المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : جزء من رواية ( لعبة الملك )



مها أبوالنجا
08/01/2010, 01:35 AM
لـــعـــبـــة الـــم! ـــلــــك


(1)
لم يكن شيء يثير في نفسها الرعب داخل مبنى المدرسة. لا الصرخات الهلعة في كبد المدينة الوسطى ، ولا سيل الطلقات النارية المتبادلة بين الضالين ورجال الشرطة ، ولا تقاذف الأحذية المتعددة المقاسات ذات الماركات الأجنبية في وجهها.. لم يكن شيء يثير في نفسها الرعب . وتملكتها نزعة غريبة عن طبيعتها المندفعة، كانت أمها تصرح دائما: اندفاعك خلف الغريب سيبدد حاضرك ومستقبلك وسيلوك الناس اسمك وعائلتك أبد الآبدين، نادتها بوهن: تعالي وانظري، إلام حولني القريب ؟ أطرقت هنيهة وتمتمت بحسرة لم تلتقطها الأذان المنفلتة من عقالها: الغريب حطّ على أرض بديلة ربتت على كتفيه مواسية ، ولوحت في وجهه بإصبع الرفض لمحاولته أخذ حفنة لا يمتلكها ، لم تكن يوماً أمه ، وتساءلت :ألا تشبه أمها ؟. وظهرت قدامها ، القامة طويلة والسحنة الصارمة ، صارمة مع الجميع . حتى مع والدها منصور الحامد ، الذي تحول مع غدق الأيام إلى منصور الصايغ . ماذا أعطتك يا أبي و ماالذي سلبته منك في المقابل؟. منصور صاحب النفوذ الطاغي على سلسلة (الصايغ) للذهب والمجوهرات بفر! وعها الأخطبوطية في ربوع البلاد ، هو تطرق له الرؤوس تنفيذاً لكلمته نهاراً ،وهويطرق لها رأسه ليلاً ،امرأتان عبثتا في حياته وفي بيت الحامد، لم تبرر هي وإخوتها خنوعه لوالدتهم ، وإن كان السبب هيمنتها على المجموعة البراقة وبعض الممتلكات المتناثرة ...صوتها الحانق لا يبرح ذاكرتها عندما يعارضها بقرار ما، كالاستغناء عن عمالة مدربة وتسفيرها إلى بلادها بعمالة أقل تدريباً وراتباً ، وتصم أذنيها عن تأكيده لها أن عملهم يحتاج إلى أيد مصقولة بحنكة، كانت لا تتراجع عن جبهتها إلا عندما يستسلم والدها ويرفع رايته البيضاء متفادياً حرباً ضارية لا يتقن فيها أسلحة المبارزة، وينسحب كغريم انهزم في ساحتها راضخاً :
وش علامك يا حُرمة سوي اللي تبيه ..أدري الحلال حلالك ..سكتي خلاص صوتك وصل للجيران.
بيد أن صوته يصل إلى الهمس عندما يتفوه بكلماته المرتعشة صاراً أسنانه على (حُرمة ) كأنما تمنحه رشفات من رجولته المراقة بين قدميها ، ينسحب بهدنة صلح لا تعمر طويلاً ، يدلف إلى حجرتنا بتلك النظرات المستكينة. يا طالما تمنيت أن ينتصب، أن يتخذ موقفاً حازماً ،لكن خروجه من شرنقة الولاء فاق توقعاتها ، كان يغدق عليها بحنان مشبع بالتلهف الأبوي مما لا تجده حياً عند والدتها ، سألته مراراً! عندما كانت تندرج في الصفوف الأولى عن سبب تسميتها بحنان ، لا تنسى ابتسامته غامزاً بإحدى عينيه، لتكوني حنان منصور الصايغ، ترد عليه بسرعة بل الحامد ، وتحتضن دبها البني الضخم بفروه الناعم، إنه ما زال نائماً على سريرها في غرفتها المغلقة في منزل أهلها ، ولا تلتفت لتنظر إلى تشنج عضلات جسده الهزيل ، وما لبث أن انزرع السؤال في مخيلتها وزاد تفرعاً مع نمو تفاصيل جسدها : هل حنان بادرة للاحتياج الفعلي ؟ أم لأن ولادتها شهدت الطفرة الانتعاشية في البلاد وفي بيت الحامد الذي نزع ثوبه ؟ واستساغ لقبه الآخر، له في أذنيه وقع رنات الأساور والبذخ بفضل الميراث الدسم الذي ورثته أمها عن والدها الجنوبي ، تلك الميزة الخاصة أثارت غيرة بعض إخوتها وبالأخص خيرية ، فهي صورة عاكسة لأمها في ردة فعلها الحازمة ، وإن وافقتها شكيمتها القوية للتطوع كداعية في إحدى الجمعيات الخيرية ، وإن انقلب كل شيء رأساً على عقب عندما أفشت صديقتها سرّا بسر علاقتها مع الغريب . قامت الدنيا لعلاقة تعدت الحدود مع أنّ الأسرار تملأ بطن الأرض... أما خبر زواج والدها الثاني فلم يكن متوقعاً أبداً، أربع سنوات غابتها عن المساحة الأكبر ف! ي حياتها ..ثلاثة إجبارية في أسر زوجها ، وواحدة اختيارية في بيت أخيها متعب ، لم متعب يا أبي من دون كل الأسماء؟،هل كان متعطشاً بتعسفه ومحاولته قتل الغريب وآخرين للدماء ، وهل الكاريزما الإجرامية تغذي فكره منذ صغره ؟ ، غفلت عنه وآثرته نائية عن مدينتها الباردة، وديرتها الجبلية ، والجبل الملاصق لبيتهم القروي . تقسم انه كلما رأته يزداد علواً. كان بمثابة..آخ..ٍآي..، دوت من فمها الواسع صرخة ملتهبة جراء سقوط جسد صغير على قدميها، انحنت بقامتها المتوسطة دون وعي منها. لم ترث من أمها قامتها الطويلة. غاصت في أعماق سحيقة. تلطمها الأيدي وتركلها الأرجل الثائرة ، أفواه أنثوية مرتجفة تستجدي منها لحظات التعقل:
أبلة حنان ..أبلة حنان ؟، وأخرى تصمها بالجنون :يا خبلة قومي، التقطت الصغيرة بذراعيها اللتين طالما اعتقدت أنهما واهنتان كجسدها المعتاد على الرفاهية المفرطة وعلى الخادمات السيرلانكيات، لا تدري كيف أخبرت وليفها في لحظة نشوة أنها ستضحي بالملذات من أجله ، هل كانت فعلاً صادقة ؟ تذكرت كلمات خادمة أهلها(بريمة): ماما إنت ناعم كتير...، ترى أين ذهبت؟، لقد طردتها أمها شر طردة لأنها كانت وسيطة بينها وبين الغريب ، مازالت تتلوى في شتى الاتجاهات لتتفادى بعض اللطمات ! والركلات ، حرقت أضراسها غيظا ًمن تصريحات زوجها الساخرة: أنت لوح رخام للصقل واللمعان ، تصلبت أطرافها ، لم تستوعب أذناها ذلك إلا في هذه اللحظة القدرية المجهولة . تعلقت أنامل قصيرة بعنقها، أعادت لها مشهداً يتكرر في عينيها ، لقد التصقت بناجي في السيارة . ألحت عليه أن يعلمها السواقة في الوادي، احتضنته بجسدها باحثة عن صدر الحياة ... رفعت رأسها بثبات يناقض رعشة جسدها الهش ، لمحت طيفه يحوم حولها ولا يقترب من حدودها المتداعية ..لم يستغل ضعفها يوماُ . ابتسم ابتسامته المعهودة وما تزال كلماته ترن في أذنيها :
لا تصفحي عنهم مهما بالغوا في ضروب الولاء .
أكسبها الجسد الضاغط عليها مناعة. لم تتوقع أنها مدفونة في كامنها. نبشت قبرها بأظافرها متيقنة أن روحها ليست ملكاً لها ، وأن الأجساد الملتصقة بها تستحق الحياة أكثر منها ..صرخت فيهن بأعلى نبرة : صه يا بنات ، رجالنا يسيطرون على الوضع ..سيتم إنقاذنا ، يا لها من مغفلة من تقنع نفسها الراضخة للمحتوم ؟، صارعت بجلدها لتعيد قلوبا أوشكت أن تبلغ حناجرها ، يممت شطر البوابة بعينين يغلب فيهما التصميم الممزوج بحمرة مرشوقة على جفنيها. شاردها يه! مس لها وحدها:أغرف من عينيك جرعات التناقض ..جرأة ونكوص..تعال واذهب، زوجها باغتها وهي تبث الطيف المحلق على نوافذها شوقاً، التصق بأوراقها المحرومة منها ،طالبها بمحو ما كتبه قلمها الرصاص ، ومن حينها تنقش سطورها بأزرق جاف صعب الانحناء ..واصلت زحفها البطيء مصممة على نزع الحواجز وتخطي المنطقة المحظورة ، كلماته المبيدة لعزيمتها تلاحقها: أنت عاقر ، من سيرغب في أرض بور ؟ إنها ناشز يا حضرة القاضي وتتهمني بهتاناً بأنني زير نساء، تجاهله القاضي وسألها سؤالاً أخيراً:هل تتنازلين عن حقوقك؟ بادرته بسؤال آخر: وهل سأخرج من القاعة حرة طليقة ؟ أعاد القاضي سؤاله بصيغة مختلفة شارحاً في طياته (الخُلع) وما يترتب عليه من تنازلات وخلاص ، أجابته متجاهلة ذاك الزبد الراغي في شفتيه :
لا أريده ولم أرده يوماً ، كان زوجاً عبثياً ومع وقف التنفيذ، عادت تردد:لا أريده..لا أريده ، ولم تشعر بأقنعتها و أوراقها القاسية والحميمة تتساقط من جيوبها وتدوسها الأقدام دون ندم، من بينها ورقة تعهد أشعلت لهيب يومها المأساوي كتب فيها :إلى المعلمة حنان الحامد.. نتيجة لخروجك عن تدريس المنهج المقرر من قبل وزارة التربية والتعليم، بإدراجك موضوعات غير منهجية في خطة الدراسة، كتدريس الطالبات نتاجا أدب! يا معاصرا لم تقرره الخطة التربوية... نطالبك بالالتزام بما هو مقرر للحفاظ على عملك ..مع التوقيع أدناه .
وبختها المشرفة التربوية:وقعي، أنت تفسدين أفكار البنات بخرابيطك، وش علينا من نزار قباني ولا بغيره ..مو كفاية علينا الفضائيات ،والأغاني الخليعة، وسخافات الإعجاب ...لا تدري وقعتها أم لم توقعها، لكنها متأكدة من أنها لم تطأ عتبة التدريس بعد هذه الحادثة .
أصوات آمرة متداخلة:حاصروا المكان ..استسلموا..أطلقوا النيران..أطلقوها .تراجعت بعينيها الدامعتين إلى الخلف، الفوج الواثب يضغط على جسدها المخدر الزاحف إلى الباب الحديدي ، التحرر على بعد خطوات ، منشورات ورقية ، ومؤامرات تحريضية تطلق شباكها عليهم، وتختلط الأسماء في عينيها :أخوة من.. طاع الله وفرحان وعبد العزيز ومتعب ؟…كانت الشبكة العنكبوتية تنسج خيوطها الشائكة في زوايا بيت أخيها ، حاولت نفشها بتلك الأحذية المستوردة لكنها تعود للحياة ، حذرته من الخراب الذي يعشش في جدرانه …فتحت بوابة الحياة ،التهمها الموج الهائج في مد وجزر يدنيانها ويقصيانها عن المرساة ، تعثرت ساقاها الممتلئتان عند الدرجة الأولى ، جرفتها دوامة نحو ال! قاع ، سمعت متعبا يضحك ضحكاته الغريبة.. تاهت في الظلام ،والغريب يطوف ح ولها وقد ضاعت ابتسامته في الشتات ..صوتها الحزين يصدح بأغنية موجعة لعبد الكريم عبد القادر :
وين اِنت..وش أخبارك
يا مغرب عن ديارك
أنا كل يوم ..أكمل ناظري بدارك
وأتمشى تحت السور ..أناظر بيتك المهجور
وأغلقت عينيها ..وهوت بجسدها الملطخ بآثار الأحذية القاسية ..أيد متوترة تهزها ،وأصوات خشنة تخاطب قلبها :هل ماتت؟ ولقد سألت نفسها نفس السؤال هل أنا ميتة ؟













(2)
وضعتها الأيدي في الغرفة التحتية ذات النور الخافت وزخات الأنين تنسكب على جسدها البارد من الشقوق. فتشعبت في الداخل والخارج ..كانوا يسخرون من أفكارها الدخيلة ، وتخوفاتها من تناقضات بيتهم ، يربت والدها على كتفيها، ويجزم لها أنه جمع التحف الأثرية والتماثيل المنحوتة من الصوان من أرقى محلات الديكور الغربية والشرقية . كان يفتخر بين أصحابه ذوي الأل! قاب المذهبة ، أنه مزج بين الشرق والغرب في بيته ، واعتبر ذلك انتصاراً كأنما حرر الشرق!، رجفت روحها المضطربة ، فالسواعد الخشنة تحفر حفرتها الميتة في مقبرة المصلوم المحذوفة في آخر المدينة ،وقفت أختها خيرية متيبسة اليدين ومحبوسة الدموع داخلها بغية تصنع الصبر مدى النهار الملتحف بالسواد، ما لبثت أن انفجرت كسيل جارف غمر ملامح وجهها المربع ، وقفت لها بالمرصاد ، وحاولت أن تفشل لقاءاتها بالغريب، قذفت في طريقها الفتوى المحرمة للعشق : اللي تسويه حرام في حق دينك وبلدك ..كيف بالله عليك تحبين واحد لا يحمل جنسيتك؟ ، والأدهى من هذا كله انه فلسطيني مشرد. ماله وطن!لم تكن متساهلة حتى مع جنسيتها ، وبنت المطبات لكل من يتقدم لخطبتها، عليه أن يكون داعية، حافظاً للقرآن ،ومنصتاً للأشرطة الدينية ، من توفر فيه شرط لا يتوفر فيه الآخر..لم تتزوج ، أغلقت مسام جسدها بمفاتيح صعبة الإيلاج، وأحرقتها مع المخلفات في مكب النفايات . روضت داخلها على الورع، وانشغلت برسالة الماجستير (الأنظمة الشرعية ومحاربتها للخارجين) ،وفي بيتنا قنبلة آدمية موقوتة..بدأت خيرية بغسل جثة أختها بماء معطر بالبخور والمسك ، وأخذت! يداها القويتان تفركانها بهمة ، فجأة سحبت يديها المبللتين بهلع، ودلقت باقي الماء عليها ..حلفت للجميع أنها نفرت من بين يديها نفرة شديدة ..ما علّمته للمتطوعات عن كيفية غسل الموتى مستعينة بدمى مطموسة القسمات تبخر في لحظات قاتمة ، خرجت مهرولة لتطرد من أنفاسها رائحة الموت المتسللة إلى بيتهم ، فقد كان والدها التالي ، وكلما تخرج وتعود تجده متسمراً على كرسي خشبي ملاصق لباب الغرفة ، تحتضن رأسه بين ذراعيها وتصعد السلالم الرخامية لتصل إلى السطح، وتريق دموعها على أرضيته الحجرية ، تلاحقها الرائحة وتزكم أنفها . تتراجع إلى الأسفل. تلمح أمها ملتفة بشرشف الصلاة الكحلي ودموعها تحفر أخدوداً في خارطتها الغائرة، وحولها نسوة بوجوه تعرفها وتجهلها يستمعن إلى صوت سعود الشريم المنبعث من ستيريو يتربع في إحدى زوايا الصالة الكبيرة ، بدأ التعب يتسرب إلى رجلي خيرية، لتكف عن الصعود والهبوط وتنهي مهمتها الصعبة ، والدها ما زال منكفئاً على كرسيه الذي اُستبدل ببلاستيكي، تساءلت عن العبرة من تغييره ما دام أنه خصص
لوظيفة لا يحيد عنها .
عيناه مغلقتان وشماغه متدلٍ على كتفيه. تزعزع داخلها ،وهزته بيدين واهنتين يبه..يبه. . فتح نصف عينيه، وقال بأسى ملتهب: هل انتهيت؟، أومأت له بالم! وافقة ، وحان دور الرجال ،حملها أخوها الكبير حسن متلثماً بغترته ، لا يظهر إلا عينان محمرتان تعكسان خوفه على إخوته وعلى بلده. تجنيده في العسكرية أكل معظم وقته ، وتغيب أكثر عن أهله وزوجته حليمة، التي مكثت في بيت ذويها مدة أطول من الوقت الذي أمضته معه بسبب استلاماته ومراباطته على حدود البلاد، كنا نرى نظرات الخوف والانهزام في عيني أمي عندما يطيل غيابه مع أنها لا تتوانى عن هز بدنه كلما اختطف تلك الأيام القصيرة لزيارتنا: اركد يا حسن، كفاية مطاردة ..أدري من أجل الوطن، لكن حنّا بعد نبيك، كان يبتسم في وجهها ، ويمازحها بلكنة مهجنة تعلمها من سكان الحدود التي رابط فيها، ومن لهجات تتجاوز الحدود، كان ذاك الخليط كالشهد المذاب من فمه ، وزادت قفشاته المحببة بعد زواج والدي الآخر، ليخفف علينا وعلى تشنجات أمي: تقبريني ..آي يا زولة يا عسل ..يا طعم إنت..أحبك هوايا ..برشا برشا..هلبة هلبة...يا بعد طوايفي ..
كان يطالبنا بالتحدث بلغة موحدة تنصب فيها اللهجات ، فالواجب علينا أن نحلل الجزيئات وننصهر في الكل ..تلك الشعارات ذابت في كأس الواقع عندما تقدم الغريب طالباً يدي ويدي الرحمة .(م! الي أتحدث بلغة الأحياء ...أم هم أموات في أجساد متحركة...ومال أمي تتقلب في مضجعها ، هل كنت أزورها في أحلامها؟) ، أحببت في حسن روحه الطيبة ، وإن كانت قسوته عليّ كالسياط على جسدي بعد الحادثة المخزية في نظرهم..كنت قبلها وبعد عودته سالماً من كل مأمورية يكلف بها،أستقبله بالأحضان، وأمطره بوابل القبلات المتلهفة ،فأشعر باحمرار يطفو على خديه ، يبعدني بلطف :خلاص يا حنان خنقتيني .
بينما ترمقني خيرية باستهجان، وتلقي تعليقاتها الناقدة لتلقائيتي :التزمي حدودك حتى مع إخوتك .
يا لهذه الحدود التي لا تشطب من خارطتنا...تبدد الوجوم عند عودة حسن من الحدود الشمالية أبان حرب الخليج الثالثة ..انتهت مهمته وانتهت العراق حينها . هاتفتني زوجته حليمة وصوتها المذعور يدبَّ الرعب في أطرافي : تغير يا حنان ..عادك بحسن الأول ..لا أرى في عينيه إلا الريبة ..يوصيني بحاجات ما أفهمها ..هو الحين في القصيم ..له فترة ما اتصل..هل راح يرجع هذه المرة؟، أخي على بعد خطوات مني ولم يتصل بي ! ، أربع سنوات لم أره فيها، ولم أسمع صوته ،أغلق جواله في وجهي أكثر من مئة مرة، ولم يغفر زلتي على الرغم من رضوخي لزواجي المدبر كي أرضيه، لكن الأمور عند حسن لا تتوارى،انفجار صدمته ما زال يدوي في أذني، بعدما! ضبطني مع ناجي متعانقين في حجرة الخزين الخلفية . وشاية خيرية بنا.. سرت كل تلك السنوات كالهشيم، ووقف حسن دقائق كالمذهول، كأنما الزمن توقف في تقويمه،وأعلن عودته القاسية:
ـ أنتِ حقيرة مرغت شرفنا بالوحل .
جثوت على ركبتي، وأقسمت لهم بأنني لم أتجاوز المحظور ،لم أشعر بعدها إلا بقدمي والدي تدك عظامي وحياتي ، لم أتوسل إليه، فقد فقدته قبلاً بعد زواجه الثاني ، ويديّ حسن تدفع ناجي ، وتجره إلى مكان بعيد لا أعرفه ،رأيت ناجي في أحلامي برقبة معقورة بسكين حادة :هل مات ناجي؟ ، لم أعرف إلا بعد شهرين وأنا محبوسة في غرفتي . مراقبة من قبل أمي وخيرية ، وصوت سلمى يتودد لهما من خلف الباب :
ـ حرام عليكم كفاية تعذيب .
تدفعها أمي بقوة:
ــ خليها، هيّ اللي جابتو لنفسها ..خليها مسجونة العمر كله ، ولا تخرج تجيب لنا فضيحة كبيرة مثل فاطمة بنت الجيران اللي هربت مع الداشر صاحبها ، أمها لحد الآن ما تحضر مجالس الحريم من العار، ولاّ أخواتها ، مين راح يتزوجهم ، والله أذبحها ولا أتركها تشوه سمعتنا.
أعلنها والدي دون اعتراض :
ـ راح تتزوجين علي ابن صديقي .
لم أشتم رائحة الهيل والزعفران، ولم! أسمع الدقاقات ، ولم أر كشخة المدعوات في حفلة زفافي، أقصد وفاة كل شيء داخلي ،التعليقات الأنثوية الهامسة تنتقد طلتي
ـ طالعوا يابنات العروس، مالها بهجة وشبها حزينة كأنها في ميتم ، خسارة فيها (الشرعة) ، طالعوا الطاووس المطرزعلى فستانها. ياترى كم تكلفته ؟ وفين خيطته ؟
ـ ترى زوجها من الأغنياء وأبوه مثل أبوها تاجر مجوهرات في القصيم .
ـ هذي هيّ الشطارة التجار يدورون على بعضهم .
ـ يقولون إنها بتسافر مع معرسها إلى ماليزيا .. يقولون إنها تهبل وكلها خضار.
ـ يابختها هذي الزيجات اللي تفرحْ.
لم تقترب أمي أو خيرية مني كأني طاعون لا شفاء منه ، خرجت من المدينة ولم ألتفت إلا لرقعة الشطرنج الخالية من الحجارة ، من المؤكد أن أولاد حسن بعثروها في غرف البيت .
سافرت معي والدتي للتأكد من عذريتي التي شكك فيها الجميع حتى خالد آخر العنقود ،هددني متوعداً بتكسيري:
ـ الحريم يُبه ما ينعطون وجه أبد.. ما يصلح معهم إلا الضرب!
أربع سنوات لم أحمل معي إلا ذكريات الغريب وعلامة السكين في رقبته...ونظرات (بريمة ) المتواطئة معي ،فهي تحب شخصاً في بلدها ،لذا كانت تشعر بي وتساعدني ، لكنها تختلف عني ، فلن يحرمها أحد منه حتى ولو أنه لا يحمل جنسيتها ، في ذاكرت! ي منظر لرجل كبير ثوبه ممزق ومتسخ، أخبرني بنظراته الثعلبية أن أتقبل حياتي كما هي، وألا أحاول تغييرها حتى لا أتحول إلى منبوذة مثله ، لكنني لا أذكر أين رأيته في الواقع أم في الحلم.
عادت كل المشاهد أمام عينيّ ، وبكيت . بحرقة وبدموع غزيرة لم أذرفها في فترة زواجي، أو بعد رؤيتي لخيانة علي لي على سريري ، كان يصرفني إلى بيت متعب مدعياً أنّ أعصابي مشدودة، وأن علينا منح أنفسنا فرصة لتتغير الأمور. أية أمور يا علي ؟ كنت متيقنة من خيانته ، أما أنْ أرى بأم عيني أمراً لم أعد العدة لمجابهته، كانت ردة فعلي غير متوقعة. لم أنبس بكلمة .خلعت عباءتي التي يصر علي أن ألبسها على رأسي وأخفي يديّ بالجونتي وقدميّ بالشراب ، ولا يكل من ترديد جمله الزائفة :المرأة أنياب الفتنة، أية فتنة يا علي المانع ؟ الفتنة متمددة على فراشي من لحم ودم وأمشاج محرمة، وبكل جرأة تحول إلى قناص يتصيد لي الأخطاء ..ضحكتي في السوق..تعمدت إبراز رجلك عندما ركبت السيارة ..ذاك الشخص يلاحقنا من شارع الخبيب ، أكيد لوحت له بيدك أو أشرت له بالمنديل.. لا وتطالبون بالحرية وقيادة السيارة علشان البلد تخرب على أيديكن وأرجلكن ،كانت لا تفو! ته الفايتة ولا الخبزة البايتة ،لا أدري هل كنت أتعمد تلك الإشارات لأثير غيظه أم لأنتقم من نفسي؟ كنت متيقنة من خيانته لكني أغلقت شفـتي بقفل محكم ، فالخيانة لا تزحف إلى أرضي فقط ، بل تمكث في السراديب السفلية مستورة بالأبواب وأكوام التراب، لكنها عندما تطفو و تتحول إلى مشهد حي تثور الثائرة، طلبت الطلاق بلا رجعة . تهكم أمي أرحم من الحياة في الوحل، أخذ يتوسل لي ويقسم بأنهن نزوات نهم منها وشبع، ضمني إليه ،وطلب مني أن أنسى، وان أرتدي له قميص النوم الأحمر. يا لهؤلاء الرجال .لا ينساقون إلا وراء غرائزهم كالبهائم السائبة حتى في فورة أخطائهم ! تخلصت منه ،وركلته بقدمي مما زاد من هياجه :أنت لي في أي وقت أريدك .
أبعدت أنفاسه الثملة ، وعاجلته بضربة في بطنه ، وركضت حافية إلى الحمام أوصدت الباب بالمفتاح وحمدت الله أني لم أزحزحه من مكانه، وبت ليلتي المصدومة أراقب فخامة مقابض الحنفيات المطلية بالذهب .هذا البريق الزائف يتبعها في كل مكان إلا في ذاك المكان الحقيقي، فقد تخلى عنها ،ولم يبرق لها ولا لوالدها الذي خسر كل شيء حتى حياته ، لمحته بين طيات عالمها بعينين معذبتين وعلى رأسه آثار لجلطة دماغية بعد سطو عصابة مجهولة على محلات الصايغ، ومازال التحقيق جارياً ، لكنه ! لن يعيد من ذهب ..شلت أعضائي من الحبس الاختياري،واختنقت من روائح نتنة ، أهي ذرات بارود متسربة من النافذة ؟ أم رائحة الخزف الأمريكي ؟ أم رائحة المرحاض؟ أم كلها مختلطة بسرية التركيبة وانسكبت في جسدي! احتضرت الساعات الطويلة وما زلت أسيرة للروائح المقاومة لمعطرات الجو ، سعلت بشدة من نتانة مختلطة بورود...هدأت العاصفة خلف حاجزي ،وألصقت أذني بالباب لتلتقط الذبذبات المتسللة من حاسة السمع.. هل يا ترى خرج أم انهار جسده السكران على الأرض؟
وعلى حين غرة نشطت ذاكرتي في استرجاع الأساطير المخيفة التي كانت جدتي تسردها لنا عندما تطيل إحدانا المكوث في الحمام، وقف رأس شعري القصير لتخيلاتي الغامضة ، فالحمامات تبتلع الصبايا إذا لم تحصنّّ أنفسهن بالأذكار.. جفّ لساني من اللهث والترداد:اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث...اللهم...، وتلك الحكايات ملتصقة في مخيلتي منذ أن كنت طفلة صغيرة ..وكأن جدتي أمامي تروي الخرافات المرعبة من جديد،أنّ أماً شقية أنزلت ابنتها في فتحة أرضية تبحث عن كنز فراودها ابن الجان الأحمر وابتلعتها الأرض ،وبقي شعر الصبية ينبت كل ليلة بين شقوق أرض الحمام ، والأم الخائفة تقص! ه كل يوم حتى تحفظ السر دفيناً..وأنّ فيها جنية تغار من الفتيات ،فتخدش ظ هورهن بأظافرها الحادة ..شعرت بدغدغة تحت قدمي ، نظرت بوجل لا يضاهي خوف المدينة. خصلات شعر أسود تنبعث من الصدوع ركضت كالمجنونة وخدوش محفورة على ظهري ، نظرت إليه بقرف مسجياً على الكنبة وفي يده زجاجة الخمر وعلى سريري بقايا ملابس داخلية..طفت حول الترف الفاحش ،وبصقت عليه . لو رأتني أختي الصغرى سلمى لقالت لي بغنجها : صحيح ما انت بنت عيشة، دوماً تسعى للحلول السلمية ،وأنّ الصلح خير مهما بلغت ذروة المشكلات حتى على صعيد الدول ،كانت أوفرنا حظاً بالجمال والزواج ، فقد تزوجت قبلنا بطبيب جراح من العائلة.. أين أنت يا سلمى؟ لمحتها في غرفتي العلوية تحتضن دبي البني ، وتبلل فروه بدموعها الحارة، أين خلودي آخر العنقود ، أصبح مراهقاً ،دلوعة أبي ،وحافظاً لأسراره التي تبددت مع سقوط لقب الصايغ ، الذي حارب من أجله سنين عجافاً لكي يضع التاج اللامع على رأس خالد المنشغل بحياته والأموال ، كان أبي يحاول أن يمسك بقشة في الهواء خاصة بعد فقدانه الأمل في حسن ومتعب، صخب طفولي لا يستوعب ما يجري يمرح بين الغرف ، ولا يلقي بالاً للصُّرة البيضاء في الغرفة السفلية، أصواتهم البريئة تلاعب أجسادهم .. متعب رجع اللي أخ! ذته مني والله لعلِّم أمي..خيرية جدتي تبغاك منصور لا تخرب كمبيوتر خالي خالد..حسن اسند جدّتي..فين حنان، أكيد وحدها في غرفة عمتها تلعب بأوراقها.
صرخت فيهم :لماذا تعيدون سلالة الأسماء يا آل الحامد؟ ولم تجاهلتهم سلمى، هل تعيدون التاريخ وفق مزاجاتكم؟ صدقوني لن تفلحوا ..ولن تردموا الثقوب! فجأة انسحب الضجيج، وعمّ الظلام في أرجاء البيت .تركوني وحيدة..التصقت بزجاج النوافذ وصرخت :عودوا ..عودوا إني أخاف من السواد ..لكنهم لم ينصتوا إلي .



























(3)
لم يكن لقب الغريب يثير في نفسه ذاك الإحساس بالقبول وخاصة أنه يسكن أرض غيره ، وارتبط بذكرى أليمة لا تغادر عقله، وهو في الرابعة عشرة من عمره أدخلته الأحداث لعدة أيام، ومن حينها وهو يتساءل عن الذنب الذي اقترفه لكن تلك الحادثة تدوخ في عينيه عندما يلتقي بحنان، بعاطفة مشحونة من عدم قدرته على امتلاكها إلا للحظات محمومة تزيد من ارتباكه عندما يخلو بنفسه. ولم يغفر زلة الغريب إلا من بين شفتيها، أحبته وأحبه! ا بشغف ،وحاول التملص من خطبته المدبرة لابنة خالته سلوى ،كانت مكالماته لها جافة يختصرها بأدنى مشاعر ،ويسترسل أحياناً ويخبرها أنها بديل مشوه ربطه والده به ليشغله عن حبه الملتهب ، لكنها لم تسمع تمرده لأن عقدة لسانه لا تنفك إلا بعد أن يضع السماعة ، يصرخ بعدها :
ـ يالغباء بعض النساء ..ألا يستطعن أن يميزن الحب من النفور .
كان معتمداً على رفضها في البداية وإن خبا ذلك بعد تصريحها النافر لأخته جنادي: ظل راجل ولا ظل حيطة. لم يصمد أمام تصميم والدته ولم شمل العائلة الذي سينهار على يده كما تصرح له أمه كل ليلة لتمزق آخر وتر في جسده .
كان رفضه للواقع يتحطم بين شفتيه ، وكانت سخريته ملاذاً عنيفاً لجسده ولاسمه المناقض لحاله ، عاتب أمه مراراً وبسخرية لاذعة على اسم لا شأن له به :
ـ ناجي الناصر اسم مناسب لفلسطيني يحمل وثيقة مصرية للاجئين الفلسطينيين! ولا تمل أمه من حكاية رحلة الضياع سنة 1948م ، وفقدانهم لخاله الصغير بين الأحراش ، وأهوال النكبة 1967م ، وما جرته من ويلات على تشتت الفلسطينيين ،والانتفاضة الأولى والثانية اللتان حصدتا أرواح الكثير ... تاريخ حفظه وطُبع على جبينه ، حُرم بسببه من دخول البلاد ومن حنان ، كانت أخته جنادي تهمز له : تزوج سلوى ! ..ولا تنظر إلى فوق حتى لا تنكسر رقبتك ، إنتَ وين وهيَّ وين.رقبته موشومة بسكين لا ينساه أبداً ،حاول من أجلها أن يمحوها من عقله لكنها كانت متربعة داخله.
أخبر أخاها حسن بكل شيء عندما أمسك به معها ، فتح فمه وحسن أغلق أذنيه وجره إلى الصحراء ونسي كل شعاراته : لا تنس نفسك..أنت غريب.ويا غريب
كن أديب .
ياغريب كن أديب سمعها قبلاً عندما كان مراهقاً ، ضرب أحد أولاد الجيران لأنه رفض أن يبتعد عن طريق سيارة والده( البيجو) التي أخذ مفتاحها خلسة عن والده وحاول قيادتها بين الطرق الفرعية، اعترضه الولد كعقبة لم تكن في الحسبان كلفته الحبس لأيام وعلقة بالكرباج من أبيه ، حادثة تذكرها وشحنت مقاومته وتبجح أمام أخيها أنها له ولن يمنعه أحد عنها ، لم يتمالك حسن أعصابه ولوح في وجهه بسكين أعطاها له خالد التقفها في فورة غضبه ، وشرخ بها عنق ناجي .لفه بشاش وادعى أنه سقط على صخور ، وحدها أمه أدركت السبب وأمضت ليلتها تبكي وتندب حظها وحظ أبنائها وتدعو له وعليه وتحمله وزر موتها.
ـ إن مت فأنت سبب موتي .
كان يحبها ولا يتحمل نحيبها ، فهي اليد الحانية عليه وعلى إخوته السبعة من قسوة والده وكرباجه ال! ذي يدعي أنه رباه وربى رجالاً لاحصر لهم . وصدمته كانت أكبر بصديق عمره مساعد عندما طعنه في ظهره ، وحاول إغواء حبيبته حنان ، وأخبره بكل وقاحة إنه أولى بها فهي بنت بلده.. لم الدنيا ضده وضد حبه لحنان ؟. ومع ذلك فإنه مستعد للتضحية بروحه من أجلها ، وجازف مراراً ليراها حتى بعد ما حبسوها في غرفتها ،لكن خيرية ما تتوصى أجهضت كل محاولاته ، وفي مرة دلقت عليه ماء حاراً عندما تجرأ واقترب من عتبة بابهم الممنوعة.. حاول تعويضها عن هروبه وتركه لها تواجه علقات خالها الموجعة ، لكن حنان غفرت له وتجاهلت خدوشها وجبنه
لا ينسى أبداً ليلة مقابلتها في بيتهم القروي المعلق على الجبل ، كانت محفوفة بالمخاطرة والمواقف الغريبة ، تسلق الجبل في منتصف الليل ، وتجاهل أشباح الليل وصوت أبي الثعالب ليعود أدراجه ، قفز من فوق الجدار العالي كالحرامية.. لو شاهدته أمه حينها لماتت بالسكتة القلبية ..عانقها بقبلاته الحارة المطبوعة على شفتيه إلى الآن ، يتذكرها ويبكي دماء على فقدانها . مثلها لا يستحق الموت .. هم الذين يستحقونه لأنهم حرقوا قلبها وقلبه بتفريقهما عن بعضهما ! ، وقتها أدخلته غرفتها وغطته بشرشف سريرها المنقوش بالقلوب الصغيرة ؛ لتداريه عن جدتها عندما دخلت الغرفة عليه دون أن تدق الباب ، وحمدا الله حينها لأنها بصرها شحيح وخاصة في الليل ...وما أن خرجت الجدة ، أغلقت حنان ! الباب بالمفتاح ، واقتربت منه وفي عينيها بريق مغرٍ لـ .
طرق عنيف للباب أيقظهما من غفوتهما ، أمسكت حنان برقبتها كأنها تستعد للقصاص ، وصوت زوجة خالها يرن في البيت: وش تسوين يا حنان ! ليه مقفلة الباب ؟ افتحي أبغى حليب النيدو .
وقتها شعرا بذهول مخيف يشبه أفلام الرعب ، وكأن الشبح أتاهما ومعه فأسه الحادة ليقتلع رأسيهما ، دفعته حنان تحت السرير وفتحت الباب لزوجة خالها ، نظر حوله وجد علبة النيدو بجانبه ، رأى قدمين متجهتين ناحيته ، أمسك أنفاسه بقوة وضغط على رجليه ليستعد للركض حالما تراه المرأة ، سمع صوت حنان تقنعها أن لا حليب عندها والأخرى تؤكد أنها وضعته تحت السرير، يا للأماكن الغريبة التي تختارها الحريم لوضع الأشياء ؟!
انسحبت زوجة خالها متبرمة ترطن بكلمات سريعة تلوم حنان على إخراجها من غرفتها وتهددها بخالها ،مرت الليلة دون حديث بالشفتين ، انتظر ناجي وقت صلاة الفجر وتسلل خفية من خلف خالها وهو يتوضأ للصلاة ، واجهته عقبة أخرى فالباب الحديدي مغلق بقفل كبير ..ماذا يفعل ؟ تساءل كالمهووس :أنزل الجرار وفتح درفتي الباب وركض كالمسعور لا يدري ما ذا حصل؟ لمْ يسألها ! ولم تخبره بشيء ،! كم هو أناني ! وقد وافقه عابر على وصفه عندما أخبره الحادثة .
حادثة علبة الحليب وجُبنه في ذاك الموقف تعود لذاكرته كلما قرأ آخر إيميل أرسلته له قبل موتها ، طلبت منه أن ينضم معهم في حملة مقاطعة المنتجات الأمريكية ، دعت عليهم بالخط العريض : الله أكبر عليهم ، كانت تجادله في كل الأمور ، وتعلن له أن زمن التفوق الذكري ولى بغير رجعة .كان السؤال ينهمر على رأسه كل ليلة : ماذا كان يمكن أن تفعل حنان لو أن القدر أمهلها لكي تخرج عن المألوف ؟ وتحارب قوى غاشمة تأكلنا واحداً تلو الآخر !
وكان أنانياً أكثر عندما شك بأخته جنادي لما تقدم لها شاب سعودي ، كانت أكثر أفراد البيت تكيل عليه النصائح ، وأن الزواج من نفس الجنسية هو الأنجح بغض النظر عن الحب والتفاهات ، بدأ الشك يلتهمه : لماذا غيرت رأيها ؟ وأعلنت لأول مرة أن الزواج من سعودي هو الأفضل لمستقبلها ومستقبل أولادها الذين سيحملون وثيقتها وتشتتها في حالة تزوجت بفلسطيني مثلها ، أما الفلسطيني حامل الجواز الأردني لن يفكر بأمثالها ، فأمورهم م! عقدة كبلادهم ، أما زواجها من سعودي فسيحل عقدها وعقد أهلها ، ستحصل على الجنسية السعودية ، وتنقل كفالة أهلها على زوجها . رفض واج ، ووقف لها بالمرصاد .. لا يدري هل كان يعاقب أخته بعقابه ، أم يرد على موقفها السلبي من حنان !
أمسك آثار الجرح في رقبته ، وهو يخبر عابر بقصته عندما جُرّ كالبهيمة إلى الصحراء ، وهدده أخوها بالمطوى ، وشرخه شرخاً لن يندمل على فراق حنان صوت صراخ أمه لا ينساه عندما رأته ، لم يخبرهم بالتفاصيل ، ونظر إلى أخته بشراسة ، وتوعدها إن ألحت في السؤال .
تزوج غيرها بعد زواجها بسنتين ، لم تكن ابنة خاله التي انفصل عنها بعد عام من الخطوبة ، وسبَّب الشقاق بين العائلتين ، غير حياته وقلب كيانه ليهرب منها؛ لكنه لا يستطيع الانفلات منها حتى بعد موتها .
ترجاها مراراً أن تترك زوجها العابث بعدما أخبرته بخيانته الفاضحة على السرير ويهربان إلى اليمن ويتزوجا هناك ، يغامر بأهله وزوجته ، وهي تخاطر بكل ما حولها،أقنعته بكل السبل أن مشايخ قبيلتها سيقتلونه ويقتلونها قبل أن يتجاوزا حدود اليمن القريبة من ديرتها الجبلية ، حاول أن يفعل المستحيل ليحظى بها ، غرقا معاً في عالم ا! لسراب ونسيا الواقع الذي آلمه بلا رحمة عندما تزوجت غيره ، أتى قرار التجنيس كمرهم مخدر لوجعه ، ضحك على نفسه سيحصل عليها وستنفصل عن زوجها ، عاش أحلام يقظة ونام على مسطحات مائية لا تحمي ثقله ، استعار قلم حنان وكتب كلمات حزينة نشرتها له جريدة الوطن السعودية ،على صفحة نقاشاتها بثّ مأساته، كان متيقناً أنها قرأتها في مدينتها الوسطية ، فقد كان يشعر بدموعها تبلل كتفه عندما كانا يفيقان من سكرتهما ، حام طيفها حوله ووقف على طرف الشباك، ناداها برجاء عودي يا حنان
نظرت إليه بألم وصوتها يردد كلماته : عشرون سنة.. ثلاثون سنة.. ولادة هنا لا تشفع ... ووفاة لا تنفع .. الأمس مؤلم مضيع للوطن ، واليوم جرح ينزف ، والغد أحدب لا ينطوي على فرح ، أتأمل سنواتي. حياة عمري . وأنا أحمل ورقة لا تنصفني. أنتمي أو لا أنتمي .
مفارقة متعبة وإفرازات لا تتوقف .. ما أصعب أن نبقى أحياءً ولا نحتضن حفنة من تراب ، ونعاني من أهواء المتغيرات والقوانين التي لا تقبل أن تكون أو لا تكون .. كم هو متعب حين تصطدم بصخور لا تنهار ، فالنقاط لم تكتمل حتى تصل إلى النظام .. خيبة أمل ووهم في المسام لقدر لا يبتسم .. رغم السنين والحنين والأنين .. فوطني أزمة وفرصتي في التعليمٍ العالي معدومة ، وحب! مدفون الوصول إليه صعب جدًّا.. أفلا يستثمر الحب وتسعد القلوب ؟















(7)
عابر سبيل .. عابر طريق.. عابر حياة ..عابر ممات .. الحياة والموت في بيت الصايغ القروي..تتلوى حنان على سريرها من شدة الألم . القلوب الصغيرة متناثرة حولها بحزن بعدما تركها ناجي تواجه هروبه الخائف ، خالها حمد نظر إليها بريبة وسألها من يكون ؟ أنكرت أنها تعرفه وأصرت على الإنكار وهي تصرخ من ضربات عقاله على جسدها .. اتجهت إلى غرفة أخيها حسن الغائب ونبشت في أغراضه كالمجنونة تستنجد به ولكنه كان أقسى من عاقبها على قلبها فجأة لمعت في رأسها فكرة .. ارتدت ثوب حسن وتلثمت بشماغه .. سألت المرآة عندما مرت بها : ماذا أفعل؟ لم تنتظر الإجابة على سؤالها .. تمنت وقتها أن تكون رجلاً ولو ليوم واحد ، خرجت وركبت سيارة خالها صالون لاند كروزر، وقطعت الطرق ! الليلية بتصميم يغلبه الخوف مرددة: لن أعود .. لن أعود .. فجأة ضغطت على الفرامل فقد التصق شكل غريب بزجاج السيارة يشبه الثعلب حذرها بصوت خشن : عودي .. عودي .. شعرت بحركة الجنود تتجه نحوها ما الذي أتى بهم؟
لقد تركتهم متجمدين على رقعة الشطرنج في بيتهم المدني ! لم تحس بيديها وهي تلف الدركسيون إلى البيت ، تدخل خلسة وتدفن جسدها بلحاف ثقيل وآثار الضرب تنمو عليها .. لم تخبر ناجي بحادثتها الموجعة ، لكنها كتبتها على أوراقها وخبأتها تحت وسادتها ، وخزنتها في مستندات الكمبيوتر.
قرأها عابر وشعر بحركات ناعمة تجول في الغرفة وصوت نسائي فيه غنج كل البنات يحكي الحكاية : كنت فتاة الحلم للشباب ،فأنا ابنة الصايغ ، والعلم والحب .. نظرات الحسد تلاحقني إلى كل مكان وخاصة من بنات العائلة .. أذكر أن عين حاسدة أصابتني وأنا في المتوسطة . أثرت على حفظي وتسببت في رسوبي في ثاني متوسط ، ولم استرد عافيتي إلا بعد معالجة طويلة عند الشيوخ ، مرحلة المراهقة كانت شرخاً في حياتي أصلحه أبي بيديه الحانيتين اللتين نسيت ملمسهما في بدايتي الجامعية بعدما تزوج منيرة التي لا أصل لها ولا فصل ، التقطها أبي من فئة الصُّناع ، كان والدها العم حافظ رجلاً مريضاً يكد على الطريق . ينقل الم! خالفين والمجهولين بمبالغ عالية ليصرف على عائلته الكبيرة ، رآه والدي في إحدى المرات على الطريق ، وعرفه كان جار أبي في الحارة القديمة التي حاولت أمي بكل السبل أن تنسيه ماضيه ، صدمها أبي بإحضار شريكة لها من تلك الحارة ، تزوج منيرة رغم أنف الكل ، وأسكنها بقربنا ، عملت له سحراً بنت الملعونة .. وصرت أرى أبي بعدها بشكل آخر ،تغير معنا ومع أمي ، وجعلنا أداة في يديه لينتقم من أمي ومعايرتها بأصله وفصله وأنها أخرجته من الوحل ،
تغير معي أنا حنان دلوعته ؛ بسبب الأفعى التي دخلت علينا كأخطبوط تفرع في بيت الصايغ بأولادها الأربعة ،ابتلع أبي حبوب الفياجرا ليرضي نشوة ابنة الصانع ، كرهتها وطعنتها في شرفها أكثر من مرة ليطلقها ويعود إلينا ، كنت أرى أنه لا عذر له بتركنا حتى لو كانت أمي قاسية معه ، كان يعرف طبيعة أمي فاختار النقيض ، كانت منيرة شابة صغيرة في مثل عمري ..الفقر لم يسلب منها الجمال والدلع والنعومة ، كل ما فقده والدي في أمي ، كنت أقسو عليها ، وأحملها مسؤولية زواج أبي ، وزواجي ، وطلاقي ، وعقدة خيرية، وتطرف متعب ، وهروب حسن من أولاده ، وانحراف خالد ، وحدها سلمى تخلصت من عالمنا وبن! ت بيتاً سليماً بقلبها الحنون، حاولت مواساتي بعينيها لأنها لا تملك غير ذلك في بيت الصايغ ..
كبرت في بيت اختل توازنه في منتصف الطريق ، مصيره في البداية بيد أمي التي امتدت واختارت لي خطيباً من عائلتها ، نادتني وقتها ، قالت لي دون مقدمات :
ـ أنت مخطوبة لولد خالك مسفر ، راح تتزوجينه بعد الجامعة .
أربع سنوات الجامعة وأنا مخطوبة لرجل لم أره أبداً إلا في صورة فوتوغرافية ، أذكر أنني لم أوافق ولم أرفض ، إحساس جميل ومغرور أن أتفاخر بين زميلاتي في الجامعة أني مخطوبة في سن مبكرة. ولم أحاول أن أرى مسفر أو أن أكلمه ، اعتبرته خطيبا صوريا وسأتخلص منه بعد انتهاء دوره ، لا أدري هل التلاعب بمشاعر الآخرين ورثته من أمي ؟!
كنت صورة منها وأنا لا أدري ، شعرت بذلك يسري في داخلي ، كنت أريده أن يتوقف عن النمو .اعتدت على النظر من الشباك متسائلة ماذا يحدث خارج عالمي المسور ؟ رأيت ناجي في يوم لا أنساه يدخل بيتهم القريب منّا ، لم نتزاور لأن أمي لا تحبنا أن نختلط بأحد ، فكيف بأُناس مختلفين عنّا ، وأدمنت الوقوف على الشباك متخفية وراء الستارة حتى لا يراني .
مرت الأشهر أرى ناجي ولا أرى مسفر الذي نسيته ونسيت خطبته المفتعلة ، أنهيت الجامعة وأنهيت رباط مسفر مستغلة! تمرد أبي على أمي بعد زواجه من منيرة الحيزبون ، وساعدني على التخلص من مسفر، شعرت أنني محبوسة في قلعة عالية مغلقة بقفل كبير ،محاصرة في مكاني ،لا أتحرك أفقياً ولا رأسياً ، حينها قررت لفت نظر ناجي إليّ ، وأن أُجرب المحظور .






(4)
دخل المدينة مع خروج معظم العساكر منها في مأموريات متناوبة على أطراف البلاد ووسطها مخلفين مدينتهم الباردة تضج بالسياح في شهر يولية ، تحاشى الحشد الغفير المزدحم على المطعم الصيني ،واكتفى بسندوتش شاورما من جُود ،على الأقل فيها فتات من العروبة (والجُود من الموجود) ، وأخذ يحدث نفسه بصوت يتخطى أذنيه :ما الذي يعجبني في طعام لا أعلم مكوناته ؟ هل لأنه يجمع الحلو والمالح في طبق واحد كحياته ؟
الأعين الفضولية تلتف حوله والأفواه المتسائلة تحاصره :ماذا بك؟ هل تشكو من مرض؟ مسكين يبدو أنه أخرس..، أمضى عابر في المدينة أسبوعين اصطدم فيها بالازدحام ،وبمجموعة من المتسكعين ي! قطنون معه في الشقة المؤجرة لا يفهمون زفراته ..آه منك يا صالح ، أشرت عل يّ بسياحة لست مؤهلاً لها ،عاتبه على الهاتف فأجابه بأسلوبه الفكاهي:
- طبيعي يا صاحبي ما فيه أبهى من أبها ،وأنا قصدي تروح لها في الشتاء راح تنعم بالهدوء والخصوصية.
كتم غيظه :
- لكننا الآن في الصيف .. رد بنفس النبرة :إذن استغل الفرصة وتمتع بالجمال وانقله على لوحك.
_ لم أترك الرياض لأستمتع بل لأكتب وأرسم ملامح لا أراها.
خاصة بعد أن هجره الوحي فترة طويلة ولاكته الإشاعات بلسانها السليط في الساحة الأدبية والفنية . أين اختفى عابر السبيل؟ وأين جليده (جديده) المتجمد؟ من المؤكد ان قريحة قلمه المأجورقد نضبت ، وكذا فرشاته الملطخة بالزيت،تجاهل الكل وقدم للمدينة للتنقيب عما فقده .
أفنى تلك الأيام برفقة أشخاص لا يعرفهم ، طاف معهم معالم المدينة وتسلق بعض مرتفعاتها ، وصلى في مسجد بن حنش المبني فوق الجبل، واستمع للخرافة التي يتداولها أهل المنطقة المعلقة بأن الجن المسلم ساعد أجدادهم في رفع مئذنته، أنصت لحكاياتهم القديمة وتعجب من ارتجافهم لرؤية رجل ستيني مهلهل الثياب ينادونه بأبي الثعالب أو الحصيني ولا أحد يدري سبب التسميتين ، هل لأنه يهيم في البرية ويتعاهد مع الجن والحيوا! نات الماكرة ،أو لزعمهم أنه من نسل الشيطان والمشعوذين، له عين حقودة حاسدة (تطيّح الفحل في فراشه) ، لم يعرفوا كيف استوطن قريتهم ، دخلها خلسة مع دخول الريح القادمة من الجبل ،وأصبح واقعاً بينهم لكنه أبداً لم يكن فرداً منهم وإن كان يبهرهم بمشيته المتريثة على الجمر المشتعل ،واسترخائه بهيمنة على لوح من الدبابيس أمور مستهجنة لا يفعلها إلا من يؤآخي الجن... حذروه إذا صادفته في طريقك ارقِ نفسك، لم يأخذ خرافتهم على محمل الجد،اختلّ توازن جسده المكتنز نتيجة منحدرات الزقاق الحلزوني، وكاد أن يهوي على الأرض، التقطته يد يغزوها شعر كثيف أصفر ،التقت عيناه بعيني الثعلب ،رمقه بنظرة عداء، زفيره في أذنه يحذره: أسئلتك تتعدى الحدود ولا تتدخل فيما لا يعنيك ، شعر برذاذ يلفح وجهه أخذ يتمتم دون أن يبتلع ريقه: قل أعوذ برب الفلق.......قل أعوذ برب الناس....، حبس حابس وشهاب قابس ردّ على عين العائن.......
الحادثة طبعت في ذاكرته رغم أنها لم تخلف أثراً يقلق نومه بقدر الهلع الذي برق في عيني رفيقه صالح عندما أطلعه عليها في مطار الرياض ..ماذا سيحدث له لو أخبره بقصة البيت المسكون وحكاية بنت الحامد، كتم سره ! وأفشى سرها وجسدها استخدمها حبراً لقلمه الأسود السائل ،وروى بها أوراقه وألوان فرشاته ،وملأ بها خلفياته الفارغة .هل لو كانت ، في عالمه، سترفع ضده قضية تشهير ورد اعتبار أم انها ستنتظره لتقاضيه في عالمها ؟
لا يدري كيف وصل للمقبرة الميتة المتاخمة للمدينة رغم أنّ الكتيبات السياحية والأسهم المعلقة على الشوارع لم ترشده لطريقها ،ولسانه أفلت من سكوته:
وليس لي وطن ٌأمسيتُ أذكره * إلاّ المقابر إذ صارت لهم وطناً
تراجع إلى الخلف ، فمقبرة المصلوم المكتوبة على لوح من التنك الصدئ تتلوى على حجارة مدببة ،وتصدر فرقعات متأوهة من الارتطام ،وتعطي الحدث الحزين مؤثرات صوتية شبيهة بموسيقى الجنائز ،وتهتاج لأقدام تقبل عليها وتقدم لها قرباناً لتغلق فمها المفتوح ، لكنها تزداد شراهة وتقول:هل من مزيد، لم يحتمل مراسم الدفن: ترى من تكون؟ ، أوصد عينيه ،ورأى في سوادهما خلفية لمقبرة العود في الرياض ،دفن بيديه ابنته نجود قبل سنة ، بكى بحرقة على تساقط تسع زهرات من شعرها الفاحم ، كانت تمسح دموعه المتدفقة بطرف كمها ،وتقول له ببراءة :إنت يا بابا ما تبغاني أصير عصفورة في الجنة.
كانت تشطره نصفين ، خاصة بعد ما أبلغه الأطباء بالتهام السرطان! لكبدها والتفافه كالمسعور على باقي أعضائها، ومصيرها القابع في غرفتها في مستشفى خالد لأورام الأطفال منتظراً الإشارة للقبض عليها، كان يهاب الموت فليس له قلب يرق لبكائه وتوسلاته المستميتة ليمهلها بعض الأنفاس
كسح الشحوب وجهه، ما الذي جاء به إلى المقبرة ؟ هل يسعى إلى خدش جرح لم يندمل ؟ أهو القدر الذي سقط على رأسه كمطرقة من حديد أفقدته من يحب وكلماته المتفائلة، حتى كلماته الحزينة تخلت عنه بعد وفاتها ، ولم تكن إلى جانبه لتواسيه في قصيدته الرثائية ، وفرشاته عجزت عن إعادة براءتها. الأصوات أعادته من ألف كيلو متر، عام لم يكتب فيه كلمة ، ولم يرسم لوحة. سمع رجلان يترحمان على المرحومة .
_ إنا لله وإنا إليه راجعون ..المسكينة لم تتجاوز الثلاثين ..في ريعان شبابها .
_ فعلاً مسكينة حنان الحامد ، الله يخفف عليها ويرحمنا ، أنا سمعت أن نهايتها مأساوية 0
_ ما سمعت حكايتها مع الغريب الله بس.........
مشيا في حالهما قبل أن يستمع لبقية جمل جذبت انتباهه ..التفت خلفه دون وعي منه رأى شاباً متنحياً عنهم في عمر حنان بملامح غريبة عن المنطقة، بل عن البلد بأسره، يبدو أنه من بلاد الشام ويرت! دي بنطال جينز وتي شيرت أسود، يدس يده في جيبه ويلوح بالأخرى لشخص لا يرا ه ، وفي عينيه دموع متحجرة ومشاعر متضاربة من حنق وأسى وأمل يموت بموتها ، أهو الغريب؟ نظر مرة أخرى إلى الخلف فلم يجده ..عاد أدراجه وفي أذنيه همهمات القاطنين معه في الشقة ،عليه أن يستحوذ على خصوصيته ،وفي رأسه فضول لا يعتقه ..ما الذي دفعه للعودة إلى المقبرة في اليوم التالي ؟هل كان متأكداً من اقتراب الغريب منها وذرفه لدموعه المخزونة على قبرها ...؟
مرّ أسبوع آخر ينقب عن سكن مستقل مبلغاً مكاتب العقار أنه مستعد لدفع الإيجار المطلوب ،خاصة بعد موجة الارتفاع التي اجتاحت المدينة في الصيفية، شعر باليأس وقرر العودة إلى الرياض حتى ولو لم يكتب ، فالإلهام لا يحدد بموقع ..صعق لرد موظف الخطوط الجوية :سيدي الكريم لا يوجد حجز إلا بعد أسبوعين .
_لا يهم بالنسبة لي درجة سياحية أو درجة ثانية المهم مقعد لا أكثر .
_آسف ...أخبرتك المقاعد كلها محجوزة على العموم سأسجل اسمك في خانة الانتظار .
_ لكني مستعجل وعليّ السفر لحالة طارئة .
أجابه دون مبالاة:
- إذن سافر برًّّّّّّّّّا .
ما هذا؟ تركه في خانة اليك، فهو لا يحتمل عشر ساعات يقطع فيها الصحراء بلا أنيس يخفف عنه حدة الطريق.
اتصال أن! قذه من قبضة وساوسه :
- سيد عابر عثرنا على ضالتك .
وقف أمام مكتبه ينتظر بفارغ الصبر انتهاء صاحب المكتب العقاري من عملية تطهير فمه بسواك تآكل من اللف والدوران، وأدخله في متاهة حديث عن أهمية التنظيف بالسواك والتمسك به كسنة، ونبذ تقاليع الغرب التي كانت برأيه الفرشاة والمعجون بنكهاتها المختلفة ..قاطعه منهياً كلاماً فارغاً يحشو به أذهان أمثاله :
- أين البيت الذي أخبرتني عنه ؟
وبدأ يستجوبه كالمحققين ، جاهد نفسه ليجيبه إجابات مقتضبة ، فالاستقلال يستحق العناء .
_اسمك عابر!
_نعم ستراه في البطاقة .
أخذ يدقق النظر فيها كأنه يبحث عن فارٍّ:
_ما عملك؟
_كاتب ورسام.
_كاتب سياسي أم...
استغرب توتره :
_ لا أهتم بالسياسة .
_ أشوه وش نبغى بالسياسة خلها لأهلها .
اقتحم الحديث الإجباري صوت آخر مسترخياً بكسل على الكنبة الجلدية .
_ ماذا ترسم ..أنا سمعت أن الرسامين يرسمون نساء عاريات .
لم يجبه وحاول أن ينتهي من حوار زجّ فيه ربما لغرض في نفس أحدهما.
_ بصراحة أنا مستعجل وأحتاج للعُزلة .
رمقه بنصف عين:
_ لا أحد معك ،لا زوجة ولا أولاد .
_ بم! فردي ،لا أحد معي .
_ لكن البيت فخم ومكون من طابقين ..هل عرفت قصته ؟
_ لا ،ولا أكترث.
بادره متجاهلاً اعتراضه:
-_هو لعائلة منصور الحامد التي انفرط عقدها على أيدي عصابة مكونة من عمالة كانت تعمل لديه تمّ ترحيلها إلى بلدها ، يبدو أنها سرقته بدافع الانتقام ، أحرقت فروعه ، وهربت متسلقة الجبال، يقولون أنّ الشرطة أمسكت ببعض أفرادها لكن اللي انشرخ ما يتصلح ، أبوهم ما تحمل الصدمة وقابل وجه ربه لحق بابنته في أسبوعها و....
وجم من الصدفة التي قادته إليها ،وانتابه الشوق لرؤية منزلها، قاطعه على عجل جعلته يرتاب به:
_ والآن أعطني المفتاح.
_ هل أنت متأكد أنك تريده فايجاره غالٍ.
_ لا يهم سأدفع ما تطلبه .
_ ألن تستخدمه لغرض آخر ؟
_ مثل ماذا ؟!
_وكر للدعارة أو للإرهاب .
الصبر ودعه إلى غير رجعة ،وباغته بلكمة على وجهه ،وبات ليلة في التخشيبة مع المجرمين وتجربة جديدة ومريبة.. قضى ليلته يحلم ببيت الحامد وبشبح حنان يذرعه بلا سكون ،واستيقظ والتصميم يجتاحه ليسكنه .




























( 4 )

هل دخل بيت الأساطير أم العجائب؟ وقف خلف الباب الخارجي للفيلا المصمم من خشب (الماغنو)المعتق باللون البني ، وعيناه تبديان استحساناً لتمازج مريح للنظر مع انعكاس ضوئي للزجاج المعشق بالرسوم الخرافية والألوان الجريئة ، أخذته في رحلة عبر بساط الريح إلى جنبات التاريخ والحضارة الفرعونية والأندلسية بنقوشها العربية المستلقية على الرخام الأبيض في سبات عميق تحسد عليه، ولوحات مصلوبة على الجدران تروي قصصاً مثيرة من الماضي تساءل: هل كان منصور الحامد يفهم لغة الفن الخفية بين شجرة الحياة وليالي عمر الخيام وخيال ألف ليلة وليلة، أم كان يستحضر عبقاً فنياً في جلسة حريم وانتظار؟ واستغرب وجود ركن غربي يفرض نفسه على أسطورة الشرق ، وما الغرض من رقعة شطرنج مختومة في قفاها (نيويورك) ؟ هل يجيدون بنود اللعبة و ينهونها بمات ملك ؟ الأحمر ينفث درجاته الملتهبة على الجدران بعشوائية تكسبها التناقض بين الهدوء والصخب، جرته الرائحة إلى البدروم ، اشتم رطوبة مشبعة بمسك أو عطر نسائي لم تستدل عليه حاسته الشمية ، فلم يكن خبيراً بالنساء وأذواقهن ، فزوجته تعتبرها توافه تثير قرفها ،! فالعطر محرم على شحمتي أذنيها منذ طفت على جسدها بوادر البلوغ..خاصمته ي ومين لصفير فضحه عندما تغلغلت عيناه بين انحناءات نانسي عجرم وهي تتلوى على آه ونص ... كانت علاقتهما فاترة يحكم استمرارها العقل ونجود ،وقد فقدهما بلا رجعة..خرجت من السيارة دون أن تلتفت إليه وأغلقت باب بيت أهلها ،أراد منها أن تغفل عن كبريائها وتنهار بين أحضانه ، وتذيب الجليد بينهما لكنها لم تفعل، فعدة أشياء مفقودة بينهما ،رفض تطليقها وتركها كالمعلقة لا يستحوذ عليها رجل غيره .. أحسّ بحركة وراءه ، تعوذ بالله ، إنه لا شك يحي أشباحاً بخياله ، فالهواجس تتبعه بعد ما أوقفه الرجل الملتحي بثوبه المنحسر عن نصف ساقيه عند الباب ، تعلقت عيناه بسرواله الواسع منصتاً إلى كلماته السريعة عن البيت المسكون والتحصين .
تغلب الفضول على خوفه ليقتحم الغرفة الأخرى المغلقة بمزلاج عنيد ، كسره بشاكوش وجده في كرتون للخردوات ، هاجمته عنكبوت سامة أوقفت ضخ الدم في شرايينه للحظات ، اشتبك معها في صراع انتهى بتفجيرها إلى شظايا دموية ملوثة للجدار ..فتح الباب وأصوات خلفه تأكل بقايا مخه :أنت تتمادى يا عابر، انحسر الباب عن هياكل بشرية متحجرة ، صعق لمرأى امرأة من المعدن تحمل طفلاً يستجدي مصة حليب من ثديها الناشف،! وحولها ذئاب من الحجر تشد بتلابيب المرأة نحو حافة المجهول ، فجأة ظهر أبو الثعالب في عينيه وتحذيره بعدم التدخل فيما لا يعنيه . لم تذكره الآن بالذات؟
أقسم لك أنا وأنت ندور في فلك واحد ..هو الجنون بعينه، جاهد نفسه بين رغبتين المكوث والهرب نافذاً بجلده ..توقف عند ركام تمثال أنثى وخصلات شعرها المقصوصة تفرش أرض الغرفة ، وتربط عُقداً في الفتحات الصغيرة، هل حطم منصور الحامد جسداً صنعه بيديه وعشقه؟ فرك عينيه، فالإرهاق شرب عقله وأبقى له الجنون ، وهو متخشب يتأمل ،في هذيان ، عودة التضاريس إلى خارطة الأنثى، أقبلت عليه بابتسامة تمدد فمها الواسع ، وقامتها المتوسطة تستتر بثوب من الساتان المطبع بالأزرق والبني، الحياة والموت يتدفقان منها وهي تتمايل نحوه في خطا مترنحة، ويداها تطوقان عنقه بأصابع ناعمة ، نسي ملمسها على جلده الحساس أثارت التخدير في مفاصله ، وسار معها كالمسلوب إلى أين ؟ لا يدري المهم معها حتى لو كانت شبحاً تكون من عطش لا يروي،وحين همت بغرز أظافرها المبرودة في صدره بلين وقسوة كان قلبه الهائم يملي أوامره على عقله النائم : دعها تأكل قضمة من التفاحة، وعلى غفلة من نشوته نسلت ما! يعتريه من جسده ، أطبقت يداها عليه برعونة اكتسبتها من أنامل بشرية ، دف عها عنه وصرخ في ذهنها :لن تجريني إلى عالمك ..لم أفعل جُرماً يستحق عقاباً ..عاقبي من أذوك.
أرخت يديها والدموع تتسرب من جسدها، أطلق ساقيه للريح نحو الدرجات وعويله الصاخب يزعج الأرض:أهي بشرية؟ ارتطم بلوحة الحريم وسقط فاقداً وعيه وعقله .
يدها المصبوبة في قالب مستدير تهزه بلطف وتوقظه من بعيد بصوت يذوب رقة :
-أفق يا عابر لم تأت كل هذه المسافة لتنام !
_ لم أردتِ قتلي؟!
_ أنا أقتلك! يبدو أنك مجنون.
من المؤكد انه يهذي ويتخيل أوهاماً تؤهله لدخول المصحة النفسية، أخبره الطبيب النفسي الذي استعان به بعد ارتداد حالته وقلمه وفرشاته إنّ الإنسان قد يخسر كل شيء في لحظة التماس .
لمْ يسترجع ما فقده ،حتى تلك التي طواها في طي الكتمان عن زوجته ، ربما لأنه تيقن رحيلها من جسدها ، وجفاف لمساتها بعد وفاة ابنتهما ..لم يمنحها فرصة..ولم يطلب حينها المزيد.
ما زال صوتها يكرر نغمته الحنونة :
-أفق يا عابر..أفق يا عابر.
فتح عينيه ليوقف أضغاث حلمه ..لمح النهار القادم من النوافذ، تحايل على أعضائه الثقيلة ليستوي على قدميه والصوت يدنو منه ، ويوقف جسدها عند الدرجة الأولى للسّلم ! ، تضحك بغنج وتصعد بإيقاعاتها المتمايلة إلى الدور الثاني، يسير وراءها مشدوهاً ، ويجاريها في لعبتها ، يلقي نظرة على الشطرنج، فالجندي غير مكانه وخطة اللعبة ..ويستمر في الصعود مستمعاً إلى أصوات لم يسمعها قبلاً كأن الحياة عادت إلى البيت ، ظهر من الغرفة الأولى رجل في الخمسين مرّ بقربه .اختبأ كالمهووس خلف شجرة الحياة، لكنه لم يره و سمات النعمة البادية عليه تظهره في الأربعين عدا سخطه على نحافته والتصاق بطنه بظهره، مما يحرمه من دواعي الوجاهة تلك الكرش الكبيرة التي يتباهى بها رفقاؤه الواصلون في البلد ، وتذكره بأصله المتواضع رغم إكثاره من الدسم والحلويات ضارباً نصائح زوج ابنته سلمى وابن أخيه الطبيب سعيد بالتخفيف منها لموازنة نسبة الكولسترول في دمه، ينسى كل المحاذير أمام الوجاهة ، وطبق العريكة المعروكة بالسمن والعسل الأصلي ، يطل كل صباح دافئ أو شتوي من الشرفة المطلة على الدور الأرضي وينادي بأعلى صوته المبحوح :
-بريمة فين القهوة والعريكة وخبز الدُّوح .
فقد أتقنت الخادمة القهوة العربية .الأكلات الجنوبية .ولديها نفس في الطبخ ينافس أم العيال التي تصحو متأففة من إزعاجه :
- صد! ق اللي قال أبو طْبيع ما يغير طبعه.
خرج عابرمن مخبئه ووقف أمامه ، حر ك أصابعه في وجهه ، امتعض قليلاً . ليس لوجوده ، بل لمغص بادره بعد إفراغه للدسم ملقياً اللوم على الهرمونات الكسولة التي تتحكم في جسمه ، نادى على بكْره الذي لم يسنده بيمينه تاركاً الذهب بين أيدي الغرباء.
_ يا حسن...فينك يا حسن .
زعيقه المبحوح أجفل العصافير الصباحية المتعلقة بشجرة التين المرتفعة عن سور الفيلا لتحجب أنظار المتطفلين والحاسدين عنهم ، صمم على زراعتها فهي تقي المستور ،حتى لو كانت مرتعا للجن الليلي ، فالعين اللي ما تصلي على النبي تلازمه ولا تتركه في حاله .
رفعت رأسها الناعس ونبرتها القوية متيقظة .
_ وبعدين معك يا أبو حسن..حسن ماهو في البيت عنده استلام من أمس ، قصّر صوتك ، الباقيين نايمين واليوم جمعة ،أطلب منك طلب داوم اليوم .
اخفض بُوقه الخشن:
_ وش أخبار متعب ما اتصل .
_ ما كلمنا من شهر الله يستر .
_ أنا خايف على هالولد وإدمانه على الحرب أولها أفغانستان وبعدين البوسنة والله يستر من تاليها.
تعداهما والذهول يأكل مقلتيه باحثاً عنها، أين أنت يا حنان ؟ حرّك الجندي أكثر من خطوته المسموحة له ..فتح الباب المجاور ، طرقه ثلاث طرقات كأنه يعرف الأص! ول ويتجنب المحظور، استغرب تمادي هذيانه، لن تسمح له ولن تنطق ، فهي..:
-أُدخل.
صوتها يكبل عالمه ويسقطه إلى الأسفل ، استقبلته بابتسامتها الملتهبة من الجمود، حدقت فيه كأنها تحاكي شخصاً من عالمها. كانت ذاتها تلتف بنفس الفستان وشعرها المقصوص يلثم جبينها ..وخلف أذنها ياقوتة مهجنة من فرشاة ألوانه ،كانت جريئة في لعبة الألوان تمزج الأرجواني بالأحمر والأبيض والأزرق والأصفر ،وأحياناً تفصل كل لون على حدة ، ليلون شخصيتها المتقلبة ،علّق لوحته وسط غرفتها وانجرف مع تيار فرشاته رسمها بكل تقلباتها وألوانها. لم يكن لديه لون مرفوض . حطّم الأغلال في لوحاته ، فهو طليق كعاصفة حين يرسم ..وقفت كالمانيكان بين مراياها ، نظر إلى أشكالها وألوانها المتغيرة ، بادرها وكأنه لم يفاجأ :
-أنت نرجسية تعشقين ذاتك من انعكاسات مراياك .
نطقت كأنها صوت البشر :
-وأنت ألست شهوانياً أم الذكورة تمنحك حق أن تشتهي ولا تشتهي .
تهرب من الإجابة كما كان ناجي يتهرب عندما كانت تؤكد له أن الحق مناصفة بينهما..نظر حوله ، هالته الفوضى والأوراق والكتب المفترشة للأرض ،لم تعطه وقتاً لاسترداد أنفاسه المتشعبة على جس! دها الممتلئ، ما زال الرونق يلقم تفاصيلها، وجبات تشبعه، لم يقولون إن ا للحم ينقشع من أجسادهم ويعري عظامهم! أمسكت يده صوب النافذة ، حاول تخطي الكتب، وعيناه تلتقط عناوينها المتناقضة هل كانت تخزن داخلها مزيجاً غريباً نسلت خيطه من والدها وحبكته الوراثة ؟ أم هل تعنيها قضايا المرأة بين التقاليد الراكدة والوافدة للغزالي ، وتتشرنق في وهج رواية غونتر غراس، وتعبث بمجلدات الحرب والسلام ،وتنثر رمادها في بيت الحامد ،وتتصيد الأخطاء للكل في (فخ العولمة) ، لم يلمح مؤلفيه الألمانيين ، فقد وصل للنافذة و رأى ما يشذ عن الكتب. بيت متهالك على أسس متراخية ،مطلي بألوان سرقت منه الحياة عنوة. كان النقيض لآل الحامد ،كيف خالف منصور الصايغ تسلسل القصة المشهورة ولم يأمر بهدم البيت الفقير المعانق لقصره ؟ ألم يخرج الحاكم ويرى بيت الراعي المتواضع الذي جسر والتصق به ، ويصدر الأمر الملكي بإبادة من يعترض طريقه ..مازال البيت ينبض بأنقاض حياة، وينبعث منه بكاء مولودة صغيرة بين أحضان رجل رآه في المقبرة يهدهدها ، ويحكي لها بهمس يداريه عن زوجته قصة شغف والدها بالمستحيل ..أتشبه الطفلة حنان؟ أقترب أكثر ، ودقق في وجه الصغيرة ..لا إنها تختلف عنها ، انها تشبه على ما يبدو أمها ، التفت إل! يها وسألها بحذلقة :
-هل خفق قلبك لذرات رمل هائجة لإنسان بلا أرض؟
أومأت بعينيها وأطرقت رأسها للأرض ..هل رسمها ؟ هل فاتته تفاصيلها ؟ لا يدري، لم يكن في وعيه وردد باطنه :
- لو كنت حيّة يا حنان لأحببتك !


























( 9 )
تخرجت من قسم اللغة العربية انتظر قرار التعيين الذي يزحف على أربع أرجل ويتخطاني متجاهلاً وحدتي وأوراقي المتشتتة .كان ناجي عندما أصفها بهذا الوصف يضحك برعونة ، ويعلق بسخرية :
ـ كنت أعتقد أن الشتات لنا فقط .
أشعرني بغربته ، ومط شفتيه بنفور عندما ناديته بالغريب، وأدمنه من شفتي ، أمضيت سنة بطالة وأول سنة علاقة مع ناجي متذوقة مذاقين مختلفين . سعادة الحب مع تعاسة الحبس ، انتابني إحساس مخيف بأني مدفونة في الحياة ، وبدأت أصرخ وأشتم كل من يجادلني، حتى خيرية الناقدة والواشية الرسمية لزلاتي تحاشتني وانشغلت بدراستها الجامعية في الشريعة الإسلامية ، كانت حريصة على الامتياز ، لا أذكر أن أي حدث في العائلة قد هزها . حتى زواج والدي لم يربكها ، وإن استغربت ردة فعلها عند وفاتي وموت أبي .
وفق الأحداث والانفعالات والصراخ أحياناً ،وافق أهلي على أن أعمل نصف دوام في مركز للمعاقين من ذوي الاحتياجات الخاصة ، حصلت على الوظيفة بتزكية من صديقتي فلوة التي سبقتني في التخرج ،وعانت من بطالة محترمة فاضطرت للعمل في مركز للمعاقين في الرياض بعد انتقالهم إليها تخوفت وقتها مصدومة :
ـ معوقين يا فلوة ، أنا لا أنجح في التعامل مع الأصحاء ، حتى أقدر على هؤلاء .
ـ صدقيني التجربة تستحق المغامرة ، سترين عالماً مختلفاً ، ومثيراً للغرابة .
أما أمي فقد طار صوابها :
- آخرتها مع المجانين يا حنان ، إنت ويش ناقصك .
ولم أفلح في إفهامها إنهم غير مجانين ، وانهم فقط يعانون من نقص وكل ما يحتاجونه هو الرعاية الخاصة ، وإن كنت شككت في تأكيدي بعد أن سقط عليّ عايض أكبر متخلف في المركز في أول يوم دوام لي ، واحتضنني معتقدًا أني أمه ، لأنني كنت مرتدية عباءتي فاختلط عليه الأمر ، عرفت من الأخصائية أنه نتاج مأساوي بين والدين هما ابنا عم وخالة ، ومعاناة وراثية . معلوماتي العلمية المتواضعة لم تستوعبها ، وعايض ثمرة معطوبة تعا! ني من نسبة تخلف مرتفعة، يومي الأول قضيته في البكاء ، أخفيت أثاره عن أمي لأنها لو رأتني لأقسمت على عدم عودتي ، وناجي واساني وأخبرني أن المجتمع مليء بهموم أكبر وأضخم ، لم أنم ليلتها أمضيت ساعة في محادثة فلوة وإخبارها بالكارثة وصوتي يتقطع ويشهق من البكاء واستني بضحكتها الساخرة وكلماتها ترن في أذني كجرس الكنائس: إنت زعلانة على حالك ولاّ على حالهم .. احمدي ربك إنهم يحظون بسوء المعاملة فقط في أماكن ثانية يستغلونهم جنسيا من قبل أهاليهم ويحضرونهم إلى مركزنا منهارين وإن تكلموا قالوا عنهم مجانين احكي لك قصة دانة ذات العشر سنوات اللي يستغلها عمها القذر في إشباع نزواته الدنيئة وجشعه فهو يشحذ عليها كمان مو كافي اللي يسوي فيها ياخذها كل نهاية الأسبوع ويعتدي عليها ويرجعها بحالة مزرية كشفنا الوساخة حقة عمها لكن بعد إيش بعد ما خربت مالطة أقلك إيش عملوا منعوا عمها من أخذها أما هو فحر طليق فسيادته عنده ظهر واصل في البلد.. ياشيخة امسحي دموعك ونامي قريرة العين فحنّا في زمن مقلوب .
لم أنم ليلتها وعايض يلاحقني في أحلامي ، ويناديني بماما ، وعم دانة بملامح مخيفة يعتدي على المعاقين .
يبدو أن حالتي لم يغفلها مدير المركز ، فعيّنني في قسم الملفات ليبعدني عن الفئة المنبوذة ، لكن فضولي أدخلني عالماً غريباً وظالماً لهم ، ومتاجراً بهم ، رسوم عالية يدفعها أهاليهم على حجز أولادهم الانفرادي ، واستغربت وجود أخصائية التخاطب أميرة في هذا المكان ، كان حدسي يخبرني أنها لا تصلح لهذا المكان ، وكنت محقة ، بدأت أشعر بتناقض المكان مع امرأة لعوب أرسلها أهلها إلى السعودية بمفردها لتجني مالاً يخرج أهلها الفلاحين من بؤسهم ، كنت أتساءل ألا يشك أهلها بمصدر الأموال الكثيرة ، خاصة أن المدير يماطل في تسليم الرواتب كاملة وفي مواعيدها ، ذكرتني أميرة بـ (pretty women ) لكن دون جانبها الحسن ، وما أدهشني أكثر المشهد الذي أدته أمامنا ، امرأة جميلة بيضاء ممتلئة تلبس شورتاً يظهر امتلاء فخذيها وشطوتها (مؤخرتها ) التي تجاريها في انحناءاتها تقوم بمسح الدرج بخرقة مش! بعة بالماء والتايد ،وصوتها المتلذذ بتصرفها يردد كلمات الأفلام أو الوا قع لا أدري :
ـ وسع يا له ،دنا أميرة ، ما حدش زي أميرة وجمالها .
تساءلت هل هي نادية الجندي تؤدي أحد أفلامها الصاخبة بالإغواء ؟، المدير لم يعلق على المشهد الهزلي، واكتفى بإيماءة وابتسامة خبيثة ، لم يصدق ناجي بما أخبرته واعتبرني أهذي ، أقسمت له أن ما حدث حقيقة ، طلب مني ترك العمل رفضت وبشدة فلن يكون أمي الثانية ، وتخاصمنا شهراً كاملاً ، انشغلت به عن ناجي بحكايات العالم المخفي وغناء أميرة النشاز يردد كلمات هابطة حفظتها من كثرة ملازمتها لقناة ( mazzika ) :
يا بختك يا حظك يا سعدك
أنا مت فيك
حبيبك نصيبك
حبيبك أُدام عينيك
اكتشفت فيما بعد أنها تلبي احتياجات من نوع آخر ، وعلاقات مشبوهة تمدها بنقود وهدايا مقابل خدماتها ، سمعت الوشايات والتحذيرات منها، خاصة من قبل الحارس الأمني للمركز البنجلادشي ( أبو الكلام ) ، كان شخصية غريبة الأطوار وقليلة الكلام مما يجعل اسمه متناقضاً مع طبيعته ،وتحولت إلى امرأة مشبعة بالتناقضات أخبرني جملة واحدة عن أميرة : هذي حُرمة مش كويس ، وحذرتني عاملة النظافة أم محمد : يا بنتي اتركي هذا المكان ما يناسبك ، لكنني صممت على البقاء لأر! اقب أولئك المساكين خلف النوافذ، يقذفون بهم في غرف منعزلة مع الخادمات الأندونسيات ، يقمن بإطعامهم وإشراكهم في حمام جماعي عرايا ، أثرت مشاجرة مع أميرة بسبب استهتارها بتلك الحالات البائسة والاستخفاف بهم أجابتني بلا قلب :
ـ جرى إيه دول مجانين ما يفهموش حاجة وليه نضيع الوقت عليهم .
تخطتني وهي تمص شفتيها بقرف ،وتغني مقلدة هيفاء وهبي في حركاتها :
أنا أميرة أنا
من غيري أنا
أنا قلبي اللي ابتلى
بعينين حلويين
لم أحتمل تماديها، وغفلت عن الخطأ الآخر عندما اتجهت إلى المدير وأخبرته بما حصل ، أجابني بنفس النبرة :
ـ أنت متخرجة حديثاً ، وتريدين أن تطبقي ما تعلمتيه، لكن الدراسة شكل والواقع شكل آخر ، لا تصلح فيه عواطفك ، ونصيحة لك يابنة الصايغ اتركي هذا المكان لا يناسبك .
نفس نبرة أمي ، وصممت على ألا أتراجع ، وندمت على قراري بعدما داهمت الهيئة المركز ، واحتجزت كل العاملين للتحقيق بعد شكاوي السكان من دخول رجال غرباء إلى المركز في منتصف الليل ، وسماعهم ضحكات تشبه تلك التي تطلقها فيفي عبده في وصلاتها الراقصة ، وضبطت أميرة والأندونيسيات متلبسات في مواضع مشي! نة ، فقد كن يسكن في الطابق العلوي من المركز ، غيابي وقتها لم يعفني من الاستجواب ،وأن أُدلي بشهادتي أعلمت المستجوبة أنني كنت شاكة في الأمر:
ـ إذا كنت شاكة ليه استمريت .
سكت ، لم أستطع إخبارها أني أُعاند أمي ، لأنها كانت رافضة لعملي . اُفرج عني وعن بعض العاملين لعدم تورطنا في القضية ، رمقني ( أبو الكلام ) بنصف عين ليذكرني بما قاله ( ألم أحذرك ؟ )
سمعت موشحاً طويلاً وعريضاً من أمي ، وتهديدا من خالد آخر العنقود الذي يصغرني بعشر سنوات بالضرب إن تخطت رجلي عتبة الباب، فهو رجل البيت بعد سفر والدي إلى فرنسا ليفسِّح السنيورة منيرة، ويلملم بقايا الرؤوس وأجزاء الجسم ليكمل بها تماثيله المرصوصة في البدروم ، ومرابطة حسن على الحدود الشمالية ، وغياب متعب في البوسنة أو أفغانستان .لا أحد كان يعرف مقره كالخفاش يتنقل في هزيع الليل الموحش .






























10

عابر ينام كالقتيل .يستهوي اللعبة ، يجاري حنان ف! ي حكايتها ،و يتسلى بالوزير ويثبته في مكانه على رقعة الشطرنج ، لكنه يخرج من سيطرته ويمشي على كيفه في كل الاتجاهات ..وصوت حنان مازال يهذي ..جاء اتفاق دايتون الذي أمر بطرد المجاهدين العرب من البوسنة سنة 1995 كحل مريح لحسرات أبي على متعب منذ دخوله تلك الحرب.. لكنه لم يعد حينها ، وبدأت الاحتمالات تحرق قلب أبي فهناك من ادعى أنه استقل قطار المجاهدين الضائع إلى ألبانيا ومعلومات أخرى قالت أنه اتجه إلى روسيا والشيشان ، وأنا كنت وقتها في الجامعة متبرمة من خطوبة صورية ، وقلعة برجوازية، ذاك السحر المخدر بدأ يتلاشى تأثيره عليّ ، وأفقت من غيبوبتي أبحث عن فجوة صغيرة في الحائط لأهرب منها ، وبدأ لساني بتغير ويتلون بألف لون كالفساتين التي أرتديها ، شبهتني خيرية النقيضة لي بالأفعى تنفث السم هنا وهناك ، كنت أتشاجر معها على أتفه الأشياء ، احتدم الخلاف بيننا في ليلة باردة تطور إلى الضرب بالأيدي،كنا نجلس في غرفة المقلط ملتفين حول المدفئة وشعاعها الأحمر يعكس ملامحنا بازدواجية غريبة. ربما كانت كذلك ، أو ربما كنت أتهيأ مناظر من جنون خيالاتي ، وصوت الشيخ في شريط الكاسيت الذي وضعته خيرية في المسجل ! يعلو وينخفض.. يحذر ويوبخ من تسقط في الوحل وتقدم جسدها للذئاب البشرية ، مع نكهة القهوة المبهرة بالهيل بالتمر العسلي المغموس بقشدة بلادي ، سرى في مخي خمول أعقبه تثاؤب ونعاس ، لم أُقاوم إغراءه ، خاصة وأنني لم أنم قيلولتي المعتادة لمذاكرتي طيلة النهار مادة مدخل اللغة لاختبارها في اليوم الثاني، ومفردات محاضر اللغة السوداني تختلط في ذاكرتي المرهق بين تداخل حرفي الغين والقاف في حنجرة المعيد ، ولم أكن مستعدة لسماع نصائح وتحذيرات معادة أكثر من ألف مرة ، فحاولت الانسحاب ويدي على قلبي مخافة أن تلمحني خيرية وتسرد على مسامعي المنهكة مزيداً من الإنذارات ،أي .. حصل ما توقعته ، وبدأت خيرية بمط شفتيها بطريقة تميزت بها لتعبر عن قمة استيائها ، وكيف يكون مثلي أختها ، وكيف ولدنا من رحم واحد ، صرّت على أسنانها وأخرجت ذاك الصوت المخنوق
ـ هذي هيّ العادة تتهربين عند الفايدة ، والله لو أغاني لمحمد عبده أ و لعبدالكريم عبد القادر لرقصتي للصبح .
لم أجبها لأتفاداها ولعدم صحة كلامها ، تصنعت البلاهة واستمريت في الزحف ، لكن خيرية زودت الطين بلّهْ.
ـ ما عليك شرهة ،مثلك متعود على هذي الشغلات ، والهروب من ......
لم أسمح لها أن تكمل ، داهمتها بكف مباغت وبكل قوتي ، ووقف! ت متبلمة أمامها ، سكنت .. مطت شفتيها نفس المطة وهجمت عليّ ، مرغتني في الأرض وشدت شعري بقسوة ، ورأيت خصلات شعري تتساقط أمام عيني ، سألت نفسي بعدها هل هي خصلي التي في البدروم وفي الحمام ؟ استسلمت ، ولكنها تمادت .كيف تهجم عليّ هكذا وأنا الأكبر منها ، دفعتها بقوة ورميتها على المسند ، وركضت إلى غرفتي وأغلقت الباب ؛ خوفاً من ردة فعلها، لا احد يقف في وجه خيرية عندما تثور .لا أحد حتى أمي ، ومن يومها ونحن في مقاطعة صامدة. لم تصمد في وجهها المقاطعات للمنتجات الأجنبية الوقتية التي تتلاشى بمرور الشهور .
بعد تلك المشاجرة انتابني الخوف من خيرية ، وبدأت أحسب لها ألف حساب ، صديقتنا المشتركة سرّا فتنت بيننا فتنة عندما أفشت لها سر علاقتي بناجي .. فتنة لم تخمدها السنوات الأربع التي أمضيتها في القصيم ، كان زواجي المدبر خلاصها مني ، وضعت فمها المزموم بكشرة بشعة في أذن أمي (فكة منها) .
بعدها قادني زوجي مالك المجوهرات إلى عالمه البراق .. لكنه كان بريقاً زائفاً كالنحاس المطلي بماء الذهب .يلمع ويبهت بعد فترة .علي المانع لعب بكل ألعابه، وتركني وحيدة خلف سوره ، سفرات إلى فرنسا وتركيا وبلاد لا! أعرفها ، نزوات وصور إباحية تحت السرير ، وأجساد عارية تحتضن وسادتي على شكل الدب الصغير ، أحببته بقوة ، اعتبرته ملاذي الخاص ،هو الوحيد الذي أخذته مع أوراقي ، دنسه ابن المانع بسوائل كريهة ، صرخ في وجهي :
ـ أنت مكانك البيت ،وزواجنا صوري ،لا أولاد بيننا ، فأنت عاقر لا فائدة منك احمدي ربك إني حاويك ، لولا صداقة أبويا بأبوك لطلقتك من زمان .
ـ أنت واحد منحط نسونجي أتوقع منك كل الانحطاط ياسا...
لم أشعر إلا بيديه تشد شعري وترميني خارج الغرفة ، وفي مرة كان سكرانا فرماني في الليل خارج البيت ..لم أعرف ماذا أفعل ، مشيت على طول الشارع العام لأني خفت ان أمشي في الحواري، وارعبتني الأرقام التي تنقذف علي وعروض التوصيلة بغمزات حقيرة ، وقتها عقلي الشيطاني. لعب في فكري : روحي يابنت مع واحد منهم علشان تمرغي شرف عيلة المانع بالأرض . لكني رجعت من نفس الطريق الذي أتيت منه ، وعدت إلى بيت الزوجية دون ضجة. دخلت من الباب المفتوح , لم أجده بالبيت ولم أره إلا بعد شهرين، سافر إلى مكان لم أعرف وجهته ، فضلت العودة والرضوخ أربع سنوات حتى لا أسمع شتائم أمي وشماتة خيرية ، وعرف ابن المانع نقطة ضعفي واستغلها أقذر استغلال ، وتعبت من متابعة مغامراته وعلاقاته الجنسية ، ودعو! ت عليه بالإيدز لكن الأمراض على ما يبدو لا تصيب إلا الضعفاء والمساكين وتغض نظرها عن أصحاب الذوات والمظاهر الخداعة .
سخر مني في كل لحظة عشتها معه. واتهمني بالخيانة بكل تبجح ، وقتها صرحت له بحبي لناجي . لم أخف منه حتى لو قتلني . نظر إلي ببلاهة والإحمرار يشتعل لهيباً في عينيه . ليس من الغيرة على شرفه بل من الشرب وحبوب القشطة التي يتعاطاها أمام عيني ، كرهته من كل قلبي. كنت أدعو كل ليلة أن يموت ميتة ربانية. أن تدهسه سيارة ،أو تنفجر فيه الطيارة ... لم أكن أجرؤ على قتله .حاولت في حالات سكره وترنحه تحت قدمي .. صوبت سلاحه في وجهه والرعشة تهز يدي وقلت له كما في الأفلام :
ـ اتشهد على روحك يابن المانع راح أريح البشرية منكم أيها الحثالة .
هالني ما رأيت سقط تحت قدمي وبكى كالأطفال وترنح على الأرض .. رميت سلاحه بجانبه ودخلت حمامي لأتفاداه، وأخذت حنان الأخرى تهذي داخلي كنت ستقتلينه في لمحة بصر . لو مات ايش كان سويتي .. راح تصبحي قاتلة حتى لو كان دفاعاً عن النفس . وفي بلدنا القتل قتل دون مسببات ،أمسكت برقبتي وحمدت الله على عدم تهوري وتركي المسدس بجانبه وهو مخمور. ماذا يعني .هل كنت أتمنى في داخلي أن يقتل هو نفسه بنفسه؟، لكن أمنيتي أخرجت لسانها في وجهي متشمتة بي وبأحلامي العريضة ، فقد نام اللي ما يتسمى قرب مسدسه دون أن يفرغه في رأسه الخاوي .
















( 11 )
" لا تكن ليناً فتكسر ، ولا تكن ...
ـ إيه يا أم الأمثال إنتِ ...
صرخة أخرجتها صديقتها سرّا من حنجرتها الخشنة التي حاولت ترطيبها بكل أعشاب الدنيا ، ولكنها لم تفلح فيئست، وحاولت تغطية نقصها بالاهتمام بشياكتها، والتفنن في لبس التنانير الضيقة المفتوحة من الخلف حتى الركبة ، مصمصت شفتيها بقوة إشارة إلى أحمر شفاهها الأصلي من ماركة شانيل ، كتمت حنان ضحكتها ، وتصنعت الجدية مستمعة إلى مغامراتها مع الشباب والمقالب التي تدبرها لهم ، وملاحقة ابن عمها لها في كل مكان ، لكنها لا تعطيه وجها على حد تعبيرها ، كانت حنان متيقنة أنها أكاذيب من صنع خيالها ، لكنها مجبرة على تصديقها، بعد أن أخطأت يوماً وهي في حالة يأس ،وأخبرتها عن قصتها مع ناجي وهما في! غرفة المعلمات بعد أربعة أشهر من تعيينهن في الثانوية ، وقد ندمت ندماً شديداً بعدها اكتشفت أنها صديقة خائنة ، وسبب إفشاء سرها لأختها خيرية وأهلها ، وحملتها مسؤولية الشرخ في رقبة ناجي ، وفي نفس المكان في آخر العام تهجمت عليها وشدت شعرها المنتوف بوحشية ،وجدت خصلات منه في يدها ، ذكرتها بتماثيل والدها والشعر المتناثر في البدروم ، لم تشعر بأيدي المعلمات وهن يبعدنهن عن بعضهن ، ويتساءلن عن السبب، بصقت في وجهها متوعدة إنها ،إن أفشت لهن سرها ، ستخبرهن بكل مغامراتها القذرة وسيصدقنها حتى لو كانت من وحي الخيال .
وبختهما المديرة على فعلتهما ، بعد ما أخبرتها معلمة الفنية شفيا سوسة المدرسة بالسالفة ، وبادرت حنان بنظراتها الغريبة المعلقة على صدرها البارز قليلاً من فتحة قميصها الشيفون المعرق جعلت حنان تشك في نواياها منذ أن تعينت عندها سمعت كلاماً عن مُثليتها وحبها للجنس المماثل، لكن حنان أمضت سنة كاملة لم تلاحظ عليها إلا النظرات الغريبة ، وعزت ذلك أن الناس يهولون الأمور خاصة إن اختلفت بعض الشيء عن معاييرهم .
انتهت القضية على خير، لم تُفصح أياً منهما عن الحقيقة، وفبركتا قصة استطاعت نسج حياكتها في ثوانٍ ، وأقنعت المديرة التي لم تكن بحاجة للإقناع ، لتغض النظر عن المشكلة ، حاولت حنان بعدها مراراً تذكرها لتخبر عابر عنها لكنها نسيتها كأنها مُسحت من ذاكرتها .
أكثر أمر أثار اهتمامها في السنة التي درّست فيها في أبها قصة ناصر ... أقصد نصرة الطالبة في الصف الأول الثانوي ،غريبة الأطوار والملامح ، كانت سمات الخشونة واضحة على صوتها وشكلها وصدرها الممسوح ، عندما شكت لها يوماً بطريقة مفاجئة عن حالتها، لماذا اختارتها هي بالذات ، ولماذا قالت لها لو كنت رجلاً لفزت بك .
تلعثمت حنان من المباغته وسألتها :
ـ ويش تبغي يا نصرة .. خلصي بسرعة عندك حصة .
بقيت نصرة أقصد ناصر على جموده ونظراته البلهاء . صرخت حنان بنفاذ صبر : - نصرة .
وتندمت على جفائها ونسيانها لنصرة كما قرأها عابر في ملفات اللاب توب لأنه كان في حاجة لمساعدتها أكثر من أي شيء آخر .رأت في عيني نصرة انهزاما وحيرة لا مثيل لهما ، جعلتها تصغي بتأثر .
ـ أشعر أني محاصرة في جسد ليس لي ، أنظر لكن نظرة مختلفة لست منكن ، ما أشبهكم في أي حاجة حتى الدورة الشهرية ما تيجيني ...
ـ ليه تقوليلي هذا الكلام قولي لأهلك يمكن ...
ـ أخبرتهم قالولي هواجس وخرابيط ودوني لشيوخ لكن ما ف! ي فايدة ، قلت لهم أحس بأن جسمي يعورني ، يبغى يخرج مني ما يصدقوني ويقولون إني ممسوسة ويتعوذون من إبليس ، إنتِ تعتقدي إلي في مس شيطاني .
جرس الحصة أراحني من الإجابة ماذا سأقول له أولها ، شعرت إنها في مشكلة لكن مشكلتي مع أهلي بسبب علاقتي بناجي ، وقرار زواجي من علي المانع ، أنستني نصرة ، ولو اُتيحت لي الفرصة لاعتذرت منها، أخبرها ياعابر أو أخبره أني آسفة ، ظروفي أنستني العالم بأسره .
بعد زواجي من علي بعام جاءني خبر أن نصرة أجرت عملية وتحول إلى ذكر بسبب أوجاع شديدة اضطر أهلها الذهاب بها إلى الرياض وحينها قرر الأطباء بضرورة تحولها إلى ذكر ،وحينها تذكرت كلامها : أنا محاصرة في جسد ليس لي ، وفرحت لأن مشكلتها حُلت ، واحترمت شجاعته لأنه لم يهرب من ماضيه فناصر من بقايا اسمه الأنثوي .
أخبرت علي بالقصة متوقعة تعاطفه ، لكنه أتحفني كعادته بتهكماته بمن هم اقل منه :
ـ هذا شخص غير طبيعي .. مخنث لا هو ذكر ولا أنثى .. لن يقبله المجتمع ولن يزوجه أحد .. الأفضل له أن يبدأ في مجتمع جديد حتى لا يعرفه أحد .
دافعت عن ناصر بكل قوة ، وأنه بشر وجزء منا، وله الحق بأن يحب ويتزوج ويعيش حالنا حاله ، هزأ ! علي بي مثل كل مرة أتناقش معه فيها ، تيقنت من الأول أن حياتي معه محكومة بالفشل ، لكني سأتحمل، لن أعود إلا بعد موتي .



_________________________________________________