المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : طائر النورس



فاطمة عتباني
13/04/2011, 03:10 PM
ما كان من شيء يجعله يهجر شاطئه الحبيب مثل قدوم طائر النورس. ذاك الذي كان يحط على الشاطئ باسطاً أمامه منقاره الملطخ بالدم . يعجب وهو ينظر إليه كيف أن هذا الطائر الجميل يتحول بلحظة إلى ذلك الجارح القاسي .
كان يعشق كل شيء حوله. لأنه يعشق العمل بمركب جده . يسعده صوت الموج ويسكر بنشوة النسائم الرطبة المتشبعة برائحة ملح البحر .لم يكن ينغص عليه تلك النشوة إلا ذلك الخوف المرعب من قدوم سرب طائر النورس.
كان جده يلحظ ذلك حينما يراه ينتفض من نومه حين يسمع صوتها تحلق فوق الشاطئ، فيجلس مكانه لا يتحرك وهو يرقبها تنقض على فريستها. لم يكن الأمر يقلق جده الذي كان يرقبه فسرعان ما سيقوى عوده ويتغلب على خوفه ذاك، إلا أن خوفاً آخر بدأ يتسلل إلى قلبه، كان يفوق رعبه من سرب النورس، ذلك الرعب الذي كان يعتريه وهو يجتاز المعبر المحروس متوجهاً للمدينة حاملاً مع جده السمك الذي تم صيده. يتكرر ذلك الخوف في كل مرة يجيئون فيها أو يذهبون للمدينة. ترتجف يده بشدة وهو يحمل ما يحتاجون إليه من الأغراض التي يجلبونها معهم. يتمنى لو أن الأرض ابتلعته حين يقترب الجندي منه لتفتيشهم.
كان يحسد جده على صلابته وهو ينظر لوجه الجندي الصارم الواقف عند المعبر. وهو يفتش بجرأة شديدة ملابس جده حتى الداخلية منها. يرتعد خوفاً على جده من أن يتهور فيصفع ذلك الجندي أو أن يأت بكلمة من كلماته النابية التي كان ينعت بها أولئك الجنود حين تأتي سيرتهم في الحديث مع الأسرة. فقد كان يعلم تماماً أن جده لم يكن ليقبل إهانة من أحد دون أن يدافع عن كرامته حتى لو أدى ذلك إلى أن يجازف بحياته. ولم يكن خوفه على جده بأقل خوفاً من فوهة البندقية الموجهة لوجه الجد، التي يلاصق مؤخرتها رأس الطفل المرعوب الذي يقف منكمشاُ جسده من شدة الخوف. ينظر جده شذراً للجندي يملأ عينيه الاحتقار الذي كان يعكس كل مشاعر مقته بل مقت كل بني بلدته لأولئك الحفنة من الفضوليين الذين منحوا أنفسهم الحق في حفظ الأمن لهذه البلدة. وفي سبيل هذا الحفظ هُدمت المنازل وجُرِّفت البساتين وبُنيت السدود التي تحدد لأهل المدينة الطرقات التي يمكنهم السير فيها بل أكثر من ذلك سحبت هوياتهم الأصلية. وأعدت المعابر التي تسمح لهم بالمرور أو تمنعهم. ولم يكن ذلك العبور مسموحاً أو متاحاً لأحد دون أن يحصل على صك منهم بموافقتهم على السماح له بأن يكون مواطناً في بلده. يتحرك فقط وفق ما شاءوا وحيثما شاءوا.
وقد كان حدس الصبي صادقاً. ففي ذلك اليوم المشئوم لاحظ الجندي نظرة الاحتقار في وجه الجد فأصر على الجد أن يخلع ملابسه حتى يتأكد أنه غير مفخخ . لكن الجد رفض فتفوه الجندي بلفظة سباب نابية سب بها أم الجد . فرفع الجد حذاءه وقذف بها نحو الجندي. استقرت الرصاصة في قلب الجد قبل أن يصل الحذاء إلى وجه الجندي. ثار الهرج فوق الجسر وتداخلت الأقدام وتصادمت الأجساد بعضها البعض. حين هدأت الأمور كان الصبي قد قادته قدماه إلى خيمتهم وهو يلهث ويبكي في رعب.
لم يكن غياب الجد هو أول أحزان الأسرة التي فقدت في المقاومة أبناءها الثلاث . ورغم الحزن الذي غلف حياة الأسرة لكنها ظلت على دأبها تحاول أن تسد مكان من غابوا عنها لذا ظلت المركب تعمل رغم غياب الجد حتى تعيش الأسرة على الكفاف المضني الذي يعانون منه بسبب الحصار المجحف الذي يزداد يوماً بعد يوم . لا انتهى الحصار وما قلت المقاومة التي جعلت تلك الحزمة الباغية تخرج عن أطوارها في الصبر إلى حد التشفي في العُزّل من النساء والشيوخ والأطفال . فكل يوم يصحو من بالمدينة على صوت القصف العشوائي للمنازل وملاجئ الأطفال والمستشفيات .وتحولت المدينة إلى خراب.
لم يكن لعبور ذلك الجسر اللعين من بُد، حتى تظل الأسرة المكونة من الجدة الأرملة وابنتها التي ترملت في أول شهر لعرسها، وذلك الصبي الذي لم ير والده.
بعد طول انتظار ظلل الفرح تلك الأسرة ، ففي ذلك اليوم كان الخير وفيراً وجاد البحر بما لم يجد به منذ سنوات. أصرّ الصبي أن يصطحب أمه للمدينة رغم اعتراضها منذ أن صاروا يتعمدون إيذاء الأولاد بسبب تلك الثورة التي يقودها بعض العزل الذين يتخذون من الحجارة سلاحاً لهم .
كان يوماً مختلفاً ظلله شعور لم يسبق للأسرة أن تمتعت به ، فقد كان كل من بالخيمة القائمة على حطام المنزل يشعر بالسعادة والحنين إلى أيام السعادة والاستقرار. كان الجميع يتبادل النكات وهم يستعدون للمغادرة حاملين ما رزقهم الله من رزق وفير.
لم يكن العبور سهلاً، كانت الإجراءات العقيمة التي يتعمدون استفزاز العابرين بها تكاد تجعل العابر يخرج عن طوره فتنتهي حياته في أقل من برهة.
أصر الجندي على أم الصبي أن تكشف عن ملابسها حتى يتأكد من أنها غير مفخخة . وكأنه كان يقصد إذلالها لما رآه في وجهها من أنفة ظاهرة ورثتها عن أبيها. لم ترض الوالدة هتك سترها وأصرت على عدم رفع سترتها الداخلية فأمسك أحدهم في لمحة البصر بعنق الطفل ولفه بذراعه وسدد نحوه البندقية. خشيت الأم على طفلها فأسرعت برفع كل ملابسها. أحس الصبي أن الدم يكاد يخرج من عينيه وأذنيه. أحس أنه يود أن يهرع فيأخذ من الجندي تلك البندقية ويطلقها عليهم واحداً تلو الآخر لا يُبق منهم أحداً. لكن قبل أن تكتمل خواطره وجد أمه تسحبه وراءها عائدة من المعبر. ظلت الدموع تتسلل حارة من عينيه التي لم تكن ترى سوى صورة الجندي أملس الوجه بملامحه التي تشبه ملامح النساء.
منذ ذلك اليوم توقف عبورهم إلى خارج القرية . كان الضنك يملأ حياتهم فيزداد كل يوم الفقر والجوع. ويزداد كل يوم زحف الآليات التي تهدم المدينة وتقفل الطرقات.
كان يوم اقتحام قريتهم يوماً مليئاً بالحزن والدماء تلفت الصبي حوله في فزع ، لم يستطع أن يتعرف على وجه جدته ولا أمه وسط الوجوه المضرجة بالدماء. لاذ بالفرار مع بعض الصبية ثم فجأة وجدوا أنفسهم أمام الجندي الذي كان يصرخ فيهم واصفاً إياهم بالحشرات. نظر ملياً في وجه الجندي الذي بصق في وجهه، لم تمر سوى بضع ثواني كان الصبي قد اقترب من الجندي لينزع بندقيته تلك التي طالما أدخلت الرعب على قلبه. صوبها دون وعي منه فأصابه بكتفه، فزع الصبي وهرول صوب البحر. لحقته رصاصات جندي آخر وفي لمح البصر عالجه جندي ثالث بطلقة ثم نهض الجندي المصاب وأطلق نحوه عشر طلقات متواصلات من مسدسه حتى ارتمى على الأرض.
ظل الصبي غائباً عن الوعي ينزف دماءه حتى أتى المساء . أخذت الأمواج تنساب مداً فتسحب في جذرها الجسد الصغير إلى داخل المياه .
استفاق الصبي على برودة الماء، نظر إلى الأفق في وهن فرأى وجه جده وهو يبتسم, وصل إلى سمعه أصوات أسراب النورس تحلق فوق رأسه، لم يشعر في تلك اللحظة بالخوف رغم أنه كان يحس بها تحط على جسده المضرج بالدماء وشيئاً مثل الوخز يغزو جسده الصغير قبل أن يغيب الضوء عن عينيه.

فرح عمار
13/04/2011, 03:39 PM
أستاذتى القديرة فاطمة محمد عمر عتباني
يسعدنى أن أكون من أول قراء هذه القصة التى أبهرتني بقيمتها الفنية
لا أخفيك لقد أدمعت عيناي عند قراءة القصة
أتدرين لماذا ؟؟
لأننا فعلا نحن في غفلة نجري خلف ملذّات الدّنيا بلا كلل أو ملل نصارع في هذه الحياة من أجل سعادة النفس بأشياء تافهة لا قيمة لها صدمت بشجاعة الصبي وتضحيته ...
دون ان يفكر .. ودون ان يقف .. ودون ان يشعر اقترب من الجندي لينزع بندقيته تلك التي طالما أدخلت الرعب على قلبه. صوبها دون وعي منه .
ما قام به ليس برغبته وليس بهواه وإنما هذه هي الظروف التي حتمت عليه أن يكون هكذا
فهذا الفداء والتضحية بالنفس في سبيل الله والدين، غاية فلاح المؤمن. ومن يضحي بنفسه في سبيل الدين ينال الفوز والخلود في الآخرة، وتكون شهادته مثالا وأسوة يحتذي بها الآخرون.
قصه رائعة بمعنى الكلمة
جزاك الله كل خير
وبارك الله فيك
تحيه تقدير واحترام على القصة المعبرة جدا
تحياتى فرح عمار

فاطمة عتباني
14/04/2011, 03:11 PM
الغالية الرقيقة فرح عمار
أسعدني أنك أول من تلقيت رداً منه على كلماتي
إنها أقل ما يمكن أن يجيش بقلبٍ يرى مايراه
لإخوة لنا، يُشردون ويًقتلون ويُسلبون
في بقاع من وطننا الكبير
استُضعف أهلها
ونحن لا نملك لهم إلا دمع الأسى
وغصة حرى، وكلمة، ربما، تواسيهم
ودعوات صامتات بالنصر
وعزاء أن لهم الجنة