المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : السيد الرئيس2



جمال عبد القادر الجلاصي
23/04/2007, 12:47 PM
2


موت الناموسة

توشي الشمس الشرفات البارزة للدائرة الثانية للشرطة، من هنا وهناك يمر أحد عبر الشارع نحو الكنيسة البروتستانتية، نرى هنا وهناك باب يفتح من بناء حجري بناه الماسونيون. في الدائرة جمع من النسوة ينتظرن السجناء، جالسات في الساحة، حيث توحي دائما بقرب نزول المطر، وعلى المصاطب في الممرات المعتمة، يجلسن حفاة، وسلة الطعام في حجورهن محاطات بمجموعة من الأطفال، الصغار ملتصقين بأثداء أمهاتهم المتدلية، والأكبر يهددون بتثاؤبهم الخبز في السلة. يتحدثن بمحنهن بصوت منخفض، دون أن يكففن عن البكاء، يمسحن دموعهن بركن من الشال. في صمت يغرق وجه عجوز في الدموع وكأنها تريد القول أن محنتها كأم هي الأمرّ. الألم دون دواء في هذه الحياة وفي هذا المكان الكئيب، أمام شجرتين أو ثلاث مهملة ونافورة جافة و شرطيين شاحبي الوجوه يلمعون في أوقات عملهم أزرارهم ببصاقهم، ليس لهؤلاء النسوة سوى الاتجاه إلى الله.
يمرّ عسكري هندي قريبا من النسوة، وهو يجرجر الناموسة. لقد قبض عليه في ركن مدرسة الأطفال وهو يمسكه من يده، يؤرجحه كقرد. لكنهن لا ينتبهن إلى ما في الوضعية من هزل، لأنهن مهتمات بمراقبة السجانين ، الذين سيبدؤون بين لحظة وأخرى توزيع الغداء ويأتونهن بأخبار سجنائهم.
- قال أن... يجب ألا تهتموا لأمره، وأن حالته تحسنت! قال أن... أن تجلبوا له بأربعة ريالات دهان الجنود منذ أن تفتح الصيدلية! قال أن... يجب أن تبحثوا عن دفاع، أن تجدوا متربص لأنه يقبض أقل من المحامي! قال أن... قلت لكم ألاّ تكونوا هكذا، ليس هناك نساء معهم، لا يحق لك أن تحسي بالغيرة، وأن في ذلك اليوم جلبوا واحدا من هؤلاء ولكنه سريعا وجد حذاء على مقاسه! قال أن... أرسلوا له بريالين مرهم من أجل الالتهاب، لأن لا يستطيع الذهاب إلى المرحاض! قال أن... يؤلمه أن تبيعوا الخزانة!
- اسمع أنت، قال الناموسة، عندما لاحظ سوء معاملة الشرطي، لا يعنيك الأمر أليس كذلك؟ بالطبع لأني فقير! فقير ولكني شريف... ثم أني لست ابنك، هل تسمعني؟ لست دميتك ولا مخاطك ولا أي شيء يتبعك كي تحملني بهذه الطريقة. لقد انتهى الأمر وأنتجوا الفكرة العبقرية لأخذنا لمأوى المتسولين لنكون في علاقة طيبة مع اليانكي! لقد مللنا! فليذهبوا إلى الجحيم، دائما الديك الرومي للمحشو! هذا إذا عوملت بطريقة حسنة. عوضا عن هذا ، في المرة التي زارنا السيد الذي يهتم بالأمور التي لا تخصّه، بقينا ثلاثة أيام دون أكل، متطلعين من حواف الشبابيك نرتدي الأغطية مثل المجانين...
المتسولون الذين قبض عليهم وضعوا في واحدة من ثلاثة غرف، زنزانة ضيقة ومظلمة, يزحف الناموسة مثل سرطان بحري. صوته الذي خنقه صوت السلاسل التي تغلق الأبواب والبذاءات التي يطلقها السجانون، تضخم داخل الكهف المقبب.
- آه يا ملهمتي! كل هؤلاء البوليس! عذراء الدائرة الملعونة،كل هؤلاء الأبالسة! يسوع الرائع كن محل ثقتي...
يتباكى رفاقه كحيوانات موبوءة، تعذبهم الظلمة فيحسون أنهم لن يستطيعوا أبدا نزعها من أعينهم من شدة الخوف. إنهم هنا حيث عانى الكثيرون من الجوع والعطش حدّ الموت، وكانوا مرعوبين من فكرة أن يصنعوا منهم صابونا أسود مثلما يفعلون بالكلاب، أو يذبحونهم لإطعام الشرطة. تتقدم وجوه آكلي لحم البشر مضيئة كمصابيح خدودهم تبدو كمؤخرات وشواربهم بمحلول الشوكولا.
تواجد طالب وخادم كنيسة في نفس الزنزانة.
- سيدي، أظنّ أنك جئت قبلي إلى هنا، أنت ثم أنا، أليس كذلك؟ تكلم الطالب ليقول أي كلام كي يتخلص من كتلة رعب يحس أنها تسد حلقه.
- أعتقد، أنك على صواب، أجاب خادم الكنيسة وهو يبحث في العتمة عن وجه محدثه.
- و... حسنا... كنت سأسألك لأي سبب أنت مسجون؟
- فلنقل من أجل أسباب سياسية...
أحس الطالب الرعب يغزوه من رأسه حتى قدميه وبالكاد نطق:
- أنا أيضا...
يفتش المتسولون عن كيس المؤونة الذي لا يفارقهم، لكن في مكتب مدير الشرطة سرقوا منهم كل شيء بما في ذلك ما كان في جيوبهم بحيث لا يدخل شيء إلى السجن، ولو علبة كبريت. كانت الأوامر واضحة.
- ومحاكمتك؟ واصل الطالب.
- ولكن لا يوجد محاكمة كما قلت. أنا هنا حسب أوامر عليا! قال خادم الكنيسة وهو يحك ظهر على الجدار حتى يسحق القمل.
- كنت...
- لا شيء... قطع الخادم بعنف، لم أكن شيئا!
في تلك اللحظة صرّت السلاسل وفتح الباب كأنما يتمزق كي يُدخل متسول آخر.
- تعيش فرنسا! صاح الأعرج وهو يدخل.
- إنني في السجن... صرّح الخادم.
- تعيش فرنسا!
- ... من أجل جرم ارتكبته خطأ. تخيل أني عوض أن أنزع إعلانا يخصّ عذراء " الأو" نزعت من باب الكنيسة أين أخدم إعلان يوبيل أم السيّد الرئيس.
- ولكن كيف عرفوا ذلك؟ همس الطالب، بينما يمسح الخادم دموعه بأطراف أصابعه، ساحقا دموعه في عينيه.
- الحقيقة ... أني لا أعلم السرّ... المؤكد أنهم أوقفوني وجلبوني لمكتب السيد مدير الشرطة الذي - بعد أن ضربني بعنف- أمر بوضعي في هذه الزنزانة سرّا باعتباري ثوري.
يبكي المتسولون خوفا، وجوعا وبردا، منغمسين في الظلمة.لا يرون حتى أياديهم. يسقطون أحيانا في سبات، فيسري بينهم تنفس الصماء البكماء الحبلى كمن يبحث عن مخرج.
لا أحد يعلم الساعة، ربما منتصف الليل، أخرجوهم من قبوهم، يجب التحقيق في جريمة سياسية، حسب ما قال لهم رجل قصير وسمين بوجه بلون الزعفران وشوارب مرتبة على شفاه غليظة وأنف أفطس وعينين غائرتين. انتهى بأن يسألهم جميعا، ثم واحدا فواحدا إن كانوا يعرفون مرتكب أو مرتكبي جريمة اغتيال عقيد في الجيش عند باب الرحمان.
الغرفة مضاءة بسراج مدخّن، ضوؤه الضعيف يوحي وكأنه عبر طحالب... أين الأشياء؟ أين الجدار؟ أين ذلك المشاط الأحدّ من فكّ النمر وذلك الحزام البوليسي المليء بالرصاص؟
إجابة المتسولين غير المنتظرة جعلت رئيس المحكمة الخاصة الذي يستجوبهم يقفز من كرسيّه.
- هل ستقولون لي الحقيقة؟ صرخ وهو يفتح عيونا من رصاص خلف نظارات حسير. بعد أن ضرب بعنف الطاولة التي يستعملها كمكتب.
كرّر الجميع أن المجرم هو الدمية، راوين بأصوات متألمة تفاصيل الجريمة التي وقعت أمام أعينهم. بعد إشارة من الرئيس، بدأ البوليس المنتظر أمام الباب بضرب المتسولين وهم يدفعونهم نحو قاعة خربة، أين يتدلى من السقف حبل.
- إنه المعتوه! صاح أول المعذبين، وهو يحاول التخلص من ألمه بقول الحقيقة، إنه المعتوه يا سيدي! إنه المعتوه! أقسم بالله، إنه المعتوه اقسم ! إنه الدمية المعتوه! الدمية! المعتوه! الدمية! إنه هو! إنه هو!
- هذا ما نصحوكم بقوله، ولكن معي لا يمكن أن تنطلي عليّ الأكاذيب: الحقيقة أو الموت... اعلموا إذا إن كنتم لا تعلمون... ضاع صوت الرئيس كتدفق الدماء بالنسبة للتعيس المعلق بالحبل من أصابعه دون أن يتمكن من وضع قدميه على الأرض وظل يصرخ:
- إنه المعتوه! إنه المعتوه! أقسم أنه المعتوه! إنه المعتوه! إنه المعتوه!
- أكاذيب! صاح الرئيس بعد صمت، أكاذيب! كاذب! سأقول لكم من اغتال العقيد خوزي باراليس سوريانتي، وسأرى إن كنتم تجرؤن على الإنكار، سأقول لكم بنفسي... إنه الجنرال أوزبيو كاناليس والأستاذ آبال كارفاخال.
أحدثت كلماته صمتا رهيبا، ثم أنّات متتابعة، وفي النهاية، نعم... عندما تُرك الحبل سقطت الأرملة على ظهرها، مغمى عليها، وجنتاها مغطيتان بالعرق والدموع كفحم مبلل بالمطر. أقرّ رفاقها وهم يرتعشون ككلاب تموت في الشوارع بعد أن سممتها الشرطة، بأن كلام السيد رئيس المحكمة صواب، كلهم باستثناء الناموسة. رسمت على وجهه تكشيرة ألم وامتعاض. كان معلقا من أصابعه لأنه يؤكد ونصفه مغروس في الأرض كما يبدو كل الذين لا يملكون أرجلا، أن رفاقه يكذبون حين يتهمون رجالا غرباء عن الجريمة التي يعتبر المعتوه هو الوحيد المسؤول عليها.
- مسؤول! التقط القاضي الكلمة. كيف ترجؤ على القول أن معتوها يمكن أن يكون مسؤولا؟ أرأيتم الكذب؟ مسؤول، غير مسؤول!
- هذا يسأل عليه هو فقط.
- يجب أن يضرب! اقترح شرطي بصوت امرأة، في حين ضربه آخر على وجهه الدامي بذيل ثور.
- قل الحقيقة! صاح القاضي، بينما تنهمر الضربات على وجه العجوز. الحقيقة وإلا ستبقى معلقا طيلة الليل.
- ألا ترى أني أعمى؟
- لتنكر إذا أنه الدمية...
- لا. لأني أقول الحقيقة، ولأن لي خصيتان في مؤخرتي.
ضربتان بالسوط أدمتا شفتيه.
- أنت أعمى ولكنك تسمع. قل الحقيقة، اشهد كبقية زملائك.
- حاضر، وافق الناموسة بصوت مطفئ، اعتقد الرئيس أنه ربح المعركة، حاضر أيها النذل الأحمق، إنه الدمية...
- غبيّ!...
ضاعت شتيمة القاضي في آذان نصف رجل لن يسمع شيئا مطلقا. عندما حلّوا وثاق جثة الناموسة أي صدره، لأنه بدون رجلين سقطت عموديا كبندول مكسّر.
- العجوز الكاذب! لم تكن شهادته لتصلح لشيء لأنه أعمى! صاح رئيس المحكمة وهو يمر قرب الجثة.
وجرى ليعد تقريره للسيد الرئيس حول النتائج الأولية للتحقيق، في عربة يجرها حصانان نحيلان، وعوض المصباح للإضاءة يستعمل عيون الموت. رمى البوليس جسد الناموسة في عربة الفضلات التي تتجه نحو المقبرة. بدأ الديكة بالصياح. المتسولون الذين أطلق سراحهم ظهروا في الطريق. الصماء البكماء تبكي خوفا لأنها تحس طفلا في أحشائها.

جمال عبد القادر الجلاصي
01/10/2007, 10:38 AM
أين الأصدقاء أحباء الرواية

وأساتذة النقد؟

فايزة شرف الدين
27/06/2008, 12:17 AM
لقد قرأت هذا الفصل ، ولا أخفي عليك أني لم أستوعب أحداثه تماما .. فقد بحثت عن الفصل الأول ولم أجده ، حتى يتم الربط بينه وما يليه .
الملاحظ أن الأخوة المبدعين التونسيين رواياتهم فيها كم من التعذيب ، وتصويره في أبشع صوره .. فرفقا بالقوارير .