المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : المسلمون والعدالة العالمية



أحمد أبورتيمة
10/06/2010, 01:46 PM
المسلمون والعدالة العالمية
أحمد أبورتيمة

يحدثنا التاريخ عن حلف عقدته قريش قبل الإسلام في دار عبد الله بن جدعان يسمى حلف الفضول يهدف إلى نصرة المظلومين بمكة، وقد أثنى نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم على هذا الحلف وقال: "لو دعيت لمثله في الإسلام لأجبت"..

هذا الحديث بالغ الدلالة بأن الإسلام يرحب بكل دعوة للخير والعدل حتى وإن جاءت من غير المسلمين، فهذه الفكرة النابعة من الفطرة الإنسانية المحبة للخير وإن لم تكن من منطلق ديني إلا أنها تخدم ذات الهدف الذي جاء الإسلام من أجله.

رسالة الإسلام الأسمى هي إقامة العدل في الأرض، ومن أجل ذلك أرسل الأنبياء على مر العصور كما أخبرتنا سورة الحديد:"ليقوم الناس بالقسط"، وهذا ما جعل الإمام ابن القيم رحمه الله يعتبر تحقيق العدل أصلاً للتشريع فيقول:أينما كان العدل فثم شرع الله..

الإسلام لم يأت ليطرح قضايا نظرية معزولة عن حياة الناس، ولكنه جاء برسالة العدل والسلام والرحمة للعالمين، وإذا أراد المسلمون المشاركة الفاعلة في عالم اليوم واستئناف دورهم الحضاري فإن هذا لا يكون بالاهتمام بقضايا فرعية ولا بالانغلاق على أنفسهم والاستغراق في مشكلاتهم الخاصة، ولكنه يكون بدخول باب العالمية وتقديم مشاريع عملية تفيد البشرية وتقيم العدل في حياتها..

إن المسلم بطبعه ينبغي أن يكون عالمي الاهتمام فالإسلام ليس دعوةً قبليةً أو وطنيةً أو قوميةً، بل جاء رحمةً للعالمين والرسول محمد صلى الله عليه وسلم أرسل للناس كافةً، لذا فإن المسلم ينبغي أن يهمه واقع البشرية وأن تكون له مساهمته الفاعلة في تقديم الحلول لمشكلات الإنسانية.

لكن كثيراً من المسلمين لا تجد هذه العالمية في حياتهم إلا حديثاً نظرياً لا أثر له في الواقع العملي، بينما لا يتجاوز تفكيرهم الحدود الجغرافية الضيقة.

وفي أحسن الأحوال يتوسع اهتمامهم لتناول قضايا المسلمين ولكن بمعزل عن المحيط العالمي، مما يرسخ انطباعاً بأنهم منغلقون على أنفسهم، وأنهم لا يملكون ما يقدمونه للمساهمة الحضارية.

وكان الأولى بالمسلمين وهم أصحاب الرسالة العالمية والمكلفون بالشهادة على الناس أن يكون لهم حضورهم في كل القضايا العالمية الملحة، وأن يكون لهم السبق في التصدي لمشكلات الإنسان المؤرقة كالحروب والاستبداد والفقر والبيئة وغيرها وتقديم حلول خلاقة لها.

أما مشكلات المسلمين الخاصة فيمكن حلها في إطار الحلول العالمية الإنسانية..

فلا نخاطب العالم برفع الظلم الواقع على المسلمين وحسب، ولكن نخاطبهم برفع أي ظلم على أي إنسان، لأن العدل لا يتجزأ والظلم محرم على أي أحد، وحين يكون ذلك فإن المسلمين سيشملون في هذا الخطاب العالمي.

وإذا كانت مشكلة العالم الأساسية اليوم هي غياب العدالة وتفشي الظلم واتخاذ الناس بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله، فإن واجب الساعة هو الدعوة للعدالة وتحرير الإنسان ومحاربة الظلم..

من المؤسف أن يكون بين المسلمين من يتعامل بحساسية مفرطة مع كل مصطلح يأتي من الغرب حتى وإن كان معناه من صميم الإسلام، فهناك من رفض استعمال كلمات مثل العدالة الدولية وحقوق الإنسان وقال إننا ينبغي ألا ننخدع بها وأن نظل على منهاج النبوة.

وهذا الأخ يسيء إلى الإسلام من حيث لا يدري، فهو يظهره وكأنه مناقض للعدل وحقوق الإنسان، وحتى لو كان الغرب لا يطبق هذه الشعارات ويستعملها لخداع الشعوب، فإنه ليس من الحكمة أن نرفضها لأن الإسلام قد علمنا أن نخاطب الأقوام بلسانهم "وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ"، واللسان لا يقتصر على اللغة المنطوقة وحسب، ولكن يدخل في معناه المستوى الثقافي للشعوب والمصطلحات والاهتمامات، والعالم في هذا الزمان يتحدث بلسان الحرية والعدالة وحقوق الإنسان فوجب أن نخاطبه بهذه اللغة..

إنه لأمر محزن أن من ينشئ المنظمات الحقوقية في العالم ويقود الهيئات الدولية المدافعة عن العدالة، ويروج لثقافة حقوق الإنسان أكثرهم من غير المسلمين، وكأن هذا لا يعني المسلمين.

إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد امتدح حلف الفضول، وكان مستعداً للمشاركة فيه حتى بعد نبوته فإن المسلمين مطالبون بأن يقتدوا بهديه فيعززوا كل جهد في هذا السبيل، بل أن يبادروا إلى طرح المبادرات والأفكار في هذا الاتجاه.

إن الواجب الحضاري على المسلمين في هذه المرحلة أن يبادروا إلى إنشاء تحالف عالمي إنساني يتجاوز الحدود السياسية والقومية يناضل من أجل نصرة قضايا العدالة وحقوق الإنسان في كل مكان، ينصر المظلوم أياً كان مسلماً أو غير مسلم، ويضم في صفوفه كل المناضلين من أجل العدالة مسلمين كانوا أم غير مسلمين.

هذا التحالف الذي يمكن وصفه بأنه حلف فضول القرن الواحد والعشرين يتبنى أفكاراً ومقترحات محددة مثل إصلاح الأمم المتحدة وإعطائها دوراً حقيقياً لإرساء السلام في العالم، وإيجاد صيغة إلزامية لكل الدول كبرى كانت أم صغرى للامتثال لحقوق الإنسان والتقيد بالعدالة. ومن يرفض الالتزام يتعرض لعقوبة أممية، وإلغاء حق الفيتو الذي يصادر العدل من العالم فيقدم إرادة دولة واحدة من الخمس الكبار على الإجماع العالمي، والعدالة في توزيع الثروة وعزل الأنظمة الاستبدادية في العالم وعدم تقديم أي شكل من أشكال الدعم لها، وعلى هذا النحو من الأفكار.

هذه الأفكار ليست استغراقاً في الأحلام، بل سترى النور يقيناً إن لم يكن بنا فبغيرنا لأن الله يأبى إلا أن يتم نوره، وهذا العالم سيولد بالجهاد السلمي الهادف إلى حشد رأي عام عالمي يؤمن بأن المصلحة الحقيقية لكل الدول والأفراد على المدى البعيد هي تحقيق العدالة.وأن تحقيق العدالة هو الذي سيشيع الأمن والاستقرار، وسيحفز العقول على الإبداع والتفكير, وأن غياب العدالة مكلف جداً للجميع، لأنه يعزز مشاعر الخوف والقلق في نفوس الأقوياء ومشاعر الكراهية والغضب في نفوس الضعفاء.فتغيب الطمأنينة النفسية، وتتبدد الطاقات الإنسانية والثروات الاقتصادية في شن الحروب والمخاوف الأمنية.و أن هذه الطاقات المهدورة يمكن الاستفادة منها في تنمية الإنسان وتحقيق سعادته وراحته.

حين يتشكل مثل هذا التيار ويقوى سيمثل قوةً ضاغطةً على الحكومات تجبرها على الامتثال للعدالة.

هذا هو واجب الساعة وهذا هو جهاد العصر، وهو الميدان الأكثر تأثيراً الذي ينبغي أن نوجه طاقات شبابنا إليه بدل أن تنصرف جهودهم وأوقاتهم في اتجاهات خاطئة أو محدودة النفع..

إن إصلاح النظام الدولي القائم وجعله أقرب للعدالة والقسط هو المهمة الأكثر إلحاحاً والأكثر انسجاماً مع رسالة الأنبياء.

إن البشرية قد سئمت من النظريات المجردة، وهي تنتظر منا شيئاً ملموساً على الأرض لأن المبادئ التي لا يحسن أصحابها غير الكلام تفقد مصداقيتها بين الناس وإن كانت صادقة.

حين تسود العدالة في الأرض فإن الرابح الأكبر هم المسلمون، لأنهم أكثر المتضررين من عالم اليوم، ولأن هذا هو مضمون رسالتهم الحضارية فالإسلام ليس له أهداف خاصة بالسيطرة على الشعوب والثروات، ولكن حين يتحقق العدل فثم شرع الله.

إن عالم العدالة هو الذي سيمنح فرصاً متكافئةً للأفراد والشعوب لممارسة دينهم والدعوة إلى قناعاتهم، وحينها سيفكر الناس بحرية دون خوف من القهر والإكراه وحينها ستكون الغلبة للدين الحق، وسيدخل الناس في دين الله أفواجاً..

"ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون"

والله أعلى وأعلم..