهبوا إلى مولد سيدي أبو الحمايل ، كما وعدهم ، وكما حكى لهم عن ( سيدي أبو الحمايل ).
رجل من أولياء الله الصالحين ، حضر إلى هذه المنطقة .. منذ مائة عام أو يزيد .. وحط رجاله في هذه البقعة .. وظهر له من الكرامات ما ظهر .. فأذهل الجميع وتقاطروا من كل صوب ومن كل لون .. بحثاً عنه وعن كراماته .. وذابت الجموع أمامه .. مدد يا سيدي أبي الحمايل يا حمال الحمول .. إشفي المرضى وإرضي الندامى والعاشقين .. فلما وافته المنية .. أقاموا ضريحاً له ثم زادوه حسناً وجمالاً ثم أقاموا المسجد الكبير حوله .. وتركوا ساحة أمامه ليقام فيها الذكر .. في مولده السنوي ..سألته تيتي أليس هناك أضرحة أخرى ، تقام حولها الموالد .. قال لها .. سيدي (أبو مشعل) .. وهو في الحقول .. بين البلدة والعزب والكفور ، وسيدي( المتولي) وهو في ركن أخر من البلدة .. ولكن مولد سيدي أبي الحمايل لا يفوقه مولد أخر في المنطقة ...والآن سيروا في أنحائه وهلم نستعرض مريديه وحاضريه من كل صوب وناحية .
هذه الخيام المنتشرة على شاطيء النيل.. وهذه العشش من الأكياب والحصر كلها أعدت للمريدين ... في الصباح نوم عميق وفي المساء حركة دائبة ونشاط دائم .. والمولد ليس فقط شعائر دينية .. وإنما فيه من كل صنف وكل لون .. ففيه الشاي والقهوة .. وكافة المشروبات .. وفي الخيام جلسات التدخين .. والتحشيش وكلهم في ملكوتهم الخاص .. وكم ترى كل هذه الأشياء وقد رميت في النيل .. إذا ما شم فيهم أحدهم رائحة البوليس... فجأة كل هذه المعدات والأدوات .. تنتهي ولا يبقى إلا الجلسة المريحة .. ونحن نتفرج على المولد ليس إلا .
بدأت الزفة الرئيسية ، وحملت المباخر في المقدمة ، وحاملوا السيوف ، ولابسوا الجلاليب البيضاء .. والطاقيات المختلفة الألوان .. ، والشارات ..التي تعلق كالوشاح .. لتبين الطريقة .. التي تتبعها الجماعة .. ثم حاملوا الصاجات .. ، والطبول الكبيرة ، ومدقوا الدفوف ، ومنشدوا الجماعات ، ورؤساء العشائر ، والطرق ، ثم حصان الخليفة ( خليفة السيد )، وقد إلتف تماماً بعلم من أعلام الطريقة .. ولم يظهر منه شيئاً .
كان ذلك بعد صلاة العصر ، وإنطلق الموكب يلف البلدة ، بادئا من المسجد عبر طرق محددة ، وقد تجمهرت حوله المارة ، والنساء بالشرفات ، يزغردن في حياء .. ، والصبية يتجمهرون من حواليه ، وخلفه .. ، فلما إنتهى الموكب ، وعاد إلى بدايته الأولى ، كان المساء قد حل ..والجميع في نشاط وحيوية ، ورفقة عرفان ، في فرح وفي سعادة وفي حبور وفي سرور ، من كل هذا ، ثم أخذ عرفان يمر بهم على باقي ا لألعاب ..فهذا لاعب الثلاث ورقات .. من ورق اللعب ورقة واحدة تكسب .. الجوكر هو الذي يكسب .. أما البنتان لا .. ثم هو يلعبهم في مهارة .. فوق طاولة مرتفعة .. وحوله إلتف الكبار والصغار .. ولها مصطلحات ورموز ... لا يفهمها إلا صاحب اللعبة .. ومساعده الذي يظهر للمتفرجين .. كأحدهم.. ويغريك باللعب ، بينما صاحبه يظهر نفسه غافلاً عما يحدث .. فيقول لك المساعد هذه هي الورقة الرابحة .. ثم يثنيها من طرفها ، فتشجع كريم ووضع على الورقة بعد أن لعبها صاحب اللعب .. وتشجعت سعاد ووضعت على ورقة أخرى فقال لهما عرفان لا داعي أنه يتبعهم من طرف عينه وهم يضعون نقودهم الكبيرة والجديدة .. وأن مساعده يغريكم فما كان منهم إلا أن ضحكوا ولم يرتدوا وفازوا في المرة الأولى وأغراهم ذلك بوضع مبالغ كبيرة من فئة العشرة جنيهات .. فإزدرد صاحب اللعب ريقه وجحظت عين مساعده وإنفلق عرفان بلا فائدة .. وقلب الورق على ظهره فوجدهما خاسرين وضحك الرجل وقال المرة القادمة تكسبون .. هلم من جديد .. من منكم يضع أكثر ..؟ لكن عرفان شدهم بعيداً فقال له .. يا أستاذ لا تقطع عيشنا .. فقال له عرفان .. المرة القادمة يا حدق!! .. ثم إنتقل الى لعبة الحزام ... من يضع القلم في الثنية الصحيحة .. ولعبة النرد ، الملعوب ، فوق صور مختلفة .. وأرقام مختلفة , ولعبة الساقية .. وأين يقف السهم ، أمام المربع الذي يكسب ، من يضع عليه .. ويقف أمامه السهم .. ولعبة شد الخيوط الكثيرة المعلق بها نقود ذات فئات مختلفة .. ولعبة السنارة والحيوانات الطافية .. ولعبة قذف الكرة أمام هدف ويكسب من يصيب الهدف .. ولعبة البندقية (الرش) .. والهدف .. وغير ذلك من الألعاب المختلفة .. التي تحرك الجميع وتشد القروش .. بمهارة وخفة من لاعبيها .. وذكاء فطري لا مثيل له .. وحنكة وتجارب أيام موالد .. وممارسات عمر طويل .. في هذا المجال .. ورفقة عرفان فرحين بهذا الجديد رغم أن النقود تتسرب كالكحول .. والجميع في لهفة للعبهم فهم شكل من البشر غريب على هذا المولد .. بل على كل الموالد .. ويثيرون في مشيهم حركة إستغراب وإلتفات ودهشة من ملابسهم وطريقتهم وحرسهم الخاص .. فلما رأوا من بعيد سرادق .. وميكرفونات . تعلن .. هلموا . هلموا لتروا الساحر العجيب .. والمنوم المغناطيسي وقاريء الكف .. فدخلوا جميعاً فوجدوا عجائب العجائب .. فلما خرجوا كان الظلام قد حل .. وأضاءت المصابيح في كل مكان .. لتحول المكان إلىقطعة من نهار .. وطمع بعض النشالين والأشرارفيهم لكن الحرس الخاص .. قطع عليهم تفكيرهم وطمعهم ..فلما إلتف الجميع في الساحة .. وأعلن الميكرفون .. بدء المولد .. بالذكر حول الساحة .. حتى اختاروا جلسة تطل على المكان .. واخذوا يحتسون المشروبات التي أحضروها معهم .. ولم يأكلوا أو يشربوا من هذا المولد ... خوفاً من الأمراض .. بينما كافة الناس شربوا وأكلوا وإنتفخوا ولم يشبعوا ولم ينتهوا وبدء الذكر .. يشتد ويشتد .. والحركات الرياضية .. شمالاً ..يميناً .. أماماً ... خلفاً .. حتى حمي وطيسه .. وغابت العقول .. وظهر الزبد الأبيض على الوجوه .. وغاب الجميع .. حتى سمع الجميع صيحات شيخ الطريقة .. مدد .. مدد .. مدد يا سيدي .. شاذلي .. مدد سيدي أبي الحمايل .. حتى توقف الجميع وأخذوا يقفزون بعد ذلك الى أعلى في حركات رتيبة ثم توقفوا جميعاً ، وجلسوا في أماكنهم يجففون عرقهم .. ويرطبون شفاههم بالعرقسوس .. ثم حضر منشد الحفل .. وقد تعاقدوا معه على مبلغ كبير .. مقابل إحياء المولد .. فحضر بطانته .. آلاتهم الموسيقية البدائية .. فلما تم تجريبتها وتنسيقها و ..( دوزنتها ) وسخنت الأيدي عليها .. فصارت كل آلة وصاحبها قطعة واحدة متحركة .. بدأ صاحبنا ينشد التواشيح الدينية .. والصلاة على الرسول .. حتى إنتشى القوم الساهرون .. واندمجوا معه .. إندماجا ً عجيباً أخذ يحكي .. قصة اليتيم .. ( نادي ) وكيف تيتم وهو صغير .. وما جرى له على أيد أسرته .. وقد استولوا على حقوقه .. جميعاً من الأطيان .. والأموال والعقارات ..ووزعوها على أنفسهم .. فلما كبر وأراد حقوقه .. أنكروا عليه هذا ..وأطعموا كل من أراد مساعدته .. والمثل يقول .. تطعم الفم تستحي العين .. وإتهموه بالجنون والعته والوهم .. وكافة الأمراض .. حتى يخفوا جريمتهم .. والناس في كل هذا .. حزانى على هذا اليتيم .. وقد أخذوا في البكاء أمام المنشد ..لعلهم يستعطفونه . أن يجعل اليتيم يأخذ حقه .. لكنه يعذبهم فيجعل الناس في حالة يرثى لها .. .. وهو يجعل شخصيات كل حكايته ... سوداء ظالمة ليس فيها أي نقاء .. أو براءة .. أو عطف ..أو مودة .. أو صلة رحم .. ويجعل الظالم يحطم كل من يعترضه .. أو يقف في طريقه .. ويجعل الطمع يمتد كشجرة غريبة هلامية .. ذات ألف جذر .. تمص كل الخير ولا تطرح إلا الشوك .. والزهور الكريهة اللون والرائحة .. فلما قاربت السهرة على النهاية .. أخذ يجذب الناس من بكائهم حيناً ومن نعاسهم حيناً حتى إقترب من الحقيقة ... وأن كل ظالم قد نال جزاءه بأيدي العدالة السماوية .. التي لا يعادلها شيء .. ولا يساويها شيئا .. ولا يدانيها شيئا .. ولما إنتهى كان الفجر قد أذن بالحلول .. فقام المؤذن وأذن للصلاة .. فقام الناس إلى المسجد .. وإنتظموا في صفوف .. يصلون الفجر .. ثم تفرق الجميع .. كل الى منازلهم .. وإلى بلادهم .. وإلى عزبهم وكفورهم ..وعاد عرفان ورفقته في العربات التي تجرها الأحصنة ، ومن بعيد لاح له بعض الأقارب .. فسلم عليهم مشيراً .. وإنطلقوا .. عائدين إلى التفتيش .. ومعهم حرسهم الخاص .. حتى وصلوا الى المنزل الكبير ..فنزلوا شاكرين لعرفان هذه الليلة .. ليلة من ليالي العمر .. لا تدانيها ليلة من لياليهم .. وقد تعودوا على أشياء غير الأشياء وناس غير الناس .. وطباع غير الطباع .. وعرق غير العرق .. وبخور غير العطور.. وتهاويم غير الرقص الغربي الذي عرفوه ومارسوه .. ومنشدين غي المطربين .. وساحات غير الأندية .. ورائحة تبغ ودخان حشيش .. غير رائحة السيجار والسيجارة الأجنبية ..ومشروبات شعبية كالعرقسوس والثوبيا .. وإن لم يذوقوها .. غير المشروبات الممتازة من المياه الغزية والروحية .
كان ذلك شيئا ً جديداً عليهم .. لم يألفوه ولم يعرفوه .، كانوا في الحجرات المغلقة ..والأبراج العاجية فنزلوا الى الشارع .. وإلى الساحات .. وإختلطوا بالعامة .. وما الفرق بين لاعبي الثلاث ورقات ولاعبي القمار في الشقق المغلقة .. حيث الموائد الخضراء ؟! الكل يغش في الورق .. ولا فرق غير المكان والملابس والشخصيات .. واللغات .. والنقود موضوع كل هذا .
شكروا عرفان وإنطلقوا الى المنزل .. يرددون حكايات المولد .. ورقصات الذكر .. ويتلفظون بألفاظه .. مدد .. مدد .. حي .. حي .. قرب .. قرب .. الشيكا بيكا .. البنت التي تقسمها السيوف قسمين ثم تعود كما كانت .. كرت يا دنيارة .. دوه حامي ..حكاية اليتيم وما جرى له .. هذا اليتيم في اسرته .. وكم فعلوا .. هم في دولتهم .. أليس هذا الشعب في الكفور وفي النجوع وفي القرى وفي المدن وفي الصعيد وفي الدلتا .. هو أيضاً يتيم .. مثل هذا اليتيم الذي ترنم به .. المنشد .. ولكن من ينشد لهذا اليتيم الكبير !!.. كانت فرحة لهم وسعادة لهم .. ولم يعلن في قلب أي منهم إحساس بهذا الجمع الغفير .. إلا في قلب سعاد على عكس والدها .. وفي قلب وائل على عكس والدته ..
***********************
لم يذهب عرفان يوم الجمعة الى المنزل الكبير ، فقد كان مرهقاً .. أشد إرهاقاً بعد هذا اليوم الحافل .. ، لكنه إستيقظ من النوم بعد الظهر تقريباً فأخذ أسرته إلى الحقول يتمتع بيوم في سياحة على الأرجل ، ومن بعيد رآه حلمي فنادى عليه .. فتوقف ، وابتسمت شربات .. فضحكت روح الحياة .. ولم تعلق .. وجاء حلمي فسلم عليهم ثم شد على يد شربات ...وضحك الجميع .. ثم إستأنفوا السير .. حتى وصلوا الى حديقة (الأبعدية الملكية ).. وأمام مدخلها رآهم حارس الحديقة فإنحنى في إحترام بالغ لعرفان .. وفتح البوابة فسلم عليه عرفان وأخذه حلمي بالاحضان ..
أخذوا يتمشون في الطرق الطويلة الممتدة وحولهم الورود والزهور ، من كل ناحية ، وعناقيد العنب معلقة في أكياس من قماش .. وأما البرتقال .. فما زال أخضراً فقام جاد جنايني الأبعدية .. وقطف لهم من الثمرات .. ووضعها فوق الملاية المفروشةعلى أرض الحديقة .. وصعد زين الدين إلى بعض النخيل وقطع لهم سباطة صغيرة من البلح الزغلول .. أما طلعت حارس البوابة فقد أحضر إليهم بعض الورود والزهور وبعض الأكاليل من الفل والياسيمين.. وعاد كل عامل إلى نشاطه .. ومنحهم عرفان .. بعض النقود .. فشكروا له .. وقالوا له .. فليحميك الله يا بك .. ! فأعجب ببلاغتهم وإبتسم ابتسامة عريضة . ..
وخاطبه حلمي .. مر يوم الخميس ولم تنفذ وعدك ياسيدى .. فقال له الخميس القادم .. بإذن الله يكون شاملاً حتى الفرح .. فأراد حلمي أن يقبل يديه .. فقال عرفان أستغفر الله .. فأخذ حلمي .. من شربات الحقائب التي بيديها . وأخذ يساعدها في إعداد بعض الشاي .. على موقد صغير بالكحول .. ثم أخرج من حقيبة أخرى زجاجة معتبرة وكأسين وأخذا يعدهما معاً فإستأذنت روح الحياة من زوجها ومعها شربات للتنزه في الحديقة بينما جلس عرفان يحتسي الكأس التى أعدها له حلمي .. وأذن لحلمي بالشرب ..فلما لعبت برأسيهما قال له حلمي .. أما سمعت عن آخر الأخبار ..؟فرد عرفان أنا لم أترككم إلا منذ قليل .. قال حضر مفتش من الإدارة العامة بالقاهرة وقد إتشف كثير من الأخطاء في الحسابات ، ووجد الحمزاوي يزور في كشوف العمال .. بعد أن يأخذها صحيحة .. من عبد السلام أفندي ..وإكتشف أن الحمزاوي قد كون ثروة كبيرة من هذا ، وأنه إشترى قطعة أرض كبيرة مساحتها ستون فداناً ويقال والعهدة على الراوي .. أنه نصب على زوجة الخواجة جيد بعد وفاته وإستولى على أرضها بالتدليس والغش ..
- وماذا تم بعد ذلك من أمور .. ؟
- أحيل للتحقيق فتشفع بقرابته لعبد الهادي بك ..
- وإنتهي الأمر عند هذا الحد؟! ..
- إنتهى بالنسبة للتفتيش ، ولكنه لم ينته بالنسبة للخواجة "جيد " يقال أن له ابن يدعى( ممتاز) وأنه عاد للمطالبة بالأرض رغم رحيل والدته إلى لندن ..
- إذن الأمور ليست على ما يرام . أهكذا يكون كاتب الأجور ..
- والأدهى من ذلك .. أنه تشاجر مع عبد السلام أفندي .. ذلك الرجل المخلص ونعته بأقبح الصفات
- وماذا فعل عبد السلام أفندي .. ؟ قال له وإن طالت الأيام والليالي فلا يصح إلا الصحيح .. وإن كنت بالكبير تبغي وتظلم فلن يطول هذا الأمر .. وأنت تعرف نفسك .. ماهي إلا حشو أجوف .. والأيام تثبت يا حمزاوي .. فرد حمزاوي .. ما أنت إلا ثرثار أحمق .. وستظل هكذا .. أبد الأبدين ..في أسفل السافلين .. وإذا لم تسكن الى عملك .. حلت عليك لعنة جماعتي .. فرد عليه .. عبد السلام أفندي .. أبوك وفرقتك ما أنت إلا إن سوء .فتشاجرا وتلاطما ..لكن الحمزاوي .. تعدى عليه بمطواة .. فأصابه إصابة خطيرة..
- وأين عبد السلام أفندي الآن ..؟
- في المستشفى .. ولكن حالته خطيرة .. والحمزاوي ما زال في حماية عبد الهادي .. يمرح ويرتع
- إذن فلتقدم غدا باقة زهور لعبد السلام افندي ..
- أمرك يا عرفان بك ..
عادت روح الحياة وشربات .. فجلس الجميع قليلاً ..ثم إنطلقوا عائدين إلى المنزل .. مشفوعين .. بدعوات الجناينية .. والحراس ولكنهم سمعوا صوت ولد يجري .. وخلفه حارس لأنه قفز من فوق السور وسرق عنقوداً من العنب!! .. وكان الولد في حالة صراخ وبكاء .. والحارس في حالة هياج وتوعد .. ولكنه لم يلحق به وضحك عرفان وقال .. ولد من الاولاد وفي فمه عنقود ذهبى ملكى وفي قدميه حذاء ممزق .. وفوق جسده ثياب مرقعة .. وخلفه حارس مدجج .. يا لها من دنيا .. ويالها من حياة .. فعلق حلمي على ذلك .. رزقه يا عرفان بك .. ، في كل مكان على أرضنا الطيبة .. حدائق غناء وأبعديات وصاحبها الملك لا يعرفها .. فلماذا لا يهنأ بها هذا الولد الفقير ..يا حلمي اتقي الله .. ليس كل ما تأمله تملكه .. ولكن هذا الولد فقير حقاً .. ولكن الحارس معذور فهو يؤدي واجبه ، إنها حقاً مشكلة ، فدعنا من هذا .. فنطق حلمي اني أتعجب منك يا سيد عرفان !.! فهل تأذن لي أن أقٌول كيف أتعجب .. ؟ فأذن له حلمي .. فقال أحياناً أسمعك .. فكأنك شيخ كبير .. ولكني أراك إذا سمحت لي تشرب ، ثم همس في أذنه .. وتغازل النساء .. وتتطلع دائماً إلى الأعلى .. فإبتسم عرفان وقال .. انني حقاً لا أفهم نفسي .. هكذا خلقت .. وهكذا كنت وٍٍسأكون .. فأسرتي متناقضة .. بين الأصالة ومراسم هذه الأصالة .. وتقاليد هذه الأصالة فدع الملك للمالك.. فابتسم حلمي وتحدث مع نفسه .. وقال وأنا مالي .. أنني أفعل نفس الشيء مع فقري .. وأفعل ما يفعله سيدي عرفان .. ثم إستأذن في الإنصراف .. وسلم على الست روح الحياة .. وعلى شربات فضحكت له من خلف الجميع .. وقال موعدنا الخميس القادم .
دخل عرفان وروح الحياة منزلهما .. وبصحبتهما صغيرهما .. فتناولا عشاء اً خفيفاً ثم دلفا الى حجرتهما .. يتبادلان الغرام حتى الصباح .. بينما أخذت شربات الصغير إلى سريره .. وأخذت تفكر في حلمي .. أحقاً تريده أم لا .. حتى نامت وهي تحتضن مخدتها .. وتشد البطانية على وجهها .. دون أن تصل إلى حل .. الحل كله في يد عرفان بك والأيام كفيلة .. بأن تطحن كل الأحلام التي أتتها يوماً حينما وجدت عرفان يشاغلها .. بين حين وآخر .. ولكن الحق يقال .. تقول لنفسها .. أنه لم يعد يشعرها بأنوثتها .. منذ تقدم حلمي إلى الميدان ..
******************
مرت الشهور والسنون ، وما زال الجميع في مشواره اليومي ، وأصبح عرفان رب أسرة .. روح الحياة .. وعادل وجدير .. وغدير ..وميرفت .. وإنتقلت شربات إلى منزل حلمي ولكنها ما زالت تأتي إلى المنزل ولا تغادره إلا في المساء .. وعاد أولاد المنزل الكبير إلى القاهرة لمتابعة دراستهم .. وعين وائل بإحدى المستشفيات الكبيرة والخاصة بأحد اساتذته .. وتخرجت تيتي وعينت معيدة بالكلية .. وأصبح كريم بالبكالورياوخطب وائل سعاد بنت الجوهري باشا .. وأقام حفلة بنادي (الضباط ) وحضرها أكابر رجال الدولة .. وحضرها عرفان وتعرف على الكثيرين .. من رجالات الدولة .. وإذا بتيتي تعرفه بصحفي شاب وتقول له( برهان بك) رئيس تحرير جريدة الحرية .. وأردفت تيتي برهان بك (خطيبي )فقال عرفان بك .. تشرفنا يا أفندم .. لا تختارين إلا الذي تطلبين .. فردت قائلة مرسيه .. وعلى فكرة أنه من بلدك ..هنا تذكر عرفان مناقشة سيد الحلاق .. فقال له إذن أنت برهان عبد التواب ..فرد برهان بأدب جم .. أنا بعينه .. وأنت إذاً عرفان بك .. رغم الشيب فإن السنين لم تأخذ منك الكثير فرد عرفان .. تطوي الأيام في أعماقها . عمرنا الحقيقي .. وتطوي معها ذكريات كثيرة ... كنت دائما ً أود أن أراك وسمعت قصتك ذات يوم من سيد الحلاق .. لقد قالها لكل إنسان .. وكانت له اليد الطولى في إنهاء المشاكل .. والإشاعات وفي ردع هؤلاء المرجفون بالباطل ...ولقد كان تحذيري لهم أن بعدوا عني .. هم وابنتهم .. إناس لم أرمثلهم ... من قبل ولا من بعد .. إناس نسوا كل شيء إلا طمعهم وجشعهم .. إنهم كمن يبيعون إبنتهم في سوق النخاسة ... فرد عرفان ... خفف الوطء يا أستاذ برهان .. أرى الأنسة تيتي قد ملأت عليك حياتك .. نعم لقد ملأت الحياة ..فهي نوري في الظلام .. زرقاء اليمامة ... ترى لي من بعيد .. فنعم نعم الرفيق ... وتعرف كل شيء عني ... فإبتسم عرفان .. وتبسمت تيتي وقالت أما زلت ترى عني فكرتك الخاظئة .. فرد عرفان لم أقل ذلك .. وأضاف برهان ..لا سبيل للحب إلا أن يكون تفاهم بين قلبين فهي رحلة حياة طويلة يجب أن يبحر فيها مركب بمجدافين .. لا يشاركهما آخرون .. الأسرة تبارك وتهنئ ولكنها لا تقف حجر عثرة .. لأنها حياة شخصين .. وليست حياة أسرتين ..فكل له حياته ... وما قيمة المال إن بني حب أو زواج على هذا .. ما قيمة كل هذا إذا إتحدت قوتان .. من أجل المال وفقدت الزيجة الحب والحنان ... تكون إذا خطبة مصلحة .. وزواج مصلحة .. وأعجب أشد العجب .. من إناس يحشرون أنفسهم في هذا وينسون أن هناك خطأا لا يغتفر .. ولماذا خلقت الخطبة إذن .. أليست للمعرفة والإنسجام ..فإذا ما ظهر ذلك غير ممكن .. إنتهى قبل أن يبدأ كل شيء.. أليس هذا أسهل من وقوع خلاف بعد الزواج .. يا أستاذ عرفان .. لم يكن لي يد فيما فعلوه بي سابقاّ .. ولقد حمدت الله إنه إنتهى .. كما بدأ وأنا بالخارج .. كنت مراسلاً صحفياً .. وعدت لأرى الشائعات لا تنتهي والكل يغذي فيها ويحشو .. وكلها أكاذيب في أكاذيب ولم ينجني منها.. إلا عودتي لعملي الصحفي .. بعد أن كنت ممنوعا ً بلا سبب أيضا ً .. وبعد مقابلتي لتيتي .. على فكرة اسمها مرفت .. فرد عرفان على إسم أختي وإبنتي ...فضحكت تيتي وإستطرد برهان .. لم أكن أعرفها حتى رأيتها فتاة بيضاء هادئة لا تخالط أحداً . .. كان ذلك لدى حضوري ندوة بكليتها .. بعيدة عن الجميع .. فتقدمت إليها وتعرفت بها وزالت الحواجز .. بعد وقت كبير .. ولكني أراها إجتماعية في منزلها .. فردت تيتي .. بيتي مملكتي.. فضحك الجميع وضحك عرفان مرة أخرى .. وقال لبرهان أما زلت مجمع صدمات .. فرد برهان مبتسماً هذا تعبير عمي سيد الحلاق .. فيلسوف هو .. رغم شهادة الخبرة .. والحياة فقط .. فقال عرفان لقد تسأءلت متعجباً لسيد بنفس التعبير فما قاله .. صعب وقاس ِ على شاب مثلك .. فرد برهان هي الحقيقة .. بل جزء من مليون من الحقيقة .. سوف أكتبها في كتاب .. يوم ما أما إنتهاء الصدمات ..فأعتقد أنها لن تنهي .. مع تيار الحياة وصراعاتها ... ولكن أملي كبير مع وجود ميرفت أو تيتي بجانبي لتساعدني وتشد من أزري فردت ميرفت .. وأنا معك على طول الخط .. فقال عرفان أدعو لكم من القلب .. بالتوفيق .. ثم سلم عليهما .. فقالا له مودعين .. لماذا لم تحضر معكم السيدة حرمكم ؟ فقال أنها ليست سيدة مجتمعات .. فحملوه السلام .. ثم إنصرف .. بأدب .. من الحفلة كلها .. وذهب إلى فندق .. كان يرتاده منذ أمد طويل تديره سيدة عجوز تقترب من السبعين .. في الدور االخامس بأحد شوارع وسط البلد .. يتكون من شقتين كبيرتين . فتحت له الشقة الثانية .. وفتحت له حجرته فشكرها .. ولكن ما إن وضع رأسه على الوسادة حتى سمع صوت إمرأة فنهض من فراشه وفتحت باب غرفته فوجد إمرأة يبدو عليها أنها راقصة بملابسها الداخلية تتقيأ في دورة المياه .. وهي مشتركة .. فقال لها أي خدمة .. ممكن أؤديها .. فلم ترد .. ونظرت نحوه في لامبالاة .. فلما ذهب مرة أخرى إلى حجرته وقفل بابها .. ووضع رأسه على الوسادة .. سمع الصوت مرة أخرى فنهض من فراشه وفنح باب حجرته وذهب فوجدها .. وسألها .. أي خدمة يا سيدتي .. سيدته .. تلك الخليعة سيدته .. قالها في نفسه .. فقالت له شكراً وعاد إلى سريره مرة أخرى .. وقفل باب حجرته مرة أخرى .. وسمع الصوت مرة أخرى .. ولم يقم فإزداد الصوت قوة .. فوضع الوسادة الأخرى دون جدوى .. حتى سمع صوت بابها يغلق .. فأخذ يتقلب على سريره .. وتحركت فيه شهواته وسيطرت على عقله .. وأخذ يتنحنح .. فلما لم يجد فتيلاً أخذ يطرق بيده على الحائط .. في دقات رتيبة علها تفهمها .. لكنه سمع صوت رجل .. يبدو وأنه صاحبها .. يقول لها .. قلت لك كفاكي يا سميرة شرباً مع هذا الرجل المأفون .. فقالت له أنه يملك ألف فدان .. ومحفظة بها أوراق كبيرة .. ودفتر شيكات مفتوح .. ولكن صحتك يا سميرة .. كل هذا من أجلك يا حبيبي .. فقال لها ولكني لا أريد هذا .. لا أريد أن أكون مداساً لهذا الغول الكبير .. فقالت له حياتي فداء لك .. ولم يعد يسمع شيئاً .. إنخفض الصوت تماماً ولكن مشاوير المرأة لا تنتهي .. إلى الحمام ثم إلى الحجرة .. حتى داعب النوم عرفان .. فذهب في نوم عميق ..حتى سمع طرقات الصباح من عاملة النظافة توقظه من نومه ..فقال لها إتركيني إلى الظهر .. فقالت أمرك يا عرفان بك .. وعاد إلى النوم مرة أخرى . حتى عادت الطرقات ولكنه لم يسألها عن جيران الأمس ونظر إليها نظرة عابرة ومنحها قبلة كعادته .. ثم نفحها ما طابت له نفسها .. وقالت أياديك الكريمة لا تنتهي .. أتجلس معاً " أياما أخرى " فقال لها مسافر أنا اليوم .. فدعت له بطول العمر .. وقالت له الذكريات القديمة ما زالت في الأعماق نجترها إذا ما أردت .. فرد عليها . . ذهبت الأيام( يا تيرانا ).. فردت قائلة .. ولكن الأيام التي تليها أفضل منها .. ولن يقلل من شوقنا مرور السنين والأيام فضحك .. وضحكت .. ومنحها قبلة أخرى .. ثم وضعت البالطو على كتفيه .. وقالت له .. الجو بارد بالخارج تدثر بما فيه الكفاية ...فشكرها وقال لها موعدنا قريب .. ثم حمل حقيبته وركب المصعد ... حيث هبط إلى الدور الأول .. فركب سيارة قديمة ولكنها صلبة .. وعاد أدراجه إلى التفتيش .. على مسافة حوالى مائتين كيلو من القاهرة .
وصل إلى المنزل .. كان المساء يخيم على المكان .. وطرق الباب .. ففتحت شربات وقالت له .. لم أذهب .. حتى تعود وقالت له روح الحياة .. لماذا تأخرت يا عرفان .. فقال لها طال اليوم أكثر مما ينبغي .. فدعت له وقالت .. أحضر العشاء .. فرد قائلاً .. بعد أن تعد شربات الحمام .. وذهبت كل واحدة .. فأعدت روح الحياة .. الغذاء..وأعدت له شربات الحمام .. وضحكت وهي تناديه ..فقال لها أما يكفيك حلمي .. فقالت .. ذهبت الأيام يا سيدي .. فلا تخجلني بكلماتك ..فدخل ولم يعلق .
كان التعب .قد أخذ منه ما أخذ وإنصرف يحمل الماء الساخن .. في إناء كبير ويصبه على جسمه .. حتى شعر بالتعب يزول مع ذوبان العرق والتراب ويسري الإنتعاش في جسده .. ثم جفف نفسه ، ولبس الروب الخاص به وخرج إلى الصالة .. فتناول العشاء .. وقال لشربات .. نامي الليلة هنا مع الأولاد .. فحلمي يعلم أنني مسافر .. ثم إذهبي غداً وإنصرف وروح الحياة .. إلى حجرتهما .. وأخذ يحكي عما حدث له فى الحفلة .. ثم خاطبها كأنثى فاستباحت له كل العطايا .. فنعم وطاب وذهبا في نوم عميق ..

توجه في اليوم التالي إلى عمله فإستعرض الصحف .. ولم يكن هناك ما يشغله فتعمق فيها ، وإستعرض في تحليل ذهني .. المقالات المنشورة .. وإستلفت نظره .. مقال برهان عبد التواب .. عن الديمقراطية .. وأثرها في تعميق الإنتماء والنهوض بالأمة .. من كبوتها .. وإستمر في قراءة المقال .. " إن الصحافة .. رسالة كبرى في تأسيس صرح الديمقراطية .. وعلى الصحفيين مهمة كبرى لا يلتوي طريقها، ولا تلتفت إلى طرق جانبية .. وواجبهم دائماً حث الحكومة في السعي نحو الدمقراطية ..، ذلك أن الحرية لكل الأفكار .. لا تخيف ، بل الذي يخيف هو المنع الصريح وغير الصريح .. ، فالأسس التي تبنى عليها الأمم أسس ثابتة ما دامت مبنية دون النظر إلى الأشخاص .. فنحن نبني لأجيال ولا نبني لأشخاص فالاشخاص أعمارهم محدودة ، والحضارة بكل ما تحمله عمر لا نهائي ، عمر أجيال قد تفخر بها ، وبمن وضعها ، في قراءة التاريخ وقد تبصق على من تجدهم قد إستعبدوا أشخاصهم بإستعبادهم للناس وأرادوا إقامة صرحهم هم .. إن ذلك مسئولية الحاكم ومسئولية الشعب .. ومسئولية الإعلام .. وماذا يفيد منع شخص من التعبير عن رأيه ، إلا إذا كان ذلك على حساب ما نريد ه ونأمله ، من صرح شامخ لحياة أمة ومستقبل أجيال .. وقد يؤدي هذا المنع إلى دهاليز أخرى قد لا ترضي بها ، الادارة المسئولة ثم تكون النتيجة أسوأ أثراً من المنع ذاته .. والحرية المنشودة .. هي حرية المواطن في التعبير طبقاً لدستور الأمة ، الذي عرف المواطن بأنه الذي يحمل جنسية هذا البلد ، دون النظر إلى أصله وفصله وعائلته ، ودون التظر إلى جنسه وديانته وعقيدته ، إننا بهذا ننطلق على أفاق رحبة ، وطريق واسع ممهد ، نحو ما نتمناه لهذا البلد العزيز ...."
ثم إنطلق لصفحة الحوادث .. ، فاستعرضها بنفس الطريقة ...
قالت صحيفة اللبلاب " إكتشاف عصابة لتزوير المستندات .. تزوير شهادات الزواج ... شهادات الخدمة .. شهادات السفر .. الشرطة تقبض على العصابة في حالة تلبس .. بعدما تنكر بعض ضباطها في زي طالبي هذه الخدمات .. ضحايا كثيرون لهذه العصابة ..."
" محامي يستولي على أراضي وأطيان وأموال يتيم .. بموجب تزوير مستندات رسمية .. ومحامي آخر يكشف هذه الجريمة .. " وتحدثت صحيفة المؤيد " عن بحث مؤداه تحديد معنى الحق .. وهو الحق الظاهر .. والحق الباطن .. والحق الظاهر هو المؤيد بالمستندات ...، والحق الباطن هو الذي لا تؤيده المستندات .. وأن على جهات العدالة ألا تدخر وسعاً نحو إيجاد الدليل المؤيد حتى لو كان معنوياً .." ثم إنتقل الى أخبار الميزانية، وأخبار الجهاد من أجل إستقلال البلاد ، ثم عرج على أخبار الفن وتحقيق صحفي .. عن النجمة المشهورة أم كلثوم .. والفنان العظيم محمد عبد الوهاب ..والموسيقار الكبير رياض السنباطي ..."
وبعد أن قام بتلخيص الأخبار المهمة التي تهم دولته .. وقام بقص الأخبار الخاصة بدولته من بعيد أو قريب .. قام بلصقها في سجل معد لذلك .. وطلب قهوته وشربها .. ثم أخذ يتأمل خطوطها كانت إحدى البدويات التي ترعى في الأراضي بأبقارها وغنمها وجاموسها ... قد علمته إياها ..وأخذ يرى أن الطريق طويل وأن الحياة سترفعه ثم تخفضه ثم ترفعه ثم مسار طويل بلا رفع أو خفض فإبتسم ثم كشر ثم إبتسم .. ثم إعتدل في كل شيء حسب الأحوال وخطوط الفنجان .. وبينما هو هنا وليس هنا دق الجرس ..فقام مسرعاً مقدماً الصحف لدولته .. وملخص بأهم الأخبار فأخذ يؤشر عليها .. بما يفيد الحفظ أو الرد .. فلما انتهى من كل هذا قال له يا عرفان إستعد أخبار مهمة في الطريق .. وصلني الآن رسالة عاجلة .. برفع التحفظ عني .. وأخبار أكيدة عن إستقالة حكومة أمين باشا .. وتكليفنا في الطريق فإستعد للسفر .. فإبتسم عرفان ..وهنأ دولته ثم سمح له لأول مرة أن يقبله من الخدين وقام دولته لأول مرة ثم فتح علبة السيجار وقال له الآن تستحق سيجار هافانا العظيم .. فأخذه عرفان شاكراً وإنطلق عرفان خارج الحجرة . "عرفان يا هذا .. يا قراءة الفنجان .. ويا فرع العمودية في أصل الشجرة .. ويا خبير كل شيء في المعاملات والإتيكيت والبروتوكول رغم كراهيته لكل هذا .. ولكنه يجيد كل هذا .. " كان عرفان يحدث نفسه .. ويترنم بأغنية " آن الأوان يا جميل .. نركب سوا في النيل .. ونتغدى في قصر النخيل .. ونتعشى مع الزغاليل .." أغنية ركيكة سمعها في فرح شعبي وجاءت على لسانه .. وتحرك إلى مكتب لبيب الأسيوطي .. فتبادلا التهنئة وعرف منه أنه قسمة .. الجوهري باشا .. ولبيب كما هو مع دولته .. ولم يفاجيء عرفان فقد عرف ذلك .. من قبل لدى مقابلته دولته ومعاليه في يوم من الأيام ، ثم إستأذن من لبيب الأسيوطي .. ليعد عدته فقابله بعض الغوغاء ..وفي أيديهم بعض شكايات مختلفة .. وقابله بعض المتحذلقين فحولهم جميعاً للرجل العجوز لبيب الأسيوطي .. وقال له اليوم يومك يا أسيوطي .. وليس لعرفان إلا الفرار .. فضحك الأسيوطي وقال له .. سريعاً ما تعلمت المهنة .. وعركتها ورميت لي بكل هذا الكم .. فإذهب على بركة الله ..ولا تنسى لذائذ الريف .. فلسوف يكون لنا لقاء وسوف تكون لنا أيام .. في مصر الغالية ..وعلى كل حال .. لقد جهزت لك شقة جميلة كبيرة تقابل شقتي .. في جاردن سيتي ليكون ما بيننا عشرة أعوام .. وعشرة عمل .. وعشرة جيران .. في ظل دولته العظيم .
قام عرفان وزوجته وأولاده بتصفية أعماله بالتفتيش وعاد إلى البلدة في ظل العمدة الجديد من الراغبية ولكنها لم تعد تهمه من بعيد أو قريب ثم دعا أسرته المشتتة إلى وليمة فاخرة بمناسبة إنتقاله إلى القاهرة .. وأعطاهم العنوان الجديد الذي أخذه من لبيب الأسيوطي .. وإستأجر عربة في اليوم التالي لحمل ونقل أثاثه المنزلي .. وأعطاها العنوان ثم أخذ أسرته في سيارته الخاصة .. وإتجه إلى القاهرة .. محملاً بما لذ وطاب .. من كل خيرات الريف .
********************
كان الطريق طويلاً ، وكان الجميع مجهدا ً ، فقد قضوا اليوم كله في الانتقال من التفتيش الى البلدة ثم من البلدة إلى القاهرة .. وكان يقود وهو يغالب النعاس .. لكنه كان متنبهاً( بلكزة) من زوجته .. ، كانت تعرف ذلك وكانت توقظه بالحديث المتواصل ..(واللكز) المستمر ..، بينما فريال الخادمة الجديدة تجلس مع الأطفال بالخلف .. تحكي لهم حكايات مختلفة وترسم لهم صورة جميلة .. تلائم سنهم .. ، كانت فريال متعلمة ، بعكس شربات التي كانت لا تعرف غير كتابة إسمها .. وكان إختيار فريال بالمصادفة .. وفي دقائق وجدتها روح الحياة في البلدة مع أمها أم علي .. التي تخدم بمنزل والدها ، الشيخ محمد فطلبتها ..، قالت أن شربات لا تستطيع الانتقال بعد أن ارتبطت بحلمي .. في التفتيش فلم تمانع أمها .. وبكت وهي تودعها وقالت للست روح الحياة إعتبريها إبنتك كما تعودنا أن نكون .. في بيتكم الكبير .. أسرة واحدة .. فربتت روح الحياة على فريال وقالت لامها لا أنسى أنك أنت التى ربيتني والأيام لا تنسى إلا الجاهلون .. هي في مقام إبنتي وإنفرجت أسارير فريال وفرحت أنها ستذهب الى القاهرة ... وهي التي تعلمت القراءة والكتابة في وقت لم تتعلم فيه سيدتها .. ، كانت تتعلم معهن جميعاً مع أولاد العائلة في المنزل .. ونجحت في أن تقرأ وتكتب .. وأثنى عليها مدرسوا الأولاد وكانت تقرأ لجميع سيدات الأسرة في أوقات فراغها .. وأمها فرحة بما تقدمه إبنتها للاسرة وها هي الآن تحكي حكاياتها التي سمعتها وقرأتها لأولاد سيدتها .. روح الحياة .. وزوجها في أوقات يقظته .. يضاحكها .. فيقول لها .. لا تجعلي أحداً يضحك عليك .. ويبيع لك الترام .. فتضحك .. وتقول لا تخشى على شيئاً .. لقد صرعت الأطفال في الحارة وضحكت عليهم وأخذت قروشهم .. فيضحك الجميع .. وينطلق كل فيما خصص له .. .. هو يقود وزوجته تحدثه ثم( تلكزه ) .. وفريال تحكي لهم .. حتى وصلت العربة إلى منتصف الطريق فأوقفوا العربة أمام أحد الكازينوهات .. المنتشرة على الطريق .. في هذه المنطقة .. وقال عرفان الآن نستريح قليلاً .. ثم أخرجوا غذائهم وأخذوا يأكلون ثم جاء النادل وقال ماذا تشربون .. يا سعادة البك .. فقال أي مثلجات .. ونارجيلة .. وفي دقائق معدودة كانت المشروبات قد جاءت وأنفاس النرجيلة تنتهي واحدة وراء الأخرى .. بعد رحلة تعب ودخان .. حينما يمر الدخان ذاهباً الى فم وأنف عرفان ويخرجهما في حركة مص وطرد ثم يتفنن في كتم الأنفاس ...ثم إخراجهما من الفم .. دفعة واحدة ويتذكر يوم تنافسوا على من يكتم أكثر ... وكان هو الأول ثم تذكر يوم شربوا جميعاً وكان الشرب به( مدفون) حسب لغة أهل الشرب .. فتخدر الجميع وصعد شيخ البلد وشيخ الخفر من قبل .. عبد العليم وهو في الوقت ذاته شقيق زوجته ..وأخذ يرقص ويقول " دركي أهوه.. دركي .. آهوه " والجميع من حول المائدة التي صعد إليها يرقصون ويهللون ويرددون وراءه " اتمختري يا حلوة يا زينة .. يا طالعة من جوة جنينة " وهكذا لاح الفجر فحملوا عبد العليم إلى سريره فلما خلعوا عنه ثيابه .. أخذها منهم ووضعها في جانب من السرير وقال وهو مخدر ..." ضعوهم هنا حتى لا ينكسروا .!.!" فضحكوا وإنسحبوا وهم لا يقلون عنه تخديراً .. وإنتهى عرفان من نرجيلته .. فدفع الحساب وأضاف البقشيش بعد أن سمع كلمة بك .. ثم دلف إلى سيارته ومعه أسرته .. وإستمرت الرحلة وزوجته تقول له .." والشقة اللي جابها لبيب بيه حلوة وكبيرة .." فقال انها كذلك .. أربع أو خمس حجرات .. وإيجارها قليل .. وقالت وهل أعطاك المفتاح .. فرد سنستلمه من البواب .
إستمرت الرحلة .. وفريال تحكي لهم عن حكاية الطفلين الغني والفقير .. وكيف تم تبديل الشبيهان .. فصار الطفل الفقير بعد أن لبس لبس الغني هو الطفل الغني .. وصار الطفل الغني هو الطفل الفقيربعد أن لبس لبسه .وكيف مرت بهما الظروف والأيام كل يعامله على أساس لبسه وليس على أساسه هو .. حكاية جميلة ومسلية .. ثم فتح عرفان السرعة قليلاً فإنزعجت زوحته وقالت له هدي يا عرفان .. لسنا مستعجلين فخفف من سرعته .. ثم فتح زرار المذياع .. فإنسابت موسيقى هادئة .. وأعلنت الساعة موعد نشرة الأخبار .. " قابل اليوم جلالته .. دولة .. وكلفه بتشكيل الوزارة الجديدة .. بعد إستقالة حكومة أمين باشا .." وإبتسم عرفان لهذه الأخبار الطيبة .. وإنطلق يغني .. كنا عصفورين طايرين في الهوا .. حطينا فوق غصن سوا .. ومن غصن لغصن عدينا سوا .. " كانت أغانيه من وحي الخاطر .. أغاني خفيفة .. يدندن بها .. في العربة وفي المنزل وفي المكتب .. وفي دورة المياه وهو يقضي حاجته .. وهو يحلق ذقنه .. وإنطلق مسرعاً فلم تردعه زوجته ولم تعد (تلكزه!! ).. لأنه صار كأنه نام أياما طويلة .. وبعد مدة ليست بالقليلة .. وصلت السيارة إلى القاهرة .. وقال عرفان حمد الله ع السلامة .
**************************
أخذت فريال تصحي الأطفال بعد النوم .. بالحكايات المتواصلة .. وسعد الجميع بالصور المتلاحقة التي تقابلهم فيما عدا عرفان فقد جاء إلى القاهرة عدة مرات ولم تعد صور القاهرة تفتنه .. بينما الجميع لم يرو من قبل مثل هذه المظاهر .. وهذه العمارات الشامخة .. وهذه الطرق المسفلتة .. والناس الذين يلبسون البدل .. بدلاً من الجلابيب والعربات الكثيرة التي تسير بالموتور ذات الماركات والموديلات المختلفة .. ولم يجدوا أثراً للريف عدا عربات الزبالة تجرها ثيران قوية .. والوجوه الحمر من الإنجليز منتشرة .. في الميادين .. وفي الساحات وفي الشوارع .. وفي كل منحنى وفي كل طريق ..وقاد عرفان سيارته عبر الطرق المرصوفة .. متجهاً نحو شارع القصر العيني إلى منطقة جاردن سيتي حيث وصل إلى العمارة .. طبقاً للعنوان المرسوم له بمعرفة لبيب بك .. ولم يتحير كثيراً فقد وجد البواب .. ينظر إليه ثم يقف .. ثم يسرع مهرولاً .. عرفان بيك حمدا لله على السلامة .. فرح عرفان لوعد لبيب ثم نزل وأخذ يحادث البواب .. ومنحه جنيهاً فسلمه المفتاح وإلتوى هو وأولاده على الحاجات الخفيفة كجسد أفعى ! يحملها إلى الشقة المذكورة في الدور الرابع عبر المصعد .. ثم نزل مسرعاً وقال له .. تفضل يا عرفان بك .. الشقة مجهزة لإستقبالك .. لقد حملنا كل الأثاث ونقلناه إلى أعلى .. ومنحت العمال خمسة جنيهات .. ومنحت السائق والتباع جنيهان .. فابتسم عرفان وقال له .. لقد أخذا أتعابهما مقدماً .. متى وصلوا .. ؟ فرد البواب لقد وصلوا من ساعتين تقريباً يا عرفان بك .. فضحك عرفان وإنبسط أكثر .. وقال له حسابك سبعة وثلاثة للبكوية .. فيكون المجموع عشرة جنيهات .. خذها على بركة الله .. فانحنى البواب .. كأفعى في سيرك .. وتلوى يريدأن يقبل يده ..فرفض عرفان وقال له عليك أن تراعي طلبات الست .. وطلبات فريال .. فقال البواب نحن في الخدمة .. يا عرفان بك .. ولكن عرفان لم يمنحه المزيد .. رغم أنه شدد البك ثلاث مرات .
صعد هو وزوجته وفريال وألاولاد .. إلى الشقة الموعودة .. وفتح الباب مبسملاً فوجد قطة تقفز من الشباك .. فقال " سلام قولاً من رب رحيم" وإنطلقوا يتفرجون ويقلبون ويرتبون في سعادة بالغة .. يا لها من شقة فاقت في بدائعها الزمان .. وأين منها منازل الريف الكبيرة . فرق شاسع وبون كبير ، ولكن منازل الريف رائحة الأرض تملأها وخير الريف يشبعها .. وشقة القاهرة مزينة كعروس في يوم دخلتها .. زينتها تطل من كل عمارة .. تنافس الشقق الأخرى ونظافتها لا تعلوها نظافة وبوابها .. كأبي الهول يحرس الأهرامات ولكنه ثرثار عل غير عادة الحراس في هذا الزمان ..
أعلن التشكيل الحكومي وأصبح الجوهري وزيراً للصحة .. وأخذ معه عرفان سكرتيراً له ، وفي مكتبه الجديد تعرف على هيئة مكتبه فرداً فرداً ثم دلف إلى مكتبه الفخم تحيط به مجموعة مختلفة الألوان من التليفونات كل منها مخصص لغرض بعينه .. وأخذ منه اليوم ما أخذ وإكتظ المكتب بالمهنئيين من كل صوب وحدب .. من يعرفهم ومن لا يعرفهم ، وقال له رجل عجوز بالسكرتارية سبحان مغير الأحوال أين هذه الوجوه من الأمس إنها كانت مع كل صاحب سلطة وصاحب كل مكانة .. فما إن يختفي حتى تختفي هي الأخرى لقد شيعوا وزيرنا الحالي بكل ما لا تتخيله .. ورحبوا بالجديد بكل ما لا نعرفه واليوم يعودون مرة أخرى ولا تخشى ما يقولونه إن لهم ألف قناع وألف وجه .. هكذا صنعتهم وهكذا مصلحتهم .. لا يحول دونها حائل .. أترى كم الهدايا هذا من الورود ستجد أضعافها من الهدايا الحقيقية بالمنزل .. كلها من أجل الحصول على الإمتيازات .. أتحب أن تستعرضهم .. هذا السمين صاحب صيدلية كبرى وهذا الرفيع يعمل بتجارة الدواء .. وهذا القصير يملك مستشفى خاص .. أما هذه السيدة صاحبة منزل كبير وصالون فخم .. دائماً تتعرف على الوزراء ... وتدعوهم في حفلات خاصة بمنزلها .. ومن هناك تحصل على التوقيعات اللازمة للشركات الأجنبية وذلك مقابل عمولات ضخمة .. أما هذه السيدة الأخرى فصديقة قديمة لسيادته .. وأما هذا الرجل .. فهو المندوب الصحفي لمجلة الحقيقة يبحث دائماً عن الأخبار ولا مانع من الحصول على الإعلانات رغم أن مجلة الحقيقة مجلة فنية ولكن الإعلان ليس من المهم أن يكون عن الفن .. فالدواء ضرورة لكل بيت ولكل قاريء ودعايته لا تقل عن السلع الأخرى .. أما الخجولة التي بجواره فهي مندوبة صحفية يدربها معه ..
أرأيت يا سيدي ماذا ترى . وأي وجوه تتعامل معها .. فرد عرفان عملنا يعرضنا لأشكال مختلفة من الناس ومهتمنا أن نسهل لهم الأمور بما لا يخل بعملنا .. فتمتم الرجل العجوز بكلمات مبهمة لعرفان واضحة لنفسه .. كلكم هكذا في أول الأمر ثم سرعان ما تنقلبون .. إلى سماسرة تدخلون ما تشاءون لمعاليه وتمهدون لهم جيداً وتهملون ما تريدون وتغفلون أخرين .. فقال عرفان .. ماذا تقول يا أنور أفندي ؟ فرد مسرعاً ، لا شيء . لا شيء إنني أستغفر .. !! آه برافو عليك .. رد عرفان ، لكنه فهم ما يدور بداخل هذا العجوز .. الذي يخفي الكثير تحت هذا الوجه الجامد .. الذي تعود أن يضع كل إنفعالاته تحت هذا القناع .. بحيث لا يظهر منه إلا ما يريد .. إبتعد أنور أفندي عن عرفان وأخذ ينظم من الباب الخلفي لمكتب سكرتير سعادته . وأخذ عرفان يتناقش مع بعض المنتظريين ويدعو من جاء عليه الدور للدخول ..
قال له فريد أفندي .." تصدق يا سعادة البك .. إنك إبن حلال مصفي .. إنني قابلت كثيرا من مديري المكاتب .. ولم أجد أحداً منهم قلبه مفتوحاً مثل قلبك .. تصدق لقد دخلت إلى السيد محافظ الأسكندرية في دقائق بكارت توصية من السنارى بك .. كان الموضوع طلب شقة .وكانت الشقة لدى أحد المقاولين .. ولكنه ترك توزيعها للمحافظة بإيحاء من أحد أصدقائه .. كتكريم للسيد المحافظ .. وحول طلبي إلى المختص بأحد أحياء الأسكندرية .. تصدق بالله يا سعادة البك لم أستطع مقابلة السيد رئيس الحي .. لمدة تزيد عن السنتين .. ولم آخذ الشقة .. حتى الآن وأخذها مجموعة من إياهم .. ولم تتكرر العملية .. لقد كان هذا المقاول فلته في هذا الزمان .. ولم يكررها بعد .. مرة واحدة فقط .. فرد عرفان .. نحن مكاتبنا مفتوحة وقلوبنا مفتوحة .. وقد يكون هناك عذراً لهذا السيد مدير مكتب السيد رئيس الحي .. فأسرع فريد أفندي بقوله . عرفت السبب فيما بعد .. لقد عرف رئيس الحي موضوعي .. وأنا واقف معه في غرفة السيد مديرمكتب المحافظ وأهملته لأنني لا أعرفه فلما حول الطلب إليه أراد أن يرد كرامته على حد تعبير أحد إخوانه .. فأهملني سنتين ثم ضاع الطلب منذ هذا الزمان !
فرد عرفان ولا يهمك .. وماذا طلبك اليوم .. فقال فريد أفندي .. لا ليس لي طلب .. إن سعادته له أفضال علي وقد جئت أؤدي واجب التهنئة وليس كل حضور له مقابل وإنما هو تداعي الأفكار الذي أورد كل شيء وأحل هذا الحديث برمته .. فإبتسم له عرفان فقال له حل دورك يا فريد أفندي وليس لك إنتظار مثل ما نلت من قبل ، فشكره فريد أفندي وعوج طربوشه وبرمقه عين في مرآة برم شاربه .. ثم أعدل وردة بيضاء في عنق جاكتته .. ثم نظر إلى حذائه فوجده لامعاً فشد من قامته في حركة منشاة .. ولكنها عفوية .. وتبعث على الإبتسام .. وطرق على الباب ودخل ثم قفل الباب وراءه وعندما دخل عرفان لأمر ما وجده يؤدى حركات تمثيلية مرتجلا القولوالحركة" وهل لي بعد اليوم يوم أن تعود معاليك إلى كرسيك وها أنا أعود إليك حاملاً البخور وأخرج من جيبه ورقة ملفوفة بعناية ومن جيبه الآخر أخرج قطعة من الصفيح الصدأ ووضع فيها البخور ثم أشعل فيه النيران ، وبخر حجرة سعادته ثم لف حوله سبع لفات وأطلق كل الكلمات" فضحك له الباشا وقال له عادتك في كل كرسي يأتي .. !! فضحك له أيضاً .. معاليك ..من ينكر كرمك وفضلك .. ولقد فعلتها لك في أول كرسي ! وها أنذا أفعلها في الكرسي الثالث .. أطال الله عمره وعمر سيادتكم .. !! فقال له الجوهري باشا .. ماذا تريد من حلاوة اليوم .. فقال له سبق اللوم العتب وقديماً قالوا سبق العتب اللوم .. فأخرج دفتر شيكاته وأمهر له بماأراد فاخذ الشيك وهو يقفز في الهواء ثم ناداه .. سعادتك.. سعادتي .. وما اليوم بكثير علي أن أفرح وأن ألغي البروتوكول كما تعودت في كل مرة . ثم إنصرف كما حضر ...
كان حاضراً سليمان بك الموجي .. أحد أقارب الجوهري باشا فضحك الجوهري باشا وقال لا تأخذ في بالك يا سليمان بك فهذه عادته في كل مرة فلا تلقي بالا لم ترى فرد سليمان ولكنه رجل عجيب يكاد يلعب بالبيضة والحجر .. فقال الجوهري ولكنه مهم جدا ً في وقت إنتخابات الحزب وهو موظف بالمحجر البيطري بميناء الاسكندرية ..
إستأذن سليمان بدوره وكرر له التهنئة ولا تنسى سلامي إلى صوفي هانم والاسرة .. فوعد بتبليغ السلام .. وحمله السلام لاسرته فإنصرف واعداً بتكرار الزيارة فلما خرج من المكتب رافقه عرفان مودعاً له فسلم عليه سليمان بك .. إزيك يا عرفان .. أخبارك أيه مبسوط هنا ...فرد عليه بالشكر وكرره مرات ومرات .. فنظر إليه وقال له أريدك أن تشرفني بزيارتك .. فرد عرفان العفو .. فأردف سليمان .. وهذا كارت مني بالعنوان فأخذه عرفان شاكراً وأوصله حتى الباب الخارجي مودعاً بكل الأماني .
عاد إلى مكتبه وأخذ في إدخال المهنئيين واحداً وراء الآخر .. وهو في حوار خلال كل هذا مع المندوبين الصحفيين .. قال له حسن الستيني يوم ميمون بحمد الله ولكني لا أعرف عنكم الكثير فرد عرفان .. لي من الحياة كثيرها عركتها وعرفتها ولنت لها ولم تلن لي إلا بشق الأنفس وهاأنذا كما ترى أصرف الأمور جميعها .. وأردفت عبير بكلمة من عندها هل لك إهتمامات أخرى ؟ فقال لها لي قراءاتي وإطلاعاتي فقال حسن أي إطلاعات ؟ فرد عرفان في كل المجالات تقريباً فسألته عبير من يعجبك من من رجال الأدب .. ؟ فقال جميعهم .. لقد قرأت لجميعهم وعرفت خصائصهم ومميزاتهم .. ولكن حركة النقد لم تستطع أن تلاحق الكم الهائل من الابداعات المنشورة وغير المنشورةأ و تغطىأعمال الأدباء المتزايدين المعروفين وغير المعروفين وترى ناقدا يقول أن هذا يقلد هذا ولا يأتي بجديد وآخر يقول أنه لا جديد يصنف فى جيل العمالقة .. وكل هذا ياأصدقائي مخالف للحقيقة .. فكل الأدباء قرأوا لمن قبلهم عبر حركة التاريخ وعبر حركة المكان وعبر حركة الزمان .. ومن لم يقرأ لكافة من سبقوه فقد خسر الرهان تماماً وتوفيق الحكيم يقول إن الكاتب كالمصنع يغذى بالمواد الخام .. ويخرج منتجات تامة .. تختلف عن المواد الخام الداخلة فيها ..إن المبدع يهضم كل القراءات والإتجاهات .. ويخرج ثوباً جديداً من كل هذا ، هو فكره ورأيه وأنا أقول لكم أن الأديب في قراءاته المتعددة كمن يأكل من كل مائدة ومن كل نوع ويشرب من كل نوع ثم يهضم كل هذا بفضل الأنزيمات والأحماض ليتحول كل هذا الكم إلى دم يغذي العقل ويغذي الجسد يغذى من شرايين الجسم الممتدإلى كل قطعة من الجسد ليتحرك في توازن وتناسق ونشاط دون أن تستطيع أن ترجع هذا الدم إلى نوع معين دون أخر ، وهكذا الفكر .. خلاصة من كل القراءات والإطلاعات التي توسع المدارك ليقوم العقل بضبطها في الإطار الذي يلائم صاحبه ، ويكون لكل منهم ثوبه الخاص ورائحته الخاصة ولونه الخاص ولكن ليس معنى ذلك أن تسرق فكر أحد الأدباء وتصيغه في أشكال أخرى كما يفعل كتاب السيناريو وتقول هذا إنتاج يخصهم هنا تبرز الأمانة ومسئولية الجميع في حمايتها ألا وهو حماية الإنتاج الفكري من كل هذا .
، وما رأيك في أزمة النشر ؟ أزمة النشر لن يحلها إلا تكوين شركات مساهمة تساهم فيها الدولة والأفراد في كل منطقة من المناطق لكي تحل المشكلة وأن تضع الدولة تسهيلات كثيرة ضرائبية وجمركية وألا يخضع الإنتاج الفكري في أى صورة من الصور للضريبة وإنما يتحملها المنتج في حالة تحويله إلى عمل فني .. ويعفى منها الأديب في كافة الأحوال لأنه ليس وليد المتاجرة أو الصناعة أو العمل وإنما هو وليد العقل وإن كانت الدولة قد ساعدت هذا العقل في النمو فيبقى لها أن تفخر به ولأجيالها بأدبائها ومفكريها فالأمم تقاس بما تنتجه من الشوامخ في المجالات المختلفة .. من مفكريين وباحثيين وعلماء وأدباء .
وما رأيك في الكتاب الجدد ؟ ... ليس هناك جديد أو قديم .. وإنما هناك أدب أو لا أدب .. وليس هناك تصنيف للعمل . أو تأثيرية عليه .. وإنما هناك نتاج الأديب نفسه .. بعد أن قلت أنه قرأ للجميع .. وإستفاد منهم جميعاً ولكنه برز بنفسه وبتكوينه وأراد أن يعلنه للناس .. ولقد إستفاد منهم كما إستفادوا هم من غيرهم وأليس القدامى هم القائلون .. أديب بلا قراءة لا يساوي شيئاً وأديب يقرأ إذا هو العالم بأسره.. يطلع على كل التجارب .. ويقيس كل الإتجاهات .. ويشق طريقه معتمداً على سعة إدراكه لكل هذه التجارب ..
وما رأيك في الصراع بين الكتاب القدامى والجدد .؟....
لا يخشى الصراع إلا الضعيف .. ما دام قائماً على الحق والشرف والأمانة والنزاهة .. هنا يكون إسمه التنافس .. تنافساً شريفاً .. نحو المستقبل المضيء لأمتنا ..
هنا توقف الحوار .. بعد أن خرج آخر زائر .. وحان الدور على المندوبيين لتهنئة سعادته .. فدخلوا .. ودخل معهم عرفان .. وجلسوا جميعاً في حوار ممتد حول الوزارة .. والدواء وسياسة تصنيفه والآمال المستقبلية والرعاية الصحية .. لكل مواطن في المدينة وفي الريف .. وإقترحوا إقتراحات مفيدة .. سجلها عرفان .. لتنفيذها ..ثم إستأذنوافي الإنصراف .. بعد أن أخذواا الصور المطلوبة لنشرها في العدد القادم .. من مجلة الحقيقة وباقى الصحف .. وخرج معهم عرفان .. فقال له حسن الستينى لقد أخطأت طريق العمل .. فمجالك الكتابة فقال عرفان قد يأتي يوم من الزمان .. وأتفرغ لهذا .. ثم ودعهم .. وعاد إلى معاليه .. تمهيداً لنزوله عائداً إلى المنزل . فبادره قائلاً .. ما رأيك اليوم يا عرفان .. .. فرد عرفان يوم يعد في سجل التاريخ .. الفرحة عمت الجميع والسعادة بحورها فاضت ..فروت كل النفوس المتعطشة لمياهها وامتدت الأيدي لاهجة بالدعاء والثناء ..فإنتشى سعادته من هذا التقريظ وإنبسطت أسارير وجهه وقال له.... عرفان .. أنت ولد لعوب تعرف كيف تلوي أعناق الكبار .. وقد عرفت فيك هذا منذ لقاء التفتيش فعملت على أن أظفر بك .. وقد حدث .. ولكني قد أفرط فيك ..ولكن لمصلحتك ومصلحتي ...ولمصلحة سليمان .. ألم يحدثك اليوم ..؟ فرد عرفان حدثني .. أن أزوره فقال معاليه .. عليك بها ولن تندم ..وإذا ما وافقت ميولك .. ما سيعرضه .. فسيخلفك هنا .. جيهان هانم .. ثم حمل عرفان حقيبته وضغط على زر المصعد ثم إمتطياه حتى الدور الأسفل.. فالجراج فالسيارة .. فركب سعادته وإنطلق عرفان الى سيارته عائداً الى منزله .
في المصعد تقابل مع الأستاذ لبيب وتبادلا أحاديثا شتى وسأل كل منهما الآخر عن كل ماعن لهما من أسئلة .
********************
قال له عرفان سريعاً ما تمر الأيام ولكن أحداثها أكثر سرعة .. اليوم سوف أنتقل إلى عمل جديد .. فرد لبيب .. هكذا من أول يوم .. يبدو أن العمل يمرر العمل .. لعله خاصيات .. الجوهري .. إن له كثير من الأعمال يديرها .. فقال عرفان .. تبدو خبرتك عميقة جداً ..فقال لبيب تجربة واسعة مع هؤلاء القوم .. فلتهنئ بما تجد .. ولا تسأل أسئلة كثيرة وسوف يصيبك من كل هذا الكثير .. ولكنك لم تخبرني من سيحل مكانك .. فرد عرفان .. واحدة إسمها جيهان .. آه . قالها لبيب .. أين وجدتها أو رأيتها يا لبيب .. الآن تذكرت إنها قريبة سوزان هانم زوجة فتحي بك أبو رميح .. عضو مجلس النواب .. الآن إكتملت الحلقة المفقودة يا عرفان فلا تسأل كثيراً وإلا عدت كما كنت .. فشكره عرفان وتوقف المصعد .. فذهب كل منهما الى شقته .. طالبا السلام على أسرة الآخر ..
*******************
في المساء لبس عرفان بدلة إسموكنج وإتجه إلى الزمالك حيث العنوان المذكور .. ودق الجرس ففتح الباب .. خادم نوبي يلبس ملابسه الرسمية .. فقال عرفان ...سليمان بك موجود .. فقال الخادم " نقوله مين " ؟ فقال له .. قل له عرفان سكرتير الجوهري باشا .. فقال الخادم .. دقيقة يا أفندم ثم عاد من حيث أتى وسمح له بالدخول إلى قاعة رسمية مغطاة بالسجاد الفاخر .. ومزينة الجدران .. بلوحات مختلفة لفنانين عالميين .. ولوحات لفنانين مصريين وبعض الفازات الثمينة .. منتشرة في أرجاء القاعة .. في شكل رتيب .. وبعض التماثيل الفرعونية .. والحديثة .. ومن القاعة إلى باب كبير.. تحرك فاتحاً جانبيه بمجرد الوصول إليه حيث حجرة الصالون وهي لا تقل روعة عن قاعة الإستقبال المفضية اليها .
تفضل إنتظر البك .. قالها الخادم النوبي .. ثم إنسل لبرهة عائدا حاملاً مشروبات مختلفة .. وضعها أمام عرفان .. وإنصرف إلى الداخل .. بينما موسيقى هادئة ناعمة تنساب بين أرجاء المكان .. إستند عرفان بظهره على الكرسي المريح .. وتطلع إلى سقف الحجرة .. فوجد مجموعة من الثريات تتوسطها ثرية كبيرة .. في شكل بديع ثم إلتفت الى الحوائط .. فوجدها لا تقل بهاءاً أو حسناً .. ومعلق بعض الصور عليها فتأملها واقفاً مقترباً منها .. فوجدها تخص أسرة سليمان الموجي .. منذ الجد العاشر .. فإبتسم عرفان لذلك دون أن يعلق .. ولكنه إستخلص لنفسه نتيجة أن سليمان هذا يمتاز بالدقة والتأريخ والتسجيل والتأصيل وإلا لما إحتفظ بكل هذا وأن الذكريات لها جانب كبير في حياته وبينما هو كذلك دخل سليمان بك في بيجامة منزلية يعلوها روب (ديشامبر) .. وسيجار فخم في فمه ووقف بجواره مبتسماً ثم علق قائلاً .. الماضي مازال في أعماقي .. معلقاً فوق رؤوسنا كما ترى ..فرد عرفان في تأدب .. أهلاً سليمان بك .. فقال له الأخير خذ راحتك البيت بيتك .. وإترك رسميات المكاتب .. ودعنا نعيش كأصدقاء .. هؤلاء أجدادي وأبي وأمي وإخواني .. أسرة كبيرة كما ترى .. فعلت الكثير حتى تصل إلى كل هذا .. ولكنني طينة من طينتهم .. ولكن ستجدني مختلفاً علمتني ذلك الأعمال .. ثم طلب خادمه وأمره بالشراب ..فأتى بعربة معدنية تتحرك على عجلات وبها عدة الشراب .. فصب بيديه كأسين ووضع الثلج الملائم.. ومد بأحدهما لعرفان .. ثم إستطرد في الحديث .. بعد أن جلس على كرسي قريب من فازة ثمينة وتمثال صورة طبق الأصل من (الكاتب الفرعوني) .. ودعا عرفان إلى الجلوس إلى كرسي مقابل .
طينتي ستجدها في أعمالنا المشتركة مع شريكي الجوهري باشا .. لنا عمليات كثيرة مع الشركات الأجنبية لدينا مكتب إستيراد وتصدير .. نعمل في مكتبنا في كل شيء .. ولكن أهم شيء إستيراد الأدوية ثم نتفق مع الوزراة على أخذ حاجتها منا .. دون السوق المحلي .. ونريدك معنا تدير هذا المكتب .. وسنعطيك مرتباً كبيراً ونسبة من الأرباح وسيكون لك كل الصلاحيات .. لقد تحدثت معك بصراحة ..فما هو رأيك ..؟ فرد عرفان الرأي .. رأيك يا سليمان بك ..وكيف تطلب رأي في مثل هذه الأمور والفضل كل الفضل من قبل ومن بعد لدولته ولكم ..فرد عليه سليمان وهو كذلك .. ولكن ما أخذناك إلا لكفاءتك وكتمانك الأمور .. فأنت تعلم كم نعاني من الصحافة التي تشم أخبارنا وتتجسس علينا على بعد ألف ميل .. فرد عرفان مثل حسن الستيني .. فقال سليمان... الستيني مقدور عليه ولكن غيره كثيرون .. يبحثون وينقبون .. إنهم في كل يوم يحاولون تحطيم هؤلاء الزعماء ولم يمر على الحكومة يوم ورغم ذلك فمعول الهدم يتحرك .. وثق أن مكتبنا أكثر أمناً من الحكومة .. فهو الباقي وهي الزائلة .. ويعرف ذلك الجميع .. وأولهم الجوهري باشا .. وتكرر ذلك من قبل فيأتي إلى هنا ويذهب إلى عزبته مقسماً عمله بين المكتب والعزبة .. وما دمت قد وافقت .. فلنوقع العقد .. وتم توقيع العقد ..وأعطاه مبلغاً كبيراً مقابل توقيع العقد أو تشجيعاً له .. ثم دعاه للعشاء بنادي السيارات وقال له وهما يركبان .. عربة واحدة الآن صرنا صديقين فإرفع التكاليف ... أناديك عرفان وتناديني سليمان .. وتنادي معاليه الجوهرى .. ولكن لم يحن ذلك بعد بالنسبة لمعاليه.. وقد تأتي الأيام وتشاركنا على نفس المستوى .. لديك بالمكتب مجموعة ممتازة .. جانييت هانم سيدة رقيقة تتولى السكرتارية .. عائشة المحمودي الألات الكاتبة .. رمزي الأيمني السجلات والدفاتر .. جنزوري الحائزي الإعتمادات المستندية .. علام القاسي إختصاص عزبة الجوهري باشا .. ومجموعة أخرى معاونة .. سوف ترتاح لهم جميعاً وخاصة صلاح الشيخ مخلص جمركي .. وعم محمد الجيوشي فراش المكتب .. وأرى أنك ستنجح معهم .. ونحن نعرفك تماماً وسوف تقابل اليوم شخصيات عظيمة في النادي .. عزمتهم اليوم معنا لكي تستطيع أن ترى المجتمع الذي نتعامل معه .. مجتمع رهيب لكنه في شكل ناعم وهاديء .. سترى كمية كبيرة من الشحم والبرفان والملابس والدخان .. مختلطة مع بعضها البعض .. فلا تتقيء سوف تتعود على ذلك بعد الآن وبعد أول حفلة .. سوف تخاطبهم مجردين .. من رتبهم وألقابهم ومن ملابسهم أيضاً ستجدهم على حقيقتهم عرايا أمامك .. وكلنا عرايا وسنكون عرايا .. ولكننا لن نشعر بذلك أو أننا نشعر ولكننا ننسى أو نتناسى .. إستخدم كل الأساليب وصادق الجميع . وإنحني وإرقص وإقفز وإكع .. ولا تخجل من ذلك .. فكلنا نفعل ذلك لكي نخلص أعمالنا وأعمالنا كثيرة .. ومنتشرة وهناك إتفاق غير مكتوب .. على أن نقسم مناطق النفوذ حتى لا نصطدم مع بعضنا البعض...
**************************
ها قد وصلنا ، أعتقد أنني قد أعطيتك كل الإطار العام لما ستقابله ، ثم وقفت السيارة أمام الباب مباشرة فأسرع حارس الباب وقال أهلاً وسهلاً سليمان بك ، فسلم عليه وأخذ عرفان ودخل معه النادي كانت القاعة الكيبرة شعلة نشاط وفي ردهات مختلفة جلست مجموعات مختلفة حول الموائد ، كل مجموعة تمثل تياراً مختلفاً .. مجموعة من الصحفيين على مائدة في أقصى الركن .. مجموعة من السياسيين على مائدة أخرى .. ومجموعة من رجال الأعمال على مائدة أخرى .. ومجموعة من الأعيان على مائدة أخرى .. ومائدة كبير ة خضراء يجلس عليها جلالته .!!. ومجموعة من أصدقائه .. وظلت مائدة أخرى شاغرة كانت معدة لسليمان وشلته وحضر من بعيد برهان عبد التواب وقد لمح عرفان مع سليمان فناداه عرفان وقال له شيء لا يصدقه عقل برهان هنا .. فقال برهان وأنت هنا ... فقال سليمان أتعرفون بعضكما البعض ..؟ فردا في نفس واحد .. ( بلديات ) ثم سأله عن ميرفت هانم .. فأخبره أنها تعد دراسات عليا فدعا لها بالتوفيق وسأله إن كان يحضر إلى النادي كثيراً ؟ فقال بين الحين والحين ، ولا تنسى أنه مصادر أخباري والصحفي يجري وراء الخبر في أي مكان ..، يتنفسه كما يتنفس الورق حبر المطابع ..
حضرت المجموعة جميعها .. خليط من رجال الإعلام ورجال الأعمال والأعيان وبعض السيدات من مكتب الإستيراد والتصديروالسكرتارية .. وكان العشاء متنوعاً ولذيذاً وقبل إفتتاح المائدة تعرف الجميع وقام سليمان خطيباً وقال " إخواني الأعزاء ، أقدم لكم اليوم عرفان بك صديق لنا ومدير عام مكتبنا الجديد وهو كفاءة نادرة وشغل عدة مناصب هامة آخرها سكرتير الجوهري باشا ، فأرجو منكم معاونته .. من يعمل مع مكتبنا أو يتعامل معه وكافة أصدقائنا .. " ثم دعا عرفان للحديث .. فأوجز عرفان وأحسن ثم إفتتحت المائدة وجاءت جلسة عرفان بجوار صافي هانم وقالت له مبروك عرفان بك فشكرها ولكنها همست في أذنه سيكون بيننا تعاملاً كثيراً وكبيراً ولا تغلق بابك في وجهي .. فنحن من رعايا الجوهري باشا ولا يرفض لنا طلباً وإبتسمت إبتسامة ساحرةووضعت في فمها قطعة من اللحم المغموسة في شوكة حادة الأسنان ثم نظرت إليه .. إعرف أصول اللعبة .. وإلا " يشوطوك " كما تشاط الكرة ولكن خارج الملعب .. فقال لها منكي نعرف الكثير .. فردت عليه لن تخسر إذا ما إتفقنا .. والكل يعمل هنا كذلك ..أعمال في أعمال ، ولك نسبة عن كل عملية وإنطلقت في غذائها فهمس الرجل الذي بجواره من الناحية الأخرى حفلات في حفلات .. الكل يخطط وينفذ من هنا .. حينما تذوب الرسميات توقع العقود تحت أضواء باهرة أو خافتة ، ثم إن هذه الأهرامات الكبيرة رؤوسها تحتها قطع من الحجارة ثم قطع أكبر ثم قطع أكبر ثم تتسع حتى القاعدة ولكن قطع الرأس صغيرة ودقيقة وحادة ومدببة وتحتاج إلى دقة لتركيبها .. وكلما نزلنا خطوة وجدنا قطعاً تزداد ضآلة حتى تصل إلى القاعدة ولكن الإنهيار يشمل الجميع لأنها أهرامات من بشر وليست من حجارة والبشر عواطف وخلجات نفس .. وإرتعاشات بدن .. وخواء لا يملأه إلا العفن .. أقصد الذهب .. أقصد المال يتاجرون في كل شيء حتى البشر .. ويخدمهم حشرات كثيرة !!!
أنا مثلا واحد منهم أشعر أنني حشرة يداس علي كل يوم ولكنني أنفش ريشي وأغطي رأسي حتى لا يسحقوها .. فيعبرون جسدي ملايين المرات ، وذلك من أجل بعض الفتات وهذه السيدة التي تحدثت معك (حيزبون كبيرة) وموصلة لكل شيء ومحضرة لكل همام ، ما يريد من المحظيات .. هل تعتقد أن واحداً من الحشرات يخون زعيمه أبداً أنهم حشرات يخشون أن تسحق رؤوسهم ولكنهم يرضون بالقليل ولو على حساب ضحايا .
إستمع عرفان بحرص .. آذانه مصغية وفهمه لكلمات الرجل وفمه مملوء بالطعام وعرفان يأكل القليل ويسمع الكثير ثم إستمر الرجل في الحديث .. الجميع هنا لا يختلفون فلا تتوقع الكثير .. وسوف تكون واحدً منهم .. أو واحد من الحشرات .. وعليك أن تختار .. فرد عليه عرفان ولكن ألا تخشى منهم بحديثك هذا .. فقال له يسمونني (مجنوناً) ، لقد أوصلوني إلى هذه الحافة وإعتبروني مسخة .. يضحكون عليها وكنت يوماً من كبارهم فهم لا يلتفتون إلى حديثي ولكنهم يحتاجون إلي دائماً لأنهم في خلاف مستمر .
عليك أن تفهم هذا الشعار .. دعه يعمل .. دعه يدفع .. دعه يمر .. وإلا ترى المر!! .. وهنا نادى سليمان بك بصوت عالي ..عرفان بك أحمد بك عبد الصمد أخذ وقتك .. ومن قبل صافي هانم .. دعوه يأكل .. دعوه يشرب .. دعوه يسهر .. دعوه يعرفنا أكثر .. وهنا ضج الجميع بالضحك .. وإبتسم برهان عبد التواب . وقال عامرة موائدكم .. فطوبى لإخواني .. وطوبى لنا جميعاً وكيف ننشد مثل هذه الموائد العامرة إلا هنا فقالوا له تجدها دائماً في كل مكان ..إذا ما أقفلتم دواة الحبر وغلفتم سن القلم .. وأردف عبد الحليم بك .. أو رسمتم صورة براقة لمجتمعنا .. ولنكن واقعيين .. هذه هي حياتنا " فجملوها بدلاً من أن تزفتوها " فضحك الجميع .
****************************
كل اللمسات وكل الآهات وكل الإبتسامات تحولت إلى حركة دائبة .. بعد العشاء مباشرة فتحولت اللمسات إلى أحضان .. والآهات إلى تأوهات .. والإبتسامات إلى قهقهات وإندمج الجميع في حالة الرقص وتشابكوا وتباعدوا وتقاربوا في شكل بديع وبعضهم في شكل قبيح .. ومن بعيد جلالته يقهقه كحشاش!!! وينسى أنه جلالته!!
الحاشية في خدمتك .. لقب بكوية أو باشوية .. سنية هانم أو شوشو هانم ..أو كحيلة هانم .. أو جيجي هانم أو جاكي هانم .. كلهم تحت أمرك ونظرك .. وتزداد القهقهة من هذا الركن .. المحاط بالغموض البعيد عن باقي النادي .. والوصول إليه لا يعادله وصول ولكنه على عتبات من ذهب .. وسجاد من نساء وهرولات ملحد أو كافر .. وإنحناءات قرد في مولد .. وتأوهات لعوب .. يدق لها الدفوف .. في يوم مشهود.
******************
إنفض كل هذا والفجر يقرب وتباشير الصباح ترسل القليل منها لتخترق ضوء الفجر الخافت مفجرة فيه حلمه الجميل بالصباح .. إندمج عرفان في عمله في دأب ونشاط .. وزاد رصيده في البنك .. وإشترى فيلا بنفس الحي وترك الشقة لأولاد أخته وأولاد أخيه - من قبل ساعدهما في دخول الكلية الحربية والكلية الجوية وكلية الشرطة .. محمد وطارق ومرتضى وسدد الرسوم والمصاريف-.
إزدادت حركة المكتب ..ويقال أنه أول من إستورد البنسلين ووزعه للجهات المحتاجة إليه وإنشغل في تعاقدات مستمرة للقطاع المدني ..والقطاع العسكرى حتى حصل تقريباً على كل تعاقدات الجيش وإرتفع حجم الشركة " المكتب " وإزداد الرصيد أكثر فوسع من حجم أعماله وكون مكتبا خاصا به .. وتشكلت حكومة جديدة وعاد الجوهري باشا إلى المكتب الرئيسي ولكنه لم يقطع إتصالاته به بل إزدادت حجم المعاملات بينهما ..وتخرج أولاد أخته وأخيه وزوجهم زيجات ناجحة وإنطلق لا يلوي على شيء إلا نجاح عمله حتى أصبح في فترة وجيزة من أهم رجال الأعمال .. الذين يحق لهم الجلوس في الركن الغامض مع جلالته!! وساعده ذلك في الحصول على إمتيازات أخرى لكنه لم يحصل رغم كل هذا على لقب رسمي لكنه كان يحمل اللقب في الواقع .. لكنه لم يشتريه أبداً ليس عن عفة وإنما عن ذكاء .. وكان لعرفان مجاله الخاص ..
************************
في المنزل الجديد يصحب رجال الأعمال في حفلات كبيرة تدعم مركزه أكثر وأكثر .. مما ساعده في أن يوظف مجموعة من أهل البلدة فلهجوا له بالمديح والثناء .. ونقلوا صورة طيبة لأهل البلدة وزاره أكابر البلدة داعين له بالمزيد .. فمنحهم التبرعات الكثيرة .. لمشاريع البلدة .. وزاره ابن عمه اللواء خير الدين ومنافسه من قبل في حب روح الحياة فقابله مقابلة رسمية وفي حلقه غصة منذ زمن طويل ولكنه لا يقفل الباب فقد يحتاجه ، وتغير كثيراً فصار يشرب أكثر ويدعو النساء علناً ويقول لروح الحياة لدي إجتماع هام وهو إجتماع نسائي !! وظل على هذا الحال ردحاً من الزمن حتى رآها في إحدى الحفلات .. شقراء بيضاء فسلبت لبه .. وأفسدت عليه عقله وهو المحترف .. وذئب النساء ..وظل بها وظلت به .. حتى حصل عليها ، كانت فتاة فقيرة ولكنها جميلة هي إبنة لقاء ولكنها صارت بجانب روح الحياة وجاءت إلى الفيلا وإستقطع لها نصيباً منها وصارت واقعاً وأتت له بنسيم ونعيم ونجوى وندى ونرجس ونعيمة وأتت له روح الحياة بناني .. ولم يقتر على الجميع كان لديه الخير الكثير والمال الوفير والعلاقات الممتازة ولم يعده يهمه من في الحكم فكلهم أصحاب علاقات معه ووسع نفوذه إلى الدول العربية المجاورة وركز نشاط تصديره وإستيراده لهذه الدول ودول أوروبا وفي كل الأحوال لم يهبط ولم يندثر ودخلت أعماله الكثير من أعمال الريبة ، تسللت سريعاً في كل أعماله ، وجاء بتسهيلات إئتمانية كبيرة وبضمانات وهمية مزورة ولم يسدد ووقع فيها ضحايا أبرياء لم يعلموا أنهم إستدانوا ولم يذهبوا الى بنك من قبل ولكنه كان يختار بعض عميلاته وبالاتفاق مع موظف البنك يشهد أن السيدة فلانة وأن السيدة فلانة ويأخذ القروض بأسمائهما ولا يسددها وإتشف الأمر وفصل موظف البنك ولكنه ألحقه بمكتبه وخرج هو كالشعرة من العجين ، لقد تحول تدريجياً من النقاء الكامل إلى التلوث المريع ، وقد أدى هذا إلى هبوط حجم أعماله وكان يصفي أعماله لكنه إستطاع مرة أخرى أن يحصل على إمتياز المناجم في جنوب الصعيد والصحراء المحيطة به فقلل من حجم نشاطه في القاهرة ، وأرسل في طلب عبد الموجود (أخو زوجته روح الحياة) وإتخذه ذراعه الأيمن وكون كادراً من المهندسين والعمال وإتجه بهم إلى الصعيد حيث منطقة الامتياز بحثاً عن الفوسفات وبحثاً عن المنجنيز وغيرهما من المعادن ..
*****************************
في هذه الأيام ذهبت روح الحياة إلى البلدة في إجازة ومعها الأولاد وإستمروا في إجازة طويلة وتحدثت باحزانها الى أهلها وهم يصبرونها وأن والدها الشيخ محمد نفسه تزوج مريم على أمها وهي لا تشكو إلا تنفيساً عما يدور بداخلها وهي تراعي الأولاد خوفاً عليهم من أحداث الطريق وهي تعرف تفكيره وعقله المملوء بالكحول وعصبيته الزائدة عن الحد ، ولكن الأيام لا تعرف غير الآلام فالولد الأكبر عادل ذهب ليلعب مع الأولاد في الترعة الكبيرة التي تشق البلدة فيشاء القدر أن يغرق وتكون مصيبة كبرى فهو فلذة كبده وأحشاء عمرها ولكن الأصعب من هذا والأكثر ضرراً وأحط نتيجة هو زوجها عرفان الذي إنقلب الى وحش كاسر بعد أن أخذت إمبراطوريته تتشقق لولا هذا الإمتياز الأخير والشرب يفعل معه ما يفعل من فقدان للعقل وغيابه وإتيان الانسان من تصرفات لا تحسب ولا تعد في أعماله وأقواله .
أقاموا المأتم وتلقوا العزاء ولكن لم يجرأ واحد منهم على أن يبلغه الأمر ويفهمه ما خفي من أسباب ولكن أحدهم ويدعى سيد قال أنخشى في الحق لومة لائم وما هو مقدر بأمر الرحمن ؟!إذن لا كان لنا وجود ، ولا كان لنا حق فى أى شىء ، إن هو إلا قدر يسري على الجميع فذهب وأرسل إليه تلغرافاً .. إحضر لأمر هام ووقع عليه وعاد خفيفاً بعدما أزاح عن نفسه وعن أهله هذا العبء الثقيل ، وفي يومين أو ثلاثة عاد من الصعيد وقد كان هناك يباشر الأعمال ، وكان يقضي يومين في القاهرة وباقي الأيام في الصعيد مسافراً بطائرة الشركة الخاصة والتي كونها بعد إمتياز المناجم بمشاركة بعض الأجانب ، عاد مسرعاً الى البلدة وهو مهموم حزين وركب الحنطور ولم يخبره أحد وهو يردد " سلام قولا من رب رحيم ".
يا عاشق الكلمات الرنانة المقدسة وأنت منها براء تضحك على نفسك أم تضحك على الناس ، ويقتل أحاديث نفسه ويصل الى المنزل ويجد سهم الله قد نزل عليهم جميعاً وجاء الشيخ محمد وقال له البقية في حياتك في إبنك عادل فتقبل العزاء ودلف إلى حجرة زوجته فأعطاها درساً عنيفاً في إهمالها وفي عدم عنايتها وأخذها إلى منزله في البلدة .. بيت العمودية القديم التي إنتقلت الى الراغبية ثم إنتقلت الى السنبارية وإستقرت في قصرها الكبير مقراً للعمودية أخذها بكل معاني الأخذ وقفل عليه الحجرة أسبوعاً وضربها ولم يكن يضربها من قبل وهي صامتة مستسلمة لكل هذا وغازل الفتاة الجديدة( عفارم ).. وضاجعها مهملاً روح الحياة لكي يسلب منها إحساسها كأنثى ثم عرج على الخادمة سميرة في كلمات بذيئة أمامها وملأ المنزل سكرا وعربدة فلما تقترب منه قال لها إبعدي عني يا سمينة يا ثقيلة .. يا إبنة الكلب يا قاتلة إبني .. هي إبنة الكلب فترد في سرها .. ما أنت إلا إبن الكلب بحق وحقيق فلا يتزوج الكلاب إلا الكلاب .. ونحن من فصيلة واحدة ..ثم أخيراً يصدر ألامر.... اليوم تعودين إلى القاهرة .. ولا عودة إلى البلدة .. محرم عليك دخولها عشر سنين ومحرم على أهلك نفس المدة .
يا لك من قاسي القلب .. قد يكون ذلك مقبولاً .. إن كان مجرد لقاء .. قد يأتي بقراءة فتحة أو مقدمة خطبة .. وإنما بعد كل هذا الزمان الطويل وأنت تقف هذا الموقف من موت إنسان ..أمنعت والدك أو جدك ..؟ أو والدتك ..؟ أو .. أو .. أو تمنعه عن نفسك .. ولكن نفسه كانت تنحدر مع الزمان وكانت تغوص في أعمال غير شريفة .. لكي يقف فى السوق قوياً صلباً بعد أن تدهور حاله منذ مدة طويلة .... من سوق كاسدة وبضاعة قد تعفنت في المخازن لا يستطيع تصريفها وسمعة سيئة لا يستطيع التعامل فيها مع الموردين ومع البنوك بل وبعض المكاتب الأجنبية وما نجح إلا بشق الأنفس فىالحصول على هذا الإمتياز ونفذ وعده وسافر مع أسرته الى القاهرة وتركهم وركب الطائرة وذهب إلى الصعيد ومن المطار كانت تنتظره عربة يركبها سائق ومساعده عبد الموجود فحكى له ما حدث وتظاهر أمامه بأنه القدر ومشيئة الله وأخذ يكذب ويقول كان الله في عون روح الحياة يا ترى كيف تتحمل إنها جمل والله جمل صبور.. كان عبد الموجود يعرف أنه كاذب منافق ولكنه جاراه بل هو يعرف عنه أكثر من ذلك بحكم المعاشرة والمعيشة خاصة في هذه الصحراء وهذا الحر الشديد .
إنحدرت العربة في طريقها الوعر .. وصعدت تلال وهبطت تلال حتى وصلت إلى إستراحة فوق تبة عالية بجوار الطريق مباشرة فنزلوا من السيارة وحملوا ما طاب من التموين ، وجلسوا يتزودون بالمشروبات الساخنة وبعض الشطائر ويسلمون التموين اللازم لهذه السيدة البائسة وأولادها التي تدير هذه الاستراحة لترعى أولادها.
*********************
كانت مادلين زوجة رجل مسيحي عالم في أمور دنياه ودينه .. إتخذ هذا المكان مقراً له ثم ما لبث أن مات وكانت رحلات الصيد في الصحراء ورحلات شركات التعدين والباحثون عن الذهب وعن المجد والمغامرون في العيش في الصحراء سببا فى إقامة هذه الاستراحة .
بنت مادلين هذه الاستراحة بجوار الدير وكانت تقوم بإعداد الشطائر السريعة وتقدم المشروبات المختلفة وكانت تكلف البعثات الدائمة بإحضار حاجاتها كما أنها كانت تزرع مساحة ليست بالقليلة بالخضروات والفواكه والموالح منذ زمن طويل مع زوجها على مياه الآبار فلما مات إستمرت في رعايتها مع أولادها ، وكانت تحصل على هذا الدخل لتساعد أولادها على التعلم فى القاهرة وكان غريباً أن تتزوج رجلاً متعبداً ولكنها قابلته في فوج سياحي وأعجبها المكان وما لبث أن أقنعته بالزواج وظلت معه حتى إنتقل إلى رحاب ربه وكانت بين عقد ونصف العقد تذهب إلى لندن لزيارة أهلها والعودة ويأتون إليها يجلسون معها قليلاً ثم يشدون الرحال إلى لندن مرة أخرى ...
وكان عرفان يحب دائماً خلال فترة التوقف التي تبلغ نصف ساعة وأكثر أن يحادثها بالانجليزية ويتنقلون في مواضيع مختلفة ويتناقشون في الحضارة الأوروبية والفرعونية والخضرة والصحراء والجسد والروح وكانوا يتعمقون في المناقشة حتى يحين الرحال ، وتستمر العملية كل شهر في رحلة الذهاب والعودة ، مع الأفواج المسافرة .
إستمر الحال على هذا فى كل أسفاره ومنها الرحلات الشهرية ، وذات مرة قالت له ما دمت قارئاً ممتازاً هكذا وما دمت كريماً معي دائماً سوف أعطيك هدية من أعظم الهدايا .. فقال لها لا أريد منك إلا أن تكوني في أحسن صحة .. فقالت له مكتبة زوجي وكلها كتب روحية وتبحث في أسرار الروح والعلاقة بالعالم الآخر وفي الجن وكيف تحضرهم وكيف تصرفهم خذها لعلها تفيدك في يوم ما إذا ما أظلمت الدنيا في وجهك فإستعن بالله وإبحث فيها فستستريح نفسياً ، وقد تعود عليك بالنفع المادي ...
فأخذها عرفان شاكراً لها وإنطلق عائداً إلى المعسكر وحفظها في مكان أمين من إستراحته .
************************
فى ذاك اليوم الذي عاد فيه بعد وفاة ولده عرج على الاستراحة كعادته وحادثته مادلين .. مالي أراك اليوم مكتئباً فأخذ يشرح لها ممثلاً الحزن .. أي تمثيل هذا .. مات إبني كان يلعب في قناة صغيرة .. فقالت كن قوياً كالحصان صابراً كالجمل .. وإبدأ الحياة من جديد فشكر لها صنيعها .. ومنح أولادها الصغار بعض من النقد وقطع من الشيكولاته وشد رحاله إلى المعسكر حيث فريق التعدين يباشر العمل ويتابع الإنتاج ..
كان عرفان رغم هذه الطباع يعمل بطاقة غريبة وغير عادية لهذا شمر عن ساعديه وإندمج في العمل فإطلع على جداول الإنتاج وجداول الورديات وحجم المخزون ومواعيد إستلامه من جانب الشركات الأجنبية .. ثم إطلع على الحسابات وبدأ العمل ينتظم .. الورديات من العمال تعمل بجد وإنتظام وهم يحملون آلاتهم المتطورة والواردة حديثاً من الخارج التى تعمل بضغط الهواء .. ومع إحتياطات الأمان وأجهزة الوقاية كان العمل يتم فى أنفاق أسفل الجبل بأعماق كبيرة وهذه الأنفاق مدعمة بكتل خشبية قوية وصلبةوبمصابيح الإضاءة المجهزة للمناجم ، يحفرون فتحات عميقة في الصخور ثم تدك فيه أصابع الديناميت ويتم التفجير ، وتأتي عربات الديكوفيل على قضبان حديدية لتحمل الأتربة خارج الأنفاق ثم تصفى عروق الخام وتحمل بنفس الطريقة وهكذا تستمر العمليات في صورة يومية مستمرة ولكنها مكلفة لأن الخام ليس موجودا بالضرورة في كل منطقة.
عندما ينتهى العمل خاصة في المساء تقام حفلات السمر بين العمال والخبراء الأجانب وتقدم فرقة مسرحية بدائية مكونة منهم عدة ليال مسرحية فقدموا على مدى الأيام مسرحية السلك المقطوع ومسرحية المحضر 905 ومسرحيات أخرى بسيطة ومعبرة وكان عرفان دينامو كل هذا ، كانت لديه قدرة وفي كل شيء حتى الطعام كان يشرف على إعداده ويشارك في إعداده أحياناً ، وكان يقوم بحل كل الخلافات كما كان ينظم تدريب العمال الجدد الذين يحضرهم من البلدة عبد السلام أفندي مشرف أنفار التفتيش بعد أن ترك التفتيش وإشترك في مقاولات صغيرة في توريد العمال وتطهير الترع والقنوات وشق المصارف وغير ذلك من الأعمال .
***********************
إستمر الحال على كل وجه من وجوه العمل ، وعرفان يقسم وقته بين القاهرة وأماكن العمل بالصحراء وهذا العمل ليس بالسهل وليس بالممتع فالأيام دائماً فيها مفاجآت وضحايا الأحداث ، لقد فقد الكثير من عماله رغم محاولته وضع الإحتياطات الكاملةولعل حادثة عثمان السروي ما زالت ماثلة أمامه ".
كان اليوم باردا وممطرا والثلج يتساقط على غير العادة والريح تزئر بين الحين والحين فلا المطر توقف ولاهى توقفت عن زئيرها ... ولكن العمل بدأ ولن يتوقف وبعد مشروبات ساخنة قامت مجموعة التفجير بالدخول إلى المنجم وقام عثمان ورفاقه بالحفر ووضع أصابع الديناميت وكان الحبل طويلاً في منتهى الأصابع وأشعل عثمان الفتيل وإنسحب زملاؤه ولكن فعل الجو الممتد تأثيره إلى الداخل أطفأ الفتيل فأعاد عثمان إشعاله ولكنه لم يستطع الإنسحاب فدوى إنفجار رهيب ونادى الجميع عثمان بالداخل لم يخرج ودخل الجميع يتقدمهم فرق الإنقاذ إلى المنجم وأزالوا كميات كبيرة من الأتربة وعروق الخشب ووجدوا عثمان مسجى على الأرض وإعتقدوا أنه مات وبكوا بكاءاً مرا ولكنهم سحبوه إلى الخارج فوق نقالة وجاء طبيب المعسكر فوجده ينبض فأسرع باعطاءه دفعة من الاكسجين وحقنة موروفين وأوقف النزيف لكن رجليه ويديه كانت محطمة تماماً وطلبت طائرة المعسكر ولم تكن موجودة فإستأجر طائرة .. حملته ومعه طبيبه إلى القاهرة حيث بترت ساقيه ويديه وأرسلته الشركة الأجنبية في رحلة علاج إلى الخارج لتركيب أجهزة تعويضية وعاد من الخارج وصرف له تعويض كبير فإشترى سيارة لوري بكل مدخراته وتعويضه لكن أحد أصحابه مالبث أن إستولى عليها وطرده شر طرده فأصيب بصدمة نفسية أودت به. كا نت أحداث هذه الحادثه تملأ عقل عرفان وتطيح به بين الحين والحين.
لقد نجا من التحقيق في أسباب الحادثة وتحميله مسئولية الإهمال في إجراءات الأمن والسلامة. لقد حمل من قبل زوجته روح الحياةمسئولية موت إبنه عادل وهى منها براء فى الوقت الذى فلتمن مسئولية عثمان !! لكنه رغم ذلك لم يستطع أن يفلت من عيون الناس في بلدته ومن عيون نفسه وأسرته ومن نظرات أسرة عثمان وكأنهم يقولون له أنت السبب .
لقد أحدثت الحادثة فيه صدمة قوية ولكنه تعود على مجابهة ألامور..لقد تعلم من جو الصحراء الرهيب ومن العيش المضنى فيها ومن قساوة بيئتها ووعورة طرقها ...ولا ينسى إذا نسى كل شيء يوم أصيبت العربة في الطريق وهبت عاصفة رملية أطاحت بالطريق ولم يكتشف الطريق وظل تائهاً لمدة خمسة عشر يوماً ولولا وجود المؤونه معه لانتهى في اول الأيام وعندما قاربت المؤونةعلى النفاذ وجفت مياه أجسادهم وتشققت جلودهم أنقذتهم دورية عسكرية إستغاثوا بها فوصلت إليهم وعالجتهم وحملتهم إلى معسكرهم ثم إلى معسكر المناجم..
الذكريات المماثلة في جو الصحراء تنساب في المساء حيث السكون يشمل كل شيء ذكريات الضياع والتوهان وذكريات عقارب الصحراء السامة والحيوانات المفترسةالشاردة.. وذكريات الإنفجارات والبعد والمشقة عن الأسرة ومشاجرات العمال ..، ولكنه كان يتمتع بمزية يحبها ويعشقها .. ألا وهي صيد الغزلان في الصحراء ليأكل من لحمها الجميل ، ثم يعود بجلودها الى أسرته ويحشوها بالقطن وحشو الموبيليات ويضعها للزينة والديكور وهى الذكرى الوحية السعيدة عدا كسب المال من خيرات لصحراء .
كان أقصى ما يعاني منه عصبية عبد الموجود فقد كان صغير السن سريع الإنفعال لكن الأيام علمته وقوت من عزيمته خاصة في رحلات السفر والعودة حيث كان يصحبه ويرتاحان أكثر مما يرتاحان في هذه الإستراحة على الطريق بجوار الدير حيث يشعران بجو روحي لم يعهداه في هذه الصحراء ..
***************************
في يوم من الأيام طلب عرفان على وجه السرعة إلى القاهرة طلبه رئيس الشركة والشريك الأجنبي ، كانت الشركة قد أخفقت في تحقيق أي إنجاز حقيقي في الفترة الأخيرة وكأن الصحراء وجبالها قد بخلوا بما في بطونهم وذهب عرفان على وجه السرعة فإستقبلاه وقالا له الأخبار لدينا لا تبشر بخير فالجيش في حركة غليان ويبدو أن هناك بوادر ثورة فسخر عرفان منهما وقال لهما أنكم تحلمون بالمستحيل فردوا عليه البلد في ثورة ومنشورات الجيش تملأ البلد وحؤيق القاهرة ما زال ماثلاً أمام أعيننا وثورة عمال المناجم بالشركة الشرقية ما تزال ماثلة إحتجاجاً على عدم وجود أجهزة أمن وسلامة وعلى إنخفاض الأجور ومناجمنا نقص الإنتاج فيها عن ذي قبل ، ويبدو أن العمال تتعمد ذلك حفاظاً على ثروات البلد!! ونحن لدينا تقارير من الجانب الإنجليزي بتحذير جاليتها من التوسع في إستثمار أموالها ، وعليك أن تقوم الآن بتصفية المعدات وشحنها للبيع وتصفية العمال وقفل المناجم والعودة ..
رضخ عرفان لأمرهما وذهب على أول طائرة وعاد إلى نفس الطريق وإستراح بنفس إستراحة الدير فوجد مادلين تعد العدة للرحيل إلى انجلترا وتبيع كل ما لديها حتى مساحات الفاكهة والموالح .. إشتراها أحد البدو وإستقر فيها ولكنه لم يسكن بمبنى الاستراحة وإنما أقام الخيام بجواره وسكنه ألاولاد كلما جاءوا من المدينة حيث يعملون ويتعلمون .



***********************************************
ذهب عرفان إلى المنجم فجمع رؤساء العمال والعمال والخبراء .. وقال لهم .. لقد عشنا أياماً جميلة هنا بحلوها ومرها ولقد عشنا كأخوة وكأصدقاء .. أسرة واحدة لم نتخل عن بعض في أي وقت وفي كافة الظروف .. نأكل نفس الطعام ونشرب نفس المياه ونصطاد في الصحراء ونتسامر في المساء ولكن يبدو أن هناك إحتمالاً في الشركة لتصفية أعمالها فإستعدوا لذلك وحتى يكون الأمر مفهوماً فسنتوقف عن العمل وستأخذون أجر شهرين قادمين .. وسوف ننقلكم على حسابنا إلى بلادكم ونشحن المعدات على ظهر اللوريات التي ستأتي غداً ولنتسامر اليوم مساءاً ولنسمي سمرنا( الوداع) وغدا نلتقي !!.
تساءل الجالسون في حيرة وهم يقولون هناك من يدعي أن الجيش سيقوم بثورة أو إنقلاب وهناك من يقول أن الشركة أفلست وهناك إشاعات كثيرة وأمر عرفان بتوزيع الحلويات التي أحضرها والمشروبات التي أحضرها وأقاموا حفلة سمر كبيرة فى المساء..... غنوا وضحكوا ومسرحوا ما عن لهم من محفوظات.
إمتد سهرهم حتى الفجر وناموا نوماً عميقاً إلا مجموعة منهم تزعمها( زكريا هدهد) قال لهم يا جماعة كيف نسمح بقفل المنجم إنما هي عصبة سوء تريد أن تخسر البلد لقد أخذوا كل عرقنا والآن بعد أن قارب المنجم على النفاذ يريدون أن ينطلقوا بما أخذوه ولا يكتفون .. يريدون أخذ المعدات أيضا وماذا أخذنا نحن" شهرين مقدمين" حتى نجد عملاً وأردف زكريا لابد من حل ..حل يحافظ على عملنا ويحافظ على ثرواتنا من الضياع.
************************************************
إستقر أمر الجماعة على مقاومة تسليم المنجم بأي حال من الأحوال حتى ولو على جثثهم وفي ظهيرة اليوم التالي وصلت اللوريات وأخذت مواقعها لتحميل المعدات ووقف بعض من العمال سلبيين لكن (هدهد )تقدم مجموعته من العمال وقال : لن تحمل هذه السيارات ، وتكهرب الموقف وتدخل عرفان بلا فائدة فتكلم عرفان باللاسلكي مع رئيس الشركة فقال له عليك أن تحمل السيارات بكل الطرق وإستخدم حرس الشركة ، وحاول عرفان وديا دون جدوى فما كان منه إلا أن أمر حرس الشركة بتحميل السيارات بالمعدات بالقوة .
دارت معركة رهيبة إنضم فيها مجموعة من العمال السلبيين إلى مجموعة هدهد ومجموعة إلى مجموعة الحراس وظلت مجموعة على سلبيتها حيث وقفت تتفرج رغم أن اليوم يوم الاختيار!!.
إستمر الشجار حتى المساء وحلت الظلمة وسقط من الجانبين ضحايا ما بين مصاب وقتيل ، وسقط عرفان هو الآخر جريحاً وسقط قتيلاً( هدهد) دفاعا عن مبدأه ، وقفل العمال المنجم بالحجارة الثقيلة على ما به من معدات وأشعلوا النار في سيارات التحميل .. وجاءت قوة من حرس الصحراء بناءاً على إستغاثة وطلبت سيارات الإسعاف لنقل المصابين والقتلى وطلبت طائرة لنقل الإصابات الخطيرة إلى القاهرة .
************************************************** ***************
كان الظلام يخيم على المعسكر ويشتد عويل الرياح المحملة بناتج حفر الموقع المحيط بالموقع والرمال الصحراوية القاتلة حتى قارب الوقت على بزوغ الفجر ..حينما وصلت سيارات الإسعاف وحطت الطائرة على أرض الموقع الممهد كمطار..كانت أضواء الطائرة القوية تبدد الظلام الحالك!!
كانت الرياح قد هدأت وحركة الرمال قد سكنت ونزل قائد الطائرة وهو يحمل كشافاً ضوئيا ضخماً وقابله المسئول (عرفان) بعد أن ضمد جراحه بإسعافات أولية من طبيب المعسكر قال الطيار لماذا كل هذا الشغب ؟ أتفعلون هذا والبلد في ثورة ... ثورة ..؟!! قالها عرفان وهو في عجب .
وتجمع العمال المصابون والسلبيون وتسآل الجميع أي ثورة تقصد ؟ أتصدق تلك الإشاعات التي يتبادلها الناس ؟ وإبتسم الطيار وقال فلنؤدي عملنا أولاً ثم نتحدث .. فنهض الجميع في حركة دائبة .. طبيب المعسكر وطبيب الطائرة وطبيب الإسعاف وطاقم من الممرضين كلهم للعناية بالمصابين يحملونهم إلى حيث يجب علاجهم بعد عمل الاسعافات ألاولية .. يضمدون ما عجزت عنه قلة الإمكانيات وفي حدود الزمان وفي حدود المكان ،؟ فإن صعب علاجه نقل إلى الطائرة وإن كانت الإصابات من النوع المتوسط فإلى الإسعاف ويجهزون الموتى .. لكن رغم هذا العمل المستمر والشاق ...الكل يتسآل.. العمال والخبراء .. ولكن ليس هناك من يروي غليل الصدور والطائرة تجهز للإنطلاق وركب عرفان في ركبها المصاب وفي ركبها المسئول والعيون قبل الألسن تسأل .. أخبرنا بالله عليك (ماذا حدث في القاهرة؟! ).... ولا أحد يرد ولا أحد يبالي .. ولكن الطيار لم يتركهم نهباً للظنون وكم هي مميتة قال لهم ..( جيشنا المصري الحبيب) إستولى على الحكم وأذاع أول بيان للثورة .
****************************** **************************************
*******************************************
كان هذا فجر هذا اليوم الذي وصلت فيه إليكم .. لقد تلقيت الإشارة وأنا أقوم بمناورات الهبوط .. وإبتسم الطيار صاعداً بطائرته تاركاً الجميع في حيرة وفاتحاً باباً للصمت قليلاً ما لبث أن أغلقه أحد الرجال .. لتحيا مصر ليحيا الجيش .. ليحيا المنجم .. ليحيا هدهد .. ليحيا أبناؤك يا مصر .. وتحرك الجميع كل إلى حيث سبيله .
الطائرة غادرت المكان بحملها والإسعاف غادر إلى أقرب مستشفى .. بينما لزم الخبراء الأجانب خيامهم .. أما العمال فقد أشعلوا النيران وأقاموا الشواء اللذيذ ورقصوا حتى الصباح وإشترك معهم السلبيون بعد تردد ومنهم من شرب الخمر لاول مرة.


****************************////////////////////////////////////************************
قال أحدهم وكان كبيرهم لنشرب نخب جلالته ..لنشر نخب جلالته .. وعلى خطوات من هذا الإحتفال أطلت عيون الخبراء الزرقاء والخضراء من خلف الخيام ترى وتسمع لكنها لا تلعق !!!! كان الصمت أبلغ تعبير في هذا اليوم .. فاليوم يوم هؤلاء .. الحفاة الرعاة العراة ..عاشقو المناجم

انتهى الجزء ألاول من رواية سبع الليالى************* كتب عام 19884
الجزء الثانى ********************************** كتب عام 1987(تحت الاعداد للنشر)
المؤلف: ناجى عبد السلام السنباطى

صادق ابراهيم صادق
11/09/2009, 01:43 AM
بسم الله الرحمن الرحيم
ا لمؤلف: ناجى عبد السلام
احى سيادتكم على الجزء الاول وهذة تنتمى الى المسرواية التى تجمع بين السرد والحوار وانافى انتظار الجزء الثانى لااعطى راى فىهذة المسراوية الرائعة وشكرا لك
مع تحياتى ومحبتى الناقد والقاص/صادق ابراهيم صادق