المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : في هدوء



فاطمة عتباني
13/01/2011, 10:03 PM
دارت إطارات السيارة بسرعة جنونية.وانطلقت يصدر محركها صوتاً عالياً يطغى عل أي صوت سواه.
كانت هي تسير من الناحية الأخرى فاقدة السيطرة على شعورها، لا يصل إلى سمعها سوى ذلك الصوت الذي ظل يسيطر عليها حتى صارت كل حواسها محضُ سمعٍ. تلفتت حولها والذعر يملأ قلبها حتى جحظت عيناها. رأتها من بعيد ينطلق من عينيها الشرر، أحمراً متوهجاً. كانت تتجه نحوها في جنون تشق الفسحة الفاصلة بين نهاية الحي وبداية المزارع الواقعة على حافة النيل. تلك الفسحة المظلمة التي لا يجرؤ أحد أن يقطعها إلا مضطراً خلال النهار فقط، ذلك بسبب ما يطلق حولها أهل الحي من شائعات عن وجود جنيّة تقتل الأطفال وتأخذ الشبان أزواجاً لها والفتيات ليصبحن عندها خادمات. كانت تحف الفسحة شمالاً مجموعة من المزارع، أما من ناحية الشرق يمتد ذلك الجدول العملاق الذي يقوم بتصريف مياه الفيضان، ومن جهة الغرب تطل عليها باحة بها مقابر الحي الذي تركته خلفها وتوجهت دون هدى إلى ناحية المقابر في تلك الليلة المظلمة والتي ما كان يقطعها أهل الحي ليلاً، حتى عند مراسم الدفن حيث لا يستطيعون عبورها إلا بالسيارة.
أحست أنها تتجه نحوها. تريدها هي دون سواها. نظرت نحوها بتمعن. توقفت لتخاطبها في عصبية قائلة:
ـ ماذا تريدين مني؟ لن أعود لذلك الشخص المعتوه مرة أخرى، لقد تركت له المنزل ولن أعود.
واصلت سيرها والذكريات تترى بخاطرها وهي تتساءل: لماذا يصفعها أخوها في كل مرة حتى يلقيها على الأرض. لماذا يمنعها أن تصرخ حين تريد المطالبة بحقها. إنهم يضطرونها لذلك. لأنها لو تحدثت إليهم في هدوء لا يسمعها أحد. ألم تقل من قبل لأخيها أنها لا تريد الزواج من ذلك الكهل بذئ النظرات. قالتها في هدوء لكنه لم يسمعها. وتم الزواج رغماً عنها. ألم تقل لذلك الزوج بهدوء شديد ألاّ يقترب منها وهو متجرد من كل ملابسه. لا تدري لماذا أصر علي أن ينكب عليها في مثل تلك الوحشية تسبقه رائحة الخمر. ورغم أنها أبعدته عنها بهدوء لكنه لم يستمع لكلامها. ربما لو سمعه لما احتاجت أن تدفعه بقدميها بعيداً عنها فيسقط على مرآة الزينة وينقطع نخاعه. لو كان قد سمع رجاءها في هدوء ألاّ يقترب منها وهو مخمور. لما اضطرها لأن تصرخ في وجهه كما فعلت. ولما عمدت إلى إيذائه.
لماذا ظل الجميع بعد ذلك ينظر إليها على أنها شؤم. حتى تلك العمة التي كانت تحبها أكثر من بناتها لدرجة أنها كانت تخفي لها الطيِّب من الطعام في المناسبات وتجلسها على حجرها تدللها. لكنها رغم ذلك لم تعر حديثها اهتماماً حين قالت لها في هدوء أنها لا تريد الزواج من ابنها لأنه دميم. ولأنها رأته بأم عينيها يتذلل إلى الخادمة كي تسمح له بمغازلتها. لماذا لم تسمع رفضها الذي قالته في هدوء. لماذا وصمتها بالجنون حين صرخت في وجهها بما رأت مع أنها لم تقل غير الحقيقة. لماذا يتهمها الجميع بالجنون. إنها لا تتصرف إلا وفق ما تراه صحيحاً.
ظلت تسير يملأها شعور بالدهشة بسبب اعتراض شقيقها اليوم حين قررت السفر إلى عمها لأنها لا تريد أن تظل خادمة لزوجة أخيها التي لا يهمها من الحياة سوى الإنجاب والاهتمام بزينتها والثرثرة عبر الهاتف، قالتها في هدوء لأخيها أنها ستسافر إلى عمها حتى لا تظل خادمة لزوجته. لم تدر لماذا صفعها. لماذا ظل يركلها بقدمه متهماً إياها بالجنون. لن تنسي صراخ والدتها وتوسلها له أن يتركها لكنه ظل يركلها حتى هرولت خارج البيت.
رددت لنفسها في عزم :نعم ستسافر.
خرجت وستسافر رضي أخاها أم أبى ، فقط تفصلها عن عمها مسافة عرض النيل. ستصل إلى هناك هذه الليلة، ستقطع النيل ولو سيراً على قدميها. لم يبق بينها وبينه سوى بضع خطوات.
هاهو الأزيز المزعج يقترب، لماذا تصر هذه على تعقبها. لماذا تلاحقها. نظرت خلفها. نعم هي بعينيها الواسعتين. هاهو الأزيز يعلو ويملأ الدنيا مشتتاً أفكارها. فلتذهب بعيداً عنها. لكنها مثل سواها لن تسمعها في هدوء. ستذهب إليها وتصرخ بوجهها مثلما تفعل مع الجميع، ستزجرها لتذهب بعيداً عنها. هاهي تقترب وتزداد عينيها احمراراً. استدارت وتوجهت ناحية السيارة مباشرة ووجها ملؤه التحدي.
انتبه سائق السيارة إلى أن جسداً داكناً يتجه نحوه، لم يدر ماذا يفعل.
:اللعنة أين الكابح؟. لابد أن يتصرف. كان الجسم أسرع من تصرفه
صرخة مدوية شقت سكون الليل. دارت في هدوء تحت عجلات السيارة ولم يبق منها في الصباح سوى جسد يغرق في الدماء.

محرز شلبي
13/01/2011, 11:01 PM
قصة معبرة رائعة ..استمتعت بها ..قصدت هدفا بهدوء وفي هدوء..تحيتي واحترامي الأستاذة فاطمة.

فاطمة عتباني
14/01/2011, 11:20 PM
لك شكري أستاذ محرز
ولمرورك عطر الصندل