المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الحشيش و الصوفية 2



إبراهيم كامل
20/09/2009, 06:41 AM
ما قاله الصوفية في الحشيش
ولعله مما يناسب المقام أن نورد بعض الأبيات والكلمات التي قالها بعض الصوفية في الحشيشة ، وفيها تظهر مصطلحات الصوفية مثل : "نفحة" و "الدلق" و "شاهد" و "مسمع" و "الفقير" و "الذكر" حتى نأخذ من كلام القوم حجة عليهم ، ولا نركن فقط إلى ما قاله غيرهم فيهم فربما دعاهم إلى ذلك دواعي يشوبها التحيز ويعيبها عدم الإنصاف.
قال نور الدين أبو الحسن على بن عبد الله بن على الينبعى الذي وصف بأنه شاعر الفقراء:-رب ليل قطعتــه ونديمــــي * شاهدي وهو مسمعي وسميـري
مجلسي مسجد وشربي من خضراء * تزهـو بحسـن لـون نضيــر
قال لي صاحبي وقد فاح منهـــا * نشرها مزرياً بنشـر العبيـــر
أمن المسـك قـلـت لـيــسـت * من المسك ولكنها من الكافــور

وهو يصف لنا كيف يمضي الليل في البستان الكافوري يتناول الحشيشة الخضراء وتنادمه وتسمعه وتسامره شواهده وتجليانه.أما الإمام العالم المعروف بجموع الفضائل زين الدين أبو عبد الله محمد أبن أبي بكر بن عبد القادر الحنفي فينشد معبراً عن ابتهاجه وسروره بالحشيشة التي تفعل بألبابهم فعل الرحيق (الخمر) المعتق مما أغناهم عن شرب ذلك الرحيق.
وخضراء كافورية بات فعلهـــا * بألبابنا فعل الرحيق المعتـــق
إذا نفحتنا من شذاها بنفحـــة * تدب لنا في كل عضو ومنطــق
غنيت بها عن شرب خمر معتق * وبالدلق عن لبس الجديد المزوق ويناقض الإمام العالم نفسه ويخالف دينه ويعصي ربه، ولا يطيع رسوله، ويبدو أن الإمام العالم المعروف بجموع الفضائل نسي في غمرة انسطاله وفي غياب عقله أن الخمر سميت خمراً لأنها تخمر العقل أي تغشيه أو لأنها تخامر العقل أي تخالطه، وأن الخمر ما أسكر عموماً ، وهي كل شراب مغط للعقل سواء كان عصيراً أم نقيعاً مطبوخاً كان أو نياً، وعلى الرغم من قوله أنها تفعل بألبابهم فعل الرحيق المعتق فهو سادر في غيه، وإذا ما عميت القلوب وغابت العقول فلا رجاء.

ويرسم الحافظ جلال الدين أبو المعز ابن أبي الحسن بن أحمد بن الصائغ المغربي صورة لما يهوم في عقول الفقراء من خيالات سطلة وأحلام ضالة يزينها لهم شيطان أو الشاعر الشيطان مما يجعلهم يتوهمون أن لهم تيهاً وكبراً على الأمراء، وأنهم أقوياء وياليتهم حفظوا أمانة عقولهم وتاهوا على الأمراء بعلمهم وتقواهم ، وقوتهم النابعة من إيمانهم وتصديقهم ويقينهم بأن المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف وأي قوة لمن أسلم عقله للحشيش وشرد في وديان الضلال؟؟

قم عاطني خضراء كافوريـــة * قامت مقام سلافة الصهباء
يغدو الفقير إذا تناول درهمــاً * منها له تيه على الأمـراء
وتراه من أقوي الورى فإذا خلا * منها عددناه من الضعفـاء
ويذكر الجوبري في كتابه "المختار في كشف الأسرار" أن بعض المفسدين من المتصوفة قال إن الحشيشة هي "لقيمة الذكر والفكر" بينما نظم أحد صوفية خانقاه "سعيد السعداء" شعراً في تفضيل الحشيش على الخمر:-

وخضراء لا الحمراء تفعل فعلها * لها وثبات في الحشا وثبــات
تؤجج ناراً في الحشا وهي جنة * وتبدي مرير العيش وهي نبات
ويقول تاج الدين أبو نصر عبد الوهاب السبكي في كتاب "معيد النعم ومبيد النقم"عند الكلام عن فقراء "الخوانق" وقد كثر من جماعة اتخاذ الخوانق أسباباً ، والدلوق المرقعة طرائق للدنيا، فلم يتخلقوا من أخلاق القوم (الصوفية) بغير لباس الزور "ويذكر لنا وصف شيخه أبي حيان لهؤلاء بأنهم "أكلة ، بطلة ، سطلة, لا شغل ولا مشغلة".

ثم يستخلص هذا الحكم عليهم "فهؤلاء القوم إذاً اتخذوا الخوانق ذريعة للباس الزور، وأكل الحشيش ، والإنهماك على حطام الدنيا ، لا سترهم الله، وفضحهم على رؤوس الأشهاد" ، وأحسب أننا لا نبعد كثيراً إن قلنا أن الحشيش قد صار لازمة من لوازم التصوف وعلامة على المتصوف وأن لبس الدلق أو المرقعة كان يرخص لمرتدي هذا الزي أكل الحشيشة، ولما لا أليست حشيشة الفقراء.

أسباب تعاطي الصوفية للحشيش

وإذا ما حاولنا استقصاء الأسباب التي دعت الصوفية إلى تعاطي الحشيش والمجاهرة بأكله في الأسواق والمشاهد بل والدفاع عن هذه الآفة الخبيثة والإدعاء بأن الحشيش حلال.يمكن أن نرجع ذيوع الظاهرة إلى إدعاء بعض المفسدين من المتصوفة أن الحشيش يعين على إذهاب الهموم وجلاء الأفكار وحصول التجليات والشواهد والقدرة على الذكر والفكر، وإلى جانب ذلك أن كثيراً ممن سلكوا طريق التصوف من عوام المتصوفين كانوا أناساً هزمتهم الحياة فلجأوا إلى التصوف كمعقل يعصمهم وعاشوا على هامش الحياة في الخوانق والزوايا والربط، وقد وجدوا في الحشيش وسيلة للهروب من واقع الحياة التي قهرتهم ، وفي خيالاتهم شادوا عوالمهم الخاصة وزخرفوها بأحلام القوة والإنتصار ، ولعل مما ساعد على انتشار الحشيش وفشوه بين الصوفية عدم ورود نص في تحريمه في القرآن أو السنة وسكوت العلماء عنه بل وإباحة بعض المذاهب له ، فآدم متز يقول إن "الكلام في تناول الحشيش لم يظهر في مؤلفات الفقهاء إلا في القرن الثالث الهجري، وقد حرمه الشافعية ، وأباحه الحنفية "وقد اعتمد "متز" في هذا على كتاب "المخلاة" لبهاء الدين العاملي ، وقد ورد في أشعار القوم تصريحهم بإباحة الحشيش وارتياحهم لعدم "الحد" (العقوبة) فيه:
ولا نص في تحريمها عند مالك * ولا حد عند الشافعي وأحمد
ولا اثبت النعمان تنجيس عينها * فخذها بحد المشرفي المهند

عاطني خضراء كافوريـــة * يكتب الخمر لها من جندها
اسكرتنا فوق ما تسكرنـــا * وربحنا أنفسنا من حدهـا

لهفي وهل يجدي التلهف في ذري * طرب الغني وأنس كل فقيـر
أخت المذلة لارتكاب محـــرم * قطب السرور بأيسر الميسور
ما في المدامة كلها منها سـوي * أثم المدام وصحبة المخمور
كلا ونكهة خمرة هي شاهـــد * عدل على حد وجلد ظهـور
ويندرج أيضاً تحت تلك الأسباب التي أدت إلى شيوع الحشيش بين الصوفية "أنه قد ظهرت عند الصوفية نزعة قديمة إلى عدم المبالاة بكل ما في هذه الدنيا حتى الشريعة"، فيحكي ابن حزم : "أن من الصوفية من يقول أن من عرف الله سقطت عنه الشرائع"، وزاد بعضهم : "واتصل بالله تعالى"، "وبلغنا أن بنيسابور اليوم في عصرنا هذا رجلاً يكني أبا سعيد أبا الخير من الصوفية، مرة يلبس الصوف ومرة يلبس الحرير المحرم على الرجال، ومرة يصلي في اليوم ألف ركعة ، ومرة لا يصلي فريضة ولا نافلة، وهذا كفر محض ونعوذ بالله من الضلال".
ولا يفوتنا هنا أن نلفت الأنظار إلى أن البدع والضلالات التي خرج بها بعض الصوفية عن دائرة الشرع غالباً ما جاءت من الأعاجم فابن حزم يحدثنا عن أبي سعيد أبي الخير بنيسابور وسبق أن ذكرنا خبر الشيخ حيدر الذي نسب إليه إظهار الحشيش وإشاعته بين الصوفية وهو من خراسان ، وقد حدا هذا البعض إلى وصف الصوفي بأنه "رجل يظهر الإسلام ، ويبطن فاسد العقيدة ونهاية الإقدام ، وفي رجله جرجم وعذبته من قدام ، يكون غالباً من بلاد الأعجام".
ويرى ابن جزلة الطبيب أن "الفقراء إنما يقصدون استعماله (الحشيش) مع ما يجدون من اللذة تجفيفاً للمنى، وفي إبطاله قطع لشهوة الجماع كي لا تميل نفوسهم إلى ما يوقع في الزنا".وإن كنا لا نتفق مع "ابن جزلة" في هذا الرأي لما يحدثه الحشيش من خيالات وهلوسات وأحلام لا تخلو من الصور الجنسية، خاصة وأن الفقراء يعانون من الكبت لتنسكهم وزهدهم في النساء.
ومما تقدم نستخلص أن الصوفية هم الذين قدموا الحشيش إلى المجتمع المصري وكانوا العامل الأول والفعال في ذيوعه وانتشاره بين الناس على اختلاف طبقاتهم ، ونتفق في هذا مع بعض الكتاب الذين ربطوا بين ذيوع الحشيش وانتشار التصوف وقالوا أن الظاهرتين سارتا في مصر جنباً إلى جنب وألقوا على عاتق المتصوفة مسئولية نشر هذه الآفة بين الجماهير.