المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : ملحمة الأطفال .......... ورجولة الكبار



فارس الحريري
25/10/2009, 12:28 AM
خلق الله سبحانه وتعالي الخلق وزرع فيهم الفطرة التي ارتضاها لهم ... ( كل مولود يولد على الفطرة ) ، يخرج من رحم أمه متمسكاً بصدرها لأنه غذاؤه واستمراره في الحياة ، ويتشبث بها أكثر كلما كبر ... ويتمسك ببيته وبيئته أكثر وأكثر .. يغدو طفلاً يسرح ويمرح ويترعرع على مدارج الفطرة ، ويصبح جزءا
منها لا ينسلخ عنها ولا يُفرط بها أبداً .
نستذكر في هذه الأيام ذكرى عزيزة على قلوبنا وقلوب العرب جميعا ألا وهي ذكرى أيم حرب تشرين التحريرية وهنا أستذكر أيضاً قصة طفولة عشتُها وعاشها أطفال معنا، وذكرى أيام مجيدة نفتخر بها على رغم بساطة عملنا وصغر سننا ، لكنها كانت ملحمة في نظرنا لا تُمحى من الذاكرة ... ونقول في أنفسنا نحن الأطفال هزمنا الأعداء .
ففي عام 1973 جرت معركة تشرين ( أكتوبر ) بين العرب وإسرائيل وكنت أيامها قد بلغت العاشرة من عمري ... طفلاً يسرح ويمرح في بيته ومدرسته لا يعي ما يدور حوله بمفهوم الوعي السياسي ، ولا شأن لنا بمن يحكم من ولا من يقود من ولا هذه حكومة ديمقراطية منتخبة ولا تلك حكومة متسلطة ، ولكننا نعي أن لنا عدوا متغطرسا، احتل أرضنا وشرَّد شعبنا وانتهك حُرمُاتنا ، ويجب محاربته وطرده من أرضنا ....... هذا هو مفهومنا السياسي الطفولي إن صح التعبير ، هذه فطرتنا التي فطرنا الله عليها ، ولن ننسى طغيان هذا العدو الغاشم مهما طال الزمن وتعاظمت قوة أولئك الغزاة الغرباء المحتلين ، ومن يمت فهو شهيد ، مسكنه جنات النعيم ، ونفرح لمن يستشهد ونقول بلسان الطفولة مأواه الجنة ، حيث تجري من تحتها
الأنهار ، وليت أولئك الغزاة يدركون هذا .
وقعت الحرب ... هدير الطائرات .... أصوات المدافع .... الانفجارات هنا وهناك ليلا ونهارا .. أهل القرية يتسارعون صعودا على أسطح المباني ليروا الطائرات ..... هذه سقطت أصابها صاروخ ... وتلك احترقت واشتعلت فيها النيران ..... فرحين لنصر وعد الله به عباده المؤمنين .... وتكبيرات الله أكبر تنطلق من مآذن المساجد ، وفصائل الجيش الشعبي تنتشر على الطرقات العامة والجسور يحمونها من أي إنزالات جوية ، هكذا كنا نسمع ولا نعي معنى ما يقولون .... ولكن نعي أنهم يشاركون في المعركة .
وبعد مرور أيام لا أذكر عددها ، سمعنا أن العدو استهدف المخابز العامة التي تقوم بتموين الناس بالخبز وأحدث بها أضرارا أوقفتها عن العمل مؤقتاً ... تناقلت الناس هذا الخبر بشيء من الحزن ولظنهم أنها سوف تحدث أزمة في تزويد الجيش بالخبز .. فهب أهل القرية لإيجاد وسيلة يساعدون فيها الجيش في تعويض هذا النقص .. ويتدارسون البدائل الممكن تقديمها حتى لو وصلت إلى بتر قطع من أجسادهم طعاما للجيش في سبيل المعركة .. نعم تلك كانت ملاحم الرجولة .... أولئك هم الجنود وراء الكواليس ... الكل يشارك بالمعركة حتى الحجر والدواب وحتى الأنعام ترعى رياض الفرح بالنصر .... تشارك في المعركة وسيأتي ذكرها ، هبت النسوة تعجن العجين ... وتصحو مع بزوغ الفجر توقد المواقد ... وتهيئ التنور للخبز .. ويتصاعد الدخان من المواقد ...... يشكل مزيجا مع الدخان المنبعث من الطائرات والمدافع ........ وجاء دور الأطفال الأبطال ودور الحمير ..... التي كان لها الدور الكبير في معركتنا نحن الأطفال ، في كل بيت يوجد حمار يستعينون به على قضاء حوائجهم ، وحمل أسفارهم ولكنه كان جزءا .. لا يمكن الاستغناء عنه .
نضع ما يشبه السرج على الحمار " الخرج " الذي يُوضع فيه الأحمال ونتوزع بين البيوت نجمع الخبز ... تستقبلنا النسوة وتجود بلا حدود ...... وترتفع الزغاريد باستقبالنا .... وكنا نفرح بها أكثر لأنها تمجدنا وتشعرنا بأننا رجال ...
نحمل الخبز إلى الطريق العام .. حيث سيارات الإمداد تمر من هناك تحمل المؤن إلى خطوط الجبهة الأمامية حيث تسطر ملاحم الرجال ..... ونصطف بانتظارها ومعنا الخبز محملا على الدواب ... وتأتي سيارة الإمداد ويترجل منها الجنود يرفعون الخبز إليها ... ونعاود الكرة صباح مساء .... وفي إحدى المرات كان هناك ضابط يرافق السيارة فترجل منها وقال لنا مخاطباً : ـ بُوركتم ... لا نُهزم اليوم من قلة ..... ولا من ضعف .... ولا من جبن .. ولا تنكسر ولا تُهزم أمة تنجب أمثالكم ....... أنتم جنود المستقبل .... وأنتم الأمل ....
أخرج من بيتي مع حماري صباحاً لأبدأ عمل يوم جديد ..... آه ... مسكينة أمي رحمها الله ... كانت ترفقني إلى أول الطريق وهي تقول : ـ يا بني إن بدأ القصف ورأيت الطائرات في السماء فانبطح أرضا ولا تأو ِ إلى بيت .... ولا تحتمي بجدار ... وكنت أرد عليها ببراءة الطفولة .... يا أماه .... وأين أترك حماري وكيف ينبطح معي وماذا أفعل به ... لأنه كان عنصراً هاما في دعم المعركة ولن أفرط به .... هذا مفهوم الطفولة عندي فبدونه كيف أوُصل الخبز إلى الطريق العام .
وضعت الحرب أوزارها .... وانجلت المعركة ... وأيدنا الله بنصر من عنده ورفع معنويات شعبنا لتطال عنان السماء .... هكذا نشأنا وهكذا فُطرنا .. وليت الجاثمين على صدور أهلنا في فلسطين يدركون هذا ... ويدركون أننا أمة جُبلت على الحرية وعلى الجهاد ، وأن ما يربطنا بأرضنا أقوى من أي رابط أخر ... فهم حين يقتل لهم جندي تقوم الدنيا ولا تقعد ، لأنهم خليط من الأجناس جاؤوا من كل حدب وصوب ، لا تربطهم إلا مصالحهم ... وعسكرهم مرتزقة فلا يستطيعون التفريط بهم .. لأنهم لو فرطوا بهم سيرحلون .. أما نحن فباقون بقاء الجبال بأرضنا .. وصامدون صمود الأشجار في غاباتنا ... جذورنا في أعماق الأرض وأغصاننا تعانق السماء بعالي السنا .... في فلسطين تزف النسوة الشهداء ، وتنشد نشيد فلسطين ، والرجال يتلون عليه آيات من الذكر الحكيم ... ويتسابقون في تقديم قوافل الشهداء .. بل مفخرة من قدم أكثر من الشهداء ...... حجارتهم قنابل ... وأهازيجهم سنابل ..... تنبت كل يوم فجرا جديدا ... ليت الصهاينة يدركون أنهم ولادة حمل غير شرعي ... وسوف يُلفظُون ولو جاؤوا بألف شرق أوسط جديد .. وليتهم يعلمون أن أي عربي أو مسلم في أقصى بقاع الأرض يلفظُهم ... وأن قُلوبنا مع إخواننا ... قُلوبنا تخشع وعيوننا تدمع ... ولكنا صامدون .
في لبنان سطر الأطفال أروع ملاحم البطولة والإباء .. ويتجلى الصمود في أروع صُوره .. ناهيك عن أولئك الرجال الذين باعوا أرواحهم لربهم ونذروا أنفسهم للجهاد في سبيله ... جبينهم يطاول قمم الجبال وسنا الخيال .. وأيديهم قابضة على زناد بنادقهم .. وأرجلهم راسخة ثابتة في الأرض رسوخ آرز لبنان ... دمروا ... أحرقوا ... اقتلوا الأطفال والنساء ... كسروا كل شيء ... ولكن لن تكسروا عنفوان الأمة .... ولن تكسروا إرادة المجاهدين الصامدين .... فكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله .. والله ناصر دينه ومعلي كلمته ..... ولو كره الكافرون .
بقلم / فارس الحريري