Warning: preg_replace(): The /e modifier is deprecated, use preg_replace_callback instead in ..../includes/class_bbcode_alt.php on line 1270
منتديات واتا الحضارية - منتدى الدكتور إبراهيم عوض https://wata.cc/forums/ ar Thu, 02 May 2024 22:06:16 GMT vBulletin 60 https://wata.cc/forums/1k/misc/rss.png منتديات واتا الحضارية - منتدى الدكتور إبراهيم عوض https://wata.cc/forums/ عبد الله إبراهيم وموسوعته فى السرد العربى https://wata.cc/forums/showthread.php?109644-%D8%B9%D8%A8%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D9%84%D9%87-%D8%A5%D8%A8%D8%B1%D8%A7%D9%87%D9%8A%D9%85-%D9%88%D9%85%D9%88%D8%B3%D9%88%D8%B9%D8%AA%D9%87-%D9%81%D9%89-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D8%B1%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A8%D9%89&goto=newpost Wed, 01 May 2024 23:05:52 GMT *عبد الله إبراهيم * *وموسوعته فى السرد العربى* *إبراهيم عوض* *مكتبة الشيخ* *1445هـ - 2024م* *عرفتُ د. عبد الله إبراهيم فى الدوحة حين سافرتُ...
عبد الله إبراهيم
وموسوعته فى السرد العربى

إبراهيم عوض
مكتبة الشيخ
1445هـ - 2024م

عرفتُ د. عبد الله إبراهيم فى الدوحة حين سافرتُ عام 1900 إلى هناك متعاقدا مع جامعة قطر للعمل أستاذا فى الأدب والنقد بقسم اللغة العربية حيث عشت أهنأ أربع سنوات من عمرى حتى إننى كلما سئلت عن حالى فى قطر كان جوابى أننى أشعر بأنى كنت أعيش فى الجنة: فالمرتب عال، والمسكن دارة من طابقين مؤثثة تأثيثا فخما ومزودة بالماء والكهربا والهاتف والمشباك (النت) مجانا، فضلا عن أن القطريين، سواء منهم المواطنون فى الشوارع أو الطلاب والطالبات فى الجامعة، يتمتعون بدماثة وهدوء أعصاب لدرجة أنى لم أشاهد "خناقة" بين اثنين سوى مرة واحدة، وسرعان ما تدخل أولاد الحلال (الذين لست منهم بطبيعة الحال!) فحاجزوا بين الخصمين وانقشعت سحابة الغضب والخلاف. وكان معنا فى القسم (الذى كان جميع طلابه من الفتيات بالمناسبة) زملاء من تونس والسودان وسورية والعراق والأردن، ومصر بطبيعة الحال (وكلهم رجال) ومن قطر (وكانوا خمسة: أربع من الجنس اللطيف وواحد من الرجال). وكان من بين أساتذة القسم د. عبد الله إبراهيم، الذى يدور حوله هذا المقال. وأذكر أننى بعد تسلمى العمل بقليل كنت واقفا بغرفة الأساتذة فى جانب منها، فأتى الرجل مشكورا وعرفنى بنفسه وقال إن له 13 كتابا، وإنه مهتم بـ"الناراتولوجى"، فرددت تحيته بمثلها وشكرته بدورى.
وقد لاحظت منذ البداية أنه هادئ ومنعكف إلى حد ملحوظ. وكانت درجته الجامعية "أستاذا مساعدا". وكنا نصلى أحيانا بالقسم جماعة ما عداه والدكتور حسام الدين الخطيب. وكنت أسمع كلاما طائرا عن د. عبد الله فهمت منه أنه ليس بينه وبين الإسلام تفاهم، وهذا تعبير مخفف. وقُدِّر لى أن أرى شيئا مما كان يكتبه للطالبات كأسئلة للامتحان أو كمذكرة للقراءة ، فلاحظت أن الأسلوب غير محكم، وربما كانت فيه بعض الأخطاء اللغوية، ثم كلمتنى إدارة الكلية خلال العام التالى أن أنظر فى الأبحاث التى تقدم بها للترقى إلى درجة "الأستاذ" كى أرى أَتَدْخُل هذه الأبحاث فى التخصص الذى عُيِّن على أساسه فى الجامعة هناك أم لا وأُثْبِت نتيجة ذلك فى تقرير أكتبه. ولما قرأتُ الأبحاث ألفيتُ أربعة من خمستها خارجة عن نطاق تخصصه، والخامس "يمكن" أن يدخل فيه. وكانت اللغة أفضل مما قرأت له قبلا، لكنها لم تكن تمتاز بأى شىء خاص. ومع هذا فكعادتى آثرت التريث بعض الوقت قبل كتابة التقرير الذى طلبته الكلية لألقى نظرة على الأبحاث حتى يطمئن ضميرى. ومما أذكره فيما يتعلق بعقل الرجل وفكره ما سمعته يعلق به على محاضرة عامة بالجامعة لأستاذ من خارج قسمنا، وكنا فى المساء، فلفت نظرى استعماله لبعض المصطلحات المترجمة الشائعة التى أرى فى استعمالها لونا من الحذلقة القائمة على ترديد ما يقوله الغربيون ويغرم بها كثير من العرب فى عصرنا متصورين أنه يكفيهم أن يرددوها فيستقر فى وعى الناس أنهم مثقفون كبار. ومن هذه المصطلحات التى كررها عدة مرات فى ذلك المساء مصطلح "المركزية الأوربية ودول الهامش" أو شىء من هذا، ودون أن يضيف هذا الاستعمال فهما أعمق للفكرة أو تناولا جديدا لها أو نظرا مختلفا إليها أو تحليلا مستقلا.
وبينما أردد النظر فى الأبحاث التى قدمها الزميل للجامعة بغية الترقى إلى الرتبة الجامعية التالية أسندت الكلية لى أنا وزميل مصرى كان قد سبقنى إلى العمل هناك بنحو ثمانى سنين مراجعة الأوراق التى تقدم بها من يريدون نيل درجة من الدرجات المعلنة للعمل بالقسم وقتذاك، وكان عدد المتقدمين عدة عشرات، فاجتمعنا فى مسكن الزميل المذكور ليلا وشرعنا فى العمل، وأخذ يملى علىَّ اسم كل متقدم ودرجته الجامعية والبلد الذى أتى منه وما إلى ذلك، وبعد بضعة أسماء سمعته يقول: فلان الفلانى من العراق وآتٍ من ليبيا بدرجة "أستاذ مساعد"، فوجدتنى أسأله: ما معنى "أستاذ مساعد" هنا؟ قال: أستاذ مساعد يعنى أستاذ مساعد. ترى هل لها معنى آخر؟ رددت بأن هذا مصطلح يختلف بين بعض الدول وبعض: ففى مصر والدوحة مثلا تعنى هذه الكلمة الرتبة التى تتوسط رتبة المدرس والأستاذ، فى حين أنها فى السعودية هى الرتبة التى يصل إليها الحاصلون على الدكتوراه ولم يسبق لهم الترقى إلى أية درجة أخرى، أما من ترقى منهم إلى الرتبة الأعلى فيسمى: أستاذا مشاركا.ألا تعرف هذا؟ لذلك لا بد أن نعرف أولا المقصود بهذه المرتبة فى ليبيا. ففوجئت به يفغر فاه دهشا ويقول: ابن الـ...! وذكر اسم زميلنا العراقى مؤلف الكتاب الذى نحن بصدده الآن. فعدت أساله: ماذا فعل؟ قال: لقد أتى إلى القسم من ليبيا منذ عدة أعوام بوصفه أستاذا مساعدا وشَغَلَ وظيفة الأستاذ المساعد هنا. وبعد ذلك بأيام أخبرنى أن الكلية اتصلت بالجامعة الليبية المذكورة واتضح صحة ما لاحظتُه، وأن زميلنا العراقى الذى سبقنى إلى الالتحاق بالقسم قد خدع الجامعة القطرية، وكان يقبض راتب الأستاذ المساعد لسنوات رغم أنه لم يترقَّ من درجة المدرس. فعدت أسأله: وماذا ينبغى أن أعمل فى الأبحاث التى أنظر فيها؟ قال: نَحِّها جانبا الآن لأن الكلية سوف تستغنى عنه. فسكتّ انتظارا لما تقوله الكلية. وبعدها علمت أن الكلية استغنت عنه فى صمت ولم تشأ أن تعاقبه.
أقول هذا لعدة أسباب: الأول أنى قرأت للزميل المذكور، منذ وقت غير بعيد، سيرته الذاتية التى رصدت أهم أحداث حياته، وذكر فيها عمله بليبيا ثم مجيئه إلى الدوحة، وتناول عمله بالقسم وأورد رأيه فى الزملاء الذين قَدِم عليهم فوصفهم بأبشع الأوصاف سواء من ناحية الشكل أو الفكر أو العلم مبديا احتقاره لهم وذاكرا أنه كان يعاف الاختلاط بهم لأنهم دونه فى العلم والاهتمامات الفكرية ورجعيون متخلفون فكرا وسلوكا ولا يشغّلون أمخاخهم، ويسود بينهم الارتياب فلا يطمئن أحد إلى أحد، وهو ما لم ألحظ أنا شيئا منه حين قدمتُ عليهم بعده وعملت معهم، وأضاف أن معظمهم مصريون من الأزهر ودار العلوم، أى دقة قديمة ليس لديهم جديد كالذى عنده رغم أن هذا ليس صحيحا. كما سخر منهم لمنظرهم الذى لا يسر والذى يذكرنا بأحمد بن عبد الوهاب الموصوف فى رسالة "التربيع والتدوير"، إذ وصفهم على سبيل الازدراء بأنهم مستكرشون. وهذا أيضا غير صحيح. على أنه لم يكتف بهذا بل وصفهم بأنهم متجهمون لا يهشون ولا يبشون ولا يتكلمون ولا يتناقشون كأنهم صخور رسوبية ولا صلة لهم بالعلم (وا جَهْلاه!). وذلك أيضا غير صحيح. وبالمثل شكا من أنهم قابلوه بريبة. وقد علمت بآخرة أن بعض العراقيين ممن يعرفونه كانوا يتوجسون منه ويَتَوَقَّوْن الحديث معه لأنهم، كما قالوا، يعلمون عنه أنه مُوفَدٌ من قِبَل السلطات العراقية لكتابة تقارير عنهم وعن أمثالهم ورفعها للحكومة. والثانى أن الزميل العراقى كان يردد بعد إبعاده عن جامعة قطر، حسبما بلغنى، أن المصريين ظلوا يتهمونه بالزندقة حتى أُخْرِج من وظيفته، وليس لأنه مدلس أو يأكل ما ليس من حقه لا سمح الله، بينما ذكر فى سيرته الذاتية أنه ترك الجامعة وحصل على وظيفة أفضل. والثالث أنه فى ترجمته لنفسه لم يتحل باللياقة أو يلتزم الستر، بل صور نفسه على أنه فالنتينو العرب، إذ ما من مكان يحل فيه إلا وتقع فى عشقه النساء، ثم يذكر مشاعره وهو يمارس الزنا مع بعض النساء المتزوجات مضفيا عليه غلالة شاعرية بدلا من الإحساس بالخجل والتأثم لا تديُّنًا بل إنسانيةً ونبلًا يربأ بصاحبه أن يخون رجلا فى زوجته أو أن يؤلم رفيقة حياته هو حين يقدر لها أن تقرأ هذا الكلام فيسطع فى أنفها نتنه وتشاهد عفنه، ويورد من التفصيل والتحديد الخاص بشريكته فى الزناما يَسْهُل معه التوصل إلى معرفة المرأة المولَّهة به مما يمكن أن يؤدى ذلك إلى أن يقتلها أهلها فى بلاد لا ترحم النساء وتقتلهن لأهون الأسباب التى من هذا النوع، اللهم إلا إذا ثبت أنه ليس بالفحولة التى يصورها، بل يخال ويختال ليس غير، أما فى الواقع فالعبد وسيده على المحطة يشحتان ثمن تذكرة السفر وحَقّ وجبة العَشَاء.
والعجيب أنه فى نفس الوقت لم يتطرق إلى الكلام عن زوجته فى مئات صفحات ترجمته الشخصية سوى مرة واحدة وعارضة فيما أذكر. فأين التقدمية والحداثة والانفتاح العقلى والنفسى والتمرد على اللاهوت الكاره للحب والزنا والنفور من الذكورية والأبوية والبطرياركية التى تقمع المرأة وتهمّشها وتسحقها وتلغى شخصيتها وتحولها إلى أَمَةٍ خاضعة للرجل ونزواته طبقا لما يفهمه من ذلك؟
وأما تعرضى فى هذا المقال لكتابه: "موسوعة السرد العربى" فلأنى أردت أن أعرف ماذا فى جعبته ليقوله فى هذا الموضوع الذى كان أول شىء كلمنى فيه حين تعارفنا لأول مرة فى الدوحة كما سبق بيانه. وثم سبب آخر، وهو أنى حين قرأت سيرته الذاتية والجزء الأول من موسوعته الخاصة بالسرد لاحظت أنهما مختلفان تماما فى الأسلوب والنكهة ومحاور الارتكاز عن أبحاثه الخمسة التى كلفتنى جامعة قطر النظر فيها حسبما تقدم، وما زلت حتى الآن أستغرب ذلك ولا أدرى السبب الذى يكمن وراءه. ولعل بعضهم يهتم بهذه الملاحظة ويلقى الضوء عليها بما يزيل من دماغى هذا الاستغراب.
والآن نشرع باسم الله متوكلين على الله فى فحص الكتاب الذى وضعه عبد الله وتسجيل ملاحظاتى على ما جاء فيه، ولسوف أقتصر فى هذا الفصل على الجزء الأول منه، وأدخل مباشرة فى الموضوع دون تردد أو تمهيد فأقول إن المنطق غائب إلى حد بعيد عما يكتبه د. عبد الله إبراهيم، إذ يدخل الموضوع بفكرة مسبقة ثم يبحث عما يتفق معها من النصوص التى كثيرا ما يفهمها خطأً، ويكون اللىّ والتحريف ساطعين للعيان. وهو مغرم بترديد المصطلحات والمفاهيم النقدية الغربية عمالا على بطال شأن معظم النقاد المُسَمَّيْنَ بـ"الحداثيين" دون أن يخطر له ولو فى المنام أن يعرض شيئا من ذلك على الحاسة النقدية التى رزقنا الله نحن البشر بها لكن بعضنا وبخاصة فى عصور الضعف والتبعية يهملها فكأنها غير موجودة. كذلك فنقده نقد جامد لا تشعر فيه بشىء من الدفء يجعلك تحس أنك تتواصل مع إنسان لا آلة تؤدى مهمتها دون تفكير أو إحساس. وفضلا عن هذا يستخدم المؤلف عبارات تتشح بشىء من الغموض والجمجمة، وعلى وجه الخصوص حين يتحدث عن الإسلام والرسول والقرآن ويهاجم كل ما يتعلق به كما يفعل المستشرقون والمبشرون، الذين يردد أفكارهم دائما بشأن الدين الذى جاء به محمد عليه الصلاة والسلام، فتحس أن الرؤية ليست صافية تماما، لكنه ليس من البراعة فى تلك الجمجمة بحيث إنك رغم هذا تستطيع معرفة ما يقصد.
فهذا عن الكلام النظرى، أما إذا جئنا إلى التطبيق فأول شىء لفتنى فى الكتاب هو أن المؤلف، لدن حديثه عن طبيعة الثقافة الإسلامية، يقول إن كل العلوم الإسلامية من علوم دينية وآداب وتواريخ وكتب جغرافية وكتب طبقات ومؤلفات فى علم الكلام وغير ذلك قد تلازمت وارتبطت جميعا فيما بينها على نحو شديد التماسك، ولم تعرف التخصص والتصنيف إلا فى وقت متأخر حينما جرت إعادة نظر فى المتون الكبرى التى صاغت أسس تلك الثقافة فى القرون الخمسة الأولى (ج1/ ص5- 6).
وهذا كلام غير منضبط. فما معنى أن الثقافة الإسلامية فى القرون الخمسة الأولى لم تعرف التخصص والتصنيف؟ هل كان كل واحد من المؤلفين فى تلك القرون الخمسة يشتغل بالعلوم جميعا مرة واحدة؟ الجواب لا. ترى هل كان ابن المقفع مثلا أو سهل بن هارون أو الشافعى أو الجاحظ أو ابن قتيبة، وهم من أبناء القرن الثانى الهجرى بوجه عام، كانوا يكتبون فى كل شىء أو لم يكن الناس يعرفون ما الذى يتناوله كل منهم فى مؤلفاته؟ أبدا بل كانوا يعرفون أن ابن المقفع هو صاحب "كليلة ودمنة" والدرتين، وأن الشافعى فقيه ويشتغل إلى جانب الفقه بالحديث، وأن سهل بن هارون كان قصاصا فى المقام الأول، وربما فى المقام الأول والأخير، وأن الجاحظ كان أديبا وناقدا ومهتما بالفرق الدينية والسياسية إلى حد ما، وكتب عن الحيوان من وجهة نظر أدبية وشىء من العلمية، وأن ابن قتيبة كان مهتما بالدفاع عن القرآن والحديث وله مشاركات فى النقد وما إلى ذلك، وهو ما لا يزال موجودا الآن عندنا وعند المستشرقين، الذين نجد منهم من يكتب عن الرسول عليه السلام والأدب العربى والتاريخ والجغرافيا عند العرب على نحو ما هو مشهور لا يحتاج إلى التدليل عليه. بل إن صاحب واحد من أقدم الكتب العربية الإسلامية، وهو وهب بن منبه، الذى ولد فى عهد عثمان بن عفان، أى فى القرن الأول الهجرى، لم يترك لنا سوى بضعة مؤلفات لا تخرج عن ميدان القصص والتاريخ. أى أن الأمر ليس أبدا كما يقول د. عبد الله إبراهيم، الذى من الواضح أنه يطلق الألفاظ والأحكام الضخمة الشاملة إطلاقا دون تدقيق أو حرص على العلمية كما سبق القول.
وأخيرا وليس آخرا متى يا ترى جرت إعادة نظر فى المتون الكبرى التى صاغت أسس تلك الثقافة فى القرون الخمسة الأولى؟ بل ما تلك المتون الكبرى التى أعيد فيها النظر؟ وهل كانت تلك المؤلفات، أيا كانت طبيعتها أو مجالاتها، تسمى: "متونا" أصلا؟ إن مصطلح "المتون" فى ثقافتنا الإسلامية معروف، ويُقْصَد به الملخصات التى كان يقوم بها بعض العلماء فى العصور المتأخرة من تاريخ الإسلام كى يحفظها وينطلق منها الطالب والعالم المسلم. وأنا نفسى قد تعلمتُ فى الأزهر من خلال بعض هذه المتون فى النحو والفقه قبل أن أتركه إلى المدرسة.
وفى "ويكبيديا"، التى يعرفها كل من عنده مشباك (إنترنت)، وتحت عنوان "متن"، نقرأ أن المتن هو رسالة صغيرة فى الغالب تحتوى على مبادئ علم من العلوم وتخلو فى العادة من الاستطراد أو التفصيل فلا شواهد أو أمثلة إلا فى حدود الضرورة. وقد تكون نظما، وقد تكتب نثرا. ومنها "
العقيدة الطحاوية، جوهرة التوحيد، متن أبى شجاع، مختصر التحرير، الآجُرّومية، ألفيّة ابن مالك، ألفية السيوطى، متن الرحبية، تحفة الأطفال، المقدمة الجزرية".
وهذا النوع من التأليف لم يكن بوجه عام معروفا فى ذلك الوقت المبكر من تاريخ ثقافتنا. فكما نرى فإن كلام د. عبد الله إبراهيم غير صحيح وغير منضبط. إنه يقول ما يخطر على باله دون حساب ولا خوف من النتائج تصورا منه أن تأليف كتاب يكفى فيه إمرار القلم على الورق وتسويد الصفحات بالحبر، والسلام.
وفى الصفحة السادسة يقول: "ولا يمكن مقاربة الأدب العربى بكامله شعرا وسردا إلا برؤية تربط الظاهرة النصية بالظاهرة الثقافية". وأول شىء يلفت النظر هو الحديث عن الثقافة بوصفها ظاهرة مع أن الثقافة ملازمة للإنسان منذ بدء الخليقة وإلى أن تقوم الساعة، إذ هى الأفكار والمعتقدات والعادات والتقاليد والعلوم والآداب والفنون، أى الجوانب العقلية والنفسية والخلقية والروحية من حياته أيا كان مداها مما لا يمكن أن يَعْرَى منه الإنسان أبدا فى أى طور من أطوار تاريخه. فهى ليست ظاهرة تروح وتجىء بل جزءا من تكوين المجتمعات البشرية. ونفس الكلام ينطبق على نعت "النص" بأنه هو أيضا ظاهرة. ثم انظر إلى قوله بأنه لا بد، عند دراسة النص (الأدبى)، من ربطه بالثقافة، وكأن النص شىء مغاير للثقافة وليس جزءا منها كما هو واضح فى كلامى قبل أسطار.
وشىء ثالث، وهو أنه يقسم الأدب العربى إلى شعر وسرد. فهل يقصد بـ"السرد" النثر؟ لا بل يقصد الفن القصصى. لكن هل الأدب العربى يقتصر على الشعر والقَصَص وحسب؟ أبدا، بل فيه الأمثال والخطب والرسائل الرسمية والشخصية والرحلات والسير الذاتية والغيرية والحوارات والمجادلات والوصف سواء كان وصفا للطبيعة أو البشر أو المدن والقرى أو للمشاعر والعواطف والأحاسيس والخواطر. ولماذا نذهب بعيدا، والمؤلف قد أدار موسوعته حول "السرد" ليس إلا؟ فهل تشمل هذه الموسوعة كل تلك الفنون الكتابية؟ بطبيعة الحال لا. فلماذا إذن لا يلتزم المؤلف جانب الدقة فيما يكتب؟
كذلك هناك عدم التحديد أو التدقيق فى استخدام كلمة "السرد" مصطلحا للكتابات القصصية. ذلك أن السرد ليس سوى عنصر واحد من عناصر القَصَص إلى جانب الحوار والوصف والمكان والزمان وتشابك كل ذلك فى بنية مشوِّقة مقنعة تقوم على التفاعلات الطبيعية بين تلك العناصر وعدم افتعال أى شىء منها أو تحميله ما لا يطيق النهوض به. وهذا المصطلح قد شاع فى العقود الأخيرة فى هوجة إشاعة الفوضى فى المفاهيم والمصطلحات الأدبية والنقدية مما يرفضه العقلاء. والغريب أن يحدث ذلك فى الوقت الذى تتجه إليه العلوم والآداب والفنون إلى التمييز والتخصص، وإلا لدخلت كتب الرحلات والمذكرات واليوميات والتراجم الذاتية والغيرية تحت مسمى "السرد" ولصار الأمر سداحا مداحا لا يعرف الإنسان فيه أين يضع قدمه وكيف ينقلها. نعم هو ليس ابن بجدتها، لكن كنا نتوقع أن يكون له موقف مما يقرؤه. بيد أننا نكتشف على طول كتاباته فى موضوع "السرد" أنه لا يفكر أبدا أن يكون له رأى مستقل.
وفى ص6- 7 يقول إن القارئ العربى قد "أنتج وعيا مختزلا بمسار الشعر العربى بسبب الطريقة الخطية العتيقة التى سارت عليها كتب تاريخ الأدب" مما كانت ثمرته حرمانه من معرفة السرديات العربية التى قامت بتمثيل المخيال العربى الإسلامى، وبخاصة أن "الثقافة المتعالمة"لم تعترف بالقيمة التمثيلية لتلك السرديات لعدم امتثالها لشروط الفصاحة المدرسية، وهو ما تسبب فى اختزالها إلى وقائع تاريخية أو أباطيل مفسدة أو أضاليل مضللة وإهمال قيمتها التمثيلية ووضع الثقافة الأدبية فى موقع النقيض للثقافة الدينية.
وأول كل شىء ألفت بصر القارئ إليه هو قوله إن القارئ العربى قد "أنتج وعيا..."، وكأن الوعى ينتج، ولم يبق إلا أن يقول إن له خطوط إنتاج فى مصانع وشركات تسمى: المصانع والشركات القومية لإنتاج الوعى. وهى عبارة سخيفة كمعظم كلام من يسمون أنفسهم بـ"الحداثيين"، وهم أحرى بأن يقال عنهم: "المتنطعون القروديون" لتصورهم أنهم بتنطعهم فى ترديد المصطلحات التى يرددها النقاد الجدد فى الغرب فى العقود الأخيرة يجعلهم على نحو آلى "آخر حداثة"، مثل قولهم: "إعادة إنتاج الدلالة". ومن يدرى فقد نسمعهم غدا يقولون: "إعادة تدوير المخلفات الفكرية" و"حاويات مقالب الزُّبالة النقدية" و"بلاعات الصرف الصحى للغائط الشعرى"!
وبمناسبة قوله: "الطريقة الخطية"، والمقصود اتجاه وقائع العمل القصصى إلى الأمام باستمرار لا تخرج عن مسارها ولا تعود أدراجها أبدا فإنه يتابع فى هذا الاستعمال ما يقوله الغربيون، مَثَلُه فى ذلك كمَثَل سائر الكتاب العرب الذين يؤدون الوصف "linear" بمعناه فى اللغات الأوربية مع أن "الخط" قد يكون مستقيما، وقد يكون ملتويا، وقد يكون مستديرا، وقد يكون متعرجا، وقد يكون متكسرا... وهكذا. وانطلاقا من هذا التوضيح نجد الإنجليزية تقول: "broken line" و"curved line" و"straight line" و"wavy line". وعلى هذا فكلمة "linear" لا تعنى الخط المستقيم وحده كما يقصد الكتاب الأوربيون والعرب الذين يقلدونهم دون فهم، بل تعنى الخط كيفما كان. وأرى، طبقا لهذا، أن التعبير بكلمة "خَطِّىٌّ" للدلالة على امتداد اللخط المستقيم ليس تعبيرا سليما.
وأما زعمه أن الثقافة الدينية كانت فى موضع النقيض للثقافة الأدبية فليت شعرى من أين له بذلك الزعم؟ لقد كان النبى ذاته عليه السلام يستمع للشعر ويشجّع ويثيب عليه، وكان الصحابة يروونه ويستشهدون به. بل لقد كان منهم شعراء مشاهير كحسّان وابن رواحة وكعب بن مالك وعمرو بن معديكرب وسفيان بن الحارث وابن الزِّبَعْرَى وكعب بن زُهَيْر وبُجَيْرٍ أخيه والنابغة الجعدى والخنساء... إلخ. ومعروفة قصة عبد الله بن العباس حين كان ينشد، فى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، شعرا فيه البيت التالى الذى يتضمن لفظا عاريا:
وهُنّ يمشين بنا هَمِيسا

إن تَصْدُق الطيرُ نَنِكْ لَمِيسا


واستغرب ذلك أحد السامعين ظنا منه أنه من الرفث الذى نهى الله عن إتيانه فى المساجد طبقا لما جاء فى سورة "البقرة" لدن الكلام عن الصيام، فأجابه ابن العباس بأن الرفث ما كان عند النساء، أى الجماع حسبما نقرأ فى الآيات المومإ إليها.
كذلك كان مفسرو القرآن يستشهدون كثيرا فى شرحهم لكتاب الله الكريم بالشعر. وكان كثير من علماء الدين والدعاة والمجاهدين فى سبيل الله والمتكلمين يقرضونه. ومن علماء الدين كذلك من كانوا يزاولون النقد الأدبى أو يكتبون القصص، ويؤلفون فى ذات الوقت رسائلهم وكتبهم فى القضايا الدينية. وعندنا المتصوفة الشعراء، الذين لم يكتفوا بذلك بل نَحَوْا فى حديثهم عن الله منحى الغزل وإطلاق اسم "ليلى" على ذاته سبحانه، ورمزوا بالخمر إلى حبهم له جل وعلا. وليس بخافٍ على من درس تاريخ الأدب العربى أن بعض الشعراء قصروا قصائدهم على الموضوعات الدينية. بل إن المسلمين لينظرون إلى القرآن على أنه نص أدبى سامق إلى جانب كونه كتابا تشريعيا وعقيديا وأخلاقيا... ويشاركهم فى القول بأنه نص أدبى كثيرون ممن لا يؤمنون بنبوة محمد عليه السلام.
ويدعى المؤلف أن "الثقافة المتعالمة (على حد قوله) لم تعترف بالقيمة التمثيلية لتلك السرديات لعدم امتثالها لشروط الفصاحة المدرسية، وهو ما تسبب فى اختزالها إلى وقائع تاريخية أو أباطيل مفسدة أو أضاليل مضللة وإهمال قيمتها التمثيلية ووضع الثقافة الأدبية فى موقع النقيض للثقافة الدينية". ولا أدرى كيف يمكنه بضميرٍ مستريحٍ التنكرُ لأعمال كـ"التيجان فى ملوك حمير" المملوء بالقصص القصير الرائع، وهو لوهب بن منبه، أو "كليلة ودمنة" لابن المقفع، أو الرسائل القصصية لسهل بن هارون مثل "رسالة النمر والثعلب"، أو كثير من كتابات الجاحظ حيث يقابل القارئ كما كبيرا من الأقاصيص الفاتنة بين صفحاتها، أو "الأغانى" للأصفهانى، أو "رسالة الغفران" لأبى العلاء، أو مقامات الهمدانى والحريرى وغيرهما، أو "رسالة التوابع والزوابع" لابن شُهَيْد، أو "إعلام الناس بما وقع للبرامكة مع بنى العباس" للإتليدى... إلخ، وهو كثير جد كثير.
وأصحاب تلك الأعمال هم من كبار الأدباء العرب القدامى، أى من "المتعالمين" فى رأى د. عبد الله إبراهيم، تلك الكلمة التى تشى بتعاليه عليهم واحتقاره لهم مع أن قلامة الظفر التى يطيرها المقص من خنصر قدم أى منهم أفضل من كثير من كُتّاب عصرنا الأدعياء، وما أكثرهم وأوسعهم انتشارا! فها نحن أولاء نرى أن كون هؤلاء الكتاب من القامات السامقة فى تاريخ الأدب العربى لم يمنعهم من إبداع الأعمال القصصية سواء كانت أعمالا مستقلة بذاتها أو وردت ضمن كتب جامعة. أما النقاد ومؤلفو الطبقات فلم يحدث أن نظروا إلى تلك الأعمال نظرة انتقاص قط بل كانوا يمدحونها هى ومؤلفيها مدحا عظيما. وأما الأسلوب الذى صيغت به هذه الأعمال فهو أسلوب وافَى ذروة الأساليب الأدبية العربية.
وثمة خبر أورده المسعودى فى "مروج الذهب" عن معاوية يدل على أنه كان هناك منذ خلافته على الأقل تدوينٌ كتابىٌّ لما كان الجاهليون يروونه من قصص وحكايات وأسمار، وأن هذا التدوين من ثَمَّ لم ينتظر حتى مجىء العصر العباسى. وهذا هو النص المذكور، وقد ورد فى سياق كلام المسعودى عن المنهج الذى كان معاوية يتبعه فى إنفاق ساعات يومه نهارا وليلا، وهو خاص بسماع العاهل الأموى أخبار العرب وأيامها فى الجاهلية: "ويستمر إلى ثلث الليل فى أخبار العرب وأيامها والعجم وملوكها وسياستها لرعيتها وسِيَر ملوك الأمم وحروبها ومكايدها وسياستها لرعيتها، وغير ذلك من أخبار الأمم السالفة، ثم تأتيه الطُّرَفُ الغريبة من عند نسائه من الحلوى وغيرها من المآكل اللطيفة، ثم يدخل فينام ثلث الليل، ثم يقوم فيقعد فيحضر الدفاتر فيها سير الملوك وأخبارها والحروب والمكايد، فيقرأ ذلك عليه غلمان له مرتَّبون، وقد وُكِّلوا بحفظها وقراءتها، فتمرّ بسَمْعه كلَّ ليلة جُمَلٌ من الأخبار والسير والآثار وأنواع السياسات، ثم يخرج فيصلى الصبح، ثم يعود فيفعل ما وصفنا فى كل يوم". ولدينا أيضا كتاب "أخبار عَبِيد بن شَرِيّة الجُرْهُمِى فى أخبار اليمن وأشعارها وأنسابها"، الذى سجل فيه مؤلفه ما كان يقع بينه وبين معاوية بن أبى سفيان من حوارات تاريخية، وكان معاوية قد استقدمه ليستمع منه إلى أخبار ملوك اليمن. ويذكر ابن النديم أن عَبِيدًا وَفَد على معاوية، فسأله العاهل الأموى عن الأخبار المتقدمة وملوك العرب والعجم وسبب تبلبل الألسنة وأَمْر افتراق الناس فى البلاد، وكان قد استحضره من صنعاء اليمن، فأجابه إلى ما سأل، فأمر معاوية أن يُدَوَّن ذلك ويُنْسَب إلى عبيد. وهو الكتاب الذى يؤكد المسعودى أن صاحبه هو الوحيد الذى صح وفوده على معاوية من رواة أخبار الجاهلية. فهل كان معاوية من حثالة المثقفين غير المتعالمين حين شغف بسماع القصص والحكايات؟
ففى التراث الأدبى الذى خلّفه لنا كتابنا الكبار قَصَصٌ كثير منه الدينى، ومنه السياسى، ومنه الاجتماعى، ومنه الفلسفى، ومنه الوعظى، ومنه الأدبى، ومنه ما وُضِع للتسلية ليس إلا. ومنه الواقعى، ومنه الرمزى. ومنه المسجوع المجنَّس، ومنه المترسِّل. ومنه المحتفَى بلغته، ومنه البسيط المنساب. ومنه الطويل مثل "رسالة النمر والثعلب" لسهل بن هارون (ت215هـ)، و"رسالة التوابع والزوابع" لابن شُهَيْد (382- 426هـ)، و"رسالة الغفران" و"رسالة الصاهل والشاحج" للمعرى (363- 449هـ)، و"سلامان وأبسال" و"رسالة الطير" لابن سينا (370- 427هـ)، و"رسالة حَىّ بن يقظان" لكل من ابن سينا وابن الطُفَيْل (ت581هـ) والسهروَرْدِىّ (549- 587هـ)، ومنه القصير كالحكايات التى تَغَصّ بها كتب الأدب والتاريخ المختلفة وجَمَعَ طائفةً كبيرةً منها محمد أبو الفضل إبراهيم وعلى محمد البجاوى ومحمد أحمد جاد المولى فى أربعة مجلدات كبار، و"كليلة ودمنة" لابن المقفع (ت146هـ)، و"البخلاء" للجاحظ (163- 255هـ)، و"المكافأة" لابن الداية (ت340هـ)، و"الفرج بعد الشدة"، و"نشوار المحاضرة" للقاضى التنوخى (327- 384هـ)، و"المقامات"، و"المكافأة" لابن الداية (ت340هـ)، و"عرائس المجالس" للثعالبى (350- 429هـ)، و"مصارع العشاق" للسراج القارى (417- 500هـ)، و"التذكرة الحمدونية" لابن حمدون (450- 592)، و"سلوان المطاع فى عدوان الأتباع" لابن ظَفَر الصِّقِلّىّ (ت565هـ)، و"أخبار الحمقى والمغفلين" و"أخبار النساء" لابن الجوزى (508- 597هـ)، و"غُرَر الخصائص الواضحة وعُرَر النقائض الفاضحة" للوطواط (623- 719هـ)، و"المستطرَف من كل فنٍّ مستظرَف" للأبشيهى (790- 852هـ)، و"عجائب المقدور فى أخبار تيمور" و"فاكهة الخلفاء ومفاكهة الظرفاء" لابن عربشاه (791- 854هـ)، وما ذكره ابن النديم فى "الفهرست" من كتب الأسمار الخرافية التى تُرْجِمَتْ عن الفارسية والهندية واليونانية أو رُوِيَتْ عن ملوك بابل أو أُلِّفَتْ بالعربية، فكانت حوالى مائة وأربعين كتابا: المؤلَّف منها بلسان العرب فقط نحو ثمانين كتابا كلها فى أخبار العشاق فى الجاهلية والإسلام، ودعنا مما أُلِّفَ بعد ذلك... ومنه النثرىّ كالأمثلة السابقة، والشِّعْرِىّ كشعر الشَّنْفَرَى عن لقائه بالغول، وقصيدة الحُطَيْئة: "وطاوِى ثلاثٍ عاصبِ البطن مُرْمِلٍ"، وكثير من قصائد عمر بن أبى ربيعة، وأبيات الفرزدق عن الذئب، ورائية بشار، ومغامرات أبى نواس الخمرية، وقصيدة المتنبى عن مصارعة بدر بن عمار للأسد... وهلم جرا.
والآن وبعد أن عرفنا أن كبار الكتاب والشعراء العرب القدماء قد ألفوا ونظموا الكثير فى مضمار القصص على النحو الذى رأيناه هل هناك اشتباه فى أن هذا الفن كان يُنْظَر إليه على أنه فن هزيل كما يؤكد د. عبد الله إبراهيم؟ وكيف يكون فنا هزيلا، وقد كان الصحابة يحبون سماع القصص والحكايات حتى لتقول إحدى روايات أسباب النزول إن سورة "يوسف" قد نزلت لإطفاء غلة شوقهم إلى ذلك، كما أن رسول الله كان يقص عليهم فى كل سانحة بعض الحكايات التى أوردتها كتب الحديث الشريف؟
صحيح أن فى طائفة من كتب الأدب القديم زراية على القُصّاص المسجديين الذين يتصدَّوْن لوعظ الجماهير بأسلوب التهويل الكاذب والمبالغات الفاسدة والروايات التى ليس لها أصل فيفسدون على العامة أمر دينهم، بخلاف المدققين منهم: فقد كتب أبو هلال العسكرى مثلا فى "الأوائل": "سمع أبو نواس أن القَصَص بدعة، فسار إلى مسجد بعض القُصّاص ليعبث به، ومعه أصحاب له، فجلس وأخرج يده من ذيله ينتف إبطه فقال له القاص: ما هذا موضع ذا. فصاح به أبو نواس: ويلك! أتردّ علىَّ وأنا فى سُنَّة، وأنت فى بدعة؟ فضحكوا منه". وفى "البصائر والذخائر" لأبى حيان التوحيدى: "قال يونس بن عبد الأعلى (عن عالم من العلماء): قَدِم على الليث بن سعد منصورُ بنُ عمار يسمع الحديث منه. فقال له: إنى قد أتيت شيئًا أريد أن أعرضه عليك: فإن كان حسنًا أمرتنى أن أذيعه، وإن كان مما تكرهه انزجرت. قال: ما هو؟ قال: كلام الفقه ومواعظ القصاص. قال: ليس شىء غير القرآن والسنة، وما خالف ذلك فليس بشىء. قال: فتستمع وتتفضل. وكان عنده جماعة، فأشاروا عليه بأن يسمع منه. فابتدأ بمجلس القيامة، فلم يزل الليث يبكى ومن معه، وأمره أن يذيعه ولا يضمره ولا يأخذ عليه أجرا، ووهب له ألف دينار".
وفى "العِقْد الفريد" لابن عبد ربه عن مجانين القُصّاص: "قال أبو دحية القاصّ: ليس فِىَّ خيرٌ ولا فيكم. فتبلَّغوا بى حتى تجدوا خيرًا منى. وقال فى قصصه يوما: كان اسم الذئب الذى أكل يوسف "هملاج". قالوا: إن يوسف لم يأكله الذئب. قال: فهذا اسم الذئب الذى لم يأكل يوسف. وقال ثمامة بن أشرس: سمعت قاصا ببغداد يقول: اللهم ارزقنى الشهادة أنا وجميع المسلمين. ووقع الذباب على وجهه فقال: ما لكم؟ كثَّر الله بكم القبور. قال: ورأيت قاصا يحدث الناس بقتل حمزة فقال: ولما بقرتْ هند عن كبد حمزة استخرجتها فعضتها ولاكتها ولم تزدردها. فقال النبى صلى الله عليه وسلم: لو ازدردتها ما مسها النار. ثم رفع القاص يديه إلى السماء وقال: اللهم أطعمنا من كبد حمزة".
وفى "المثل السائر فى أدب الكاتب والشاعر" لابن الأثير: "وبلغنى عن الشيخ أبى محمد بن أحمد المعروف بابن الخشاب البغدادى، وكان إمامًا فى علم العربية وغيره، فقيل: إنه كان كثيرًا ما يقف على حلق القُصّاص والمشعبذين، فإذا أتاه طلبة العلم لا يجدونه فى أكثر أوقاته إلا هناك، فلِيمَ على ذلك وقيل له: أنت إمام الناس فى العلم، وما الذى يبعثك على الوقوف بهذه المواقف الرذيلة؟ فقال: لو علمتم ما أعلم لما لُمْتُمْ. ولطالما استفدت من هؤلاء الجهال فوائد كثيرة، فإنه يجرى فى ضمن هذيانهم معانٍ غريبة لطيفة. ولو أردت أنا وغيرى أن نأتى بمثلها لما استطعنا ذلك".
أما فى "ثمار القلوب للمضاف والمنسوب" للثعالبى فقبل أن يورد مؤلفه بعض الروايات عن الإسكندر المقدونى نجده يقول على سبيل التمهيد: "وهذه جملة من سيره مأخوذة من تواريخ يونان وفارس. وأما روايات القُصّاص وأهل المبتدإ فمرفوضة عند أهل التحصيل".
وفى "ربيع الأبرار ونصوص الأخيار" للزمخشرى: "خباب بن الأرت: قال رسول الله صلى الله عليه: إن بنى إسرائيل لما قصُّوا هلكوا. رُوِى أن كعبًا رضى الله عنه كان يقص، فلما سمع هذا الحديث ترك القصص. ابن عمر رضى الله عنه: لم يُقَصّ على عهد رسول الله ولا على عهد أبى بكر ولا على عهد عمر وعثمان، وإنما كان القصص حين كانت الفتنة. مرَّ علىٌّ رضى الله عنه بقاصٍّ، فقال له: ما اسمك؟ قال: أبو يحيى. قال: أنت أبو "اعرفونى أيها الناس". عن أبى قلابة: ما أمات العِلْمَ إلا القُصّاص: يجلس الرجل إلى القاص السَّنَة فلا يتعلم منه شيئًا، ويجلس إلى العالم فلا يقوم إلا وقد تعلق منه بشىء. نهى إبراهيمُ النخعىُّ إبراهيمَ التيمىَّ عن القصص، فقيل له: رجع يقصّ. قال: لم؟ قيل: لرؤيا رآها. قال: وما هى؟ قيل: رأى كأنه يقسّم على جلسائه ريحانًا. قال: ما أعلم الريحان إلا طيب الرائحة حسن المنظر، إلا أن طعمه مر. وكان يقول: ما أحد يبتغى بقصصه وجه الله إلا إبراهيم التيمى، ولوددت أنه يفلت منه كفافًا. ابن المبارك: سألت الثورى: مَنْ خير الناس؟ قال: العلماء. قلت: مَنِ الأشراف؟ قال: المتقون. قلت: مَنِ الملوك؟ قال: الزهاد. قلت: مَنِ الغوغاء؟ قال: القُصّاص الذين يستأكلون أموال الناس بالكلام. قلت: مَنِ السفلة؟ قال: الظَّلَمة. سُئِل فضيل عن الجلوس إلى القاص، قال: ليس هذا لله، ليس هذا لله. هذا بدعة. ما كان على عهد رسول الله ولا عهد أبى بكر وعمرَ قاصٌّ. ولكن إذا كان الرجل يذكر الله ويخوّف فلا بأس أن يُجْلَس معه. معاوية بن قرة: لَتَاجِرٌ يجلب إلينا الطعام أحبُّ إلىَّ من قاصَّيْن. قَدِم سفيان الثورى البصرة فنزل بمرحوم العطار، فقال: ألا أذهب بك إلى قاصٍّ تسمعه؟ فكأنه تَكَرَّهَ، ثم مضى معه، فإذا هو بصالح المرِّى، فقال: ليس هذا بقاصٍّ. هذا نذير... قيس بن جبر النهشلى: هذه الصعقة التى عند القُصّاص من الشيطان. قيل لعائشة رضى الله عنها: إن قوما إذا سمعوا القرآن صعقوا. فقالت: القرآن أكرم من أن تنزف منه عقول الرجال، ولكنه كما قال الله: "تقشعرّ منه جلود الذين يخشَوْن ربهم ثم تَلِين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله"... ورُوِى أن قاصًّا أنشد: أمِنْ ذِكْر خَوْدٍ دمعُ عينيك يسْفَحُ؟ ولطم وجهه وبكى بكاء شديدا، فسئل عن "خَوْدٍ"، فقال: وادٍ فى جهنم يا حمقى".
بيد أن هذا الموقف حيال القُصّاص لا يعود إلى كراهية أو احتقار لفن القصص فى حد ذاته، بل إلى أن كثيرا من طائفة القصاصين كانوا عوامّ الفكر يعتمدون فى وعظهم على الخرافات والمبالغات والتهويلات التى لا يقبلها العقل ولا تصدّقها تجارب الحياة ناسبين خرافاتهم ومبالغاتهم إلى الدين ذاته، موهمين الناس أنها من أحاديث النبى عليه السلام. كما كان بعضهم يتخذ من هذا العمل سبيلا إلى الرواج لدى العامة، وإلا فقد رأينا الجاحظ مثلا يعلى من شأن القُصّاص المخلصين.
ولكى تزداد الصورة اتضاحا، ويعرف القارئ أن ذلك الموقف من القصاص لم يكن تعبيرا عن رفض القصص بوصفه فنا أدبيا بل رفضا للخرافات والمبالغات وإفساد الدين واستغلاله فى الرواج عند العامة وأكل الدنيا به، نورد ما قاله عدد من علماء الدين فى تلك العصور: فقد قال ابن قتيبة مثلا فى "تأويل مختلف الحديث" إن "الحديث يدخله الشَّوْب والفساد من وجوه ثلاثة: منها الزنادقة واجتيالهم للإسلام وتهجينه بدَسّ الأحاديث المستشنَعَة والمستحيلة... والوجه الثانى: القُصّاص على قديم الزمان، فإنهم يُمِيلون وجوه العَوَاّم إليهم ويستدرّون ما عندهم بالمناكير والغريب والأكاذيب من الأحاديث. ومن شأن العوام القعود عند القاصّ ما كان حديثه عجيبا خارجا عن فِطَر العقول أو كان رقيقا يُحَزِّن القلوب ويستغزر العيون. فإذا ذكر الجنة قال: فيها الحوراء من مسك أو زعفران، وعجيزتها مِيلٌ فى مِيلٍ، ويُبَوِّئ الله تعالى وَلِيَّه قصرا من لؤلؤة بيضاء فيه سبعون ألف مقصورة، فى كل مقصورة سبعون ألف قبة، فى كل قبة سبعون ألف فراش، على كل فراش سبعون ألف كذا. فلا يزال فى سبعين ألف كذا وسبعين ألفا كأنه يرى أنه لا يجوز أن يكون العدد فوق السبعين ولا دونها. ويقول: لَأَصْغَرُ مَنْ فى الجنة منزلةً عند الله من يعطيه الله تعالى مثل الدنيا كذا وكذا ضِعْفًا. وكلما كان من هذا أكثر كان العجب أكثر، والقعود عنده أطول، والأيدى بالعطاء إليه أسرع. والله تبارك وتعالى يخبرنا فى كتابه بما فى جنته بما فيه مَقْنَعٌ عن أخبار القصاص وسائر الخلق حين وصف الجنة بأن عرضها السماوات والأرض... فكيف يكون عرضها السماوات والأرض، ويعطى الله تعالى أخسَّ من فيها منزلة فيها مثل الدنيا أضعافا؟... ثم يذكر آدم عليه السلام ويصفه فيقول: كان رأسه يبلغ السحاب أو السماء ويحاكّها، فاعتراه لذلك الصلع. ولما هبط إلى الأرض بكى على الجنة حتى بلغت دموعه البحر وجرت فيها السفن. ويذكر داود عليه السلام فيقول: سجد لله تعالى أربعين ليلة وبكى حتى نبت العشب بدموع عينيه، ثم زفر زفرة هاج لها ذلك النبات. ويذكر عصا موسى عليه السلام فيقول: كان نابها كنخلةٍ سَحُوقٍ، وعينها كالبرق الخاطف، وعرفها كذا. والله تعالى يقول: كأنها جانٌّ. والجانُّ خفيف الحيات... وحدثنى الرياشى قال: نا عبد الله بن مسلمة عن أنس بن عياض عن زيد بن أسلم قال: وُجِد فى حِجَاج رجل من العماليق ضبعٌ وجِرَاؤها... وأما الوجه الثالث الذى يقع فيه فساد الحديث فأخبار متقادمة كان الناس فى الجاهلية يروونها تشبه أحاديث الخرافة كقولهم إن الضَّبّ كان يهوديا عاقًّا فمسخه الله تعالى ضبًّا، ولذلك قال الناس: أَعَقُّ من ضبّ. ولم تقل العرب: "أعقّ من ضَبٍّ " لهذه العلة، وإنما قالوا ذلك لأنه يأكل حُسُولَه إذا جاع... وكقولهم فى الهدهد إن أمه ماتت، فدفنها فى رأسه، فلذلك أنتنت ريحه... وكقولهم فى الديك والغراب إنهما كانا متنادمين، فلما نَفِدَ شرابهما رهن الغرابُ الديكَ عند الخمار ومضى فلم يرجع إليه، وبقى الديك عند الخمار حارسا... وكقولهم فى السِّنَّوْر إنها عطسة الأسد، وفى الخنزير إنه عطسة الفيل، وفى الإربيانة إنها خيّاطة كانت تسرق الخيوط فمُسِخَتْ...".
وفى "الموضوعات" لابن الجوزى: "صلى أحمد بن حنبل ويحيى بن معين فى مسجد الرصافة، فقام بين أيديهم قاصٌّ فقال: حدثنا أحمد بن حنبل ويحيى بن معين قالا: حدثنا عبد الرزاق بن معمر عن قتادة عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَنْ قال: "لا إله إلا الله" خلق الله من كل كلمة طيرا منقاره من ذهب، وريشه من مرجان، وأخذ فى قصته نحوا من عشرين ورقة! فجعل أحمد بن حنبل ينظر إلى يحيى بن معين، وجعل يحيى بن معين ينظر إلى أحمد فقال له: حدثتَه بهذا؟ فيقول: والله ما سمعت هذا إلا الساعة. فلما فرغ من قصصه وأخذ العطيات ثم قعد ينتظر بقيتها قال له يحيى بن معين بيده: تعال. فجاء متوهما لنوال، فقال له يحيى: مَنْ حدَّثك بهذا الحديث؟ فقال: أحمد بن حنبل ويحيى بن معين. فقال: أنا يحيى بن معين، وهذا أحمد بن حنبل. ما سمعنا بهذا قط فى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: لم أزل أسمع أن يحيى بن معين أحمق. ما تحقَّقْتُ هذا إلا الساعة. كأنْ ليس فيها إلا يحيى بن معين وأحمد بن حنبل غيركما. وقد كتبتُ عن سبعة عشر أحمد بن حنبل ويحيى بن معين. فوضع أحمد كمّه على وجهه وقال: دعه يقوم. فقام كالمستهزئ بهما".
وفى "القُصّاص والمذكرين" لابن الجوزى أيضا أنهم "ينسبون ما يسمعونه من الناس إلى النبى صلى الله عليه وسلم، ويخلطون الأحاديث بعضها ببعض، ويتصنعون البكاء والرعدة. ومنهم من يصفّر وجهه ببعض الأدوية، وبعضهم يمسك معه ما إذا شمه سال دمعه، ويتظاهرون بالصعقة...". وفى ضوء ما مر يمكننا أن نعرف لم كان بعض الحكام يمنعون القُصّاص من الجلوس فى المساجد والقَصّ على الناس. لقد فعلوه تجنبًا للشَّغْب الذى كان يحدث جَرّاءَ اجتماع الطَّغَام وما يمكن أن يحصل عن ذلك من جدال وضجيج ومشاحنات.
ويؤكد أيضا ما قلناه من أن هذه النقول ليست دليلا على كراهية القصص فى ذاته، بل القَصَص المراد به خداع العوام وترويج الخرافات بينهم للضحك عليهم واستدرار ما فى جيوبهم، أن هناك كتابا كبارا من القدماء قد أَثْنَوْا على مقامات الحريرى مثلا ثناء عظيما، ووقفوا بقوة فى وجه من يحاول التقليل من شأنها لحساب الرسائل. وفيما كتبه الحريرى نفسه فى مقدمة "مقاماته" عن إنجازه فى هذا الميدان شىء يتصل بذلك الجانب، إذ قال: "وأرْجو ألا أكونَ فى هذا الهذَرِ الذى أوْرَدْتُهُ، والمَوْرِدِ الّذى تورّدْتُهُ، كالباحِثِ عنْ حتْفِهِ بظِلْفِه، والجادعِ مارِنَ أنْفِهِ بكفّهِ، فألحَقَ بالأخْسَرِينَ أعْمالًا الذينَ ضلّ سعْيُهُمْ فى الحياةِ الدُنْيا وهُمْ يَحْسَبونَ أنّهُمْ يُحْسِنونَ صُنْعا. على أنى، وإنْ أغْمَضَ لى الفَطِنُ المُتغابى، ونضَحَ عنّى الـمُحِبُّ المُحابى، لا أكادُ أخْلُصُ منْ غُمْرٍ جاهِلٍ، أو ذى غِمْرٍ متَجاهِلٍ، يضَعُ منى لهَذا الوضْعِ، ويندّدُ بأنّهُ منْ مَناهى الشّرْعِ. ومَنْ نقَدَ الأشْياءَ بعَينِ المعْقولِ، وأنْعَمَ النّظَرَ فى مَبانى الأصولِ، نظَمَ هذِه المَقاماتِ، فى سِلْكِ الإفاداتِ، وسلَكَها مسْلَكَ الموْضوعاتِ، عنِ العَجْماواتِ والجَماداتِ، ولمْ يُسْمَعْ بمَنْ نَبا سمْعُهُ عنْ تِلكَ الحِكاياتِ، أو أثّمَ رُواتَها فى وقْتٍ من الأوْقاتِ. ثمّ إذا كانَتِ الأعْمالُ بالنِّيّاتِ، وبها انْعِقادُ العُقودِ الدِّينِيّاتِ، فأى حرَجٍ على مَنْ أنْشأ مُلَحًا للتّنْبيهِ، لا للتّمويهِ، ونَحا بها منحَى التّهْذيبِ، لا الأكاذيبِ؟ وهلْ هُوَ فى ذلِك إلا بمنزِلَةِ مَنِ انتَدَبَ لتعْليم، أو هَدَى الى صِراطٍ مُستَقيم؟
وهُنّ يمشين بنا هَمِيسا

إن تَصْدُق الطيرُ نَنِكْ لَمِيسا


وهكذا قام الحريرى بالدفاع عن نفسه ضد ما ناله بسببه من الاتهام بأنه رجل مهذار يخالف الشرع فى هذره الذى يضيّع به وقته، فأحسن الرد والدفاع وبين أنه لم يأت ذنبا بل اتخذ من مقاماته معلما وهاديا.
والآن إلى ما خطته يراعة الحصرى القيروانى (390- 453هـ) فى كتابه: "زهر الآداب وثمر الألباب" عن "مقامات" بديع الزمان الهمدانى، وكيف نبتت فكرة المقامات فى ذهنه، ثم كيف يراها الحصرى نفسه: "ولما رأى (أى الهمدانى) أبا بكر محمد بن الحسن بن دُرَيْد الأزدى أَغْرَبَ بأربعين حديثا، وذكر أنه استنبطها من ينابيع صدره، وانتخبها من معادن فكره، وأبداها للأبصار والبصائر، وأهداها إلى الأفكار والضمائر، فى معارضَ حُوشِيّة، وألفاظٍ عنجهية، فجاء أكثرها تنبو عن قبوله الطباع، ولا تُرْفَع له حجب الأسماع، وتوسع فيها إذ صرف ألفاظها ومعانيها فى وجوه مختلفة، وضروب منصرفة، عارضه بأربعمائة مقامة فى الكدية تذوب ظرفا، وتقطر حسنا، لا مناسبة بين المقامتين لفظا ولا معنى، عطف مساجلتها، ووقف مناقلتها بين رجلين سمى أحدهما: عيسى بن هشام، والآخر: أبا الفتح الإسكندرى، وجعلهما يتهاديان الدُّرّ، ويتنافثان السحر، فى معانٍ تُضْحِك الحزين، وتحرك الرصين، وتُطَالَع منها كلّ طريفة، وتُوقَف منها على كل لطيفة، وربما أُفْرِد بعضهما بالحكاية، وخُصّ أحدهما بالرواية".
وإذا كان ابن الأثير قد عمل، فى النص التالى المأخوذ من كتابه: "المثل السائر"، على إبراز عجز الحريرى فى مجال الرسائل الديوانية: "وكثيرًا ما رأينا وسمعنا من غرائب الطباع فى تعلم العلوم، حتى إن بعض الناس يكون له نفاذ فى تعلم علمٍ مُشْكِل المسلك صعب المأخذ، فإذا كُلِّف تعلُّم ما هو دونه من سهل العلوم نكص على عقبيه، ولم يكن فيه نفاذ. وأغرب من ذلك أن صاحب الطبع فى المنظوم يجيد فى المديح دون الهجاء، أو فى الهجاء دون المديح، أو يجيد فى المراثى دون التهانى، أو فى التهانى دون المراثى. وكذلك صاحب الطبع فى المنثور: هذا ابن الحريرى صاحب المقامات قد كان، على ما ظهر عنه من تنميق المقامات، واحدًا فى فنه، فلما حضر ببغداد ووُقِف على مقاماته قيل: هذا يستصلح لكتابة الإنشاء فى ديوان الخلافة، ويحسن أثره فيه. فأُحْضِر وكُلِّف كتابة كتاب، فأُفْحِم ولم يجر لسانه فى طويلة ولا قصيرة، فقال فيه بعضهم:
شيخٌ لنا من ربيعة الفرسِ

ينتف عُثْنونه من الهوسِ

أنطقه الله بالمشان وقد

ألجمه فى العراق بالخَرَسِ


وهذا مما يعجب منه. وسئلت عن ذلك فقلت: لا عجب، لأن المقامات مدراها جميعها على حكاية تخرج إلى مخلص. وأما المكاتبات فإنها بحر لا ساحل له، لأن المعانى تتجدد فيها بتجدد حوادث الأيام، وهى متجددة على عدد الأنفاس. ألا ترى أنه إذا خطب الكاتب المُفْلِق عن دولة من الدول الواسعة التى يكون لسلطانها سيف مشهور، وسعى مذكور، ومكث على ذلك برهة يسيرة لا تبلغ عشر سنين، فإنه يدوّن عنه من المكاتبات ما يزيد على عشرة أجزاء، كل جزء منها أكبر من مقامات الحريرى حجما؟ لأنه إذا كتب فى كل يوم كتابا واحدا اجتمع من كتبه أكثر من هذه العِدّة المشار إليها. وإذا نُخِلَتْ وغُرْبِلَتْ واختير الأجود منها إذ تكون كلها جيدة، فيخلص منها النصف، وهو خمسة أجزاء. والله يعلم ما اشتملت عليه من الغرائب والعجائب، وما حصل فى ضمنها من المعانى المبتدعة. على أن الحريرى قد كتب فى أثناء مقاماته رقاعا فى مواضع عدة، فجاء بها منحطة عن كلامه فى حكاية المقامات. لا، بل جاء بالغث البارد الذى لا نسبة له إلى باقى كلامه فيها. وله أيضا كتابة أشياء خارجة عن المقامات، وإذا وُقِفَ عليها أُقْسِم أن قائل هذه ليس قائل هذه، لما بينهما من التفاوت البعيد. وبلغنى عن الشيخ أبى محمد عبد الله بن أحمد بن الخشاب النحوى رحمه الله أنه كان يقول: ابن الحريرى رجل مقامات. أى أنه لم يحسن من الكلام المنثور سواها، وإن أتى بغيرها لا يقول شيئا. فانظر أيها المتأمل إلى هذا التفاوت فى الصناعة الواحدة من الكلام المنثور. ومن أجل ذلك قيل: شيئان لا نهاية لهما: البيان والجمال"، نقول إذا كان ابن الأثير قد قال ذلك فى حق المقامات فقد وضع صلاح الدين الصفدى فى الرد على ابن الأثير كتابا سماه: "نصرة الثائر على المثل السائر". ومن بين ما جاء فى ذلك الكتاب قوله فى التعليل لرواج مقامات الحريرى وشدة تعلق الناس بها وإقبالهم عليها واشتغالهم بأمرها: "وما ذاك إلا أن هذا الكتاب أحد مظاهره تلك الحكايات المضحكة، والوقائع التى إذا شرع الإنسان فى الوقوف عليها تطلعت نفسه إلى ما تنتهى إليه، وتشوقت نفسه إلى الوقوف على آخر تلك القصة. هذا إلى ما فيها من الحكم والأمثال التى تشاكل كتاب "كليلة ودمنة"، وإلى ما فيها من أنواع الأدب وفنونه المختلفة وأساليبه المتنوعة. حكى لى الشيخ فتح الدين محمد بن سيد الناس عن والده أبى عمرو عن أبيه أبى بكر، قال: قلنا لابن عميرة كاتب الأندلس: لأى شىء ما تصنع مثل المقامات؟ فقال: أما الألفاظ فما أُغْلَب عنها، وأما تلك الأكاذيب التى تكذبها فما أُحْسِن أن أضع مثلها. وسمعت القاضى شهاب الدين محمودا رحمه الله تعالى حين قراءة هذا الكتاب عليه يحكى أن القاضى الفاضل رحمه الله تعالى أراد معارضتها، وصنع ثلاث عشرة مقامة عارض كل فصل بمثله، حتى جاء إلى قول الحريرى فى المقامة الرابعة عشرة: اعلموا يا مآل الآمل، وثمال الأرامل، أننى من سَرَوَات القبائل، وسريّات العقائل. لم يزل أهلى وبعلى يحلون الصدر، ويسيرون القلب، ويمطون الظهر، ويولون اليد. فلما أردى الدهر الأعضاد، وفجع بالجوارح الأجساد، وانقلب ظهرا لبطن، نبا الناظر، وجفا الحاجب، وذهبت العين، وفُقِدَت الراحة، وصلد الزَّنْد، ووهت اليمين، وبانت المرافق، ولم يبق لنا ثنيّة ولا ناب. فمذ اغبرّ العيش الأخضر، وازورّ المحبوب الأصفر، اسودّ يومى الأبيض، وابيضّ فَوْدِى الأسود، حتى رثى لى العدو الأزرق، فحبَّذا الموت الأحمر. فقال الفاضل: من أين يأتى الإنسان بفصل يعارض هذا؟ ثم إنه قطع ما كان عَمِلَه من المقامات ولم يظهر. أو كما قال. وناهيك بمن يقول مثل القاضى الفاضل فى حقه مثل هذا، ويعترف له بالعجز. وأما أنا فكلما قرأت هذا الفصل وذكرته أجد له نشوة كنشوة الراح، وبهجة ولا بهجة السارى بطلعة الصباح. وفى أى ترسُّلٍ تجد نظير هذا الفصل الذى له هذه الخفة والطلاوة، ولم تروجه الأسجاع؟
وقد ظلم المقاماتِ من جعلها من باب الترسُّل، والترسل جزء منها. بل هى كتاب علم فى بابه، وبلاغة الرجل تُعْلَم من ذكره لشىء فى غالب مقاماته بالمدح والذم. وهذه هى البلاغة: أن تصف الشىء ثم تذمه، أو تذمه ثم تمدحه، كما فعل فى مقامة "الدينار"، التى فاضل فيها بين كتابة الإنشاء والحساب، والتى ذكر فيها البكر والثيب والزواج والعُزْبَة وغير ذلك. وفصاحته تُعْلَم من أخذه الأمثال السائرة وضَمّها إلى سجعة أحسن منها، كقوله: أعطيت القوس باريها، وأنزلت الدار بانيها، وقوله: تخلصت قائبةٌ من قُوب، وبرىء براءة الذئب من دم ابن يعقوب، وقوله: وهل ضاهت عِدَتُنا عِدَةَ عرقوب، أو بقيت حاجة فى نفس يعقوب؟ وقوله: فلما دل شعاعه على شمسه، ونم عنوانه بسرّ طِرْسه، وقوله: فبقيتُ أَحْيَرَ من ضَبّ، وأَذْهَلَ من صَبّ، وقوله: أنحل من قلم، وأقحل من جَلَم، وقوله: لو كان فى عصاى مسير، ولغيمى مطير، وقوله: طويته على غَرّه، وصُنْتُ شغاه عن فَرّه، وقوله: إنكما فَرْقَدا سماء، وكزَنْدَيْن فى وعاء، وقوله: ليعلم أن ريحه لاقت إعصارًا، وجدوله صادف تيارًا، وقوله: مأرب لا حفاوة، ومشرب لم يبق له عندى طلاوة، وقوله: المُكْنَة زورة طيف، والفرصة مُزْنَة صيف، وقوله: أبعد من رد أمس الدابر، والميت الغابر، وقوله: ما أطول طيلك، وأهول حيلك، وقوله: وكان يوما أطول من ظل القناة، وأحرّ من دمع المقلاة، وقوله: فأخذ يلدغ ويَصْئِى، ويَتّقِح ولا يستحيى، وقوله: أين مدبّ صباك؟ ومن أين مهبّ صَبَاك؟ وقوله: قد وجدت فاغتبط، واستكرمت فارتبط، وقوله: ما ذهب من مالك ما وعظك، ولا أجرم إليك من أيقظك، وقوله: إنك حُمْتَ على ركيّةٍ بكيّة، وتعرضت لخليّةٍ خليّة، وقوله: ما كل سوداء تمرة، ولا كل صهباء خمرة، وقوله: كمن يبغى بَيْض الأَنُوق، ويطلب الطيران من النُّوق، وقوله: أتعلّم أمك البِضَاع، وظئرك الإرضاع؟ وقوله: فلما رأينا نارهم الحباحب، وخبرهم كسراب السباسب، وقوله: إنى لأَطْوَع من حذائك، وأَوْفَق من غذائك. وفيها من هذا النوع كثير أضربت عنه خوف الإطالة.
وما تناهيتُ فى بَثِّى محاسنَه

إلا وأكثرُ مما قلتُ ما أَدَعُ


قال: فإذا ركَّب الله فى الإنسان طبعا قابلا لهذا فيفتقر إلى ثمانية أنواع من الآلات، ثم سَرَدَها. أقول: أما الكاتب فيحتاج إلى حفظ الكتاب العزيز وإدمان تلاوته، ليكون دائرًا على لسانه، جاريًا على فكرته، ممثّلا بين عينى ذاكرته لينفق من سعته، وإلى معرفة اللغة والنحو وإدمان الإعراب ليلا ونهارا حتى يصير له ذلك مَلَكَةً جيدةً، والتصريف والمعانى والبيان والبديع والعروض والقافية والأحكام السلطانية كما ذكر فى كتابه، وشىء من التفسير، وشىء من الأحاديث مثل كتاب "الشهاب" أو كتاب "النجم" للأقليشى، والآثار المنقولة عن الصحابة رضوان الله عليهم وما دار بين الخلفاء الراشدين وعمالهم، وما دار بين على ومعاوية رضى الله عنهما من المحاورات، وتواقيع الخلفاء والوزراء والكتاب، وأمثال العرب، وحفظ جانب جيد من شعر العرب والمخضرمين والـمُحْدَثين وفحول المتأخرين، وحفظ جيد "الحماسة" ومختار "المفضَّلِيّات"، وبعض قصائد "منتهى الطلب" جَمْع ابن ميمون، وما أمكن من التاريخ وأسماء الرجال والحساب، ومراجعات أمهات كتب الأدب، مثل "الأغانى" و"العِقْد" و"البيان والتبيين" و"الذخيرة" و"زهر الآداب" و"أمالى القالى" و"الكامل" للمبرّد و"تذكرة ابن حمدون" وحفظ جانب جيد من المقامات والخطب النباتية، وبعض شعر المتنبى وأبى تمام والبحترى و"سقط الزند" وغير ذلك، وقد اخترت أنا من شعر هؤلاء الشعراء الأربعة فى مجلدة لطيفة، والوقوف على ترسُّل الكتّاب ومراعاة ما قصدوه فى كل فن من التهانى والتعازى والفتوحات ووصايا تقاليدهم وتواقيعهم وأوامرهم ونواهيهم فيها وافتتاحات أدعيتهم فى كل ما يتشعب من طرق الكتابة وكيفية البداءات والمراجعات فى الهدايا والشفاعات والأوصاف وكتب الإخوان وما يجرى هذا المجرى. وهذا باب لا يُغْلَق له مصراع، ولا ينعقد على حصره إجماع. وعلى الجملة فالكاتب يحتاج إلى كل شىء، ولولا أنه لا يلزمه تحقيق كل فن لقلت إنه الذى يعرف الوجود على ما هو عليه، وهيهات. نَعَمْ، الناس متفاوتون فى ذلك، وهم على طبقات: فمنهم من تسنَّم الدرجات، ومنهم من لا نهض من الدركات، وما بين ذلك. ولا بد من المشاركة مهما أمكن، ولو أنه معرفة المصطلح لكل صاحب فن، وإذا أكمل مواده أو قارب الإكمال فمعرفة مصطلح الديوان فى المكاتبات من معرفة الألقاب والنعوت وما يجرى هذا المجرى. فإن هذا معرفته مع المباشرة فى أقل من جمعة يتصوره ويدريه، وهو مما لم يتقرر قاعدته، لأنه يختلف باختلاف كل زمان وأهله. وهذا لا عبرة به، فإنه أسهل ما يعرفه".
وفى موضع آخر من ذات الكتاب يمضى الصفدى منافحا عن "المقامات" فيقول إنها "يتداولها الناس، ويتعاطَوْن كؤوسها، ويتمثلون بأبياتها وأسجاعها، ويكرّون عليها من أولها إلى آخرها، ويبحثون عن عوراتها، وينقبون عن مساوئها، فلا يجدون فيها مغمزا، ولا يقعون فيها على مطعن، بل تصفو على السبك، وتجود على الاستعمال.
ويزيدها مَرُّ الليالى جِدّةً

وتقادمُ الأيام حُسْنَ شبابِ


على أن ابن الخشاب رد عليه أُلَيْفاظًا يسيرةً، وأجابه المسعودى عنها. وابن الخشاب أصاب فى القليل من القليل، وتعنت فى كثير القليل. وكذلك ابن برى وضع عليها نكتا يسيرة. وناهيك بكتاب اشتهر، وضُرِب به المثل، وأصبح إحدى الأثافى فى عِلْم الأدب، وأصبحت ألفاظه ومعانيه حجة، ونقلت بها النسخ عدد حروفها.
وسار مسير الشمس فى كل موضعٍ

وهبّ هبوب الريح فى البرِّ والبحرِ


وما رأيتُ ولا سمعتُ بمن أخذ جزءا من ترسُّلٍ، وقرأه على شيخ وحفظه وطلب به الرواية وعلَّق عليه حواشِىَ لغةٍ وإعرابٍ ومعانٍ. وقد وضع الناس الشروح المبسوطة على المقامات، مثل المسعودى، فإن له عليها شرحين، والمطرز وابن الأنبارى وأبى البقاء وغيرهم. ولقد رأيت بعضهم يزعم أنها رموز فى الكيمياء. ويُحْكَى أن الفرنج يقرأونها على ملوكهم بلسانهم ويصورونها ويتنادمون بحكاياتها. وما ذاك إلا أن هذا الكتاب أحد مظاهره تلك الحكايات المضحكة، والوقائع التى إذا شرع الإنسان فى الوقوف عليها تطلعت نفسه إلى ما تنتهى إليه، وتشوقت نفسه إلى الوقوف على آخر تلك القصة. هذا إلى ما فيها من الحكم والأمثال التى تشاكل كتاب "كليلة ودمنة"، وإلى ما فيها من أنواع الأدب وفنونه المختلفة وأساليبه المتنوعة".
وعلى ذات الوتيرة يُثْنِى الصفدى على المقامات فى كتابه الآخر: "أعيان العصر وأعوان النصر" مشيرا إلى براعة تصرف مبدعها فى القول حتى إنه ليستطيع أن يؤدى المعنى المعتاد الواحد فى كل مرة بعبارة جديدة: "وقد استعمل الحريرى رحمه الله هذا فى مقاماته، فهو فى كل مرة يجتمع فيها الحارث بن همام بأبى زيد ويحتاج إلى أن يقول: "فلما أصبح الصبح" تراه يعبر بعبارة عن هذا المعنى بغير عبارته الأولى: فتارة قال: فلما لاح ابن ذُكَاء، وألحف الجوّ الضياء. وتارة قال: إلى أن أطلّ التنوير، وحَسَر الصبح المنير. وتارة قال: حتى إذا لألأ الأفقَ ذَنَبُ السِّرْحان، وآن انبلاج الفجر وحان. وتارة قال: إلى أن عطس أنف الصباح، ولاح داعى الفلاح. وتارة قال: فلما بلغ الليل غايته، ورفع الصبح رايته. وهذا كثير فى مقاماته، وهو من القدرة على الكلام".
وبَيِّنٌ أن إعجاب الصفدى بالمقامات هو إعجاب شديد. يلمس القارئ ذلك لمسا فى هذه اللمحات الانطباعية التى أشارت إلى ما فيها من تشويق جبار وبراعة فى استعمال اللغة كجواهرى خبير فى التعامل مع اللؤلؤ والمرجان والذهب والألمالس والياقوت والفيروز وكيفية التزيين بها.
وتحدث الصفدى أيضا فى ترجمة أحد مشايخه، وهو محمود بن سليمان بن فهد، عن قراءته "مقامات" الحريرى عليه فقال: "وكنتُ قد قرأت عليه "المقامات الحريرية" وانتهيت منها الى آخر المقامة الخامسة والعشرين فى سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة، فكتب هو عليها: قرأ علىَّ المولى الصدر فلان الدّين، نفعه الله بالعلم ونفع به، من أوّل كتاب "المقامات" الى آخر الخامسة والعشرين قراءةً تُطْرِب السامع، وتأخذ من أهواء القلوب بالمجامع، وسأل منها عن غوامضَ تدلّ على ذكاء خاطره المتّقد، وصفاء ذهنه العارف منه بما ينتقى وينتقد. ورويتها له عن الشيخ الإمام مجد الدين أبى عبد الله محمد بن أحمد بن الظهير الظَّهِير الإربلى. وساق سنده الى الحريرى. ثم إنه كتب لى على آخرها، وقد أكملت قراءتها عليه بدمشق فى ثانى عشر شهر الله المحرّم سنة أربع وعشرين وسبع مئة: قرأ علىَّ المولى الكبير الرئيس العالم الفاضل المُتْقِن المجيد نظمًا ونثرًا، المحسن فى كل ما يأتى به من الأنواع الأدبية بديهةً وفكرًا، فلانُ الدين نفعه الله بالعلم ونفع به كتاب "المقامات الحريرية" قراءة دلّت على تمكنه من علم البيان، واقتداره على إبراز عقائل المعانى المستكنّة فى خدور الخواطر مجلوّة لعيان الأعيان. وإنه استشفّ أشعة مقاصدها بفكره المتّقد، وفرّق بين قيّم فرائدها بخاطره المنتقد، فما تجاوز مكانًا إلا وأحسن الكلام فى حقيقته ومجازه، ولا تعدّى بيانًا إلا وأجمل المقال فى تردد البلاغة بين بسط القول فيه وإيجازه". وقد "اعتنى بشرح المقامات أفاضل العلماء شروحا متنوعة تفوق الحصر والعد" على ما يقول عبد القادر البغدادى فى "خزانة الأدب ولُبّ لُبَاب لسان العرب". ومدح صاحبها مدحا شديدا فقال: "كان أحد أئمة عصره، ورُزِق السعادة والحظوة التامة فى عمل المقامات، واشتملت على شىء كثير من كلام العرب من لغاتها وأمثالها ورموز أسرار كلامها. ومَنْ عَرَفَها حق معرفتها استدل بها على فضله وكثرة اطلاعه وغزارة مادته. رُوِى أن الزمخشرى لما وقف عليها استحسنها، وكتب على ظهر نسخةٍ منها:
أُقْسِم بالله وآياته

ومَشْعَر الحج وميقاته

أن الحريرىّ حرىٌّ بأن

نكتب بالتبر مقاماته


ثم صنع الزمخشرى المقامات المنسوبة إليه، وهى قليلة بالنسبة إليها، وشرحها أيضا، وصنع فى إثرها نوابغ الكلم. وقد اعتنى بشرح المقامات أفاضل العلماء شروحا متنوعة تفوت الحصر والعد".
ثم هذا هو ما يقوله ابن الصيقل الجزرى (ت701هـ) عن "المقامات الزينية"، التى حبَّرها بقلمه: "تشتمل على كل رجب من الجد الطريف، وكل ضرب من الهزل الظريف، وكل مرصَّع من النثر المنيف، وكل مصرَّع من الشعر اللطيف، وكل زهو من المحض المليح المليح، وكل حلو من الحَمْض الصريح الفصيح، وأودعتها من لطائف الأجناس، ونفائس الجوهر المنزه عن ثقب الماس، والجمان الناشر رمام الأرماس، والمرجان المطهَّر عن طَمْث مجاورة الأمراس، ما يفوق غوارب البحور، ويروق درر نحور الحور، وضمّنتها من الآيات المحكمات، والأخبار المسندات، وعرائس المذاكرات، وغرائس المناظرات، ومن العظات ما يسيل الدموع، ومن الزاجرات ما يحيل الهجوع، ومن المضحكات ما يضحك الموتور، ومن الملهيات ما يهتك المستور، ومن المفاكهات ما يشرح الصدور، ومن المنافثات ما يبرئ المصدور، ومن الرسائل ما يستهل السول، ومن المسائل ما يفحم المسؤول، ومن البدائع ما يسلب العقول، ومن الغرائب ما يطرب العقول، ومن الخطب اللطيفة، والنخب الوريفة، ومن محاسن الأمثال، ومعادن السحر الحلال، الجلى المنثال، الخلى عن المثال والتمثال، ومن العبارات الحسنة، والحكايات المستحسنة، والمقاصد البالغة الرضية، والقواعد السائغة الفرضية، والأفانين الصادحة الأدبية، والقوانين الواضحة الطبية، ومن النكت الفقهية، والأصول المتداوَلة النحوية، وحلَّيْتها باللؤلؤ المنثور، وأخليتها من شطر المعمّى للحديث المأثور".
وقرأت فى "عجائب المقدور فى أخبار تيمور" لابن عرب شاه عن أهمية كتابه هذا ما يلى: "وفائدة هذه الحكايات تنبيه أشرف جنس المخلوقات، وألطف طائفة المكونات، وهو نوع الإنسان، الذى اختصه الله تعالى بأنواع الإحسان، وأيده بالعقل، وأمده بالنقل، على أنه إذا كان هذا الفعل الجليل يَصْدُر فى التنظير والتمثيل من أخسّ الحيوانات، وما لا يعقل من الموجودات، فلأَنْ يَصْدُر من أُولِى النهى وأُولِى الفضل والمكارم والعُلَى، أولى وأحرى، لا سيما من رفع الله فى الدنيا مقداره، وأعلى على فم الخلائق مناره، وحكّمه فى عبيده المستضعفين، واسترعاه على رعيةٍ سامعين مطيعين، وسلطه على دمائهم وأموالهم، وبسط يده ولسانه فى رفاهيتهم ونكالهم. والأصل فى هذا كله قولُ مَنْ عَمّ عبيدَه بفضله، وبقوله اهتدى العالمون: وتلك الأمثال نضربها للناس، وما يعقلها إلا العالِمون".
حتى "ألف ليلة وليلة"، التى يظن كثير من كتاب عصرنا أنها كانت مستصغرة الشأن قد كتب عنها وساق قصة دخولها ميدان الأدب العربى ابن النديم فى كتاب "الفهرست". وكان الكتاب رائجا شاسع الرواج، وأقبلت عليه طبقات كثار من قراء العرب القدماء والمحدثين جيلا بعد جيل فى إعجاب واله. وبطبيعة الحال لا ننتظر من طبقات الناس جميعا الإعجاب بكل عمل قصصى، إذ لكل شخص أو طبقة ذوقها: فناس الآن تقبل على أعمال نجيب محفوظ مثلا ولا تطيق أن تقرأ ليوسف السباعى أو ثروت أباظة. والقراء يعرفون عنى أنى لا أرى قيمة تذكر لأعمال جمال الغيطانى أو يوسف القعيد أو سلوى بكر أو يحيى الطاهر عبد الله أو سليمان فياض أو عبد الرحمن المنيف. فبنفس العين ينبغى أن ننظر إلى "ألف ليلة وليلة" إن كان هذا ما يقصده د. عبد الله إبراهيم.
وبالمناسبة فهذه الدعوى التى ادعاها صاحبنا من أن الكُتّاب العرب القدماء كانوا يحقرون من شأن الفن القصصى تذكرنا بما قيل عن موقف المثقفين والكتاب من فن الرواية فى بدايات العصر الحديث. ذلك أن بعض مؤرخى هذا الفن قد أشاعوا أنه كان محتقرا عند العرب فى تلك الآونة مستدلين على ذلك بعدم ذكر د. محمد حسين هيكل اسمه على غلاف روايته: "زينب" والاستعاضة عن ذلك بكلمة "مصرى فلاح"، وبالمقدمة التى كتبها فتحى باشا زغلول لترجمة كتاب ديمولان عن سر تقدم الشعب الإنجليزى، الذى يبدو أنه قد أثار أشجانه جَرّاء الأوضاع المتردية فى مصر فى ذلك الحين، إذ كان يتمنى لو أن المصريين كانوا أوعى بخطورة أمورهم، ومن هنا علت صيحته بالشكوى من إهمالهم العلومَ التى لا غنى عنها لأية أمة تريد أن تتقدم، ومن هنا أيضا رأيناه يبدى ضيقه بانتشار ترجمة الروايات بدل المؤلفات العلمية. وكان ردى على أولئك النقاد أن هذا كلام غير دقيق أو صحيح، فمنذ بداية عصر النهضة ألفينا رفاعة يترجم رواية فرنسية للقس فينيلون ويكتب مقدمة لها محبذا هذا الفن وممجدا له ولافتا الأنظار إلى ما له من فوائد تثقيفية. كما وجدنا عائشة التيمورية تجرب قلمها فى هذا المضمار، وكذلك على باشا مبارك واضع "علم الدين"، وأحمد شوقى، الذى خلف وراءه عددا من الروايات، ومثله جرجى زيدان صاحب أكثر من عشرين رواية، وإبراهيم رمزى مؤلف "باب القمر" وغيرها، وحافظ إبراهيم مترجم "بؤساء" فكتور هيجو وواضع "ليالى سطيح"، والمنفلوطى الذى أعاد صياغة بعض الترجمات الروائية والمسرحية الفرنسية وألف بعض القصص القصيرة، ومحمود طاهر حقى كاتب "غادة دنشواى"، ومحمد لطفى جمعة، ويعقوب صروف، وله أكثر من عمل قصصى، وهيكل مؤلف "زينب"، وفرح أنطون كاتب "العلم والدين والمال"... وهلم جرا. كما أن محمد عبده وعبد العزيز جاويش كانا يشجعان كتاب الرواية المعروفين لهما على التأليف فى هذا المجال. وبالمثل ألفينا أحد الروائيين النصارى، وهو عبد المحسن أنطاكى، يهدى قصته: "فتاة إسرائيل"، التى أصدرها فى ذلك الحين، إلى بطريرك الأرثوذكس المصريين... وذلك فى مصر فقط، علما بأننى لم أذكر هنا سوى عينة محدودة من الشواهد الدالة على عكس ما كان ولا يزال يردده المرددون حول تلك القضية حتى الآن. وهذا موجود فى الباب الأول من كتابى: "نقد القصة فى مصر 1888- 1980" المترجم من الإنجليزية إلى لغة القرآن.
وفى الصفحة الحادية عشرة من الجزء الأول من "موسوعة السرد العربى" يقول المؤلف ما نصه: "اقترنت دلالة السرد فى اللغة العربية بالنسج وجودة السبك وحسن الصوغ والبراعة فى إيراد الأخبار وفى تركيبها". فأما اقتران دلالة "السرد" فى لغة الضاد بالنسج فصحيح، لكن ارتباطها بجودة السبك وحسن الصوغ والبراعة فى إيراد الأخبار وفى تركيبها فلا. ذلك أن السرد كلمة محايدة، أى تعنى النسج فقط، ثم سواء يعد ذلك أكان النسج جيدا أم رديئا، حسنا أم قبيجا، وبارعا أم متهافتا. ولو كان السرد بطبيعته، كما هو واضحٌ بَيِّنٌ فى كلام د. عبد الله إبراهيم، ما قال الله لداود: "قَدِّرْ فى السَّرْد"، أى جَوِّده وأَحْكِمْه، وهو ما يعنى أن السرد قد يكون "مقدَّرا"، أى محكما، وقد لا يكون، ولكان يكفى أن يقول له: "اسْرُدْ" فقط. و فى الحديث من كلام عائشة أم المؤمنين نقرأ: "كان كلامُ النَّبى ﷺ فَصْلا يَفْقَهُه كلُّ أحدٍ. لم يكنْ يَسرُدهُ سَردًا". ففى هذا الحديث نجد السرد قد جاء فى سياق الانتقاد والمؤاخذة.
وفى الصفحتين 13- 14 نجد الكاتب يقول إن "الرسالة السردية (يقصد أحداث الرواية وأشخاصها وما تتضمنه من زمان ومكان وحبكة وما إلى ذلك حسب الرطانة الجديدة المربكة التى يتشدق بها نقادنا الجدد متابعة منهم لما يقال فى النقد الغربى كى يجلبوا على القارئ إجلابا شديدا ويلقوا فى نفسه الرعب رغم بساطة الأمر) هى مناقلة أفعال متخيلة بين الاثنين: الراوى والمروى له (أى بين الكاتب مباشرة، وهو ما نسميه بالراوى الكامل العلم، أو الراوى المحدود العلم، وهو واحد من أشخاص القصة يرى الأحداث والأشخاص وما يتعلق بهما من زاوية واحدة، أى بعينه وحدها، وبين القارئ)". والتعبير بـ"المناقلة" يستلزم أن يكون هناك طوال القراءة أخذ ورد بين الكاتب والقارئ، فيشرع الكاتب فى تأليف قصته فاتحا الهاتف أو الماسنجر أو الواتس أب انتظارا لتعليقات القارئ على هذا الذى يكتب أولا بأول ليقوم الأخير بإرسال رأيه فيما قرأ راضيا عنه أو ساخطا عليه مقترحا القيام بهذا التغيير أو ذلك، ليستجيب له الكاتب محدثا التغييرات التى ارتآها القارئ أو يجادله فيما يقول مدافعا عن نفسه ومسوغا مجىء الأحداث وتصوير الأشخاص على هذا النحو... وهكذا دواليك، إلى أن تنتهى القصة إن أمكن فى هذه الحال أن يكون لها نهاية. وهذا غير صحيح، فالكاتب يكتب قصته ثم ينشرها ويقرؤها القارئ، ليرضى أو يسخط: فإن كان قارئا عاديا لا علاقة له بالمؤلف انتهى الأمر عند هذا الحد، وإن كان ناقدا أو له علاقة بالكاتب فإنه يعلن رأيه فيما قرأ، وقد يرى فيه الكاتب وجاهة فيضعه فى ذهنه ويستفيد منه فى أعماله القادمة، أو يرى فيه انحرافا عن القصد نتيجة لغباء فى القارئ أو لكراهية يضمرها له... فيهمله ويبقى على موقفه.
وإلى القارئ الآن ما تقوله المعاجم عن الفعل "ناقَلَ يُناقِلُ مناقَلة" فى ذات السياق المستخدَم فيه هنا حتى يطمئن إلى ما قلته عن استعمال المؤلف له: "ناقَلَ فلانٌ فلانًا الحديثَ: نقل كل منهما إلى الآخر ما عنده منه. ناقَلَه الأقداحَ فى مجلس الشراب: ناوله إياها وتناولها منه".
كذلك فالقصة ليست كلها بالضرورة أفعالا وأقوالا وأشخاصا وأزمانا وأمكنة (لا أفعالا فحسب كما يقول المؤلف) متخيلة بل كثيرا ما يكون فيها من الوقائع والحقائق والأشخاص والأقاويل والأوصاف الكثير، وقد يكون معظمها مستقى من الواقع، والواقع المباشر، وذلك حسب ظروف كل قصة. فكما نرى فإن الأمر بين الكاتب والقارئ هنا وفى كل الكتابات الأخرى ليس أمر مناقلة بل أمر إرسال من الأول وتَلَقٍّ من الثانى، إذ يكتب أولهما ما يكتب ثم ينشره، ويتلقف ثانيهما ما كُتِبَ ويقرؤه. وأما رد فعله تجاه ما قرأ فلا يدخل فى باب المناقلة بل هو رد فعل عادى كأى رد فعل تجاه أى شىء أو حدث آخر لا مناقلة فيه. وليرى القارئ الوضع بوضوح أكثر أقول إن معظم ما نقرأ هو ما نقرؤه لمؤلفين قد ماتوا وشبعوا موتا، وقد يكونون غادروا الحياة منذ مئات السنين أو آلافها فلا تواصل بين الطرفين ولا يحزنون لأن الموتى لا يناقلون ولا يشعرون، إذ يقوم البرزخ بين الجانبين فيمنع كل تواصل بينهما، وإلا فبالله كيف يتم التواصل أصلا، فضلا عن المناقلة، بيننا وبين مبدعى القصص المصرى القديم أو مؤلفى الكتاب المقدس أو هوميروس أو ابن المقفع أو الجاحظ أو الأصفهانى أو الهمدانى أو الحريرى أو القاضى التنوخى أو واضعى "ألف ليلة وليلة" أو أونوريه دى بلزاك أو فلوبير أو جين أوستن أو إيميلى برونتى أو يعقوب صروف أو حتى نجيب محفوظ مثلا أيا كان نوع هذا الاتصال؟
وفى الصفحات التاسعة عشرة إلى الحادية والعشرين من الجزء الذى نحن بصدده نطالع ما يلى: "تكشف مراجعة الدراسات السردية للأدب العربى القديم والحديث أمرا لافتا للنظر له صة مباشرة بالحراك الثقافى العام، فقد قوبلت السردية بالترحاب والرفض معا، ومر وقت طويل قبل أن تتخطى بعض الصعاب وتراوغ سوء الفهم وتنتزع شرعيتها فى الأوساط الثقافية والأكاديمية. وإذا عدنا إلى تاريخ السردية خلال العقدين الأخيرين من القرن العشرين لوجدنا انشطارا فى المواقف حولها: فمن جهة أولى نقلت السردية النقد من مستوى الانطباعات الشخصية والتعليقات الخارجية والأحكام الجاهزة إلى مستوى تحليل الأبنية والأساليب والدلالات ثم تركيب النتائج فى ضوء تصنيف دقيق لمكونات الخطاب السردى. وبذلك تكون قدمت قراءة مغايرة للمادة السردية، إذ أحكمت موضوعها، وحددت أهدافها، وتوغلت فى عمق النصوص.
ومع ذلك فقد حامت شكوك غزيرة حول قدرتها على تحقيق وعودها النقدية، فكثير من الدراسات المحسوبة عليها وقع أسير الإبهام والغموض والتعجل والتلفيق والاختزال والتطبيق المدرسى للتحليلات الجاهزة على النصوص السردية بدون الأخذ فى الحساب السياقات المتفاوتة فيما بينها والتباين فى استخدام المفاهيم، ولم يُلْتَفَتْ إلى الاختلاف فى بنيات الأنواع السردية كالخرافة والمقامة والحكاية الشعبية والرواية والقصة القصيرة، فأُجْرِىَ عليها تحليل متماثل لم يراع خصائصها النوعية ولا عصورها مما بذر شكا فى القيمة النقدية والمعرفية لتلك الدراسات.
وفى ضوء علاقة النقاد العرب الشائكة بالسردية فقد انصب كثير من اهتمامهم على المفاهيم المجردة والأخذ بالنماذج التحليلية الجاهزة التى يلوذون بها دائما ثم الإفراط فى التصنيفات والإغراق فى الجزئيات والتفريعات والمبالغة فى تعميم النتائج مما طعن التنوعات الخلاقة للنصوص السردية وثَلَمَ من قيمتها الفنية. ونَدَرَ أن بُذِل جهد نقدى معمَّق غايته بيان تركيب النصوص واستنطاقها وتأويلها والنظر إليها بوصفها مدوَّنات تخيلية متضافرة العناصر ومشمولة بدلالة كلية ومحكومة ببناء عام ضمن سياق ثقافى معين. فالأكثر وضوحا كان استخدام النصوص بوصفها أدلة لإثبات صدق الفرضيات النظرية الجاهزة، وليس توظيف إمكاناتها لاستكشاف الخصائص الأدبية لتلك النصوص، إذ قُلِبَت الأدوار، وأصبحت النصوص دليلا على أهمية النظرية، فهى التى تضفى عليها المصداقية وتمنحها شرعية التحليل...
وعلى الرغم من ذلك فقد أنجزت السردية مهمة جليلة فى النقد العربى الحديث، إذ خلخلت ركائزه التقليدية وأبطلت مسلماته من شروح وتعليقات وأحكام وخلصته من الانشغال بالحيثيات الخارجية للنصوص ودفعت برؤية جديدة لعلاقة النقد بالأدب، فأزاحت الانطباعات الذاتية إلى الوراء وضخّت بمفاهيم جديدة إلى الممارسة النقدية، وفى بعض الأحيان قدمت أمثلة تحليلية جيدة ينبغى أن يُنْظَر إليها بعين التقدير. وحالة الاضطراب التى رافقت دخول السردية إلى النقد العربى الحديث أمر متوقع فى ثقافة تموج بالمتناقضات، ولم تفلح بعدُ فى تطوير حوار عميق بين مواردها المتعددة. وكل ذلك من المقدمات اللازمة لتكييف المعارف الإنسانية وإعادة إنتاجها بما يفيد الأدب العربى ويقود لاحقا إلى ابتكار أفكار جديدة".
والحق أن اتّباع النقاد لما يقوله د, عبد الله إبراهيم ونظراؤه كفيل بالمباعدة بيننا وبين ابتكار أى شىء جديد. فهو، فيما تنبهت إليه سواء فى كلامه هنا أوفى جامعة قطر حيث سمعته يتكلم ويردد مصطلحات "المركزية الأوربية والمتن والهامش" وما إلى ذلك، تابع أصيل لما يُنْقَل عن الفكر والنقد الغربى لا سبيل له إلى البرء من ذلك بأى حال، ولا يمكنه تشغيل عقله خارج هذا القفص الحديدى الضاغط بكل قواه على دماغه، إذ هو يمشى على العجين لا يلخبطه أبدا شأن كل تابع لخطوات غيره لا يفكر فى الاستقلال عنه.
والحق أيضا هو أن العيوب التى أخذها على النقد السردى ليست عيوبا طارئة أو عارضة بل هى متأصلة فى ذلك النقد المتهافت الذى يَحْسَب، لسطحيته وضيق أفقه، أن النصوص القصصية وغيرها إنما أبدعها (أو فلنقل: "أنتجها" كما يقول أحبابنا البُعَداء) أصحابها لا لنستمتع نحن القراء والسامعين بها ونوسع ونعمق حدود إنسانيتنا وشعورنا بالحياة والمخلوقات من حولنا بل لنحللها، ونحللها فحسب. فهو كمن يتصور أن السيارة والقصر واللوحة التصويرية قد "أنتجها" مبتكروها لكى نفكها ونعرف أجزاءها لنقول كما يقول الأطفال والصبيان: يا حَلُولِّى! انظروا: لقد استطعنا فك "البَظِل" وتركيبها مرة أخرى. ألسنا أولادا شطُّورين؟ وهذا، والحق يقال، تيبس فى الفكر والفهم والشعور. وليس غريبا أنه فى بعض مناهج هذا النقد الحداثى كان النقاد (أقصد المسمَّيْن: نقادا، وما هم بنقاد. إنما هم جماعة من النصابين لاعبى الثلاث ورقات!) يملأون صفحات ما يكتبون بالأشكال والرسوم الهندسية من دوائر وأسهم ومثلثات وزوايا ولا أدرى ماذا أيضا، فضلا عن إمطار القارئ بأسماء "مدرسة فرانكفورت، وجماعة فارسوفيا، وحلقة لا أدرى ماذا" وما أشبه مما يضاف إلى هذه المدينة أو تلك الجامعة فى بلاد الغرب حتى جعلوا النقد نشارة خشبية على القارئ أن يتجرعها دون أية ثمرة سوى الشعور بالغثيان.
وهم، فى هذا، يذكروننى بأولئك المدرسين المساكين الذين يتخيلون أن كل ما يراد من تحليل النصوص الأدبية هو إجراء الاستعارة أو التشبيه أو الكناية، فتراهم فى تحليل الاستعارة مثلا يكرون الكلام كرا قائلين: شَبَّه الشاعرُ كذا بكذا، ثم حذف أداة التشبية والمشبَّه به وأتى بشىء من لوازمه فأضافه إلى المشبَّه، ثم يفركون أكفهم فى حبور وانتشاء ويلتفتون يمينا ويسارا بحثا عن لمعات عيون الجماهير المفتونة بالعلم اللدنى والبلاغة الرفيعة ظانين أنهم قد أتوا بالذئب من ذيله.
والحق للمرة الثالثة على التوالى هو أن النقد إذا فشل فى أن يُعِيشك فى الجو الذى عاشه المبدع وهو يكتب روايته أو رحلته مثلا فليس بنقد. وبناء على هذا لست أرى النقد يستحق هذا الاسم إن خلا من العنصر الانطباعى، أى مزج ذاتية الناقد بما يكتب. فهذا ما يُكْسِب نقده إنسانية ودفئا. إننا فى النقد لسنا ندرس موضوعا كيميائيا أو جيولوجيا مثلا بل نطالع ذوب فؤاد المبدع. وحرام علينا عندئذ أن نتلقى إبداعه المقبوس من نار قلبه بهذا التخشب القاتل.
إن أولئك النقاد (الحداثيين من فضلك) يشبهون الميكانيكى الذى يقف أمام سيارة من طراز طريف لم يشاهدها أحد من قبل، وبدلا من التأمل فى جمالها وروعتها وأناقتها ولمعان طلائها وانسيابية جريها على الطريق ودقة عمل كوابحها وما توفره لراكبها من دفء فى الشتاء وانتعاش فى الصيف ونقل ذلك للقارئ نقلا حيا نراه يبذل كل جهده فى تسجيل طولها وعرضها ونوع الجلد الذى كسيت به مقاعدها وصنف المعدن الذى صنعت منه آلاتها... إلخ مكتفيا بهذا ومعلنا بصوت مدوًٍّ مفعم بالرضا عن الذات بأنه قد قام بواجبه فى تذوق السيارة وإسالة ريق الجماهير حتى لكأنهم قد ركبوها واستمتعوا بأنفسهم بها، أو يشبهون رجلا رأى امرأة ساحرة الجمال بالغة الأناقة فاتنة الصوت تجن بدلالها ورقتها وسلوكها الرائع جنس الرجال، وعوضا عن وصف وقع جمالها وسحرها وفتنتها على قلبه نُلْفِيه يكتفى برصد مقاييس طولها وعرضها وخصرها وثمن فستانها، ثم يظن أنه قد قام بواجبه فى نقدها وتقدير حسنها.
وأذكر أنى قرأت ليحيى حقى كتيبا وأنا شاب عنوانه "تعال معى إلى الكونسير"، فجعلنى أتذوق تلك التجربة على السماع جراء وصفه الأدبى الفكه الممتع للآلات الموسيقية وحركات قائد الفرقة العجيبة على نحو لم يفلح مثله ولا عشر معشاره د. حسين فوزى فى برنامجه الإذاعى فى ذلك الزمان الذى كان يحلل فيه قطعا من "الموسيقى العالمية" تحليلا باردا، وبخاصة أن نطقه للكلام كان يغلب عليه التصنع وتعمد الغرابة إذ كان يخرج كثيرا من الألفاظ من أنفه كى يكون خواجه مثل مؤلفى تلك الموسيقى.
وكان هناك فى شبابى مذيع لمباريات كرة القدم فى إذاعة الإسكندرية هادئ هدوء الموت يصف المباراة وصفا واهنا كأنه يخاف أن يصحو المستمعون. وتكون الكرة قد اقتربت من مرمى الخصوم بين قدمى أحد المهاجمين المشهورين ببراعتهم فى إحراز الأهداف الصعبة العجيبة التى تثير الجنون فى عقول الجماهير، وصاحبنا سادر فى هدوئه وسكونه وبرود أعصابه فى وصف ما يجرى على أرض الملعب ليفاجأ المستمعون به ينبئهم بنبرته الفاترة بأن الكرة قد دخلت الشبكة وكأنه يقول لواحد غريب مر بجواره: "سلام عليكم" مخافتا بها كارها لتلفظها. أفيمكن أن يكون وصف مثل هذا المذيع للمباريات الكروية كوصف الكابتن لطيف أو ميمى الشربينى أو حسين مدكور لها، ودعنا من وصف مذيعى أمريكا الجنوبية، الذين تتصور وأنت تسمعهم يصفونها بأنهم قد جُنُّوا جراء عشقهم لها وتحمسهم فى وصفها جنونا؟
إننى أحب أن أقرأ للدكتور النويهى والدكتور محمد مندور والدكتور زكى مبارك والدكتور طه حسين والأستاذ المازنى والأستاذ العقاد بسبب هذا العنصر الانطباعى الذى يخلو منه النقد الحداثى، ومع هذا يحسب أصحابه الحداثيون اللواذعة العباقرة أنهم قد بلغوا الذروة فى التعامل النقدى مع الأعمال الأدبية بتصييرهم إياها علوما رياضية أو طبيعية. إن السطحيين التافهين يظنون أن النقد الانطباعى هو حجة الجاهلين بأصول النقد مع أن أولئك الانطباعيين قد أَوْفَوْا على الغاية فى هذا المضمار، فقد مضغوا النقد وبلعوه وأكلوه وهضموه وصار يجرى فى عروقهم مع دمائهم حتى ليتنفسونه تنفسا يُعْدِى من يقرأ لهم فينفعل انفعالهم ويجد من التلذذ به ما وجدوه بعدما فهم العمل الأدبى جيدا. وفى كل الأحوال فإن هؤلاء النقاد الانطباعيين يمزجون انطباعاتهم بمراعاة قواعد النقد التى يعرفونها أكثر من غيرهم، ولكن الفرق بينهم وبينه يتمثل فى أنه يسرد تلك القواعد سردا آليا ويطبقها تطبيقا جامدا كأنه إنسان صناعى لا إحساس عنده ولا عاطفة مثل لوح الثلج. والعجيب أن هذا النوع الخامد من النقاد يعيب نقاد العقل والشعور. ترى هل يمكن أن يتساوى من يقدم لنا قشر البرتقال بمن يتحفنا بعصيره؟ وبالمناسبة أقول للقارئ إننى رغم ما قلته عن استمتاعى بكتابات أولئك النقاد لا أتفق مع كثير مما لبعضهم من أفكار: النويهى ومندور وطه حسين على وجه التحديد!
وهناك أيضا دعوى د. عبد الله إبراهيم بأن النقد، قبل أن يهل هلال السردية التى يقودها هو وأمثاله من أراكين الحرب فى غرفة عمليات الحداثة وهم يمتطون أحصنة خشبية من التى يركبها الأطفال فى الموالد والأعياد وفى يد كل منهم عصا بدائية يلوح بها فى الهواء كما يلوح الفارس بسيفه، لقاء رغيف خبز، كان قابعا فى الحضيض على ما يصوره كلامه المارّ لتوّه: "وعلى الرغم من ذلك فقد أنجزت السردية مهمة جليلة فى النقد العربى الحديث، إذ خلخلت ركائزه التقليدية وأبطلت مسلماته من شروح وتعليقات وأحكام وخلصته من الانشغال بالحيثيات الخارجية للنصوص ودفعت برؤية جديدة لعلاقة النقد بالأدب، فأزاحت الانطباعات الذاتية إلى الوراء وضخّت بمفاهيم جديدة إلى الممارسة النقدية، وفى بعض الأحيان قدمت أمثلة تحليلية جيدة ينبغى أن ينظر إليها بعين التقدير. وحالة الاضطراب التى رافقت دخول السردية إلى النقد العربى الحديث أمر متوقع فى ثقافة تموج بالمتناقضات، ولم تفلح بعدُ فى تطوير حوار عميق بين مواردها المتعددة. وكل ذلك من المقدمات اللازمة لتكييف المعارف الإنسانية وإعادة إنتاجها بما يفيد الأدب العربى ويقود لاحقا إلى ابتكار أفكار جديدة".
فأما أنها خلخلت ركائزه التقليدية فلا مشاحّة كبيرة فى ذلك، إذ أنبتت لنا باحثين وكتابا لا يكتبون فى كثير من الأحيان شيئا مفهوما بل يسودون الصفحات بأشياء غير قابلة للفهم، ومكان أصحابها اللائق بهم هو مستشفيات الأمراض العقلية أو عيادات تأهيل الأطفال البُكْم لتعليمهم كيف ينطقون وكيف حين ينطقون يقولون كلاما واضحا مفيدا، أما حين يكتبون شيئا قابلا للفهم فهم سطحيون يطبقون النقد الحداثى تطبيقا آليا لا روح فيه، ويقدمون للقارئ أمثلة تافهة مثلهم. والدكتور الكاتب هو نفسه يقول هذا كما قرأنا منذ قليل.
ودائما ما أقول لطلابى، سواء فى مرحلة الليسانس أو مرحلة الدراسات العليا، إن ترديدهم مصطلحات النقد الجديد فى حد ذاتها لا يقدم ولا يؤخر بل المطلوب منهم هو فهم المناهج النقدية الحديثة وهضمها جيدا ثم الاجتهاد فى تطبيقها تطبيقا سليما فى ضوء إحاطتهم بمحاسن كل منهج ومعايبه وهل يقدم دماء جديدة فعلا أم إن الأمر لا يعدو أن يكون رغاوَى وفقاقيعَ صابونيةً. لكن نادرا ما ينجح الباحثون فى مرحلة الماجستير والدكتوراه فى الوفاء بهذه المتطلبات. فما العمل؟ إنهم من الناحية الشكلية قد درسوا المناهج الجديدة، بيد أنهم من ناحية الواقع الفعلى لم يقدموا شيئا سوى علك مصطلحات تلك المناهج. وهم بوجه عام يفتتنون بهذه الاصطلاحات ويتوهمون أن استعمالهم لها قد جعلهم عصريين "آخر حداثة" فى حين أنهم لا يتذوقون، ومن قبل ذلك لا يحللون، النصوص التى يدرسونها أو مبدعيها. بل إن كبار نقادهم الذين يعجبون بهم ويرددون فى فخارٍ أسماءهم لا يُبِينون ما يكتبون عنه ولا يفهمونه فى كثير من الأحايين رغم طنطنتهم بمصطلحات ذلك النقد. ويمكن القارئ أن يرجع على سبيل التمثيل إلى فصول كتابى: "المرايا المشوِّهة- دراسة فى الشعر العربى فى ضوء الاتجاهات النقدية الجديدة" حيث يجد أمثلة لعدد من هؤلاء المفتونين بتلك المناهج من الأسماء الشهيرة التى تملأ قلوب التافهين والسطحيين والببغائيين رهبة ورعبا وهم يعكّون فيما يكتبون عَكًّا شديدا ويسوقون تحليلات وأحكاما لا أدرى من أى واد من أودية الاضطراب الفكرى يأتون بها.
أما هجوم د. عبد الله إبراهيم على استعانة النقاد السابقين بما هو خارج النص مما يعين على فهمه كعلوم اللغة وعلوم البلاغة، والسير الذاتية، وكتب التاريخ، والظروف التى أُبْدِع فيها النص وتلك التى تقلَّب فيها المبدع، وأعماله الأخرى وغير ذلك فهو هجوم فى غير محله بل هجوم سخيف وخبيث. ذلك أن هذه الأشياء لازمة حتما لفهم النص، وإلا كان باستطاعة الناقد أن يقوِّل النص ما يريد هو لا ما يقوله النص ذاته. ويحضرنى فى هذا السياق ما قاله أحدهم عن "الواو" التى ابتدأت بها قصيدة كان يدرسها فانطلق كالثور الهائج يقول إنها واو عطف على لا أدرى ماذا مما خلعه من مخه على النص من أفكار لا علاقة للنص بها كى يصل بهذا التوجيه إلى ما يريد، فبينت له وللقراء أن هذه واو ابتدائية نقابلها فى كثير من النصوص العربية على عكس اللغة الإنجليزية مثلا التى لا تعرف جملها عادة تلك الواو. ومن ثم فما قاله هو كلام فارغ.
وخذ أيها القارئ الكريم هذه أيضا مما قلتُه عن أحد النقاد الذين يريدون أن يقال عنهم: "نقاد حداثيون" مع أن مظهره وملابسه وتصرفاته وعلاقاته بالناس وطريقة حياته وفهمه لأمور المجتمع تصرخ بأعلى صوتها أنه لا يمت إلى المجتمعات الحديثة بصلة. قلت: "ومن الأمثلة على قراءته الرمزية الأسطورية للشعر قوله إن الفرس فى معلقة امرئ القيس صورة للإنسان المتمرد الثائر، وإن عاد فقال بعد قليل إن الفرس صورة من حياة الإنسان، والمطر صورة للحياة المستقرة، أما الرحلة فبحث عن حقيقة الحياة. وعند إشارته لمعلقة طرفة نجده يقول إن "الناقة رمز لعدة مفهومات: لفناء القوىّ الشاب، والانتصار على الصعوبات، والحياة الفاضلة، والمثل الذى تهون فى سبيله التضحية والفداء. ولكن أقصى ما يقنع به العقل المشغوف بملاحظة الأسباب أن الناقة صديق رفيق وليست مجرد أداة للرحلة والاتصال". ثم يضيف بعد سطرين قائلا إن "طرفة يرى فى الناقة الموتَ الذى يقترن ببلوغ الحياة أقصى نضوجها". وفى الحديث عن ناقة طرفة أيضًا يقول إن "الناقة فى الشعر الجاهلى هى الرمز الثانى للحياة التى يعبث بها الموت. ثم بعد قليل إن "الناقة تبدو حيوانا مقدسا كل ما فيها يحمل طابع القداسة. من أجل ذلك يقف (الشاعر) عند كل عضو فيها. ولو كانت الناقة لا تحمل معنى روحيا هاما لما كان فى وسعنا أن نفهم هذا الوقوف المتأنى عند كل عضو فيها. كل عضو فى الناقة ينبض بأهمية الحياة، والحياة لا تعنى شيئا إلا رحلة الناقة التامة الخلقة". وعن ناقة طرفة أيضًا يقول إنها "تحمل صاحبها كما يستوعب التابوتُ الميتَ. الناقة إذن من هذه الوجهة ليست هى مجرد الإنسان الذى يبتغى لنفسه القوة والسلامة، ولكنها أيضًا حياة أخرى مُعَدّة للعبث بحياة الإنسان نفسه". هل فهمت شيئا يا قارئى العزيز؟ وعن الناقة فى إحدى قصائد النعمان بن الحارث الأصغر الغسانى نسمعه يقول إنها "رمز الإنسان الفانى ورمز الدهر الباقى معا". وعند حديثه عن أبيات زهير بن أبى سُلْمَى فى التنفير من الحرب يقول عن تصوير الحرب بصورة الناقة الولود المُتْئِمَة التى يجىء أولادها كلهم مشائيم: "أصبحت الناقة حيوانا أسطوريا يلجأ إليه الشعراء فى التعبير عن قوى الشر الغامضة المسلطة على الإنسان أو قوى الموت"...".
ومن الواضح أن هذه التأويلات يناقض بعضها بعضا. وهو يمضى فى الكتاب كله على هذا النحو دون تعنية نفسه بذكر أية قواعد يمكن الاعتماد عليها فى مثل تلك التأويلات. إنما هى خواطر أو قل: وساوس تعنّ له بغتة من عالم ما وراء العقل والمنطق فيرددها دون التفكير فى فحصها والتحقق من صحة ما تحمله من معان. إنها مجرد تفسيرات غريبة تسحره بغرابتها وشذوذها. وما دام ناقدنا قد زعم أن الناقة مقدسة عند الجاهليين فيحسن أن أورد هنا ما قاله أحد طلابى المساكين الطيبين الذى كان يشغفه مثل هذا الكلام أيام كان النقد الأسطورى هو صرعة المرحلة، فقد كتب فى رسالته التى كان يعدها تحت إشرافى أواخر القرن الماضى إن الجاهليين كانوا يعبدون الناقة، فلما سألته عن الدليل على ما يقول كان رده: لأنهم كانوا يركبونها! الله أكبر! هذا هو النقد، وإلا فلا. وأنا متيقن من معرفتى بذلك الطالب أنه لم يكن يعرف معنى الأسطورة أصلا ولا فصلا. وبالمناسبة ففى الشعر الجاهلى تحليل للحصان وللثور الوحشى والظباء على نفس النهج، وكنت أحب أن أسمع فى كل منها ما يقوله ذلك العبقرى الذى كان يخشى الدخول فى مناقشة مع أحد لما كان مَبْلُوًّا به من عِىٍّ وانعدام ثقة بالنفس لمعرفته حجمه الصحيح.
وهذا مثال آخر على هذا الخبل النقدى والفكرى والذوقى الذى يعمل نقادنا المحدثون المخابيل على نشره بين عباد الله من الطلاب والباحثين والكتاب والنقاد المستقبليين. فقد تعرض أحدهم بجهل غليظ لبعض الأشعار الجاهلية بالتحليل الحداثى فلاحظت أنه عند تحليله بيت امرئ القيس التالى الذى يتحدث فيه عن أبيه المقتول على أيدى رعيته:
أبعد الحارث الملك بن عمرو

وبعد الخير حُجْرٍ ذى القبابِ

أُرَجِّى من صروف الدهر لِينًا

ولم تَغْفُل عن الصُمّ الهضابِ؟

وأعلم أننى عما قريب

سأَنْشَبُ فى شَبَا ظُفُرٍ ونابِ

كما لاقى أبى حُجْرٌ وجَدِّى

ولا أنسى قتيلا بالكلابِ


قد وقف عند اسم جدّ الشاعر: "الحارث" محللا إياه تحليلا لغويا للاستعانة به على تفسير القصيدة، إذ يقول: "فالحارث يُشْتَقَ من الحرث، والحراثة رمز للجهد الإنسانى لإخضاع الطبيعة وتجاوز خضوع الإنسان لفاعلية الزمن المدمرة بتحويل الأرض إلى مصدر للغذاء يعطى القوت خارج الدورة الموسمية. وفى شق اسم الحارث بالصفة "المَلِك" تكتسب هذه الصفة أهمية جذرية، إذ إن كونه مَلِكا خَلْقٌ لنمطٍ وصل ذروة الإنجاز والتحقق، فهو يملك فعلا فى مقابل الشاعر الذى يركب فى اللُّهام المَجْر من أجل أن يملك".
وواضح تمام الوضوح أن هذا إبغال شديد الجموح خلال بيداء الوهم، فـ"الحارث" هو اسم لجدّ الشاعر سمّاه به أبوه وليس اسما خلعه عليه حفيده امرؤ القيس كى يضفى عليه هذا المعنى الذى ذكره الأستاذ الناقد. ونحن نعرف أن معانى أسماء الأعلام لا تنطبق عادة على أصحابها، وإلا لكان كلُّ مَن اسْمُه مثلا "كريم" أو "شجاع" أو "أسد" كريما فعلا وشجاعا ومهيبا جليلا، وهو ما لا يقول به أحد إلا إذا كان مجنونا رسميا. بل إن عدم التطابق هذا هو أوضح ما يكون فى حالة الحارث بن عمرو، إذ كان ملكا، والملوك لا تحرث ولا تزرع ولا تصنع لأنها لا تشتغل بأيديها. ثم أين كان الحارث بن عمرو، وأين كان ملكه حين نظم امرؤ القيس هذه الأبيات؟ الواقع أنه كان قد هلك وهلك معه مُلْكه. أقول هذا لأن الأستاذ الباحث قد تكرر وقوفه على هذا النحو أمام أسماء الأعلام فى كل قصيدة حلَّلها حتى لو كانت أسماء مواضع مثلما فعل مع اسم "مَدافع الرَّيان" (فى معلقة لبيد) و"المِقْراة"، و"دارة جُلْجُل" (فى معلقة امرىء القيس) مثلا: فهو يرى أن "الريان" يدل على الرىّ، مع أن "مدافع الريان" فى الواقع قد "عُرِّى رسمها خَلَقا" كما يقول لبيد، أى أنها جفّت وَدَرَسَتْ وانطمست معالمها. و"المقراة" مشتقة عنده من مادة "ق ر ر"، التى تشير (كما يقول) إلى مكان يتجمع فيه الماء منسابا من أماكن أكثر علوًّا، مع أن هذه الكلمة مشتقة فى الحقيقة من "ق ر و" لا "ق ر ر" كما هو ظاهر بيّن... إلى آخر هذه الهلاوس اللفظية.
وكل هذا يؤكّد أن الأمر هنا أمر جعجعة بلا أى طِحْن، مع جهل شنيع حتى بأبسط الأشياء. والطريف الذى يبعث على الضحك، لا بل على الأسى والهم، أن أبا جهل هذا ينعى على د. طه حسين ود. شوقى ضيف تخلفهما عن مواكبة علمه العبقرى ونقده الفريد الذى لا يضاهيهما علم أو نقد. عشنا وشفنا!
و كتابات الرجل فى تحليله لبعض قصائد الشعر الجاهلى فيها طول شديد مملّ فى الاستقصاء والتفصيل، والتفتيت والتجميع، لكنها تفتقر إلى أى أساس فى ربطه المضحك بين المعانى المتناقضة فى ذلك الشعر. ولا مناص للقارىء من التذرع بسعة البال والصبر على ما سوف يناله عند قراءتها من إرهاق شديد أثناء محاولته اللحاق بصاحبها فى خطواته الواسعة ذات الإيقاع السريع التى لا تسير على هدى ونور ولا توصل إلى شىء غير الضياع بل الهلاك. وفوق هذا فقد رأينا كيف يعجز عن فهم معنى الألفاظ البسيطة أو معرفة أصل اشتقاقها. ولم يكتف بذلك بل أتخم كتابه بالدوائر والمثلثات والسهام التى لا نخرج منها بشىء سوى أنه يتحذلق فى مواضع لا تصلح فيها الحذلقة وأنه يريد التغطية على فراغ كلامه من أى مضمون حقيقى. وهذه سمة أخرى من سمات النقد الجديد تجعله أشبه بأحجيات السِّحْر والأعمال السفلية والأحجبة المضادة لنظرات العيون الحقودة الحسادة أو تلك التى تجلب الحظ لمائلى البخت. أمال الله أبخاتكم يا بُعَداء!
أما تقوُّل د. عبد الله إبراهيم الخاطئ شكلا ومضمونا على النقد القصصى قبل بزوغ شمس السردية بأنه كان كلاما إنشائيا لا علاقة له ببنية القَصَص ولا بلغته ولا بتصوير شخصياته ولا بوصف الزمان والمكان ولا بمواصفات الحوار الجيد ولا بالتغلغل فى النفس البشرية وتتبع هواجسها ومشاعرها الدفينة وخواطرها المتوارية فى دهاليزها ولا بالعادات والتقاليد الاجتماعية والاعتقادات الدينية والتحزُّب السياسى والكفاح الوطنى فمن الواضح أنه ليس لديه خبرة بهذا النقد، وعلى هذا يقول هذا الكلام العجيب. ألم يقرأ عبد الله النديم؟ ألم يقرأ يعقوب صروف؟ ألم يقرأ العقاد؟ ألم يقرأ محمد لطفى جمعة؟ ألم يقرأ طه حسين؟ ألم يقرأ زكى مبارك؟ ألم يقرأ محمد مندور؟ ألم يقرأ سيد قطب؟ ألم يقرأ يحيى حقى؟ ألم يقرأ فؤاد دوارة؟ ألم يقرأ فاطمة موسى؟ ألم يقرأ على الراعى؟ ألم يقرأ رجاء النقاش؟ ألم؟ ألم؟ ألم؟ والله إن هذا ليبعث على الألم! وأنا بعد لم أذكر سوى نقطة من بحر نقاد القصة، ومن مصر ليس إلا.
وبعض هؤلاء يركز على أسلوب السرد والحوار، وبعض على مضمون العمل من عادات وتقاليد وأوضاع سياسية وأخلاق، وبعض على تصوير شخصياته، وبعض على اتجاهه من واقعية أو وجدانية أو رمزية، وبعض على مدى ما فيه من استحكام حبكة أو تفككها... إلخ مع عدم إهمال سائر العناصر القصصية، وبعض قد ينتاول جوانب العمل كله، وبعضد قد يتعرض لجانبين أو أكثر من تلك الجوانب ويجعل وكده كله التركيز عليها. وفى غمار ذلك كله تجد نفسك محوطا بالوضوح والدفء والحميمية والاطمئنان وكأنك فى بيتك، أما ما يفاخر به الكاتب فتلفى كل شىء فيه يتجهم فى وجهك ويكشر لك عن أنيابه من غموض وسطحية واعتساف وحذلقة وإكثار من المصطلحات التى يرميك بها الناقد. أقصد من يسمونه: ناقدا. وأما مباهاة مؤلفنا بأن النقد الجديد لا يبالى بما هو خارج النص فهذه مباهاة خطلاء، إذ إن هذا الاهتمام بشخصية المبدع وللظروف التى أبدع فيها نصه أو نصوصه وللجو السياسى والاجتماعى الذى يعيش فى ظله ولبقية أعماله ولكل ما يمكن أن تقع يد الناقد عليه من دراسات عنه وعن إبداعاته من شأنه أن يضىء لنا العمل الذى نتناوله ويعيننا على فهمه ويساعدنا على سبر أغواره وتحليله تحليلا أقرب ما يكون إلى التقدير السليم له، أو على الأقل: أقمن أن يكون كذلك.
كذلك لست معه فى التنويه بشأن القصاصين الذين يتعمدون تعقيد بناء أعمالهم والحرص على أن يلفلفوها فى أكبر قدر من ثياب الغموض والتأبى على الفهم السليم. صحيح أن الحياة ليست بطبيعتها سهلة، لكنه ليس مطلوبا منا أن نزيدها صعوبة ومعاناة. والإبداع الأدبى ليس فرصة، ولا ينبغى أن يتخذ منه صاحبه فرصة، لتصديع عقل القارئ وبرجلة مخه أكثر مما هو مبرجلٌ خِلْقَةً. شىء من الصعوبة والغموض قد يكون مطلوبا فى بعض الأحيان لإثارة الفضول والتشويق وحفز القارئ على متابعة العمل والتقدم فيه باستمتاع عقلى ووجدانى، لكن تحويل العمل إلى فزورة متشابكة تتحدى إمكانات الإنسان العقلية وترهقه من أمره عسرا وتكلفه ما لا يطيق إلا باللَّتَيَّا والتى فلا أظن هذا شيئا جيدا. وما زلت أذكر المعاناة المؤلمة التى خضتها وأنا أطالع رواية "الآيات الشيطانية" فى نهاية ثمانينات القرن الماضى لما انتهجه واضعها من تعمد الغموض المزهق للأنفاس وتعقيد البنية القصصية والخروج على المنطق والواقعية فى كل شىء وتداخل العصور والبلاد والشخصيات والحكايات على نحو جد مزعج ومؤلم، علاوة على أن هناك وقائع وشخصيات فى الرواية ليس لها دور حقيقى. صحيح أننى استطعت فى النهاية أن أشق لى طريقا داخل غابتها المتلبدة الكثيفة وأوحالها المخيفة وروائحها المنتنة، وكتبت عنها وحللت أسلوبها مفردات وتراكيب وعبارات وصورا وألاعيب بديعية، ووضحت بنيتها ومضامينها واتجاهها الفنى وموقعها من آيات القرآن وروايات التاريخ والسيرة والمذاهب الرمزية والواقعية السحرية والخُرْئِيّة وما إلى ذلك، لكن بعدما أصابتنى بالجروح أغصان الأشجار المتوحشة المتكاثفة فى تلك الغابة إصاباتٍ جِدَّ مُوجِعةٍ وأرعبتنى ثعابينها ولدغنى بعوضها وكادت قدماى تغوصان بى فى أوحالها. وكل ذلك من أجل ماذا؟ من أجل أن يقال إن مؤلفها يخوض بحار التجريب ولا ينتهج طريقا معبدا. بالله هل هذا يساوى الجهد الكاظم للأنفاس الذى يجب على القارئ أن يقاسيه؟ لهذا ليس غريبا ما قرأته أوانذاك مرارا من أن قلة قليلة من القراء أكمل قراءتها وصبر على معوقاتها واستطاع أن يجتاز دهاليزها المتقاطعة الملتوية التى تدوّخ العقول. ربنا يدوّخ عقلك يا سلمان رشدى!
ولَدُنْ حديث المؤلف عن أصول "السردية" العربية يقول إن مرويّاتها "ظهرت فى أوساط شفوية يقوم الإرسال والتلقى فيها على أسس متصلة بسيادة التفكير الشفوى ذى الأصول الدينية، فقد انتزعت الشفاهية شرعيتها فى الفكر القديم بناء على أصول دينية، وأصبحت ممارسة مبجلة لأنها عممت أسلوب الإسناد الذى فرضته رواية الحديث النبوى على مجالات أخرى لا صلة لها بالدين. وبذلك أصبح ركنا أساسا لا يمكن تجاوزه فى تلك المرويات. ولطالما نُظِرَ إلى الإسناد فى الثقافة الإسلامية على أنه جزء من الدين، إذ انتقلت القداسة إليه بفعل المجاورة: مجاورته متون الحديث النبوى كونه حاملا تلك النصوص المقدسة" (1/ 27).
وواضح من هذا المقتبس أن تلك السمة، فى نظر المؤلف،خاصة بالقصص العربى القديم دون قصص بقية الشعوب، بيد أننا لا نتجاوز بضع فقرات حتى نفاجأ بالمؤلف يعمم تلك السمة مؤكدا أن كل القَصَص عند كل الشعوب كان قصصا شفاهيا أولا ثم صار قصصا مكتوبا فى مراحل تالية (1/ 29). إذن فلماذا ضيع المؤلف وقته ووقتنا وأجهدنا معه وربط بين القصص العربى وبين الحديث النبوى فى أن الأول قد استعار من الثانى أسلوب الإسناد؟ فهذا عيب فى التفكير أبلق يؤخذ على الكاتب.
والثانى هو أنه أرجع الشفاهية إلى الدين وربط بينهما، وفى ذلك ما فيه من الضرب تحت الحزام كما يقال. على أن ليس هذا مربط الفرس كما يقال أيضا بل لو رجعنا إلى القصص الموجود فى الأحاديث النبوية الشريفة والذى كان يقصه النبى عليه السلام لزوجاته ولصحابته لما وجدنا أى سلسلة سند على الإطلاق كما هو الوضع فى قصة أبى زرع وزوجته مثلا أو قصة الرجال الثلاثة الذين أووا إلى الكهف وسقطت من فوق الجبل صخرة سدته وقطعت عليهم سبيل الخروج، فأخذ كل منهم يتشفع إلى ربه بعمل صالح عمله كى يخرجهم من ورطتهم... إلخ. لقد كان النبى صلى الله عليه وسلم يحكى الحكاية مباشرة دون أن يقول إنه سمعها من فلان أو علان أو ترتان.
ثم كيف يربط عبد الله إبراهيم بين الشفاهية وبين الإسلام، وقد كانت الشفاهية هى الأسلوب السائد عند العرب من قبل الإسلام بأزمان، فلما جاء الإسلام نقل العرب من الشفاهية إلى الكتابية تدريجيا. ومعروف أن القرآن قد احتفى بالقلم والقراءة منذ آياته الأولى وأنه كان يسجَّل كتابة نصا بنص رغم أن الذاكرة العربية كانت لا تزال بخيرها لم تُسْتَنْزَف بعد، وأن النبى عليه الصلاة والسلام حين وقع فى يده سبعون أسيرا من مشركى قريش عقب هزيمتهم أمام المسلمين فى غزوة بدر عرض عليهم أن يطلق سراح كل من يعلم منهم عشرة من صبيان المسلمين، وهو ما حدث. وهذه أول مرة يمارَس محو الأمية رسميا فى تاريخ الإسلام. وكان بعض الصحابة يقيدون الحديث كما نعرف. كذلك كانت المعاهدات بين الرسول وأعداء الإسلام تحفظ بالقلم والورق، وأن رسائله إلى الملوك من حوله كانت مكتوبة لا منطوقة...
ليس ذلك فحسب، بل سرعان ما اختفت سلاسل الإسناد من القصص العربى الذى تأثر بعضه بأسلوب رواية الحديث الشريف. ترى هل توجد فى "كليلة ودمنة" سلاسل إسناد؟ ترى هل يستطيع أى شخص أن يعثر على سلسلة إسناد واحدة فى قصص "كليلة ودمنة" لابن المقفع، أو "النمر والثعلب" و"ثعلة وعفراء" لسهل بن هارون، أو فى المقامات الهمدانية والحريرية، أو فى رسالة "الغفران" وغيرها من رسائل المعرى...؟
وقبل مغادرة هذه النقطة أود ألا يفوتنى التعقيب على استشهاد كاتبنا بنورثروب فراى من أن القصص الشفوى معرض للطمس والانتحال والإضافة والحذف والاختصار والتضخيم على خلاف القصص المكتوب، الذى يتصف بالديمومة لأنه محمىٌّ بالكتابة والنقش من التغيير والتبديل. وتعقيبى هو أن النقوش والكتابة بل والتسجيل الصوتى والمرئى الحى كل ذلك معرض للتلاعب أو على أقل تقدير: للامحاء بفعل الزمن وعوامل التعرية أو بفعل فاعل. وما أكثر السرقات الأدبية والعلمية القائمة على نهب الأعمال المكتوبة. وما أكثر التدمير الذى يمارَس على الصخور والحجارة والجدران والمعابد والقصور المنقوش عليها أسماء الملوك وإنجازاتهم والآلهة والتراتيل المرفوعة لهم. وما أكثر التلاعب بالأوراق والأحبار والتوقيعات وما إلى ذلك. ونحن الآن نعيش فى قلب لهيب فلسطين، التى اغتصبها الصهاينة وادعوا أنها كانت أرضا بلا شعب، فوضعوا أيديهم عليها وامتلخوها لأنفسهم بحجة أنهم شعب بلا أرض. بل إن المسؤولين الصهاينة كثيرا ما ينكرون ما شاهده وسمعه العالم كله من عدوانات اجترحوها فى حق أصحاب الأرض زاعمين أن العكس هو الصحيح، وفى العالم ناس كثيرون يصدقون دعاواهم الزائفة، بينما نحن، الذين نعرف الحقيقة، تحترق أعصابنا دون جدوى.
ولدن حديثه عن نشأة الإبداع الأدبى كتب د. عبد الله إبراهيم فى الصفحة الأربعين وما بعدها ما نصه: "وفيما يخص نشأة القول الأدبى يمكن إجمال أطراف الموضوع بظهور رأيين: الأول قال بالتوقيف الإلهى الذى نادى به الباقلانى (403/ 1012)، ومؤداه أن الله أوقف كل شىء على لسان البشر، فلا دور لهم فى ظهور شىء منه. والثانى قال بالمواضعة والاصطلاح، وقد أخذ به ابن رشيق القيروانى (453/ 1061) بعد أن أثاره قبل ذلك النهشلى. وإذا كان الرأى الأول قد أعاد أمر الأقوال إلى مرجعية لاهوتية فإن الرأى الثانى التفت إلى البعد التاريخى للآداب وبأنها أشكال لغوية تواضع عليها بنو البشر، واتفقواعلى ضرورتها، فأخذوا بها للتعبير عن أنفسهم وعالمهم".
وسوف أبدأ بإيراد كلام الباقلانى نصا، وهذا هو: وقد اختلفوا فى الشعر كيف اتفق لهم؟ فقد قيل: إنه اتفاق فى الأصل غير مقصود إليه، على ما يعرض من أصناف النظام فى تضاعيف الكلام، ثم لما استحسنوه واستطابوه ورأَوْا أنه قد تألفه الأسماع وتقبله النفوس تتبعوه من بعد وتعملوه.
وحكى لى بعضهم عن أبى عمر غلام ثعلب عن ثعلب أن العرب تعلم أولادها قول الشعر بوضع غير معقول يوضع على بعض أوزان الشعر كأنه على وزن "قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل" ويسمون ذلك الوضع: المتير. واشتقاقه من المَتْر، وهو الجذب أو القطع. يقال: مَتَرْت الحبل، أى قطعته أو جذبته. ولم يذكر هذه الحكاية عنهم غيره، فيحتمل ما قاله. وأما ما وقع السبق إليه فيشبه أن يكون على ما قدمنا ذكره أولًا. وقد يحتمل، على قول من قال: إن اللغة اصطلاح، أنهم تواضعوا على هذا الوجه من النظم. وقد يمكن أن يقال مثله على المذهب الآخر، وأنهم وقفوا على ما يتصرف إليه القول من وجوه التفاصح، وتواقفوا بينهم على ذلك.
ويمكن أن يقال: إن التواضع وقع على أصل الباب، وكذلك التوقيف، ولم يقع على فنون تصرف الخطاب، وأن الله تعالى أجرى على لسان بعضهم من النظم ما أجرى، وفطنوا لحسنه فتتبعوه من بعد، وبنوا عليه وطلبوه، ورتبوا فيه المحاسن التى يقع الإطراب بوزنها، وتهشُّ النفوس إليها، وجمع دواعيهم وخواطرهم على استحسان وجوه من ترتيبها، واختبار طرق من تنزيلها، وعرّفهم محاسن الكلام، ودَلَّهم على كل طريقة عجيبة، ثم أعلمهم عجزهم عن الاتيان بمثل القرآن...".
وواضح من هذا النص أن الباقلانى لم يكن من أصحاب هذا الرأى ولا من معتنقى الرأى الآخر بل اكتفى بذكر المذهبين ووجد أن لكل منهما وجها، وأن نشأة الشعر تحتمل هذا وذاك. ومن ثم فنسبة عبد الله إبراهيم للباقلانى إلى المذهب الأول، مذهب التوقيف، نسبة خاطئة.كذلك أحب أن أشير إلى كلام الكاتب عن "إيقاف" الله سبحانه للفنون الأدبية على ألسنة البشر، خالطا بين "التوقيف" و"الإيقاف"، وهذا غير ذاك. ثم إنى لا أدرى كيف يُوقَف الإبداع الشعرى على ألسنة الشعراء. أما معنى توقيف الله عز وجل عباده على شىء، حسب فهمى وحسب المنطق العقلى، فهو أنه ركز فى أصل خلقتهم الأولى المواهب المختلفة، ثم لما برز كل منهم إلى الوجود هيأ له الأسباب لظهور هذه الموهبة أو تلك فيه حسب اختلاف ظروفه وأحواله، ولا يمكن أن يكون سبحانه قد أوقفهم حياله وأخذ يعلمهم كما يعلم المدرس فى الفصل تلاميذه وطلابه أو أنه قد أظهر فيهم ذلك دفعة واحدة دون بذلهم أى جهد، أى دون مقدمات ومحاولات واجتهادات وعلى نحو تدريجى.
وفى سياق الكلام عن تعريف الشعر عند العرب يقول إن ابن طباطبا وقدامة بن جعفر مثلا حدداه بأنه كلام موزون مقفى له معنى بينما يقول الفلاسفة فيهم إنه كلام مخيل قوامه الأقاويل الشعرية (1/ 41) مكتفيا بذلك دون أن يوضح هذين التعريفين ويعلن رأيه فيهما، وهو ما يغلب على عمله فى هذا الكتاب. وأذكر أن د. مندور قد حمل على قدامة بسبب هذا التعريف زاريا عليه بوصفه تعريفا شكليا جامدا، وأنى رددت بأن المقصود بالمعنى هو ما عدا الوزن والقافية من خيال وعاطفة وما إلى ذلك. وكان ينبغى أن يبين لنا المؤلف توجيهه لهذا التعريف مثلما كنت أنتظر أن يلحظ المصادرة فى قول الفلاسفة إن الشعر يقوم على الأقاويل الشعرية. أى أن الشعر يكون شعرا متى كان شعرا.
وفى رأيه أيضا أنه "لم يُبْذَل (من قِبَل العرب) جهد يذكر فى دراسة الخصائص الفنية للأنواع الأدبية القديمة أو تواريخ ظهور أشكال تعبيرية انفصلت عنها وكونت داخل خريطة الأدب العربى مواقع خاصة لها، وهى أشكال شعرية وسردية تكاثرت بمرور الوقت..." (نفس الموضع). وهذا كلامٌ غلط، فقد تكلم نقاد العرب عن نشأة الشعر ومبدعيه الأولين، وبينوا مكانته لدى الجاهليين، وتناولوا الحكمة فى تعدد موضوعات القصيدة عندهم، ودرسوا حكم الإسلام بشأنه، ولاحظوا ما طرأ عليه من تطورات بعد ظهور الإسلام، وأفاضوا القول فى الموشحات والأزجال وخصصوا لذلك الكتب، كما وقفوا عند أغراض الشعر وأنواعه حسب موسيقاه. وتحدث ابن خلدون عن التطورات الفنية التى اعترته على مر العصور من سيادة مدرسة الطبع فالصنعة المعتدلة فالإكثار من البديع. ولم يفتهم الحديث عن المقامة وبنائها والتعبير عن إعجابهم الشديد نحوها والإشارة إلى فتون الحكام الأعاجم بها والإشادة بما فيها من تشويق وبراعة فى الوصف والأسلوب.
وهذا ما خطته مثلا يراعة الحصرى القيروانى (390- 453هـ) فى كتابه: "زهر الآداب وثمر الألباب" عن "مقامات" بديع الزمان الهمدانى، وكيف نبتت فكرة المقامات فى ذهنه، ثم كيف يراها الحصرى نفسه: "ولما رأى (أى الهمدانى) أبا بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدى أَغْرَبَ بأربعين حديثا، وذكر أنه استنبطها من ينابيع صدره، وانتخبها من معادن فكره، وأبداها للأبصار والبصائر، وأهداها إلى الأفكار والضمائر، فى معارضَ حُوشِيّة، وألفاظٍ عنجهية، فجاء أكثرها تنبو عن قبوله الطباع، ولا تُرْفَع له حجب الأسماع، وتوسع فيها إذ صرف ألفاظها ومعانيها فى وجوه مختلفة، وضروب منصرفة، عارضه بأربعمائة مقامة فى الكُدْيَة تذوب ظَرْفًا، وتَقْطُر حسنا، لا مناسبة بين المقامتين لفظا ولا معنى، عطف مساجلتها، ووقف مناقلتها بين رجلين سمى أحدهما: عيسى بن هشام، والآخر: أبا الفتح الإسكندرى، وجعلهما يتهاديان الدُّرّ، ويتنافثان السحر، فى معانٍ تُضْحِك الحزين، وتحرك الرصين، وتطالع منها كلَّ طريفة، وتوقَف منها على كل لطيفة، وربما أُفْرِد بعضهما بالحكاية، وخُصّ أحدهما بالرواية".
وإذا كان ابن الأثير، فى كتابه: "المثل السائر"، قد عمل على التقليل من شأن ما أنشأه الحريرى من مقامات فإن صلاح الدين الصفدى، فى كتابه: "نصرة الثائر على المثل السائر" قد انتصر لتلك الحكايات القصصية وشدة تعلق الناس بها وإقبالهم عليها واشتغالهم بأمرها: "وما ذاك إلا أن هذا الكتاب أحد مظاهره تلك الحكايات المضحكة، والوقائع التى إذا شرع الإنسان فى الوقوف عليها تطلعت نفسه إلى ما تنتهى إليه، وتشوقت نفسه إلى الوقوف على آخر تلك القصة. هذا إلى ما فيها من الحكم والأمثال التى تشاكل كتاب "كليلة ودمنة"، وإلى ما فيها من أنواع الأدب وفنونه المختلفة وأساليبه المتنوعة. حكى لى الشيخ فتح الدين محمد بن سيد الناس عن والده أبى عمرو عن أبيه أبى بكر، قال: قلنا لابن عميرة كاتب الأندلس: لأى شىء ما تصنع مثل المقامات؟ فقال: أما الألفاظ فما أُغْلَب عنها، وأما تلك الأكاذيب التى تكذبها فما أُحْسِن أن أضع مثلها. وسمعت القاضى شهاب الدين محمودا رحمه الله تعالى حين قراءة هذا الكتاب عليه يحكى أن القاضى الفاضل رحمه الله تعالى أراد معارضتها، وصنع ثلاث عشرة مقامة عارض كل فصل بمثله، حتى جاء إلى قول الحريرى فى المقامة الرابعة عشرة: اعلموا يا مآل الآمل، وثمال الأرامل، أننى من سَرَوَات القبائل، وسريّات العقائل. لم يزل أهلى وبعلى يحلون الصدر، ويسيرون القلب، ويمطون الظهر، ويولون اليد. فلما أردى الدهر الأعضاد، وفجع بالجوارح الأجساد، وانقلب ظهرا لبطن، نبا الناظر، وجفا الحاجب، وذهبت العين، وفُقِدَت الراحة، وصلد الزَّنْد، ووهت اليمين، وبانت المرافق، ولم يبق لنا ثنيّة ولا ناب. فمذ اغبرّ العيش الأخضر، وازورّ المحبوب الأصفر، اسودّ يومى الأبيض، وابيضّ فَوْدِى الأسود، حتى رثى لى العدو الأزرق، فحبَّذا الموت الأحمر. فقال الفاضل: من أين يأتى الإنسان بفصل يعارض هذا؟ ثم إنه قطع ما كان عَمِلَه من المقامات ولم يظهر، أو كما قال. وناهيك بمن يقول مثل القاضى الفاضل فى حقه مثل هذا، ويعترف له بالعجز. وأما أنا فكلما قرأت هذا الفصل وذكرته أجد له نشوة كنشوة الراح، وبهجة ولا بهجة السارى بطلعة الصباح. وفى أى ترسُّلٍ تجد نظير هذا الفصل الذى له هذه الخفة والطلاوة، ولم تروّجه الأسجاع؟".
وفى موضع آخر من ذات الكتاب يمضى الصفدى منافحا عن "المقامات" فيقول إنها "يتداولها الناس، ويتعاطَوْن كؤوسها، ويتمثلون بأبياتها وأسجاعها، ويكرون عليها من أولها إلى آخرها، ويبحثون عن عوراتها، وينقبون عن مساوئها، فلا يجدون فيها مغمزا، ولا يقعون فيها على مطعن، بل تصفو على السبك، وتجود على الاستعمال.
ويزيدها مَرُّ الليالى جِدّةً

وتقادمُ الأيام حُسْنَ شَبَابِ


على أن ابن الخشاب رد عليه أُلَيْفاظًا يسيرةً، وأجابه المسعودى عنها. وابن الخشاب أصاب فى القليل من القليل، وتعنت فى كثير القليل. وكذلك ابن برى وضع عليها نكتا يسيرة. وناهيك بكتاب اشتهر، وضُرِب به المثل، وأصبح إحدى الأثافى فى عِلْم الأدب، وأصبحت ألفاظه ومعانيه حجة، ونقلت بها النسخ عدد حروفها.
وقد ظلم المقاماتِ من جعلها من باب الترسُّل، والترسل جزء منها. بل ما رأيت ولا سمعت بمن أخذ جزءا من ترسُّلٍ، وقرأه على شيخ وحفظه وطلب به الرواية وعلَّق عليه حواشى لغة وإعراب ومعانٍ. وقد وضع الناس الشروح المبسوطة على المقامات، مثل المسعودى فإن له عليها شرحين، والمطرز وابن الأنبارى وأبى البقاء وغيرهم. ولقد رأيت بعضهم يزعم أنها رموز فى الكيمياء. ويُحْكَى أن الفرنج يقرؤونها على ملوكهم بلسانهم ويصورونها ويتنادمون بحكاياتها. وما ذاك إلا أن هذا الكتاب أحد مظاهره تلك الحكايات المضحكة، والوقائع التى إذا شرع الإنسان فى الوقوف عليها تطلعت نفسه إلى ما تنتهى إليه، وتشوقت نفسه إلى الوقوف على آخر تلك القصة. هذا إلى ما فيها من الحكم والأمثال التى تشاكل كتاب "كليلة ودمنة"، وإلى ما فيها من أنواع الأدب وفنونه المختلفة وأساليبه المتنوعة".
وكعادته فى كل ما ينقله عن النقاد الغربيين كما هو دون أن يتدخل بإبداء رأيه فيما يقرأ نجده يورد نظرة جولدمان للرواية "على أنها بحث عن قيم أصيلة فى عالم منحط". ثم يمضى قائلا إن "هذه النظرة تستند إلى ماكان لوكاش قد قرره فى كتابه: "نظرية الرواية" من أن الرواية ظهرت لدواعٍ تتصل بانهيار سلّم القيم الذى كان سائدا فى المجتمعات القديمة والذى عبرت عنه الملحمة حينما كان التواصل بين البطل الملحمى والعالم متماسكا. فالبطل يربط نفسه مباشرة بذلك العالم ويحمّلها، أى الملحمة، مسؤولية الحفاظ عليه. وبظهور المجتمعات الحديثة وانهيار السلم المذكور اضطربت العلاقة بين البطل والعالم.
لم يبق البطل مسؤولا عن العالم الذى انحطت القيم فيه، وانهارت العلاقات التقليدية التى تفترض الصدق المطلق والمسؤولية الكاملة والوفاء المطلق. والنماذج التى استقى منها لوكاش منها تصوراته هى مجموعة من الروايات التى يظهر فيها الأبطال منشطرين بين رؤى ذاتية أصيلة ومحموعة من التصورات الاجتماعية المنحطة. فموقفهم الإشكالى من هذين العالمين المتنازعين وسعيهم للتعبير عن رؤاهم تجاه حالة الالتباس هذه أدى إلى تمزيقهم بين قطبين يتعذر التوفيق بينهما كما هو الأمر فى "دون كيخوته" و"الأحمر والأسود" و"مدام بوفارى".
ارتسمت صورة البطل الباحث عن القيم الأصيلة فى خضم انحطاط عام. ولهذا قرر لوكاش، مستعينا بتصور هيجل،بأن الرواية ملحمة برجوازية. فالشخصية الإشكالية فى الرواية تظهر فى الحد الفاصل بين موقف أخلاقى أصيل يعبر إما عن قيم كلية وإما عن قيم فردية صحيحة أو موقف أخلاقى منحط تمثله تصورات شعبوية سائدة مشبَّعة برؤى مخادعة تعبّر عن أنانية الإنسان الحديث وتطلعاته الوضيعة. وفى الحالتين لا تستطيع الشخصية الإشكالية الاعتصام بالقيم التى تؤمن بها لأنها ستُفْرَد عن مجتمعها وتُعَدّ منبوذة ولا تكون قادرة على الاندماج بالقيم السائدة التى تعرف انحطاطها لأنها ستفقد تفردها الشخصى. وتنتهى الشخصيات نهايات مأساوية وسط اشتباك العوالم القيمية التى تحيط بها كما حصل لدون كيخوته ومدام بوفارى".
وقد كان يمكن كاتبنا أن ينطلق فى التعقيب على كلام لوكاش وهيجل من أن كلا منهما قد اختار، حسبما ذكر هو نفسه، عينة صغيرة جدا جدا جدا من جهة، وعشوائية من جهة أخرى، وإلا فمن قال إن قيم العالم القديم كانت أصيلة وراقية، وإن قيمنا اليوم قيم زائفة ومنحطة؟ ألم يكن بين القدماء خونة ولصوص وعهرة ومرتشون وجبناء وجهلاء وحانثون بالوعد ويطففون الكيل والميزان وقتلة وطغاة وأنانيون وأذلّة وكذابون ومدلسون ومتكبرون ومراؤون وجعجاعون دون طِحْن...؟ بلى كان فيهم كل هؤلاء مثلما يوجد هؤلاء بيننا الآن. وبالمثل يوجد بيننا الآن أوفياء وأعفاء وصادقون وصرحاء ومستقيمون ومتواضعون وموفون لعهودهم وأعزّاء وأصحاب أيد وضمائر بيضاء... إلخ.
وهذا هو وضع القيم البشرية بوجه عام فى كل زمان ومكان، اللهم إلا استثناءات قليلة لها ظروفها الخاصة كأوقات التحولات الكبرى والحروب والمجاعات وبدايات تاريخ الأديان والكفاح القومى والعقيدى وما أشبه. وعلى هذا فالأعمال القصصية القديمة من ملحمة أو سيرة شعبية أو أساطير أو حكايات تشتمل على هذا وذاك، وإلا فمن ذا الذى يمكنه صادقا غير متعنت أن يزعم بأن الروايات والقصص القصيرة الآن تخلو من الأبطال الخيرين أو أنها كلها تنتهى نهاية مأساوية سوداء؟ لو كان مثل هذا الزعم صحيحا فيا ترى كيف نعيش الآن وسط هذه البيداء القاحلة التى تعج بالوحوش الضارية أو تلك الغابة المعتمة المتشابكة التى تمرح فيها الثعابين الضخام الفاتكة التى يصورها لنا كلام جولدمان ولوكاش. لو أنه قال مثلا إن رؤية الإنسان للعالم تتغير من عصر إلى آخر، ويتغير معها فهمه للقيم لكان أحجى أن يكون قريبا من الصواب. وعلى كل حال ففى ظنى أن سقف البشر الأخلاقى عموما ليس من العلوّ بمكان. هكذا يقول التاريخ الطويل للإنسانية!
وهل يعتقد جولدمان ولوكاش أن أوديسيوس مثلا بطل هوميروس فى "أوديساه" كان يعيش بين ملائكة أطهار لا يعرفون الغش ولا الحيانة ولا الغدر ولا الكذب ولا البلادة ولا الصياعة ولا الجهل ولا السرقة ولا القتل ولا الصراعات السياسة أو البحث عن الرزق أو الحروب أو التنمر أو اغتيال الآخرين معنويا أو الدسائس أو الفقر، وأنه كان يعيش فى تفاهم ووئام مع مجتمعه وعصره؟ والله إنه ليكفيه ما قاساه حين أخذته الأقدار وطافت به على البلاد والبحار وعاين تحطم السفينة التى كانت تقله ورأى أهوال الموت بأم عينيه وشاهد غرق كثير من أصحابه ومرؤوسيه وجرب العيش فى الكهوف والغيران وأبصر تحول رجاله إلى خنازير على يد إحدى الساحرات خلال ذلك الضياع وذاق مرارة السجن واقتيد إلى العالم السفلى وأمضى زمنا بين مخلوقات العالم البشعة وأرته الدنيا النجوم فى عز الظهر. وفوق هذا قد علم، خلال تطوافه فى رحلة الضياع والعناء هذه، أن نبلاء بلده اهتبلوا فرصة غيابه وحاول كل منهم تخبيب زوجته بينيلوبى عليه كيلا تنتظر عودته وتسلم نفسها له، فلما عاد إلى بلده ذهب إلى قصره متنكرا فى شكل شحّاذ، وكانت بنيلوبى وافقت على الزواج من أيهم يستطيع أن يُوَتِّر قوس زوجها وينجح فى الرمى بسهم يمر من خلال اثنى عشر محورًا متتالية. فأين التفاهم بين أوديسيوس وبين مجتمعه وعصره إذن؟ وأين القيم الكريمة التى يتوهم كل من الناقدين الأوربيين انتشارها فى تلك الأزمان؟
أم تراهما يظنان أن عنترة بن شداد، وهو فى سيرته المعروفة بطل من طراز أوديسيوس بل يفوقه مرات، كان يعيش بين أفراد مجتمعه أو حتى بين أعضاء قبيلته أو حتى فى بيت أبيه فى التبات والنبات وخلّف وراءه قبيلة من الصبيان والبنات؟ لقد قاسى من العبودية لوالده الذى هو من صلبه كل ألوان الهوان والاحتقار له ولأمه الحبشية السوداء ما نعرف كلنا، وعانى من حبه لعبلة ومن ائتمار منافسيه على حبها وقلبها ما عانى ومن خداع عمه إياه وتمنيته بالزواج من عبلة ابنته وخيسه فى عهده ذاك له كل مرة، وتكالب الأقران عليه فى الحروب فى أقطار الأرض ببلاد العرب وبلاد فارس وبلاد الروم وبلاد الحبشة، وعداوة الملوك وشيوخ القبائل له عداوة مريرة كل ذلك طوال عدة قرون، إذ جعلته السيرة الشعبية إنسانا خارقا يعيش مئات السنين؟ فكيف يمكن أن يقال إن عنترة كان يؤمن بنفس القيم التى كان مجتمعه عليها ويعيش عيشة توافق مع ذلك المجتمع، وهو الذى عومل من مجتمعه بل من أبيه وعمه على أنه عبد وضيع رغم جرأته وشجاعته وقيامه بواجبه فى رعى الغنم والإبل التى يملكها أبوه، ولم يعترف أبوه ببنوته إلا بعد عراقيل صعبة وبعد أن احتاجت القبيلة إلى ساعده وسيفه وإقدامه حين تعرضت لغزو قبيلة أخرى لم تستطع الصمود فى وجهها وكان لا مناص لها إلا بخلع ربقة العبودية من عنقه وخلع إكليل البطولة والفخار والعزة على رأسه، وعلى مضضٍ رغم هذا من قِبَل سائر القبيلة ذاتها؟
أم هل يتصور ناقدانا الجليلان أن الحياة فى عصر دانتى صاحب ملحمة "المهزلة الإنسانية" كانت تعج بالقيم وأن الناس كانوا يَنِزّون فى الشوارع والبيوت والحقول والبحار والأنهار وعلى الطرقات وفى الغابات قيما كريمة وحبا وعطفا وصدقا وتواضعا وتسامحا، وكان المال لا يجد من يطلبه فكان يسيل فى الطرقات حتى ينتهى أمره إلى البلاعات، إن كانت هناك بلاعات فى ذلك الوقت؟ لقد كانت حياة دانتى مليئة بالمتاعب والمصاعب والمعارك والصراعات السياسية والحربية. بل لقد سُجِنَ ونُفِىَ ومات غريبا طريدا ولم يُكْتَب له الاقتران بحبيبته وملهمته لسبب بسيط هو أنها ماتت صغيرة، فعانى أيما عناء كانت ثمرته "مهزلته الإنسانية".
قد يقال إنه كان يعيش فى عصر ازدهار الكنيسة فى أوربا وتمسك الناس بالدين، ومن شأن هذه الظروف أن يقبض البشر على أهداب الفضائل ويسود الحب والوئام بينهم. لكننا نعرف جميعا ما سامته الكنيسةُ البشرَ فى أوربا أوانذاك من سوء العذاب وصنوف الهوان والفقر والطغيان علاوة على تأله الحكام والباباوات هناك على رعاياهم بحيث لا يقدر أحد على التفكير فى فتح فمه. وكان التخلف والفقر المدقع ذو الناب الأزرق يرفرف على البلاد والعباد فى ظل الإقطاع الشنيع. وفوق هذا لا أظن أن من يبغض النبى محمدا يمكن أن يكون شهما مستقيما أبدا، ولا أحسب دانتى كان يحيا من مشاعره وعواطفه إلا فى عناء!
كذلك فاستشهاد كاتبنا بكلام لوكاش عن الملحمة وكونها صورة كلية تعبر عن حياة بلغت تمامها واكتمالها وتعيد تمثيل عالم منجز فى صورته النهائية وأغلق سجل أحداثه فأصبح بذلك جزءا من تاريخ مضى بعكس الرواية، التى تشرع متوغلة فيما هو بسبيله إلى التشكل وتمثيل صيرورته وتحولاته وأوضاعه المتقلبة. كما أن الملحمة تمثيل للقيم الأصيلة فى حين أن الرواية تمثيل للقيم الوضيعة (1/ 60 وما يليها).
ووالله ثم والله لا أدرى من أن يأتى بعض الكتاب بمثل ذلك الكلام الفارغ، فليست القيم التى تمثلها الملاحم كلها قيما أصيلة ولا القيم التى تمثلها الرواية قيما وضيعة، إذ كلتاهما تمثل قيما من النوعين كما هو واضح لايحتاج إلى برهان، وقد رأينا ذلك فى عرض بعض الملاحم وما يشبهها قبل قليل، وإلا فأين القيم الأصيلة فى العداوات والحروب بين الدول والمدن والقبائل؟ وهل خلت الملاحم من الغدر والخيانة والكذب والخسة والوضاعة وارتكاب الممنوع سواء كان ممنوعا اجتماعيا أو ممنوعا دينيا؟ وهل صارت قيم البشر بغتة وضيعة بعد انتهاء عصر الملاحم بحيث لا يجد كتاب الرواية أمامهم لتصويره سوى كل منحط حقير؟ ألا تصور كثير من الروايات كفاح الشعوب للانعتاق من الاستبداد أو الاستعمار أو الجهل والخرافات؟ بلى! ألا تحكى لنا كثير من الروايات النضال فى سبيل الفوز بمن يهواها الفؤاد ويشعر الشخص بأن حياته لا يمكن أن يكون لها مذاق وتستحق أن تعاش إن لم يتزوجها؟ بلى! ألا تعبر كثير من الروايات عن بذل أبطالها جهودهم وطاقاتهم لكسب لقمة العيش لهم ولأولادهم؟ بلى! ألا تتمحض كثير من الروايات لرسم ثمار انتصار العلم والنور على الجهل والظلام؟ بلى!
ومن ناحية ثانية هل كل الروايات تنحصر فى الحديث عن الحاضر؟ ألا توجد روايات تتناول أحداثا وأبطالا تاريخيين مضوا ومضت معهم إنجازاتهم ونجاحاتهم أو إخفاقاتهم؟ بلى هناك روايات كثيرة جدا هكذا. ليس هذا فحسب، إذ من المستطاع القول بأنه ما من رواية إلا وتتحدث عن الماضى. والدليل على ذلك هو أننا نستخدم فى سرد أحداثها ووصف أماكنها وأزمانها الأفعال الماضية حتى لو جرت أحداثها فى عصر مؤلفيها. والملاحم ألم تكن تمثل عصرها على وجه عام بعاداته وتقاليده واعتقاداته وقيمه؟ بلى! بل إننا نعرف أن معظم ما تشتمل عليه لا يمت للواقع بأية وشيجة، فلَمْ يكن هناك مثلا سيكلوبات بعين واحدة، ولم يكن هناك من يستطيع التعلق ببطن الكبش والهرب بهذه الطريقة من الوحش الذى يسد باب المغارة والذى يريد أن يلتهمه. وهذا إن قدر الكبش على التحرك وهو متعلق به على هذا النحو كما نقرأ فى "الإلياذة". كما أننا لا نعرف فارسا يمكنه أن يلف فى دائرة أفقية كاملة مارا ببطن الحصان وعائدا من الناحية الأخرى لمقعده الأصلى فوق ظهر الحيوان الأعجم وبسرعة الريح، أو يضع كلتا يديه وهو لا يزال طفلا فى فم الأسد الهصور ويفسخ شدقيه بهما أو عاش قرونا وواجه وحده ملوك الأرض وانتصر عليهم كلهم كما تقول سيرة عنترة عنه. ومع هذا جميعه لم نسمع المؤلف يعلق بكلمة ضد ما يهرف به النقاد الغربيون الذين يستشهد بهم وكأنهم لا يمكن أن يخرّ منهم الخطأ. إنه ينقل ويلخص، والسلام. أما أن يكون له عقل نقدى يمارس التمحيص لما يقرأ فلا ثم لا ثم لا. إنه يخر موافقا على كل ما يقولونه رغم ظهور عواره. وهذا إن افترضنا أنه أحسن الفهم والتلخيص، وهو ما لا نقف إزاءه هنا عادة.
وفى ص69 وما بعدها يربط الكاتب بين ظهور الرواية وبين نشوء الاستعمار، بل يذهب إلى القول بأن هناك تواطؤا بين مصالح اجتماعية باحثة عن عوالم أخرى خارج المجال الغربى ونصوص جديدة تبحث عن مكان فى عالم أدبى كان مزحوما بأشكال التعبير الأدبى. أى أنه كان هناك تواطؤ بين المستعمرين وبين الرواية. إلى هذا الحد من التسطيح الساذج؟ نعم إلى هذا الحد من التسطيح الساذج! ويسوق مثالا على ذلك رواية "روبنسون كروسو".
ووجه اعتراضى على هذا التفسير الذى يردد كاتبنا كعادته آراء غيره، إذ استند فيه إلى ما كتبه د. إدوارد سعيد وغيره كما هو ولم يحاول أن يُعْمِل عقله ويدير هذا التفسير فى دماغه ليتحقق من صحته أو لا. والسؤال هو: ألم يعرف العالم القديم ظاهرة الاستعمار قبل حلول العصر الحديث؟ بلى، قد عرف استعمارات لا استعمارا واحدا، ومنها الإمبراطورية الرومانية، التى بدأ توسعها من روما نحو عام 264ق.م. وكانت فى يوم من الأيام تمتد من شمالى بريطانيا إلى البحر الأحمر والخليج العربى. وبدأت البرتغال وأسبانيا فى القرن الخامس عشر الميلادى بإرسال مستكشفين للبحث عن طرق بحرية جديدة إلى الهند والشرق الأقصى حين كان المسلمون يهيمنون على الطرق البرية ويسيطرون على التجارة بين آسيا وأوروبا، وكان الأوروبيون يطمحون إلى السيطرة على تلك التجارة، فنجحت البرتغال فى السيطرة على البرازيل، وأنشأت مراكز تجاريةً فى كل من غربى إفريقيا والهند وجنوب شرقى آسيا.كما نجحت أسبانيا فى السيطرة على أجزاء مما يعرف اليوم بالولايات المتحدة، واحتلت معظم أجزاء أمريكا اللاتينية. وفى القرن السابع عشر الميلادى انتزع الهولنديون والبريطانيون التجارة الآسيوية من البرتغاليين بعد أن نجحوا فى احتلال ما يسمى الآن بإندونيسيا، وأصبح للإنجليز نفوذٌ قوى فى الهند. وتمكَّن الهولنديون والبريطانيون والفرنسيون من احتلال بعض المناطق فى أمريكا اللاتينية. بل كان هناك، قبل الاستعمار الرومانى، الاستعمار الفارسى. وقبلهما يدهر طويل كان لمصر مستعمرات فى الجنوب وصلت إلى بلاد بونت، وفى الشمال الشرقى حيث تقوم بلاد الشام حاليا.
أم ترى لم يكن هناك مكان آمن يتم فيه هذا التواطؤ المضحك بين الاستعمار وأحد الأجناس الأدبية؟ أم لم يكن عند هذين الطرفين أو أحدهما وقت كاف لعقد هذا التواطؤ العجيب؟ ثم هل "روبنسون كروسو" رواية تتحدث عن الاستعمار أصلا؟ لا بل عن بحار جنحت السفينة التى كان يعمل عليها وغرق كل رفاقه ما عداه، واضطر إلى اللجوء إلى جزيرة قريبة بعد أن نقل من السفينة كل ما كان يحتاجه من طعام وأدوات وملابس نفعته فترة طويلة حتى استطاع أن يزرع ويصنع تلك الاحتياجات بيده. فأين الاستعمار هنا؟ الواقع أنه لم يكن هناك أحد يعيش على تلك الجزيرة يغرى روبنسون كروسو بالبقاء فيها أصلا، فضلا عن استعمارها، ومن ثم اهتبل أول فرصة سنحت له بعد ما يقرب من ثلاثين عاما وغادر الجزيرة إلى العالم المأهول غير مصطحب شيئا من خيراتها ولا فكر بعد ذلك فى العودة إليها ليستغلها ويستثمرها كما يفعل المستعمرون. وحين قابل على تلك الجزيرة الرجلَ الوثنىَّ الملون فرايداى لم يعامله معاملة استعلاء وتجبر شأن المستعمرين مع من يحتلون بلادهم بل علمه أشياء كثيرة، وإن كنت نقلت، على سبيل الاستغراب من صحة أكل فرايداى وأمثاله للحم البشرى، فى كتاب لى حول رواية "روبنسون كروسو" نصا للكاتب الفرنسى المشهور مونتين يكذِّب فيه من يتهم من الأوربيين الشعوب التى يعتزى إليها فرايداى بأنهم يأكلون لحوم البشر، فسقته على سبيل انتقاد ديفو، الذى صور ذلك فى روايته. وبالمناسبة فقد وضع ابن طفيل الأندلسى رواية عنوانها "حى بن يقظان" قبل ديفو بقرون تتشابه مع روايته فى الخطوط العامة، وإن كان اتجاه الرواية الأندلسية فلسفيا، وذلك قبل ظهور الاستعمار الحديث بزمن طويل.
وسؤال آخر: هل اقتصر جنس الرواية على موضوع الاستعمار والإشادة به وترويجه وإقناع الشعوب المستعمَرَة به وبفائدته بل لزومه للبشرية؟ أبدا، بل اتسع هذا الجنس على الضد من ذلك لأعمال تناهض الاستعمار وتدعو إلى التحرر وتهاجم الرجل الغربى وتصفه بكل نقيصة. ولو كانت الرواية جنسا استعماريا فكيف قبلها أصلا المستعمَرون واتخذوها جنسا أدبيا ولم يبتدعوا لهم جنسا آخر يتواطؤ بدوره مع كفاح الاستعمار؟ كذلك فجنس الرواية يشتمل من موضوعات الحب والجنس والقتل والمغامرات والتحليل النفسى والتنبؤات المستقبلية والعادات والتقاليد الاجتماعية والقضايا الفلسفية واللصوصية والسعى فى طلب الرزق والزواج والطلاق وتربية الأطفال والتعليم والوظائف والمهن المختلفة والفخار القومى والصراعات الطبقية والدينية والسياسية والموضوعات التاريخية... على أكثر مما تشتمل عليه من موضوعات الاستعمار.
وأخيرًا وليس آخرًا من يستطيع أن يحكم جازما بأن أول رواية أوربية هى "روبنسون كروسو"؟ لقد اشتهرت فى أوربا روايات الفروسية الخيالية التى تتحدّث عن الحب والمغامرة فى أواخر القرون الوسطى، وكان موضوعها فى كثير من الأحيان آرثر ملك إنجلترا وفرسان المائدة المستديرة. كما ظهرت فى إسبانيا خلال القرن السادس عشر الميلادى عِدَّة أعمال قصصيّة مثل "لثريودى تورمس"، التى يراها بعض النقاد أول رواية فى أدب الشطار، إذ لم يكن أبطالها فرسانا بل لصوصا وقراصنة. ويعتقد بعض النقاد أن أول رواية هى رواية سرفانتس المشهورة: "دون كيشوت" كما جاء فى مادة "الرواية" فى "الموسوعة العربية العالمية" مثلا.
ومرة أخرى فإن د. عبد الله إبراهيم ينسى ما قاله عن أولية "روبنسون كروسو" تبعا لمن قرأ لهم دون محاولة منه للتدخل برأيه وفكره، ويورد أسماء أعمال قصصية لبعض الكتاب الإغريق واللاتين والقروسطيين بوصفها روايات ترديدا كذلك لما قرأه عند بعض الكتاب الآخرين دون تمحيص أو تعقيب (1/ 72 وما بعدها)، وهو ما يعنى أن ظهور الرواية لم ينتظر حتى تأليف "روبنسون كروسو" على عكس ما قال آنفا.
وفى الفصل الثالث من الجزء الذى فى أيدينا من "موسوعة السرد العربى" يدخل الكاتب فى تحليل لوضع القرآن فى الإسلام مُفَادُه أنه هو والحديث يمثلان المركزية الدينية وينغلقان على نفسيهما ويزعمان أنهما يمثلان الحقيقة المطلقة وأنهما لم يؤخذا من نصوص أخرى. وهذا كله خطأ عنده نتج عنه تحريم النبش عن مصادرهما فى الكتب الدينية السابقة والأساطير والرؤى الجاهلية وما إلى هذا. كما نتج عن ذلك أنه ليس لهما سوى تفسير واحد يجب أن يلتزم به الجميع، ليعود فيقول إن النصوص الدينية بطبيعتها نصوص غامضة لا تدل على شىء محدد، ومن ثم فإنها تقبل التفسيرات المختلفة بل المتناقضة حسب ميول المفسرين وهواهم مما يذكرنى بما زعمته كارلا باور، الكاتبة الأمريكية المنحدرة من أم يهودية وأب كويكرى، فى كتابها: " If the Ocean Were Ink: لو كان البحر مدادا"، إذ أكدت أن القرآن يقبل كل ما يبحث عنه قارئه: فأنصار الاستبداد يجدون فيه بغيتهم، وأنصار الديمقراطية يجدون فيه ما يبحثون عنه لتعضيد ديمقراطيتهم... وهكذا. وهو ما رددت عليه وفندته منبها إلى أن تفسير القرآن الصحيح يستلزم التبحر فى اللغة والبلاغة والحديث الصحيح وسيرة الرسول عليه السلام ومعرفة أسباب النزول والإحاطة بنصوص القرآن الأخرى المتعلقة بموضوع النص المراد تفسيره والتعمق فى إدراك روح القرآن واتجاهه العام والاستعانة بالعلوم المختلفة، حتى لقد وضعت عنوانا لأحد فصول كتابى: "مَسِير التفسير" هو "كل العلوم فى خدمة التفسير" من تاريخ وجغرافيا وطب وصيدلة وحساب وطبيعة وجيولوجيا... وهلم جرا. أما إذا كان المراد قراءة القرآن وفهمه الفهم العام وتدبر آياته واستلهام عقائده وقيمه الأخلاقية وتوجيهاته الاجتماعية ومبادئه القويمة فبطبيعة الحال لا يستلزم الأمر كل ذلك ما دام القارئ قد حصل قدرا من الثقافة العامة.
ومما ادعاه مؤلفنا أن ما أفرزته تلك المركزية الدينية الإسلامية هو إقصاء أى دين آخر وأن كل ما عدا القرآن والحديث وما يدور فى فلكهما ويخدمهما ويردد مقولاتهما يفقد أهميته بما فيه التاريخ واللغة والأدب، وبخاصة النصوص السردية. وهو هنا يستشهد بآثار منسوبة للنبى واضح أنها لا يمكن أن تكون صادرة عنه صلى الله عليه وسلم مثل "العلم ثلاث، فما سوى ذلك فهو فضل: آية محكمة، وسنة قائمة، وفريضة عادلة"، وهو ما يفسره الكاتب بأن العلم هو القرآن والحديث وأحكامهما، وما سوى ذلك فهو فضل معناه ما جاء فى حديث خلاصته أن الرسول عليه السلام (و"عليه السلام" هذه من عندى، أما هو فلم يخطئ مرة أن صلى عليه أو سلم مرة واحدة بل لم يقل قط: "رسول الله" بل "الرسول" فقط، ولا قال: "القرآن الكريم" بل "القرآن" فقط، ولا قال: "الحديث الشريف" بل "الحديث" فقط) دخل المسجد يوما فرأى جمعا من الناس على رجل فقال: ما هذا؟ قالوا: يا رسول الله، هذا رجل علامة. قال: وما العلامة؟ قالوا: أعلم الناس بأنساب العرب وأعلم الناس بالعربية وأعلم الناس بشعر وأعلم الناس بما اختلف فيه العرب. فقال: هذا علم لا ينفع، وجهل لا يضر". وأضاف الكاتب أن هذا قد أدى، فيما أدى، إلى التحكم فى وظائف الأدب واعتباره بدعة تضر قائله وسامعه فى الدنيا والآخرة، إذ كل ما لا يقدم خدمة تعين على تعميق فهم الناس للدين لا نفع فيه.
وقد حكم ابن حجر العسقلانى، فى "لسان الميزان") ٤/١٧٣( على هذا الحديث بأنه "باطل". كما لم يرد لفظ"العلامة" لا فى الشعر الجاهلى ولا فى شعر المخضرمين ولا فى شعر صدر الإسلام. والغريب أن يقول د. عبد الله إبراهيم إن المركزية الدينية الإسلامية ترى أن كل ما عدا القرآن والحديث لا قيمة له وينبغى أن يهمله المسلم، ثم يستدير فيورد هذا الحديث الذى يبطل ما يقول، إذ ها نحن أولاء نشاهد ونسمع، وفى عصر الرسول نفسه بل وفى مسجده أيضا، رجلا يحاضر الصحابة فى الشعر وأنساب العرب. أليس ذلك بغريب حقا؟
ثم كيف نقبل دعاوى الكاتب، وقد كان الرسول، كما هو معروف، يستمع إلى الشعر ويكافئ عليه؟ كذلك كيف نفسر بقاء الشعر والشعراء على مدى تاريخ الإسلام، ومعظم شعرهم فى الغزل والفخر والوصف والهجاء والتفاخر والحرب والقصص وما إلى ذلك مما لا صلة له بالدين،على الأقل: لا صلة مباشرة بينه وبين الدين؟ وكيف يا ترى يفسر لنا كاتبنا ظهور المؤلفات الكثيرة فى التاريخ والجغرافيا والرحلات والطبيعة والكيمياء والرياضيات والفلك والطب والتشريح وتركيب الأدوية وعلم النفس وعلم الاجتماع والأديان والأجناس البشرية مما ترجمه الغربيون وتعلموا منه أيام نهضتهم وأضافوا إليه وطوروه حتى صاروا إلى ما صاروا إليه من تقدم علمى وصناعى وحضارى؟ ومن المشهور المتعالَم أن من بين ما وصلنا من التراث ما كتبه الملاحدة والشكاك. فأين المركزية الدينية (الإسلامية طبعا) من تلك الكتابات المناهضة للدين؟ وكيف لم تخنقها؟ أفكانت تلك الكتابات تصل إلينا لو كان الأمر على ما يصوره الكاتب الذى دخل فى موضوعه وهو متنمر متلمظ يريد الإساءة إلى الإسلام بكل وسيلة؟
والنحو والصرف والبلاغة؟ ألم يُقَلْ إنها عُمِلَتْ لخدمة النص القرآنى؟ فكيف يزعم هذا المدعى أن المركزية الدينية الإسلامية قد نبذت ذلك كله بعيدا على أساس أنه علم لا ينفع، والجهل به لا يضر؟ ثم ألم يستعن الرسول بما كان معروفا آنذاك من طب ودواء، وهما علمان لا صلة بينهما وبين الدين بالمعنى العامى الضيق الذى حبسه فيه كاتبنا؟ ألم يعتمد الرسول فى هجرته إلى المدينة على عبد الله بن أريقط الخِرِّيت العالم بالصحراء وطرقها ودروبها مما ينتسب إلى الجغرافيا، وهى مما لا ينفع العلم به ولا يضر جهله فى الإسلام حسب كلام الكاتب؟
ولقد رمى عبد الله إبراهيم ما أطلق عليه: "المركزية الدينية" (الإسلامية طبعا) بأنها لا تطيق ولا تعترف بأى دين آخر، مع أن الإسلام لا يصح ولا يكتمل إلا بالإيمان بالتوراة والإنجيل وصحف إبراهيم وزبور داوود وغيرها من الكتب السماوية وبالرسل الذين نزلت عليهم؟ صحيح أنه قد أكد تحريف أهل الكتاب لكتبهم، لكن هذا موضوع آخر. ليس ذلك وحسب بل أعطى أهل هذه الأديان الحق فى الاستمساك بأديانهم وممارسة طقوسها وحرم على المسلمين التعرض لهم فى ذلك فضلا عن إكراههم على اعتناق الدين الذى جاء به صلى الله عليه وسلم.
كذلك زعم عبد الله إبراهيم أن الإسلام قد فرض فهما واحدا للقرآن الكريم وصادر كل فهم سواه. فمتى كان ذلك يا ترى؟ لقد مات النبى عليه السلام دون أن يترك تفسيرا يتضمن هذا الفهم الواحد الموحِّد، ومات بعده الصحابة والتابعون وتابعو التابعين وكل المفسرين دون أن يخلفوا لنا كتابا يحتوى على ذلك التفسير الذى يجبّ كل تفسير عداه. ومعروف إلا للجهلاء أن هناك تفاسير للقرآن لا يكاد يكون لها حصر تتنوع حسب تنوع العقول والاتجاهات ما بين سنة وشيعة وخوارج وصوفية واعتزال وعلوم لغوية وطبيعية وفلسفية، ودعنا من الاختلاف داخل كل اتجاه من هذه الاتجاهات، ومع هذا لم يحجر أحد على أى منها رغم ما فى بعضها مما لا يتمشى مع روح الإسلام العامة ولا مع المنطق. وكل ما هنالك أن من لا يقتنع بما يقوله هذا المفسر أو ذاك يمكنه أن يكتب رأيه المخالف لذلك ويفنده بكل حرية وأريحية. والمهم أن يستعين بكل ما من شأنه مساعدته على التوصل إلى التفسير الذى يرى أنه التفسير الصحيح أو القريب من الصحة على أحسن ما يمكن.
لكن هل أخذ الإسلام عناصره من الأديان السابقة ومن الأساطير والعادات والتقاليد والمعتقدات فى الجاهلية وفى الثقافات الأخرى كما يلمح بل يلمز د. عبد الله إبراهيم حسبما أوردناه آنفا؟ تعالوا نفحص الروايات: لقد تكلموا عن بحيرا وأنه قابل النبى فى صباه حين كان مرافقا لعمه أبى طالب فى رحلة تجارية إلى الشام، فحذره من يهود وطلب منه العودة بابن أخيه حتى لا يؤذوه. فكيف عرف بحيرا أن هذا الصبى هو النبى المنتظر؟ هل كان مسجلا على جبهة محمد الصبى أنه نبى المستقبل؟ أم هل شم بحيرا ذلك على ظهر يده أو كانت معه آلة يكتشف بها الأنباء كمثل الآلة التى إذا مررها صاحبها على وجه الأرض أصدرت صوتا يعرف منه مستخدمها أن ها هنا جواهر ثمينة فيحفر ليجد ثروة عظيمة فى لحظة؟ ويقولون إن بحيرا قد لاحظ أن سحابة تظلل دائما رأس الصبى بالذات لتقيه حرارة الشمس. فكيف لم نسمع بشىء من ذلك عن محمد قبل بحيرا أو بعد النبوة أو حتى فى غزوة العسرة حين كان الحر أوانذاك لا يطاق؟ وكيف لم يلاحظ ذلك رجال القافلة وأبو طالب ولاحظه فقط بحيرا؟ وكيف لم يحاجج الرسولُ بذلك قومه حين بُعِث عليه السلام وكذبوه تكذيبا عنيفا؟ بل كيف لم تعفه الأقدار صلى الله عليه وسلم من أذى المشركين فى مكة مثلا؟ وكيف لم تحم أسنانه من سقوط اثنتين منها فى غزوة أحد؟ وكيف لم تبق له ابنه إبراهيم، الذى رُزِقَه على كبر وكان يحبه حبا جما ووقع موته على قلبه وقعا شديد الإيلام؟ وكيف وكيف وكيف؟
ثم لماذا لم يأخذ أبو طالب أو محمد بتحذير بحيرا بعد تلك المرة؟ لقد اشتغل محمد تاجرا لخديجة زمنا فكان يخرج مع القافلة المكية للتجارة هنا وها هنا، ولم نسمع هذا الموضوع يفتح بعد ذلك قط؟ ثم ألم يكن هناك يهود إلا فى الشام؟ لقد كانوا موجودين باليمن، التى لا بد أن يكون قد تردد عليها مع قوافل قريش للتجارة أيام كان يعمل عند خديجة، وكذلك بيثرب، التى زارها مع أمه وهو طفل صغير، وكان بمكنة يهود أن يقتلوه هناك بكل سهولة وسلاسة ما دام لم يكن هنا ولا هنا بحيرا ذلك الملاك الحارس، ولا من شاف ولا من درى؟ ثم ماذا يمكن أن يعلّم بحيرا فى ساعة أو ساعتين فى تلك المقابلة صبيا صغيرا فيما يخص دين النصارى واستغله محمد فى ادعاء النبوة؟ ولنلاحظ أن الإسلام يخالف النصرانية فى أساساتها عقيدة وتشريعا وفهما للحياة ويحمل على رجالها حملة شعواء. كما أن القرآن يشتمل على موضوعات وقضايا تجيب على ما كان يوجه إليه عليه السلام من أسئلة بنت ساعتها أو وقائع بنت بجدتها ولا يمكن أن يكون بحيرا ولا مليون بحيرا قد علم بها مسبقا وأعطاه الرد والتعليق عليها فى كبسولة يبتلعها عليه السلام فتعينه فى مواطن الحاجة إليها بعد عشرات السنين. ثم لماذا لم يظهر بحيرا أو من سمعوا منه قصة لقائه بالصبى محمد ويقولوا له صلى الله عليه وسلم حين صار نبيا: إنك يا هذا قد جاوزت قدرك وأعلنت نفسك نبيا مع أننا نعرف حقيقة أمرك وأن فلانا هو الذى علّمك ووجهك وأمدك بما تزعم أنه وحى نزل عليك من السماء؟ وأخيرا لو كانت قصة بحيرا أصلا صحيحة فلم يا ترى لم يتخذ منها رسول الله حجة يفحم بها مشركى مكة فيذكّرهم بما رآه رفقاء القبيلة آنذاك وسمعوه من بحيرا عن أنه النبى المنتظر؟ بل لماذا لم يحاجج بهذا عمه أبا طالب، الذى كان قد اصطحبه فى الرحلة المذكورة إلى الشام، وطلب منه بحيرا حسب الرواية المتهالكة أن يعود به إلى مكة خشية عليه من أن تؤذيه يهود؟ يقينا لو كانت قصة بحيرا حقيقية لما كان من الممكن تفويت الرسول تلك الفرصة كى يذكّر عمه بها كدليل على أنه لا يصح أن يبقى حتى آخر رمق فى حياته على دين قومه ولا يعتنق دين ابن أخيه.
وأما ما يلمز به عبد الله إبراهيم القرآن من أنه قد استقى الكثير من الكتب الدينية فمتى كان محمد عليه الصلاة والسلام يقرأ أو يكتب؟ فمن رآه يا ترى يفعل ذلك ولو مرة واحدة؟ وأين؟ وما ذلك الكتاب الذى كان فى يده لحظتذاك؟ ترى لو كان محمد يقرأ الكتب فهل كان يمكن أن يخفى هذا على أعدائه وأنصاره؟ أما ما يقال من أنه فى صلح الحديبية، حين رفض على بن أبى طالب أن يستبدل كلمة "محمد" فى وثيقة الصلح بـ"رسول الله" نزولا على شرط المشركين، قد أخذ النبى عليه السلام القلم من علىّ ومسح الكلمة المرفوضة ووضع عوضا عنها اسمه هو فحتى لو كانت هذه الرواية قد وقعت فعلا فماذا فى أن يستطيع أمىٌّ رسم اسمه على الورق؟ لقد شاهدت فى طفولتى وصباى بالقرية كثيرا من أمييها ينقشون أسماءهم نقشا دون أن يعرفوا أى حرف من حروفها، وكان الأمر يتم ببساطة بالغة. وهذا كل ما كانوا يستطيعون خَطَّه من الكلمات، ودعنا من القراءة التى لم يكونوا يستطيعون أن ينطقوا حرفا واحدا منها.
على أن المستشرقين الذين يتهمون القرآن بأنه أخذ هذه الكلمة أو هذا النص من ذلك الكتاب أو غيره يتكلمون عن استمداده من كتب الأديان الأخرى وكأنه كان يملك مكتبة عالمية فيها كل الكتب السماوية وغير السماوية باللغات المختلفة وأنه كان يصرف فيها كل يوم وقتا طويلا يتصفحها ويقلبها ويكر السطور والفقرات كرا حتى إذا ما وقع على شىء رآه مفيدا لدينه هبشه واقتبسه ودسه فى المكان الذى يعده مناسبا. وهذا تصور مضحك ولا يجوز إلا فى عقول الساذجين المغفلين. وبمناسبة ما نحن بصدده الآن أحب أن أقول إن الغربيين متى ما تكلموا فى العلوم الطبيعية والرياضية فكلامهم منضبط ودقيق ويستحق الثقة بكل جدارة، ولكنهم متى تكلموا فى العلوم الإنسانية ففيه وفيه، ولكن ما إن يتناولون الإسلام ونبيه وكتابه وتاريخه حتى تتفكك أوصال عقول معظمهم فلا يمن الله عليهم بكلمة طيبة أو تفسير مستقيم أو تعليق مقبول، وتحس أن المنطق والإنسانية قد فارقاهم.
ونفس الكلام ينطبق على الاتهام القائل بأنه صلى الله عليه وسلم قد أخذ دينه عن الحنفاء، فإن أحدا منهم لم يقل ذلك: فورقة مثلا، وهو واحد منهم، قد أعلن تصديقه بالنبوة منذ سمعه عليه السلام يحكى له ما شاهده فى غار حراء أول هبوط جبريل عليه بالآيات الأولى من القرآن المجيد. كما أن أهل كل منهم قد اعتنق الإسلام أول مجيئه دون أية جمجمة. بل إن أمية بن أبى الصلت لم تؤثَر عنه كلمة تتهمه عليه السلام بذلك. وزيادة على هذا فإن أهل بيت أمية بل قبيلته كلها قد دخلوا فى الإسلام ولم تصدر عن أى منهم كلمة فيها تشكيك فى صدقه ورسالته، ولو كانوا قد سمعوا أمية، ابن قبيلتهم، يتهم محمدا فى هذا الصدد بشىء ما سكتوا. وفوق ذلك لم يحدث أن اتهمه مشركو مكة بذلك على أى وضع.
وبالمثل لم يتهمه بذلك أحد من اليهود والنصارى فى عصره. إنما كان اليهود يتهكمون بمعانى القرآن ويسخرون من صوت المؤذنين ويشبهونه بنهيق الحمار ويذهبون إلى أم القرى ليؤلبوا قريشا على حرب محمد ويمنوهم الأمانى بأنهم سوف يقفون إلى جانبهم إلى أن يقضوا على دينه. بل كانوا يؤكدون لهم أن وثنيتهم خير من التوحيد والقيم الكريمة التى أتاهم بها، إضافة إلى تآمرهم عليه تآمرا مباشرا، لكنهم عند الجد سرعان ما يَنْكلون ويجبنون ولا يتصرفون تصرف الرجال، وفى النهاية ينهزمون فى كل لقاء حربى سَعَوْا إليه وأشعلوا ناره.
وأما النصارى فيحاولون إثارة الريبة فى نفوس المسلمين بعيدا عن رسول الله، الذى لو كانوا مخلصين فى ذلك لوجهوا إليه مباشرةً ما يبغون التحقق من وجه الصواب فيه، كما هو الحال عندما سألوا المغيرة بن شعبة: كيف يقول القرآن عن "مريم": "يا أخت هارون" مع أنه كان بينها وبين هارون عليهما السلام الزمن الطويل؟ ولو كانوا يريدون الجواب حقا ولم تكن غايتهم التشكيك لمجرد التشكيك لاتجهوا بهذا الاستفسار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مباشرة. وعلى كل حال فشرح هذا من أسهل الأمور، فقد شرحه الرسول بأنهم كانوا يسمّون بأسماء صالحيهم، واستعمل القرآن كلمة "أخ" لكثير من الأنبياء بالنسبة لأقوامهم، كما أننا نقول فى كتاباتنا وكلامنا إن فلانا أخو فلان (أى يشبهه فى خلقه أو فى ملامحه أو فى سلوكه رغم اختلافهما التام فى الزمان والمكان)، وإلى جانب هذا وذاك وذلك فقد وجدتُ الكتاب المقدس لدى اليهود والنصارى يستعمل كلمة "أخت" فى نحو عشرين وجها على المجاز تدخل فى عدد منها عبارة "يا أخت هارون" بكل سلاسة وأريحية. كذلك لو كان النصارى يرون فى أعماق قلوبهم وعقولهم حقا أن محمدا نبى كاذب لقبل نصارى اليمن فى زيارتهم له عليه الصلاة والسلام فى المدينة أن يباهلوه على أن يلعن اللهُ الكاذب من الطرفين حسبما اقترح القرآن عليهم ولما خافوا من عاقبة المباهلة (وهل يخاف الصادقون انتصارَ كاذبٍ عليهم فى مباهلة أمام الواحد الأحد؟) ولما حاصُوا حَيْصَة الحُمُر الوحشية وآثروا دفع الجزية بدلا من ذلك.
وفوق كل ما مضى نضيف أن القرآن ليس هو الذى قال إن مريم هى أحت هارون بل هو مجرد حاكٍ لما قاله بنو إسرائيل لها على سبيل التهكم والتقريع الدنىء، إذ كيف تكون من سلالة هارون أو تتشبه به وتعمل خادمة للمعبد وتلازمه ليل نهار بما يفيد أنها تقية نقية طاهرة ثم تمارس البغاء؟ وهذا هو النص كاملا فى سياقه، إذ لما وضعت مريم وليدها بعد أن حملت به جراء نفخة الروح فيها "أتت به قومها تحمله. قالوا: يا مريم، لقد جئتِ شيئا فَرِيًّا * يا أختَ هارونَ، ما كان أبوكِ امرأَ سَوْءٍ، وما كانت أمُّك بغيا". فالقائل هو قومها كما هو واضح حتى للأعمى، أما القرآن فدوره رواية ما قالوه. ولقد سمع اليهود فى المدينة هذه الآية، فلو كانت الرواية غير صحيحة ما سكت أولئك السفهاء ذوو الألسنة النجسة والجلود الثخينة والحقد الحارق ولردوا على الرسول متهكمين مكذبين أن أسلافهم قد قالوا ذلك. لكنهم لم يفعلوا ولا ردوا على أى شىء مما قرفهم به القرآن المجيد مما يدل على أن ما قاله حقيقى لا يمكن المماراة فيه.
وهكذا يتبين لنا سخف وتفاهة كل ما ادعاه عبد الله إبراهيم عن الإسلام فى هذه النقطة للإساءة إليه. وقد كنت، ونحن الاثنين: أنا وهو نعمل معا فى جامعة قطر قبل إبعاده عنها حين اكتشفتُ بالمصادفة المحضة ودون أن أقصد بتاتا أنه قد دلس عليها فى أمر رتبته الجامعية، إذ كان مجرد مدرس وخدعها مستغلا مصطلح "الأستاذ المساعد" الذى كان يعمل تحت مظلته فى ليبيا، وأوهمها أنه يعنى "الأستاذ المساعد" الذى يتوسط مرتبة "المدرس" و"الأستاذ" فى قطر وفى مصر، وكان يقبض لعدة أعوام مرتب "الأستاذ المساعد" بقلب بجس وعين بجحة وجلد ثخين، بل ومن بجاسته وبجاحته تقدم ببعض الأبحاث الهزيلة للحصول على درجة الأستاذية وأُوكِلَ إلىّ النظر فيها لأرى مدى مطابقتها لتخصصه العلمى، وكنت أسمع كلاما عن زندقته لا أقف حياله ولا أهتم به لأن هذه حرية شخصية فى الاعتقاد، وبخاصة أنه لم يتحدث أمامى فى شىء من ذلك، وإن لم ألحظ أنه قد شاركنا الصلاة يوما.
ولكن هذه نقرة، وإيمان كل مسلم بصحة دينه المطلقة ورفض قلبه وعقله التسوية بينه وبين الأديان والمذاهب الفلسفية الأخرى نقرة مختلفة. ولو سمع المسلمون نصيحة عبد الله إبراهيم وسووا بين دينهم وبينها أو بالأحرى أن يهملوه ويروا فيه مجموعة من الأساطير الملطوشة من هنا وهناك لكانوا مكذبين بالقرآن مثله ولما صلحوا للوقوف فى وجه العدوان البشع الذى بادأهم به خصومهم داخليا وخارجيا بل صاروا على شاكلته همازين لمازين للإسلام عيابين عليه ساخرين منه ومغرمين بضربه تحت الحزام كما يفعل كاتبنا فى أوقات التقية، وبصراحة ووقاحة فى أوقات الاطمئنان. إن التميع الذى يريد الكاتب المسكين من المسلمين أن ينتهجوه فى علاقتهم بدينهم والأديان الأخرى لا يصلح للرجال. حرية الآخرين فى رفضهم للإسلام والبقاء على دياناتهم، وهو ما يحترمه الإسلام ويحميه، شىء، وتضعضع يقين المسلمين بدينهم والتسوية بين الأديان الأخرى وبينه شىء آخر. وها هو ذا عبد الله إبراهيم يصب تشكيكاته ولمزاته صبا على الإسلام والمسلمين، ومهما حاولتَ معه أن يكف عن ذلك التعصب ضد الإسلام ويعتقد بدلا منه أن الأديان والمذاهب الفلسفية كلها متساوية كما يزعم أنه يؤمن به وأن للإسلام إذن الحق فى أخذ مكان له تحت الشمس أسوة بها فلن تنجح. فهو إذن يبيح لنفسه ما يحرّمه على أتباع الإسلام.
ثم إن كتاب الإسلام، من حرصه على عدم تضييع الوقت فى الجدال غير المفيد وتجنب عناد الكافرين به المصرين على الوقوف فى وجهه كبرا وعدوانا وكراهية للحق، ليأمر الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه أن يقول لمثل هؤلاء: "وإنّا أو إيّاكم لَعَلَى هُدًى أو فى ضلالٍ مبين"، ويكتفى بتذكيرهم بأنهم جميعا سوف يقفون أمام الديان يوم القيامة ليحاسبهم ويجازى كلا من الفريقين بما يستحق. ولا أحسب أن هناك موقفا فى نبل هذا الموقف وسموه وكرمه وعظمته. ولا يقف الأمر عند هذا الحد بل يعلن القرآن فى آذان الدنيا كلها حتى آخر الزمان: "ومَنْ يشاقِقِ الرسول من بعد ما تبيَّنَ له الهُدَى ويَتَّبِعْ غير سبيل المؤمنين نُوَلِّه ما تَوَلَّى ونُصْلِه جهنم وساءتْ مصيرا"، وهو ما يعنى، إلى جانب ترك كل إنسان واختياره، أن من لم يتضح له وجه الهدى بعد التفكير المخلص فى دعوة الإسلام أو لم تصل إليه تلك الدعوة أصلا أو بلغتْه محرَّفةً مشوَّهةً فإن الله غفور رحيم. كما أن الله سبحانه قد عاتب المسلمين على عهد الرسول حين لم يبالوا بإعلان بعض المشركين إسلامهم من خلال إلقاء السلام عليهم ومعاملتهم بوصفهم لا يزالون على شركهم فقال لهم منبها ومعلما: "يا أيها الذين آمنوا، إذا ضَرَبْتُم فى سبيل الله فتبيَّنوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلامَ: لستَ مؤمنا. تبتغون عَرَضَ الحياة الدنيا؟ فعند الله مغانمُ كثيرةٌ. كذلك كنتم من قَبْلُ فمَنَّ الله عليكم فتبيَّنوا. إن الله كان بما تعملون خبيرا". فكيف يعيب عبد الله إبراهيم الإسلام من هذه الناحية؟
وفى الفصل الذى نتحدث عنه الآن يزعم عبد الله إبراهيم أن المسلمين لا يهتمون بشىء آخر غير القرآن لإيمانهم بأنه يحتوى على كل شىء يحتاجونه، وعليه فليس لهم فى أى شىء آخر من العلوم حاجة. وهذا كلام متهافت وعامى ولا يقوله أى شخص فى رأسه مُسْكَة من عقل. فالقرآن لا يحتوى على كل شىء بهذا المعنى السطحى التافه بل المقصود أن قيمه ومبادئه الكريمة تغنينا وتسد احتياجاتنا. فأما تفاصيل الحياة فلا تنتهى، وهو ما يحوجنا إلى كل علم وصنعة وفن، وإلا فكيف نأكل؟ وكيف نبنى بيوتنا ونصنع أثاثنا وننشئ معاهد تعليمنا ونبنى مصانعنا وننتج وسائل مواصلاتنا ونكتشف أسرار عالمنا ونبتكر آلاتنا ونعالج أمراضنا ونزرع نباتاتنا ونربى ماشيتنا و... و... و...؟ وأين بالله عليكم يمكن أن نعثر على نص فى القرآن أو فى السنة يفهم منه ما ادعاه عبد الله إبراهيم على الإسلام كذبا وزورا تحت عنوان "المركزية الدينية"؟ لقد أطلقها رسول الله صريحة وعالية أن البشر أعلم بشؤون دنياهم، وكان يستشير أصحابه دائما فى كل أمر من أمور الحياة. وكلنا نتلو قوله تعالى للرسول الكريم: "ولو كنتَ فظا غليظ القلب لانفضُّوا من حولك. فاعفُ عنهم واستغفرْ لهم وشاوِرْهم فى الأمر". وهذا كلام يناقض كل ما زعمه الكاتب، إذ لو كان معنى المركزية الدينية هو ما شرحها به عبد الله إبراهيم لكان أقمن الناس بممارستها على هذا النحو وقمع كل لسان يخالف ما يقوله هو النبى محمد صلى الله عليه وسلم. إن عبد الله إبراهيم يذكرنا بذلك المتنطع الذى كان يشغب على المسلمين قائلا إن كتابكم يقول: "ما فرَّطْنا فى الكتاب من شىء"، فأرونى إذن آية فى القرآن تقول: كم رغيفا من الخبز تنتجه المخابز كل يوم فى القاهرة؟ وأكتفى بهذا فلا تعليق!
وفى ص 97 من الجزء الأول من "موسوعة السرد العربى" نفاجأ بكلام عن "الوجود على وفق الرؤية الدينية" يشبه رُقَى الجن مما يلجأ إليه العرافون كاتبو الأحجبة التى يزعمون أنها تجلب الخير وتدفع الشر عن حامليها. وهيهات! يقول الكاتب: "الوجود، على وفق الرؤية الدينية التى أوّلت ما جاء فى بعض آى القرآن والأحاديث النبوية حول القلم واللوح المحفوظ، هو فعالية كتابية مستمرة من إنتاج الخطاب. فالكون بكل ما فيه يعيش فى سراب الكتابة منذ ابتداء الزمان إلى منتهاه، والوجود تدافُع حروف القلم على اللوح المحفوظ". هل فهمتم شيئا يا قرائى الأعزاء؟
ثم يمضى مؤلفنا قائلا: "ولكن كيف عالج الخاصة هذه القضية فى مدوناتهم (يقصد "فى كتبهم"، لكنها الرطانة السخيفة والنطاعة المزعجة)؟ صاغ الغزالى (555هـ/ 1111م) الرؤية الكتابية للوجود صياغة عرفانية بقوله: إن الله كتب نسخة العالم من أوله إلى آخره فى اللوح المحفوظ، ثم أخرجه إلى الوجود على وفق تلك النسخة. والعالم الذى خرج إلى الوجود بصورته تتأدَّى منه صورة أخرى إلى الحس والخيال، فإن من ينظر إلى السماء والأرض ثم يغض بصره يرى صورة السماء والأرض فى خياله حتى كأنه ينظر إليهما. ولو انعدمت السماء والأرض وبقى هو نفسه لوجد صورة السماء والأرض فى نفسه كأنه يشاهدها وينظر إليها، ثم يتأدى من خياله أثر إلى القلب، فيحصل فيه حقائق الأشياء التى دخلت فى الحس والخيال. والحاصل فى القلب موافق للعالم الحاصل فى الخيال. والحاصل فى الخيال موافق للعالم الموجود فى نفسه خارجا من خيال الإنسان وقلبه، والعالم الموجود موافق للنسخة الموجودة فى اللوح المحفوظ".
هذا ما نقله عبد الله إبراهيم عن كتاب "إحياء علوم الدين" لأبى حامد الغزالى، ثم انتقل إلى شرح هذا النص قائلا: "اقترح حجة الإسلام تصورا تخيليا عرفانيا للوجود. فالعالم مخطوط سرى وكتابة إلهية على اللوح المحفوظ. وقد استقام العالم عيانا، وأصبح بإرادة إلهية موجودا حينما أمر الخالق بأن يتجسد بوصفه مادة محسوسة. وتبدو درجات التمثيل التى اقترحها الغزالى لمستويات الحس والتخيل مثيرة ومغرية، فهى انطباعات متدرجة لعالم لا يوجد إلا فى تخيلاتنا. فالأصل محفوظ فى اللوح، ولا سبيل للوصول إليه وإدراكه بل تتعذر معرفته. ونحن نعيش جميعا فى وهم التخيلات السعيدة كالناظر إلى السماء والأرض، فيثبِّت صورتهما فى نفسه، فتصبح تلك الصورة هى الحقيقية بالنسبة له حينما تتوارى الأشياء. ليس ثمة حاجة للحقائق العيانية لأن الحقائق التى اقترحها الغزالى قابعة فى الخيال".
وهذا الشرح الذى قدمه د. عبد الله إبراهيم لنص الغزالى هو شرح فاسد. فالغزالى لم يقصد شيئا مما قاله الدكتور بل المقصود أن العالم كان موجودا بالقوة ثم خرج إلى النور (والكلام هنا مجازى) حين شاء الله له أن يبرز إلى الوجود الفعلى. وإن أردنا تقريب الأمر إلى أذهاننا أكثر قلنا إن المهندس المعمارى مثلا يضع رسما للمبنى أولا ثم يجهز الطوب والرمل والأسمنت والزلط والماء والحديد والأسلاك والأخشاب والمسامير بعد ذلك ثم يبدأ بناء البيت. ونحن نرى المبنى بعيوننا رؤية مباشرة إذا ما وقفنا أمامه ووجهنا عيوننا إليه ودرنا حوله وجبناه من الداخل غرفة غرفة... وهكذا. ويظل ما رأيناه من البيت مطبوعا فى ذاكرتنا حتى إذا ما ابتعدنا عنه وغاب عن نظرنا لم يغب عن خيالنا. فإذا ما عدنا إليه وأبصرناه بعيوننا انتقلنا من رؤية الذاكرة إلى رؤية الباصرة. هذا ما يقصده الغزالى، أما ما يقوله عبد الله إبراهيم فهو كلام فى الهجايص يحاول أن يضحك به على القراء الطيبين موهما إياهم أنهم أمام مفكر عميق لا يستطيع أحد أن يخوض المحيطات العميقة المهلكة مَخَاضَهُ ويخرج منها سالما وقد أتى بسمكة القرش من ذيلها كما صنع هو! وبالمناسبة فكل مرئياتنا ومسموعاتنا ومشموماتنا وملموساتنا ومذوقاتنا تقريبا تنتمى إلى الماضى، ونخبرها نحن بعين الخيال، إذ الحاضر لا يشكل شيئا يذكر إلى جانب ما مضى، فهو لا يزيد عن لحيظةٍ بحال.
هذا، ولكن واقع الأمر فى الإسلام يكذّب ما يزعمه د. عبد الله إبراهيم بشأن وضع الكتابة فى الإسلام تكذيبا قاتلا: فقد تتبعتُ الكلمات المشتقة من مادة "ك ت ب" فألفيتها تنوف على الثلاثمائة والثلاثين ما بين فعل مجرد وغير مجرد ومصدر واسم وصفة. وليس فى كتاب الله أى أمر بالاكتفاء بالشفاهية بل يأمر بكتابة كل شىء. ومعروف أن الآيات الأولى من القرآن تذكر بكل وضوح "القلم" وتمتن به على العباد. كما تنسب الكتابة فيه لله سبحانه ذاته، وكذلك للملائكة، وتغطى الكتابة كل شىء فى حياتنا: من أقدار قدرها الله على مخلوقاته، وأحكام فرضها عليهم أو حببها إليهم، وأعمال نجترحها وتسجّلها الملائكة لنا أو علينا، وكتب نتسلمها يوم القيامة: بيميننا إن كنا من أصحاب اليمين، وشمالنا إن كنا من الخاسرين الفاشلين. بل إن القرآن ليذكر أن الله كتب على نفسه كذا وكذا. وبطبيعة الحال فإنه سبحانه وتعالى لا يحتاج إلى أن يكتب شيئا أو يُكْتَب له شىء، ولكن هكذا جرى التعبير لأن الله أنزل كتابه بالعربية، وهى لغة الرسول وقومه الذين بعث فيهم، والعربية بل كل لغات العالم تقوم فى شطر كبير منها على المجاز. ولأمر ما سمى الله سبحانه القرآن بـ"الكتاب" و"الصحف".
ونفس الكلام يصدق على الحديث الشريف. أما ما ادعاه عبد الله إبراهيم من أن الرسول قد قلل من شأن الكتابة والكتاب فهو كذب، بل الروايات القليلة جدا الواردة فى هذا الموضوع إنما تتعلق بالنهى عن كتابة أحاديثه صلى الله عليه وسلم لا بالكتابة بوجه عام. ورغم ذلك كان من يحب من الصحابة تسجيل الأحاديث النبوية بالقلم والورق يفعل هذا دون أى حرج. وهذا أمر معروف، ولم يكن من الحصافة أن يقدم المؤلف على اجتراح هذه الكذبة البلقاء التى لا تحتاج إلى أى جهد لنسفها من جذورها وتذريتها فى الريح. لقد كان للرسول كتبة للوحى يسجلون بالقلم كل نص يتنزل من السماء أولا بأول. كما كان له كتبة يخطون رسائله للملوك والزعماء ومشايخ القبائل ويخطّون المعاهدات بينه وبين هذه القبيلة أو تلك. وفور انتهاء غزوة بدر اتفق مع أسرى المشركين على أن يعلم كل منهم عشرة صبيان مسلمين لقاء إطلاق سراحهم. وهذه مجرد عينة ضئيلة من الأحاديث التى تتعلق بالكتابة فى عهده وعهد الصحابة، وهو أقرب عهد فى تاريخ الإسلام للجاهلية، التى سادت فيها الأمية بلاد العرب، فجاء الإسلام بنوره الوهاج وصارت العرب فى غضون أعوام قلائل سادة الدنيا فى الكتابة والقراءة والثقافة، وأضحت المثال الأعلى فى مضمار الحضارة. ولقد كانت نقطة الانطلاق فى ذلك هى اقتراح الرسول الكريم على أسارى بدر تعليم كل منهم عشرة من صبيان المسلمين مقابل تركهم يعودون إلى بلادهم دون أن يدفعوا شيئا كما قلنا. وهى خطوة عبقرية من عقلية فذة لا نظير لها.
والآن إلى العينة الحديثية التى أشرت إليها: "لَمّا قَضى اللَّهُ الخَلْقَ كَتَبَ فى كِتابِهِ فَهو عِنْدَهُ فَوْقَ العَرْشِ: إنَّ رَحْمَتى غَلَبَتْ غَضَبِى"، وعن محمد بن على بن الحنفية "أَرْسَلَنِى أَبِى: خُذْ هذا الكِتابَ، فاذْهَبْ به إلى عُثْمانَ، فإنَّ فيه أَمْرَ النبى ﷺ فى الصَّدَقَةِ"، وعن على بن أبى طالب "بَعَثَنِى رَسولُ اللَّهِ ﷺ أنا والزُّبَيْرَ والمِقْدادَ بنَ الأسْوَدِ، قالَ: انْطَلِقُوا حتّى تَأْتُوا رَوْضَةَ خاخٍ، فإنَّ بها ظَعِينَةً، ومعها كِتابٌ، فَخُذُوهُ منها"، وعن سعد بن معاذ "كانَ النبى ﷺ يُعَلِّمُنا هَؤُلاءِ الكَلِماتِ كما تُعَلَّمُ الكِتابَةُ: اللَّهُمَّ إنِّى أعُوذُ بكَ مِنَ البُخْلِ، وأَعُوذُ بكَ مِنَ الجُبْنِ، وأَعُوذُ بكَ مِن أنْ نُرَدَّ إلى أرْذَلِ العُمُرِ، وأَعُوذُ بكَ مِن فِتْنَةِ الدُّنْيا وعَذابِ القَبْرِ"، وعن أبى سفيان "أنَّ هِرَقْلَ أرْسَلَ إلَيْهِ وهُمْ بإيلِياءَ، ثُمَّ دَعا بكِتابِ رَسولِ اللَّهِ ﷺ. فَلَمّا فَرَغَ مِن قِراءَةِ الكِتابِ كَثُرَ عِنْدَهُ الصَّخَبُ، فارْتَفَعَتِ الأصْواتُ، وأُخْرِجْنا، فَقُلتُ لأصْحابِى حِينَ أُخْرِجْنا: لقَدْ أَمِرَ أمْرُ ابْنِ أبِى كَبْشَةَ أنه يَخافُهُ مَلِكُ بَنِى الأصْفَرِ"، وعن زيد بن ثابت "أنَّ النبى ﷺ أَمَرَهُ أَنْ يَتَعَلَّمَ كِتابَ اليَهُودِ حتّى كَتَبْتُ للنبى ﷺ كُتُبَهُ، وَأَقْرَأْتُهُ كُتُبَهُمْ إِذا كَتَبُوا إِلَيْهِ"، وعن عبد الرحمن بن عوف "كُنْتُ جالِسًا مع جابِرِ بنِ زَيْدٍ وعَمْرِو بنِ أَوْسٍ، فَحَدَّثَهُما بَجالَةُ سَنَةَ سَبْعِينَ، عامَ حَجَّ مُصْعَبُ بنُ الزُّبَيْرِ بأَهْلِ البَصْرَةِ عِنْدَ دَرَجِ زَمْزَمَ، قالَ: كُنْتُ كاتِبًا لِجَزْءِ بنِ مُعاوِيَةَ عَمِّ الأحْنَفِ، فأتانا كِتابُ عُمَرَ بنِ الخَطّابِ قَبْلَ مَوْتِهِ بسَنَةٍ: فَرِّقُوا بيْنَ كُلِّ ذِى مَحْرَمٍ مِنَ المَجُوسِ، ولَمْ يَكُنْ عُمَرُ أَخَذَ الجِزْيَةَ مِنَ المَجُوسِ حتّى شَهِدَ عبدُ الرَّحْمَنِ بنُ عَوْفٍ أنَّ رَسولَ اللَّهِ ﷺ أَخَذَها مِن مَجُوسِ هَجَرَ"، وعن البراء بن عازب "اعْتَمَرَ النَّبى ﷺ فى ذِى القَعْدَةِ، فأبى أهْلُ مَكَّةَ أنْ يَدَعُوهُ يَدْخُلُ مَكَّةَ حتّى قاضاهُمْ على أنْ يُقِيمَ بها ثَلاثَةَ أيّامٍ. فَلَمّا كَتَبُوا الكِتابَ كَتَبُوا: هذا ما قاضى عليه مُحَمَّدٌ رَسولُ اللَّهِ. فَقالوا: لا نُقِرُّ بها. فلوْ نَعْلَمُ أنَّكَ رَسولُ اللَّهِ ما مَنَعْناكَ، لَكِنْ أنْتَ مُحَمَّدُ بنُ عبدِ اللَّهِ. قالَ: أنا رَسولُ اللَّهِ، وأَنا مُحَمَّدُ بنُ عبدِ اللَّهِ. ثُمَّ قالَ لِعَلِىٍّ: امْحُ "رَسولُ اللَّهِ". قالَ: لا واللَّهِ، لا أمْحُوكَ أبَدًا. فأخَذَ رَسولُ اللَّهِ ﷺ الكِتابَ فَكَتَبَ: هذا ما قاضى عليه مُحَمَّدُ بنُ عبدِ اللَّهِ"، و"أنَّ أبا بَكْرٍ رَضى اللهُ عنه كَتَبَ له هذا الكِتابَ لَمّا وجَّهَهُ إلى البَحْرَيْنِ: بسْمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ، هذِه فَرِيضَةُ الصَّدَقَةِ الَّتى فَرَضَ رَسولُ اللهِ ﷺ على المُسْلِمِينَ، والَّتى أمَرَ اللهُ بها رَسولَهُ. فمَن سُئِلَها مِنَ المُسْلِمِينَ على وجْهِها فَلْيُعْطِها..."، وعن سراقة بن مالك "... فرَكِبْتُ فَرَسِى حتّى جِئْتُهُمْ، ووَقَعَ فى نَفْسِى، حِينَ لَقِيتُ ما لَقِيتُ مِنَ الحَبْسِ عنْهمْ، أنْ سَيَظْهَرُ أمْرُ رَسولِ اللَّهِ ﷺ، فَقُلتُ له: إنَّ قَوْمَكَ قدْ جَعَلُوا فِيكَ الدِّيَةَ. وأَخْبَرْتُهُمْ أخْبارَ ما يُرِيدُ النّاسُ بهِمْ، وعَرَضْتُ عليهمُ الزّادَ والمَتاعَ، فَلَمْ يَرْزَآنِى ولَمْ يَسْأَلانِى، إلى أنْ قالَ: أخْفِ عَنّا. فَسَأَلْتُهُ أنْ يَكْتُبَ لى كِتابَ أمْنٍ، فأمَرَ عامِرَ بنَ فُهَيْرَةَ، فَكَتَبَ فى رُقْعَةٍ مِن أدِيمٍ"، "كَتَبَ نَجْدَةُ بنُ عامِرٍ إلى ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: فَشَهِدْتُ ابْنَ عَبّاسٍ حِينَ قَرَأَ كِتابَهُ وحِينَ كَتَبَ جَوابَهُ، وَقالَ ابنُ عَبّاسٍ: واللَّهِ لَوْلا أَنْ أَرُدَّهُ عن نَتْنٍ يَقَعُ فيه ما كَتَبْتُ إلَيْهِ، وَلا نُعْمَةَ عَيْنٍ. قالَ: فَكَتَبَ إلَيْهِ: إنَّكَ سَأَلْتَ عن سَهْمِ ذِى القُرْبى الذى ذَكَرَ اللَّهُ مَن هُمْ؟..."، "جاءَنا كِتابُ عُمَرَ وَنَحْنُ بأَذْرَبيجانَ مع عُتْبَةَ بنِ فَرْقَدٍ أَوْ بالشّامِ: أَمّا بَعْدُ فإنَّ رَسولَ اللهِ ﷺ نَهَى عَنِ الحَرِيرِ إلا هَكَذا إصْبَعَيْنِ"، وعن سبيعة بنت الحارث الأسلمية "أنَّهُ كَتَبَ إلى ابْنِ الأرْقَمِ أنْ يَسْأَلَ سُبَيْعَةَ الأسْلَمِيَّةَ: كيفَ أفْتاها النبى ﷺ؟ فقالَتْ: أفْتانِى إذا وضَعْتُ أنْ أنْكحَ"، وعن أنس "أنَّ أبا بَكْر كَتَبَ له فَرِيضَةَ الصَّدَقَةِ الَّتى فَرَضَ رَسولُ اللَّهِ ﷺ: ولا يُجْمَعُ بيْنَ مُتَفَرِّقٍ ولا يُفَرَّقُ بيْنَ مُجْتَمِعٍ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ"،" كَتَبَ إلَيْهِ عبدُ اللَّهِ بنُ أبِى أوْفى فَقَرَأْتُهُ، فَإِذا فِيهِ أنَّ رَسولَ اللَّهِ ﷺ قالَ: لا تَتَمَنَّوْا لِقاءَ العَدُوِّ، وسَلُوا اللَّهَ العافِيَةَ"، "كتَبَ أبو بَكْرَةَ إلى ابْنِهِ، وكانَ بسِجِسْتانَ، بأَلّا تَقْضِى بيْنَ اثْنَيْنِ وأَنْتَ غَضْبانُ، فإنِّى سَمِعْتُ النَّبى ﷺ يقولُ: لا يَقْضِيَنَّ حَكَمٌ بيْنَ اثْنَيْنِ وهو غَضْبانُ"، "سَأَلْتُ عَبْدَ اللَّهِ بنَ أبِى أوْفى رَضِى اللَّهُ عنْهما: أوْصَى النبى ﷺ؟ فَقالَ: لا. فَقُلتُ: كيفَ كُتِبَ على النّاسِ الوَصِيَّةُ، أوْ أُمِرُوا بها؟ قالَ: أوْصى بكِتابِ اللَّهِ"، وعن على بن أبى طالب "كنّا فى جنازَةٍ فى بَقِيعِ الغَرْقَدِ، فأتانا النبى ﷺ فَقَعَدَ، وقَعَدْنا حَوْلَهُ، ومعهُ مِخْصَرَةٌ، فَنَكَّسَ فَجَعَلَ يَنْكُتُ بمِخْصَرَتِهِ، ثُمَّ قالَ: ما مِنكُم مِن أحَدٍ، ما مِن نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ إلا كُتِبَ مَكانُها مِنَ الجَنَّةِ والنّارِ، وإلا قدْ كُتِبَ: شَقِيَّة أوْ سَعِيدَة. فقالَ رَجُلٌ: يا رَسولَ اللَّهِ، أفَلا نَتَّكِلُ على كِتابِنا ونَدَعُ العَمَلَ؟ فمَن كانَ مِنّا مِن أهْلِ السَّعادَةِ فَسَيَصِيرُ إلى عَمَلِ أهْلِ السَّعادَةِ، وأَمّا مَن كانَ مِنّا مِن أهْلِ الشَّقاوَةِ فَسَيَصِيرُ إلى عَمَلِ أهْلِ الشَّقاوَةِ. قالَ: أمّا أهْلُ السَّعادَةِ فيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ السَّعادَةِ، وأَمّا أهْلُ الشَّقاوَةِ فيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ الشَّقاوَةِ..."، وعن أبى سعيد الخدرى "أنَّهُ بينما هو جالِسٌ عِنْدَ النبى ﷺ قالَ: يا رَسولَ اللَّهِ، إنّا نُصِيبُ سَبْيًا، فَنُحِبُّ الأثْمانَ. فَكيفَ تَرى فى العَزْلِ؟ فَقالَ أوَإنَّكُمْ تَفْعَلُونَ ذلكَ؟ لا علَيْكُم ألا تَفْعَلُوا ذَلِكُمْ، فإنَّها ليسَتْ نَسَمَةٌ كَتَبَ اللَّهُ أنْ تَخْرُجَ إلا هى خارِجَةٌ"، "سَمِعْتُ أبا بُرْدَةَ، واصْطَحَبَ هو ويَزِيدُ بنُ أبِى كَبْشَةَ فى سَفَرٍ، فَكانَ يَزِيدُ يَصُومُ فى السَّفَرِ، فَقالَ له أبو بُرْدَةَ: سَمِعْتُ أبا مُوسى مِرارًا يقولُ: قالَ رَسولُ اللَّهِ ﷺ: إذا مَرِضَ العَبْدُ أوْ سافَرَ كُتِبَ له مِثْلُ ما كانَ يَعْمَلُ مُقِيمًا صَحِيحًا"، وعن ابن عباس قال: "ما رَأَيْتُ شيئًا أشْبَهَ باللَّمَمِ ممّا قالَ أبو هُرَيْرَةَ، عَنِ النبى ﷺ: إنَّ اللَّهَ كَتَبَ على ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنَ الزِّنا، أدْرَكَ ذلكَ لا مَحالَةَ: فَزِنا العَيْنِ النَّظَرُ، وزِنا اللِّسانِ المَنْطِقُ، والنَّفْسُ تَمَنَّى وتَشْتَهِى، والفَرْجُ يُصَدِّقُ ذلكَ كُلَّهُ ويُكَذِّبُهُ"، وعن أبى هريرة "ما مِن أصْحابِ النبى ﷺ أحَدٌ أكْثَر حَدِيثًا عنْه مِنِّى، إلا ما كانَ مِن عبدِ اللَّهِ بنِ عَمْرٍو، فإنَّه كانَ يَكْتُبُ ولا أكْتُب"، "إنَّ الصِّدْقَ يَهْدِى إلى البِرِّ، وإنَّ البِرَّ يَهْدِى إلى الجَنَّةِ، وإنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حتّى يَكونَ صِدِّيقًا. وإنَّ الكَذِبَ يَهْدِى إلى الفُجُورِ، وإنَّ الفُجُورَ يَهْدِى إلى النّارِ، وإنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حتّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذّابًا".
إن عبد الله إبراهيم إنما يريد الطعن فى الإسلام وتشويهه بتصويره على أنه دين شفاهى، أى متخلف لا يصلح لنا الآن بعدما صار فينا من يكتب ويقرأ كعبد الله إبراهيم على سبيل المثال. وهو هنا لم يرجع إلى القرآن، الذى يمكن كشف تلاعبه بنصوصه وليّها إلى الناحية التى تخدم غرضه الماكر، ويكتفى بالحديث النبوى رغم قوله إن الحديث يحتل المرتبة الثانية بعد القرآن، فكان ينبغى أن يستعين أولا بالقرآن، لكن القرآن، بنصوصه الكثيرة جدا عن الكتاب والكتابة وأهميتهما القصوى فى حياة الإنسان وفى تدينه، لن يسعفه حين يقصد إلى الهمز واللمز، ومن ثم أهمله وقصد إلى الأحاديث ظنا منه أنْ يجد مسوغا لعزف نغمته المسئمة عن اشتمال القرآن فى كل مسألة على الحكم ونقيضه مما يجعله عديم الفائدة. ومع هذا لم يورد منها سوى حديثين اثنين لا غير، وفوق ذلك متعارضين.
وبالمناسبة فهو يقول، ضمن ما قال فى كتابه هذا، إن الكتابة تمنع التلاعب فى الكلام. وأقول له: بأية أمارة؟ لقد جئتَ إلى قطر من ليبيا حيث كنت تعمل مدرسا (أستاذ مساعد فى اصطلاح السعودية مثلا) فى بلاد القذاذفة، أى مجرد دكتور فى أول السلم التراتبى لأساتذة الجامعة، لكنك اهتبلتَ عدم تنبه القطريين إلى أن رتبة "الأستاذ المساعد" فى الجامعات الليبية لا تعنى ما تعنيه نفس الرتبة فى جامعتها هى ولا فى الجامعات المصرية على سبيل المثال، وأفهمتَهم أنك "أستاذ مساعد" باصطلاحهم وصرت تقبض مرتب الأستاذ المساعد سحتا وخسة ونذالة عدة أعوام إلى أن انكشف أمرك "مصادفة". فها نحن أولاء نرى أن الكتابة هنا متمثلةً فى أوراقك التى قدمتها للجامعة لتحصل على الوظيفة، وهى أوراق مكتوبة على الكاتوب ومختومة بختم الجامعة الليبية وختم الجامعة وختم جهة توثيق تلك الأوراق، ولكن تلك الأوراق رغم كل هذه الاحتياطات لم تمنع وقوع التزييف والتدليس البشع. فالمهم فى المقام الأول إذن هو معدن الشخص، وإلا فكل الناس تعلم أن المحاكم تعج بقضايا العقود المزورة، أو "المضروبة" بلغتنا هذه الأيام. وكثيرا ما ضاعت حقوق من خلال هذه الطريقة. وليس معنى هذا أننا نسوى بين المشافهة والكتابة، بل الكتابة أقوى تحوطا بطبيعة الحال، لكنها لا تحسم الأمر حسما باتا.
وأذكر هنا أن مدير السكن الجامعى الخاص بطلاب الدراسات العليا المتزوجين بجامعة أكسفورد حيث كنت أقطن أنا وأسرتى عند دراستى للحصول على درجة الدكتوراه فى الأدب والنقد قد أقيل من منصبه قبيل خروجه على المعاش لاكتشافهم أن الأوراق التى تولى وظيفته على أساسها كانت مزورة. وما أكثر الفلوس المزورة الآن، ويصعب إلا على المتخصصين اكتشاف ذلك. وكان مسؤولو المكتب الثقافى البريطانى فى مصر مثلا يثقون فى أية شهادة دراسية جامعية حصل الواحد منا عليها من إحدى جامعاتهم ويصدّقون عليها سريعا حين نقدمها لهم لتوثيقها،ثم فوجئنا فى العقود الأخيرة أنهم يتصلون أولا بالجامعة التى أصدرت الشهادة ليتحققوا أنها شهادة صحيحة وليست مزيفة، ومن ثم صار التصديق على الشهادات يأخذ وقتا.
وأذكر كذلك ما كنا نقرؤه فى كتب القدماء من أن النصوص المصادمة للدين فى هذا الكتاب أو ذلك ليست من عمل مؤلفيها بل دسها عليهم بعض تلاميذهم للإساءة إليهم. ومن ذلك ما كتبه بعض المتصوفة تبريرا لما فى كتابات كبارهم مما لا يقبله ضمير المسلم، فادَّعَوْا أن ذلك لم يكن موجودا فى النص الأصلى ثم أضيف إليه فيما بعد. والغريب أنهم لم يحاولوا إظهار الكتاب المذكور فى نصه الصحيح قبل الإضافات المدَّعاة. ولى بحث طويل عن التهمة التى زُنَّ بها ابن المقفع قديما من أنه زنديق، فقد ذكروا أنه كتب رسالة يناطح بها القرآن ويزعم أنه من صنع النبى محمد. وقد تمحضت لدراسة هذه الرسالة وقلبت النظر فى تلك القضية على كل جوانبها وانتهيت إلى أن الرسالة لا تخص ابن المقفع المعروف بل ابن مقفع آخر جاء بعده بزمن غير قصير. ولم يمنع كون الرسالة مكتوبة من صدور هذا الاتهام بقلم عالم كبير الشأن كابن طباطبا العلوى.
ثم هل منعت المصاحف المكتوبة المستشرق الفرنسى ريجى بلاشير من إضافة العبارتين المشهورتين المثنيتين على اللات والعزى ومناة واللتين ورد فى بعض الروايات أنهما كانتا جزءا من سورة "النجم"، إذ نطقهما النبى ضمن آيات السورة المذكورة فى حضور المسلمين والمشركين ثم حذفتا فى وقت متأخر من نفس اليوم، هل منع خلوّ النص القرآنى المكتوب من هاتين العبارتين المناقضتين للإسلام والقرآن تمام المناقضة أن يُقْدِم بلاشير بعد 14 قرنا على تضمين جُمْلَتَىْ: "إنهن الغرانيق العلا * وإن شفاعتهن لترتجى" فى ترجمته لسورة "النجم"؟ بل هل منعه هو أو رودويل وداوود المستشرقَيْن البريطانيين مثلا ترتيب السور القرآنية فى المصاحف المكتوبة والمحفوظة فى الصدور على ترتيب واحد طوال هاتيك القرون من إعادة ترتيبه فى ترجماتهم للقرآن على نحو آخر؟ وهل منعت الشهادات المطبوعة والمختومة والموثقة من وزارة الخارجية تلك التى أحضرها عبد الله إبراهيم، هل منعته من التلاعب بكلماتها والزعم الكاذب بأنه أستاذ مساعد والتقدم بعد ذلك إلى نيل رتبة الأستاذية رغم أنه لم يكن سوى مدرس سنكوح؟
ومعروف لنا كلنا ظاهرة سرقة الدراسات والكتب المطبوعة على المشباك (الإنترنت) أو على الورق وانتحالها من قبل بعض الأشخاص الكسالى أو الجهلاء، دون أن يمنع انتشارها بين جمهور القراء مطبوعة من سرقة بعض المجرمين لها ونسبتها إلى أنفسهم. وبعض الرسائل العلمية التى يحصل بها أصحابها على الماجستير والدكتوراه هى فى الواقع مسروقة كليا أو جزئيا من كتب أو دراسات أو رسائل أخرى. وبعضها ينفذ صاحبها بجلده ولا ينكشف أمره، وبعضها يفتضح وتظهر حقيقة أمره. وصار هذا يتكرر كثيرا بآخرة.
على أن ذلك كله لا يعنى ولا ينبغى أن يعنى أن ليست هناك مناهج علمية تفضح مثل تلك التلاعبات. ففى كل قضية من هذا القضايا يجد القراء دراسات لى، وأنا لست من كبار المفكرين والكتاب، تبين بالتحليل الأسلوبى، إلى جانب التحليل النفسى والاجتماعى والسياقى، زيف تلك الادعاءات. وكل منها مبثوث فى عدد من مؤلفاتى على نحو أو على آخر. وقد كتب الكثيرون وأفاضوا وأبْلَوْا بلاء حسنا فى معالجة مثل تلك القضايا. ومن ذلك أيضا الدراسة المطولة التى درسْتُ فيها ما يسمى بـ"سورة النورين"، وهى السورة التى يقول فريق من الشيعة إنها كانت جزءا من القرآن ثم حذفها الحزب المناوئ لعلى وذريته حتى لا يتبوأوا منصب الخلافة على الدوام ويضيع حقهم. وقد محصت كل فكرة وكل آية بل كل جملة بل كل كلمة وكل صيغة فى ذلك النص وقارنت بينها وبين نظائرها فى القرآن، فألفيت الفرق بينهما كالمسافة التى تفصلنا عن الشمس.
وقبل أن نغادر هذه النقطة نحب أن نشير إلى قول كاتبنا إن المسلمين ألحوا على أُمِّيّة النبى صلى الله عليه وسلم درءا لتهمة الأخذ عن كتب السابقين (1/ 115). يعنى أن الرسول كان يقرأ ويكتب، لكن القرآن كَذَبَ ووصفه بـ"الأمى" رغم ذلك، كما أن المسلمين الأوائل غطَّوْا عليه ليجنبوه تهمة قراءة كتب السابقين، ومكتشف هذا هو عبد الله إبراهيم. ولكن سوف أقلب الوضع وأنتقل إلى صف عبد الله إبراهيم وأكون محامى الشيطان لنرى إلى أى مدى يمكن أن يؤدى القول بمعرفة الرسول للقراءة والكتابة: ترى لو كان الرسول كاتبا قارئا فهل يساعد هذا تلقائيا على ابتلاع تهمة أخذه عن كتب السابقين؟ ترى هل رآه أحد وهو يمسك كتابا من كتب الأقدمين أو المعاصرين أو حتى من كتب عبد الله إبراهيم؟ أم تراه كانت عنده مكتبة يخفيها تحت الأرض فى كل حجرة من حجرات زوجاته بحيث لا يعرف مكانها أحد ولا حتى الذّبّان الأزرق، وما إن تنام الزوجة صاحبة الحجرة وتروح فى سابع نومة حتى يهب من مرقده وينزل تحت الأرض فى سكوت تام وحذر شديد حيث المكتبة السرية ويفتح الكتب والمعاجم والموسوعات الدينية المكتوبة بلغات المنطقة وغير المنطقة ويكبش مما فيها ويحفظه فى رأسه حتى إذا ما سئل عن شىء ما "أعاد إنتاج" ما قرأ وادعى أنه وحى؟ أىّ تنطع هذا يا إلهى؟
ثم ما الذى كان يريده محمد من وراء ذلك كله؟ هل كان يريد المُلْك؟ أبدا. بل كان متواضعا رحيما لا يحب الفخفخة ولا الترف ولا السيادة على الناس ولا حياطة نفسه بالجلاوزة الذين يضربون المارة ويوسعون للملوك الطريق، وكان يعيش كما يعيش العبد حسبما قال هو نفسه صلى الله عليه وسلم. هل كان يريد المال؟ أبدا. بل كان زاهدا يرضى بأقل القليل من مال وطعام وملبس ومسكن. هل كان يريد السمعة والتميز؟ أبدا. بل كان يقول إننى لا أعلم الغيب ولا أدرى ما يُفْعَل بى ولا بكم وأستغفر الله فى اليوم مائة مرة، وإننى ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد بمكة، وإنى فى صباى كنت أرعى الغنم للآخرين بأجر، وإننى كما أصوم أفطر، وكما أقوم الليل أنام، ولا أترهبن بل أتزوج كما يتزوج كل إنسان. فأنَّى لنا الزعم بأنه كان يريد الملك أو التميز أو السمعة؟ وفوق هذا فإن المقارنة الدقيقة المفصلة بين أسلوبه عليه السلام وأسلوب القرآن كفيلة بطرد وسواس اتهامه بتأليف القرآن من مخ كل عاقل عادل، إذ الأسلوبان مختلفان تمام الاختلاف. كما أن أسلوب القرآن الجليل مسكون بالروح الإلهى لا بأنفاس بشرية.
ومن المضحك الذى يدل على ضيق عقل كاتبنا أنه يستشهد بما كتبه الجاحظ فى رسالة "أخلاق الكتّاب" للتدليل على أن الكتابة بالمعنى الذى يخلعه هو عليها سوء وشر، وأن الشفاهية هى الخير كل الخير، ظنا منه أن المقصود بالكتابة فيما استشهد به من بعض ما هو منسوب للرسول عليه السلام وكبار الصحابة وبعض خلفاء الأمويين والعباسيين وغيرهم هو نقيض الشفاهية. وهذا خطأ أبلق، إذ الكتاب الذين يقصدهم الجاحظ هم كتاب الدواوين. ومعروف أن الجاحظ نفسه قد اشتغل بتلك المهنة أياما معدودة ثم استعفى منها فأُعُفِى. ويبدو أنه بَلَا منهم فى ذلك الوقت القصير ما نفَّره من طباعهم وأخلاقهم وسطحية تفكيرهم وغرورهم وكبرهم وعجبهم بأنفسهم ومظهرهم وتصورهم أنهم علماء متعمقون كبار لا يضاهيهم فى مضمار العلم أحد فى حين أنهم مجرد موظفين لا يأتون بشىء من عندهم بل يأتمرون بما يقوله لهم أسيادهم فينفذون ما يريدون، وليسوا مؤلفين مبدعين ولا أحرارا فيما يأتون ويدعون. وكلام الجاحظ واضح، لكن د. عبد الله إبراهيم لم يحسن القراءة والفهم فقال ما قال. ومن قلة فهمه أنه يفسر "السنخ" بـ"القبح" ولا يعرف أنه "الأصل" (السطر الأخير من ص133).
ومن المعلوم للجميع أن الجاحظ متى قصد إل تحسين شىء أو تقبيحه فإنه يستقصى الأمر استقصاء حتى يكون له الغلبة على من يخالفه الرأى. ومعلوم للجميع أيضا أنه كان يكتب مادحا الشىء ونقيضه فى نفس الوقت. وله عدد من الرسائل المشهورة فى ذلك الضرب من التأليف. ولو كان يريد الشفاهية كما يفهم عبد الله إبراهيم كلامه ما أقبل على تأليف رسالة واحدة لأن التأليف يقتضى الكتابة، ولما استأجر دكاكين الوراقين، وهم نساخو الكتب، يقضى فيها أيامه كى يجد ما يكتبه لا ما يقوله شفاها. ولو كان يقصد ذم الكتابة كما يفهمها مؤلفنا لاكتفى بالوقوف فى المساجد أو الساحات أو الأسواق وبث علمه بين الجماهير شفاها ونهاهم مسبقا عن كتابة ما يقول وألح على ذلك إلحاحا عنيفا، وكان الله يحب المحسنين. وبالمناسبة لقد سخر الجاحظ كثيرا بمعلمى الصبيان وذمَّهم وصورهم تصويرا مؤلما، فهل معنى هذا أننا لا ينبغى أن نعلم صبياننا لأن الجاحظ قد ذم أصحاب تلك المهنة؟ شيئا من العقل والتفهم يا عبد الله يا ابن أمة الله، يرحمك الله!
ولعل هذا النص، وهو مقتبس من رسالة "أخلاق الكتاب" يشير إلى الفترة القصيرة التى قضاها الجاحظ فى ديوان الرسائل أيام المأمون حيث عاين عن قربٍ واحتكاكٍ أخلاق الكتاب، ولعلهم شرعوا يدبرون له المكايدات والمضايقات مما يبرع فيه موظفو الحكومة حين يفد عليهم موظف بارع يقوم بعمله على خير وجه ويتميز عليهم بعلمه الواسع وأسلوبه البديع، فيغارون منه ويفكرون فى قلعه من بين أظهرهم حتى لا "يأكل منهم الجو" بتعبيرنا المصرى. وها هو ذا النص المشار إليه:
"جلس الجاحظ يومًا فى بعض الدواوين، فتأمَّل الكتَّاب فقال: خلقٌ حلوة، وشمائل معشوقة، وتظرُّف أهل الفهم، ووقار أهل العلم، فإن ألقيت عليهم الإخلاص وجدتهم كالزَّبَد يذْهب جُفَاءً، وكنْبتة الربيع يُحْرِقها الهَيْف من الرياح. لا يستندون من العلم إلى وثيقةٍ، ولا يدينون بحقيقةٍ. أخفر الخلق لأماناتهم، وأشراهم بالثمن الخسيس لعهودهم. الويل لهم مما كتبت أيديهم وويلٌ لهم مما يكسبون".
ثم هذا هو النص الخاص بعمله أياما فى الديوان، وهو موجود فى الترجمة التى خصصها له ياقوت الحموى فى "معجم الأدباء": "صُدِّر الجاحظ فى ديوان الرسائل (أى وُلِّىَ رئاسة الديوان) أيام المأمون ثلاثة أيام، ثم إنه اسْتَعْفَى، فأُعْفِى. وكان سهل بن هارون يقول: إنْ ثَبَتَ الجاحظ فى هذا الديوان أَفَلَ نجم الكتاب". ويغلب على ظنى أن كتّاب الديوان المأمونى كانوا يخشَوْن استمرار الجاحظ معهم، فأخذوا يزعجونه بألاعيبهم حتى لا يبقى معهم، مما أثار عليهم حنقه، فكتب رسالته عن أخلاقهم: من تلقاء نفسه أو لمن طلب منه تحبيرها، واهتبل تلك السانحة وأصلاهم بنار سياطه وأفرج عن البخار المحبوس فى صدره.
ولو كان الرسول يحقر من شأن الكتابة فلم يا ترى كان يتخذ له كتابا ينسخون القرآن أولا بأول ويكتبون له رسائله إلى هذا الشخص أو تلك الجماعة ويسجلون له المعاهدات التى يعقدها مع هذه الجهة أو تلك؟ ولماذا إذن حرص على تعليم صبيان المدينة القراءة والكتابة على أيدى أسرى قريش فى غزوة بدر؟ أكان يضيع وقت الصبيان المساكين الذين أكبوا على تعلمهما على حساب لعبهم ولهوهم وحريتهم ليفاجأوا به صلى الله عليه وسلم يذم الكتابة والكاتبين بما يعنى أنهم أضاعوا وقتهم هباء، وعلى شىء يذمه صلى الله عليه وسلم؟ والجاحظ: كيف يذم الكتّاب بالمعنى الذى فهمه المؤلف، وهو واحد من الذين كانوا يكتبون ويبثون علمهم من خلال الكتب لا من خلال الشفاهية؟ وكيف يكره الإسلام الكتابة وقد رأينا آياته تعلى من شأن الكتاب والكاتبين والكتابة ويأمر بها عند أية تعاملات فيما بين البشر؟ بل كيف تمضى الحياة وتتقدم الحضارة الإنسانية دون القراءة والكتابة؟ إن هذا لهو المستحيل بعينه يا دكتور يا ابن الحلال!
وهذا نص من رسالة الجاحظ المعنيّة هنا بالكلام، وهو ينبئك بأن المقصود بالكتاب هو كتاب الدواوين الذين يعملون عند الحكام والوزراء والقادة وكبار القوم: "إنَّ للكتّاب طبائع لئيمة، ولولا ذلك لم يكن سائر أهل التجارات والمكاسب بنظرائهم بَرَرَةً، ومن ورائهم لهم حَفَظَةً، وأنتم لأشكالكم مُذِلُّون، ولأهل صنائعكم قَالُون...
ثم وصف من سلف من هذه الطَّبقة يومًا فقال: كتب سالم لهشام بن عبد الملك، وكان أشدَّ الناس غلطًا، وأضعفهم رأيًا، وكان هشامٌ يُحْضِره فيسمع من ضعفه ويستميحه الرأى يهزأ به. ثم كتب لهم مسْعدة وكان مؤدِّبًا، وكانت ضعْفة المؤدِّبين فيه. ثم كتب لهم عبدُ الحميد، وكان معلِّمًا، وبتحامله على نصر بن سيار انتقضت خراسان، وزال ملك بنى مَرْوان. ثم كتب لبنى العباس عبد الله بن المقفَّع، فأغرى بهم عبد الله بن على، ففُطِن له وقُتِل وهُدِم البيت على صاحبه. ثم كتب لهم يونس بن أبى فروة، وكان زنديقًا، فطُلِب فاختفى بالكوفة والنِّيل حتَّى هلك.
واستكتب الرشيد أزدانقاذار على ديوان الخراج، وكان ثنويًّا. ثم لم ينوِّهوا بذكر كاتبٍ حتّى ولى المأمون، فقدم معه ابن أبى العباس الطُّوسى، فبه انتشرت السِّعاية بالعراق. واستكتب أبا عبّاد، وكان بالرَّى مؤدِّبًا، وكان سخيفًا حديدًا، ولم يزل بمكانه فى ديوانه قيمّا لابن أبى خالد الأحول، والاسم له. ثم كتب له رجاء بن أبى الضحَّاك، وكان أظلمهم وأغشمهم، واستخلف حفصويه على ديوان الخراج، وكان ركيكًا لسعايته. ثم كتب لهم ابن يزداد، وكان أشقاهم، حتّى هلك. وكتب لهم عمرو بن مسعدة، وكان رسائليًّا فقط.
واسترجح المأمون وهو بخراسان قبل مقدمه من كُتّاب العراق على غير بلوى إبراهيم بن إسماعيل بن داود وأحمد بن يوسف، فلما قدم امتحنهما فتعنَّتا، فاستنهضهما فى الأعمال ففشلا، فلم يعملا على شىء حتّى هلكا. وكان إبراهيم شُعُوبيا، وكان يُتَّهَم بالثَّنويَّة. فإن كان ذلك صحيحًا فقد كانت صبابته بها على جهة التقليد فيها لا على جهة التفتيش والاحتجاج فيها. وهذه علة المرتدّ من سائر الكتّاب. وقد قال أهل الفطن: إنَّ محض العمى التقليد فى الزندقة لأنَّها إذا رسخت فى قلب امرئ تقليدًا أطالت جرأته، واستغلق على أهل الجدل إفهامه.
وكان أحمد بن يوسف مأفونا، وهو أول من قُرِفَ بالآفة المخالفة لطبع الكتَّاب.

واستقضى على ديوان الخراج والجند إبراهيم الحاسب والحسن بن أبى المشرف، فلَقِنَ إبراهيمُ من سائر الآداب والعلوم علمَ الحساب فقط، ولم يفزع إليه فى قضيةٍ ولا رأى حتّى هلك، فكان الذى وضعه وأدناه شرهه، وهى علَّةٌ قائمة فى كُتّاب الجند خاصة. واستضعف ولاة الدواوين الحسن بن أبى المشرف عند قول الفضل مروان له وهو على الوزارة: " يا حسن، احتجنا إلى رجلٍ جزلٍ فى رأيه، متوفّر لأمانته، متصرِّف فى الأمور بتجربته، مستقدرٍ على الأعمال بعلمه، تصف لنا مكانه، وتشير علينا به، فنقلِّده جسيمًا من عملنا " . فأجابه سريعًا قال: وجدته لك، أصلحك الله، كذلك. قال: من هو؟ قال: أنا. وألح فى قوله، فتبسم الفضل وقال: هذا من غيرك فيك أحسن منك بلسانك لك. نعود وننظر إن شاء الله! وحسبك بقومٍ أنبلهم أخسُّهم فى الرِّزق مرتبة، وأعظمهم غناءً أقلُّهم عند السُّلطان عقلًا. يُرْزَق صاحب ديوان الرسائل، وبلسانه يخاطب الخلق، العُشْر من رزق صاحب الخراج. ويرزق المحرِّر، وبخطِّه يكون جمال كتب الخليفة، الجُزء من رزق صاحب النَّسخ فى ديوان الخراج. لا يحضر كاتب الرسائل لنائبةٍ، ولا يُفْزَع إليه فى حادثة. فإذا أبرم الوزراء التدبير، ووقفوا منها على التقدير، طُرِحَتْ إليه رقعةٌ بمعانى الأمر لينسِّق فيه القول، فإذا فرغ من نظامه واستوى له كلامه، أحضر له محرِّره فجلس فى أقرب المواطن من الخليفة، وأمنع المنازل من المختلفة، فإذا تقضَّى ذلك فهُما والعوّام سواء.
هذا، وليست صناعتهما بفاشيةٍ فى الكتَّاب ولا بموجودة فى العوامّ. فأغزرهم علمًا أمهنهم، وأقربهم من الخليفة أهونهم. فكيف بكاتب الخراج الذى علمه ليس بمحظور، وإشراك الناس فيه ليس بممنوع، يصلح لموضعه كلُّ من عمل وعُمِل عليه، أحمد أحواله عند نفسه التعقُّد على الخصوم، وأسعد أموره التى يرجو بها البلوغ الشَّرَهُ ومنع الحقوق. وأحذق ما يكون بصناعته عند نفسه حين يأخذ بإبطال السُّنن، ويعمل بفلتات الدفوع. ولذلك ما ذكر أنَّ بعض رجال الشَّعْبى قال له: يا أبا عمرو، الكُتَّاب شرار خلق الله! فقال: لا تفعل. ولكنَّ الشعبى كان لسلطانه مُداريًا.
ومن كُتّاب الجند محمود بن عبد الكريم. كان حُمَيْد بن عبد الحميد، عند دخول المأمون مدينة السلام وبعد سكون الهيْج وخمود النَّائرة، رَفَعَ إلى المأمون يذكر أن فى الجند دغلا كثيرًا ممن دخل فيهم بسبب تلك الحروب فى أيام الأجناد، وهم قومٌ من غير أهل خراسان ممَّن تشبَّه بهم وادّعى إليهم من الأعراب والدُّعّار وممن لا يستحقُّ الدِّيوان، وقومٌ من أهل خراسان صارت لهم الخواصُّ السَّنِيَّة، ولم يكن لهم من الغَنَاء ما يستحقُّون به مثلها. وذكر أنَّ بيت المال لا يحتمل ذلك، وسأل المأمون أن يولِّيه تصنيف الجند. ولم يكن مذهبُ حُمَيْدٍ فى ذلك التوفيرَ على المأمون ولا الشفقة على بيت مال المسلمين، ولكنه تعصَّب على أبناء أهل خراسان، واضطغن عليهم محاربتهم إياه أيَّام الحسن بن سهل مع ولد محمد بن أبى خالد وغيرهم، وما كانوا قد انتحوْه به من تلك الوقائع والهزائم، وما ذهب له من الأموال بذلك السَّبب.
فولاه المأمون التصنيف، وأمر للجند برزق شهرين، فولّى حميدٌ العطاء والتصنيف محمود بن عبد الكريم الكاتب، وعرف محمود ما غزا حميد، فتحامل على الناس واستعمل فيهم الأحقاد والدِّمَن، فخفض الأرزاق، وأسقط الخواصَّ، وبعث فى الكُوَر وأنحى على أهل الشرف والبيوتات، حسدًا لهم وإشفاءً لغليل صاحبه منهم، فقصد لهم بالمكروه والتعنّت، فامتنعت طائفة من الناس من التقدم إلى العطاء وتركوا أسماءهم، وطائفة انتدبوا مع طاهر بن الحسين بخراسان، فسقط بذلك السبب بشرٌ كثير".
ثم هذا نص من كتاب "الحيوان" للجاحظ يصف فيه الأديبُ الكبيرُ "الكتاب" وصفا كله هيام وغرام وانتقام. نعم "وانتقام" ممن يظنون به الظنون ويزعمون أنه يكره الكتابة ويفضل المشافهة والحفظ فى الذاكرة عليها: "وعِبْتَ الكِتَابَ، ولا أعلَمُ جارًا أبرَّ، ولا خَليطًا أنصفَ، ولا رفيقًا أطوعَ، ولا معلِّمًا أخضعَ، ولا صاحبًا أظهرَ كفايةً، ولا أقلَّ جِنَايَةً، ولا أقلَّ إمْلالًا وإبرامًا، ولا أحفَلَ أخلاقًا، ولا أقلَّ خِلافًا وإجرامًا، ولا أقلَّ غِيبةً، ولا أبعدَ من عَضِيهة، ولا أكثرَ أعجوبةً وتصرُّفًا، ولا أقلَّ تصلُّفًا وتكلُّفًا، ولا أبْعَدَ مِن مِراءٍ، ولا أتْرَك لشَغَب، ولا أزهَدَ فى جدالٍ، ولا أَكَفَّ عن قتالٍ من كتاب، ولا أعلَمُ قرينًا أحسنَ موَافاةً، ولا أعجَل مكافأة، ولا أحضَرَ مَعُونةً، ولا أخفَّ مؤونة، ولا شجرةً أطولَ عمرًا، ولا أجمعَ أمرًا، ولا أطيَبَ ثمرةً، ولا أقرَبَ مُجتَنًى، ولا أسرَعَ إدراكًا، ولا أوجَدَ فى كلّ إبَّانٍ من كتاب، ولا أعلَمُ نتاجًا فى حَدَاثةِ سنِّه وقُرْب ميلادِه، ورخص ثمنه، وإمكانِ وُجُوده، يجمَعُ من التدابيرِ العجيبَة والعلومِ الغريبة، ومن آثارِ العقولِ الصحيحة، ومحمودِ الأذهانِ اللطيفة، ومِنَ الحِكَم الرفيعة، والمذاهب القوِيمة، والتجارِبِ الحكيمة، ومِنَ الإخبارِ عن القرون الماضية، والبلادِ المتنازِحة، والأمثالِ السائرة، والأمم البائدة ما يجمَعُ لك الكتابُ. قال اللّه عزّ وجلّ لنبيّه عليه الصلاة والسلام: "اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِى عَلَّمَ بِالْقَلَم"، فَوَصَفَ نَفْسَهُ، تبارك وتعالى، بأنْ علَّمَ بالقَلم، كما وصف نفسَه بالكرَم، واعتدَّه بذلك فى نِعَمه العِظام، وفى أيادِيه الجِسام. وقد قالوا: القَلَمُ أحدُ اللسانَين، وقالوا: كلُّ مَنْ عَرَف النِّعْمةَ فى بَيان اللسانِ كان بفضل النِّعمة فى بيانِ القلم أعرَف، ثمَّ جَعَلَ هذا الأمرَ قرآنًا، ثمَّ جعلَه فى أوَّل التنزيل ومستَفْتَح الكتاب".
إن فى د. عبد الله إبراهيم نقصا فاحشا، وهو أنه لا يمحص ما يقرأ ولا يعمل على فحصه بل كلما قابل شيئا فى مراجعه وقام فى وهمه أنه يتماشى مع ما يريد ترسيخه فى ذهن القارئ انقض عليه كالحدأة حينما تنقض من عليائها بسرعة السهم على الكتاكيت وقبض عليه بمخالبه مع أن ما ينقله فى معظم الأحيان مناف للعقل والمنطق. ولو كان عنده موهبة التمحيص والتحقيق لتساءل: إذا كان حال الكتاب هو هذا الحال الذى يصفه الجاحظ، ذلك الرجل الظريف، صحيحا فلم يا ترى لم يغلق رجال الدولة وكبار القوم دواوينهم ويسرحوا كتابهم ويوفروا فلوسهم ما دام الكتّاب بهذه الحماقة وهذا الجهل وتلك البلادة، ويمثلون عبئا باهظا عليهم دون فائدة مجتناة من عملهم؟ بل إنه ليخطئ فهم ما يقرأ فى غير قليل من الأحيان. وقد ضربنا لذلك بعض الأمثلة فى هذه الدراسة الموجودة فى يد القارئ الكريم. ولا ريب فى أن القارئ قد لاحظ منذ البداية أننى أُتْبِع كل شىء أكتبه بالتحليل والتعليل والشرح والتوضيح والتمثيل بحيث لا أترك القارئ إلا وقد أعطيته وأعطيت الموضوع حقهما كاملا.
وبسبب من هذا النقص الذى يعانى منه عبد الله إبراهيم لم يستطع أن يلتفت إلى المفارقة المضحكة فى كل ما استشهد به من كتابات بعض علمائنا القدامى فى العيب على الكتابة والانتصار للمشافهة رغم أنهم فى نفس الوقت يكتبون ما يريدون نشره بين الناس ولا يعتمدون الأسلوب الشفاهى. وهذا أكبر تكذيب لهم، ومن شأنه على الأقل أن يمنعنا من أخذ موقفهم هذا على محمل الجد. ولو كان علينا أن نصدق كل ما يقوله زيد أو عبيد لكان يلزمنا تصديق من يزعمون لأنفسهم أو لغيرهم قدرتهم على خرق قوانين الطبيعة مثلا كما هو الحال عند الصوفية الذين يزعم بعضهم أنه من أهل الخطوة أو يستطيع الوجود فى مكانين فى ذات الوقت، أو ذلك الصوفى الذى ادعى أن رابعة العدوية حجت إلى الكعبة من العراق وهى تتدحرج على الأرض طوال الرحلة بين البلدين كما تتدحرج الأسطوانات، أو ذلك الآخر الذى يستغفل أتباعه البله بأنه حين يتوضأ أو يغتسل فإن الماء الذى يلامس جسده يتحول عند انفصاله عن ذلك الجسد قضبانا من الذهب، لكنه لزهده فى متاع الحياة الدنيا يهمله ولا يأخذ منه شيئا. وواضح أن أمثال هؤلاء البكاشين إنما يرون هذا فى أحلامهم وهم نيام عرايا بلابيص. لقد تحول العرب عن الشفاهية فى حفظ العلم إلى الكتابة منذ خطواتهم الأولى على طريق الإسلام، وقد يضيفون إليها حفظ الذاكرة مع إعطاء الأولوية فى تلك الحالة للقلم والورق، لكن دكتورنا هو من أنصار "عنزة ولو طارت".
وتأكيدا لما قلته عن مقصد الجاحظ بلفظ "الكتّاب" الذين يزرى بهم أضع بين يَدَىِِ القارئ الكريم هذا النص الجاحظى من كتاب "البيان والتبيين". قال فى فضل الكتابة والقلم وموقعهما فى مضمار الثقافة: "ولولا الكتبُ المدوَّنَة والأخبار المخلَّدة، والحكم المخطوطة التى تُحصِّنُ الحسابَ وغيرَ الحساب، لبَطَل أكثر العلم، ولغلَب سُلطانُ النِّسيانِ سلطانَ الذكْر، ولَمَا كان للناس مفزعٌ إلى موضعِ استذكار. ولو تمَّ ذلك لحُرِمْنا أكثرَ النفع، إذ كنَّا قد علمْنا أنَّ مقدار حفْظ الناسِ لعواجل حاجاتهم وأوائلها لا يَبلغ من ذلك مبلغًا مذكورًا ولا يُغْنِى فيه غَنَاء محمودًا، ولو كُلِّفَ عامّةُ مَن يطلب العلمَ ويصطَنِع الكتب ألاّ يزال حافظًا لفِهرست كتبه لأَعجزه ذلك، ولكُلِّفَ شططًا، ولَشَغله ذلك عن كثيرٍ ممّا هو أولى به. وفهمُك لمعانى كلامِ الناس ينقطع قبل انقطاعِ فهْمِ عين الصوتِ مجرَّدًا، وأَبعَدُ فهمِك لصوتِ صاحبك ومُعامِلك والمعاوِنِ لك ما كان صياحًا صرفًا، وصوتًا مصمَتًا ونداءً خالصًا، ولا يكون ذلك إلاّ وهو بعيدٌ من المفاهمة، وعُطْلٌ من الدَّلالة، فجعل اللفظ لأقرَب الحاجاتِ، والصوتَ لأنفَسَ من ذلك قليلًا، والكتاب للنازح من الحاجاتِ، فأمّا الإشارة فأقربُ المفهومِ منها رَفْعُ الحواجبِ، وكسرُ الأجفان، ولَىّ الشِّفاهِ وتحريك الأعناق، وقبْض جلدةِ الوجه. وأبعدُها أن تلوى بثوبٍ على مقطع جبل تُجاهَ عينِ الناظر، ثمَّ ينقطع عملُها ويدرُس أثرها، ويموت ذكرها، ويصير بعدُ كلُّ شىء فضَل عن انتهاء مدَى الصوت ومنتهى الطرف، إلى الحاجة وإلى التفاهم بالخطوطِ والكتب، فأى نفع أعظمُ، وأى مِرْفَقٍ أعوَنُ من الخطِّ، والحالُ فيه كما ذكرنا، وليس للعَقْد حظُّ الإشارةِ فى بُعد الغاية؟
فلذلك وضع اللّه عزّ وجلّ القلم فى المكان الرفيع، ونوَّه بذِكره فى المنْصِب الشريف حين قال: "ن * وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ"، فأقسَمَ بالقَلَم كما أقسمَ بما يُخَطُّ بالقلم، إذ كان اللسانُ لا يتعاطى شأوَه، ولا يشُقُّ غبارَه ولا يجرى فى حلبته، ولا يتكلف بُعْدَ غايتِه".
ولو كان الجاحظ كارها للكتاب والكتابة كما يحاول د. عبد الله إبراهيم أن يوهم القراء لغرض خبيث فى نفسه ما تعلق بالكتب وقراءتها ولاقتصر فى تكوين ثقافته على السماع لا القراءة. لكننا نقرأ فى ترجمته فى "معجم الأدباء" مثلا ما يلى: "حدّث أبو هفان قال: لم أر قط ولا سمعت مَنْ أحبّ الكتب والعلوم أكثر من الجاحظ، فإنه لم يقع بيده كتاب قط إلا استوفى قراءته كائنًا ما كان، حتى إنه كان يكترى دكاكين الوراقين ويبيت فيها للنظر".
وهذا أيضا ابن عبد ربه يقول فى "العقد الفريد" عن الكتابة وفضائلها: "قال أبو عثمان الجاحظ: ما رأيتُ قومًا أنفذ طريقةً فى الأدب من هؤلاء الكتّاب، فإنهم التمسوا من الألفاظ ما لم يكن متوعِّرًا وَحْشِيّا، ولا ساقطًا سُوقِيّا. وقال بعضُ المهالبة لبنيه: تزيّوا بزِى الكُتّاب، فإنهم جَمعوا أدب الملوك وتواضُع السُّوَقة. وعَتب أبو جعفر المنصور على قوم من الكُتّاب فأمر بحَبْسهم، فرفعوا إليه رُقعة ليس فيها إلا هذا البيت:
ونحنُ الكاتبون وقد أسأنا

فَهَبْنا للكرام الكاتِبينَا


فعفا عنهم وأمر بتَخْلية سبيلهم. وقال المؤيد: كُتّاب المُلوك عُيونهم الناظرة، وآذانهم الواعية، وألسنتُهم الناطقة. والكتابةُ أشرفُ مراتب الدُّنيا بعد الخلافة، وهى صناعةٌ جليلة تَحتاج إلى آلات كثيرة. وقال سهلُ بن هَارون: الكتابة أولُ زِينة الدنيا التى إليها يتناهَى الفضلُ، وعندها تَقِف الرَّغبة".
وقبل ذلك تناول ابن عبد ربه موضوعا له دلالته فى سياقنا هذا، فقد أورد أسماء عدد ممن رفعت الكتابة الديوانية مكانتهم الاجتماعية والأدبية. وهذه أسماؤهم كما وردت عنده: سَرْجون بن منصور الرومى، كاتبٌ لمعاوية ويزيدَ ابنه ومَرْوان بن الحَكم وعبد الملك بن مَرْوان، إلى أن أمره عبدُ الملك بأمرِ فتوانىَ فيه، ورأى منه عبدُ الملك بعضَ التفريط، فقال لسُليمان بن سَعْد كاتِبه على الرًّسائل: إنَّ سرجون يُدِلّ علينا بصناعته، وأظن أنه رأى ضَرورتنا إليه فى حِسابه، فما عندك فيه حِيلة؟ فقال: بلى، لو شئت لحوَّلتُ الحِساب من الرُّومية إلى العربية. قال: افعل. قال: أَنْظِرْنى أُعَانِ ذلك. قال: لكَ نَظِرة ما شئْت. فحَوَّل الديوانَ، فولّاه عبدُ الملك جميعَ ذلك. وحسَّان النَّبَطى كاتِبُ الحجَّاج، وسالم مولى هِشام بن عبد الملك، وعبد الحميدُ الأكبر، وعبدُ الصَمد، وجَبلة بن عبد الرحمن، وقَحْذم جَدّ الوليد بن هشام القَحْذمى، وهو الذى قلب الدواوين من الفارسية إلى العربية. ومنهم: الفَرَّاء كاتبُ خالد بن عبد اللّه القَسْرىّ. ومنهم: الربيع، والفَضْل بن الربيِع، ويعقوب بن داود، ويحيى بن خالد وجعفر بن يحيى، وأبو محمد، عبد اللّه بن المُقَفّع، والفَضْل بن سَهْل، والحَسن بن سَهْل، وجَعفر بن محمد بن الأشعث، وأحمد بن يوسف، وأبو عبد السلام الجُنْديسابورى، وأبو جعفر محمد بن عبد الملك الزيَّات، والحسن بن وَهْب، وإبراهيم بن العبّاس الصُّولى، ونَجَاح بن سَلمة، وأحمد بن محمد بن المًدبّر. فهؤلاء نَبُلُوا بالكتابة واستحقوا اسمها".
والجملة الختامية فى ذلك النص تعنى الكثير كما هو واضح. ثم إن ابن عبد ربه لم يكتف بهذا بل ساق أسماء عدد ممن دخلوا هذا الباب دون أن يكونوا أهلا للكتابة. وهو ما يدل على مدى إكباره لهذه المهنة. وقبل ذلك ذكر أيصا بالتفصيل الصحابة الكرام الذين كانوا يكتبون وأنواع الكتابة التى زاولوها، واهتمام النبى الشديد بذلك منهم وتشجيعه لهم وحثه إياهم على تجويدها. بل إن "العقد الفريد" ليشتمل على فصل ينص فيه صاحبه على مجموعة الصفات التى لا بد أن تتوافر فى الشخص الذى يريد أن يكون كاتبا، وإلا فشل. وهى صفات جسدية وسمتية وعقلية ونفسية وعلمية وفنية.
واضح أن تجربة ابن عبد ربه مع الكُتّاب تختلف عن تجربة الجاحظ، وربما أراد الجاحظ برسالته عن "أخلاق الكتاب" إظهار براعته فى العيب على مهنة يتمناها كثير من الناس فى ذلك الزمان أو أراد، لعلة لا نعرفها، النيل من أحد الكتاب فأخذ عاطلا مع باطل، أو أراد إرضاء بعض كبار رجال الدولة ممن يبغضون الكتّاب لهذا السبب أو ذاك. ذلك أنى أستبعد أن يكون الجاحظ قد كتب ما كتب عن كتاب الدواوين من قلبه عن اقتناع. ويجرى فى هذا المجرى الرسالة التى نسبها فى كتاب "البخلاء" إلى سهل بن هارون، ولا أظنها إلا من وضعه هو: حبَّرها قلمه ثم عزاها إلى سهل على سبيل التهكم الفنى. فهذه كتلك. ويجد القارئ ذلك فى كتاب "مصادر أدبية" لى فى الفصل الخاص بكتاب "الحيوان" لأبى عثمان. وعلى كل حال فالجاحظ معروف أنه يحب استعراض عضلاته بالدفاع عن الشىء وبالهجوم عليه فى ذات الوقت مثلما صنع فى رسالته عن المقارنة بين وطء الجوارى ووطء الغلمان، وبين تربية الديك وتربية الكلب وغير ذلك.
ولنقرأ النص التالى أيضا، وهو فى "العقد الفريد" لابن عبد ربه عند حديثه عن الإعراب واللحن، ومغزاه حاسم فى نقض ما يزعمه عبد الله إبراهيم من أن كثيرا من العرب حتى بعد الإسلام كانوا لا يزالون يؤثرون الأمية على الكتابة والقراءة: "قال المأمون لأبى على المعروف بأبى يَعْلى المِنْقرى: بلغنى أنك أُمِّى، وأنك لا تقيم الشِّعر، وأنك تَلحن فى كلامك! فقال: يا أميرَ المؤمنين، أمّا الَّلحن فربما سَبَقنى لسانى بالشىء منه، وأما الأُمِّيَّة وكَسْر الشعر فقد كان النبى صلى الله عليه وسلم أُمّيًا وكان لا يُنْشِد الشعر؟ قال المأمون: سألتُك عن ثلاثة عيوب فيك، فزدْتنى عَيْبًا رابعًا، وهو الجهل. ياجاهل، إنّ ذلك فى النبى صلى الله عليه وسلم فضيلة، وفيك وفى أمثالك نَقيصة. وإنما مُنِع ذلك النبى صلى الله عليه وسلم لنَفْى الظِّنَّة عنه لا لِعَيْب فى الشِّعر والكتاب. وقد قال تبارك وتعالى: وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بيمينِك. إذن لَارْتابَ المُبْطِلون".
وكذلك هذا النص، وهو موجود فى كتاب "الورقة" لابن الجراح فى ترجمة معبد بن طوق، وكان خطيبا وشاعرا عاش فى أوائل القرن الثالث الهجرى: "حدثنى عُمَر بن شبة قال: أخبرنى المعافى بن نُعَيْم قال: وقفت أنا ومعبد بن طوق على مجلسٍ لبنى العنبرِ، وأنا على ناقةٍ لى، وهو على حمار، فقاموا إلينا، فبدأونى فسلموا على، ثم انكفأوا إلى معبد، فقبضَ يده عنهم وقال: لا ولا كرامة. بدأتم بالصغير قبلَ الكبير، وبالمَوْلَى قبل العربى. فأسكتوا. فانبرى له هنٌ منهم فقال: بدأنا بالكاتبِ قبلَ الأمى، وبالمهاجر قبل الأعرابى، وبراكبِ الراحلةِ قبل راكبِ الحِمار".
وعلى نفس الشاكلة فى الإعلاء من شأن الكتابة والتنقص من الأمية والأميين كتب أبو بكر الصولى فى كتابه: "أدب الكتّاب" عن فضل الكتابة: "قال الله تعالى، وهو أول ما أنزل من القرآن: "اقرأ باسم ربك الذى خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك الأكرم * الذى علم بالقلم * علَّم الإنسانَ ما لم يَعْلَم". فجعل، تبارك اسمه، أول ما أنزل من القرآن ذِكْر التفضل على عباده بخلقه لهم، وما ندبهم له بذلك من البقاء الدائم والنعيم المتصل لمن آمن به ووحَّده وصدَّق بنبيه صلى الله عليه وسلم. ثم أتبع ذلك بذكر الإنعام عليهم بما علَّمهم من الكتاب الذى به قِوَام أمر دينهم ودنياهم، واستقامة معائشهم وحفظها. ولولا أن من لا يحسن الكتابة يجد ممن يحسنها معونة وإبانة عنه لما استقام له أمر، ولا تم له عزم، ولحل محل الصور الممثلة، والبهائم المهملة. ومعنى قوله: "الذى علم بالقلم": الذى علم الكتابة بالقلم. وقال عز وجل: "ن * والقلم وما يسطرون * ما أنت بنعمة ربك بمجنون"، فأقسم فى القرآن بما خلق من ذلك. أعنى القرآن وما يُكْتَب به من حبر ومداد وما يُكْتَب فيه من سِفْر وقرطاس وأشباههما... وبالكتابة جُمِع القرآن، وحُفِظت الألسن والآثار، ووُكِّدَت العهود، وأُثْبِتت الحقوق، وسيقت التواريخ، وبقيت الصكوك، وأمن الإنسان النسيان، وقُيِّدت الشهادات، وأنزل الله فى ذلك آية الدَّيْن، وهى أطول آية فى القرآن".
نخرج من هذا بأن الإسلام لم يكن شيئا جديدا على العرب فى عقائده وعباداته ومصطلحاته وتوجيهاته الأخلاقية والنفسية والاجتماعية فحسب بل وفى أنه خرج بهم من ظلمة الأمية وضيقها إلى بحبوحة نور الكتابة أيضا. ولا يُسْتَثْنَى الحديث النبوى من هذا، فمن كانوا يكتبون ويقرأون بين المسلمين كانوا يسجلون على الأقل بعضا مما يقوله عليه الصلاة والسلام، ويعتمدون فى الباقى على الحفظ، وأما الأميون فكانوا يستعملون ذاكرتهم الحادة التى كان المجتمع العربى يعتمد عليها بالدرجة الأولى فى كل مناحى ثقافته قبل سطوع نور الدين الذى جاء به محمد. لكنه عليه السلام لم يعين كتبة للحديث كما كان هناك كتبة للقرآن، بل
أُثِر عنه نهيه المسلمين الأولين عن كتابة الأحاديث قائلا: "لاَ تَكْتُبُوا عَنِّى، وَمَنْ كَتَبَ عَنِّى غَيْرَ الْقُرْآنِ فَلْيَمْحُهُ، وَحَدِّثُوا عَنِّى وَلاَ حَرَجَ، وَمَنْ كَذَبَ عَلَى مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ". ومعنى هذا أنه إذا كان قد نهاهم لسبب أو لآخر عن كتابة أحاديثه فقد حضهم على حفظ تلك الأحاديث. وإذا كان هناك أثر قد حفظ لنا ما رد به أبو سعيد الخدرى على من قال له: "لو كتبتم (حديث رسول الله عليه السلام) لنا فإنا لا نحفظ"، إذ كان جوابه: "لا نكتبكم ولا نجعلها مصاحف. كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يحدثنا، فنحفظ. فاحفظوا عنا كما كنا نحفظ عن نبيكم" فقد رجع النبى عن نهيه ذاك وأباح للمسلمين أن يسجلوا أحاديثه الشريفة كتابة فقال مثلا: "قيِّدوا العلم بالكتاب"، "اكتبوا، ولا حرج"، "اكتبوا لأبى شاة"، "استعن على حفظك بيمينك". وعن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه سأل النبى: "أُقَيِّد العلم؟"، فقال له: "نعم"، فعاد يسأله: "وما تقييده؟"، فأجابه: "الكتاب"، أى عن طريق الكتابة. وعن رافع بن خديج: "قلنا: يا رسول الله، إنا نسمع منك أشياء. أفنكتبها؟". قال: "اكتبوا، ولا حرج". وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنه استأذن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أن يكتب ما يسمع من حديثه، فأذن له.
وليس فى هذا ما يثير الاستغراب، فما أكثر المواقف والآراء التى يغيرها البشر مع تغير الظروف. وليس رجوعه عليه السلام عن رفض كتابة أحاديثه هو الرجوع الوحيد فى مواقفه: "إِنَّى كنتُ نَهَيْتُكم عن زيارةِ القبورِ، فزوروها لتُذَكِّرَكُمْ زيارتُها خيرًا. وكنتُ نَهَيْتُكم عنْ لحومِ الأضاحى بعدَ ثلاثٍ، فكلُوا وأمسِكُوا ما شئتُم. وكنتُ نَهيتُكم عنِ الأشْرِبَةِ فى الأوْعِيَةِ، فاشربوا فى أى وعاءٍ شئتُم، ولا تشربوا مُسْكِرًا"، "إنِّى كنتُ نَهَيتُكُم أن تَنتبِذوا فى الدُّبّاءِ والحنتَمِ والمزفَّتِ، فانتَبِذوا. ولا أُحلُّ مُسْكِرًا"، "إنِّى كنتُ نهيتُكُم عن ادِّخارِ لحومِ الأضاحى فوقَ ثلاثٍ، فكُلوا وادَّخِروا ما بدا لكُمْ. وفى روايةٍ: فكُلوا وادَّخِروا وتصدَّقوا. وفى روايةٍ: فكُلوا وأطْعِموا وتصَدَّقوا". وكما نرى فهو أمور عملية لا عقيدية ولا أخلاقية لا تقبل التغيير، أو أمور تتعلق بالوسائل، وهى متغيرة بطبيعتها. وبطبيعة الحال كانت أحاديث الرسول فى البداية محدودة ثم زادت وتشعبت، وفى مكة لم تكن هناك أحاديث تشريعية تستلزم تقييدها بالكتابة على عكس الحال فى المدينة إذ زادت الأحاديث وكان لا بد من تقييد ما فيها من تشريعات بالورقة والقلم حتى لا تضيع. فهذا تفسير آخر لرجوع النبى عن رفضه كتابة ما يقول صلى الله عليه وسلم.
والإسلام هو دين الكتابة: فقد أقسم الله بالقلم وما يسطرون، وأقسم بالكتاب المبين، وامتنَّ على عباده بتعليمه إياهم بالقلم. ومعروف أن كل ما يأتيه الإنسان من أعمال أو يتلفظ به من أقوال يسجَّل فى كتاب عنده جل وعلا ويتم الحساب بناء عليه يوم القيامة. كذلك لا يصح أن ننسى كتاب القضاء والقدر: "ما أصاب من مصيبةٍ فى الأرض ولا فى أنفسكم إلا فى كتابٍ من قَبْل أن نبرأها". ويلفت النظر بقوةٍ تعبير القرآن عن الوحى الذى ينزل على رسوله عليه السلام بـ"الصحف": "فى صحفٍ مكرَّمة * مرفوعة مطهَّرة * بأيدى سَفَرَة * كرامٍ بَرَرَة". وكان القرآن والديون والمعاهدات والرسائل والأوامر والتكليفات الرسمية كل ذلك يُسَجَّل على الورق حتى لا يُنْسَى كتاب الله أو تضيع الحقوق وتغيم المسؤوليات ويكثر النزاع... إلخ. وبسبب الأهمية العظيمة للكتابة والكتب فى الإسلام سُمِّىَ القرآن بـ"الكتاب": هكذا بـ"أل" الماهية. فمن الطبيعى أن يعود الرسول عن نهيه عن كتابة الأحاديث بعد انتشار الوعى بالفرق بين القرآن والحديث مثلا والاطمئنان إلى أن أحدا لن يخلط بينهما وبعد كثرة الأحاديث التشريعية فى المدينة.
وكان لبعض الصحابة فى عهد الرسول عليه السلام صحف كتبوا فيها من أحاديثه صلَّى الله عليه وسلَّم: فكان لسعد بن عبادة الأنصارى صحيفة جمع فيها طائفة من أحاديث الرسول وسُنَنه، ولعبد الله بن أوفى صحيفة مماثلة، ولجابر بن عبد الله هو أيضا صحيفة، كما كان لسمرة بن جندب نسخة كبيرة فيها طائفة من أحاديث رسول الله عليه السلام، وكانت صحيفة عبد الله بن عمرو بن العاص تسمى: "الصحيفة الصادقة"، وكان لعبد الله بن العباس ألواح يستعين بها فى مجالس العلم، ولهمام بن منبّه صحيفة رواها عن أبى هريرة، وكانت لأسماء بنت عميس صحيفة. وهناك صحيفة المدينة التى كتبها النبى لتنظيم العلاقة بين طوائف سكان المدينة عقب مهاجَره إليها...
إذن فقد دون الصحابة رضوان الله عليهم كثيرا جدا من أحاديث النبى صلوات الله وسلامه عليه فى حياته فى صحائف متفرقة. وكان الصحابة والتابعون حريصين على جمع الحديث الشريف وتنقيته من شوائب التحريف والتزيد، وشكلت المجموعات التى كتبوها فى صحائفهم العدد الأكبر من أحاديث الجوامع والمسانيد والسنن فيما بعد. أى إن المجموع الأكبر من الأحاديث سبق تدوينه ونسخه فى عصر الرسول وعصر الصحابة من بعده. وهذه هى خلاصة موقف الإسلام من الكتابة والقراءة. لقد عم نور الكتابة الآفاق، وانزوت الأمية فى أضيق الزوايا وأعتمها. ويجد القارئ هذا كله وغيره فى كتابى: "المدخل إلى علوم الحديث ونصوصه".
بعد هذا كله وبعد مارأينا كيف أن الكتابة عند العرب جِدّ عريقةٍ فى الإسلام، إذ سطع نورها مع نوره، لا يعود لقول عبد الله إبراهيم التالى موضع من الإعراب. قال عما حسبه موقفا متناقضا من الجاحظ تجاه الكتابة: "إن الموقف المضاد للكتابة عنده وعند سواه من الكتاب يكشف الانشطار فى الوعى بين موروث ينتقص من الكتابة وواقعِ حالٍ بدأ لتوّه يرفع من شأنها. وبعبارة أخرى هو تنازع بين تقاليد راسخة وأخرى ناشئة. فالكُتّاب يمارسون مهنة، ويفكرون بمرجعيات مختلفة. والجاحظ مثال لهذه الازدواجية: فمن جهة يقدم وجهة نظر بالكتابة فى كتاب "الحيوان"، ومن جهة ثانية ينقّب فى الأدلة على ذمها كما رأينا".
وفى الهامش من صفحة 134 ينقل المؤلف، بغية الإيهام بأن العرب حتى بعد الإسلام بعقود كانوا لا يزالون يفضلون الأمية على الكتابة، كلاما فى "الأغانى" لأبى الفرج مؤداه أن ذا الرمة كان قارئا كاتبا لكنه كان يخفى ذلك لأنه عيب عند قومه. طيب، وأين تعلَّم يا ترى الشاعر الأموى الكتابة والقراءة؟ ألم يتعلمهما فى ديار قومه؟ فكيف إذن لم يكونوا على علم بمعرفته الكتابة والقراءة؟ أم تراه أتمّ تعلمهما فى دقيقة أو دقيقتين بحيث لم يكن ثم وقت لأفراد القبيلة لتأخذ بالأمر خبرا؟ ثم إذا كان قد تعلمهما رغم ذلك فلماذا كان حريصا على إخفاء الأمر بما يعنى أنه لن يزاولهما أبدا، وإلا افتضح أمره وركبه العيب والخزى؟ لكن ما وجه العيب عند قومه يا ترى فى أن يُعْرَف عن أحد منهم أنه يكتب ويقرأ؟ كنا نحب أن يذكر لنا مؤلفنا السبب فى هذا التحرج حتى نفهم فيم كان تحرجه وتحرزه؟ كذلك لو كان هذا الخبر صحيحا فمعنى هذا أن رجال القبيلة كلهم أميون ما دامت الكتابة لديهم مذمة وعارا؟ فهل هذا معقول؟ ولنفترض بعد ذلك أن الخبر صحيح فماذا يعنى؟ يعنى أنه الاستثناء الذى يؤكد القاعدة. فكما نرى فكل الطرق مسدودة فى وجه المؤلف اللوذعى الهمام.
وإذا كان صاحب "الأغانى" قد نقل فى رواية من رواياته أن ذا الرمة كان يتبرأ من معرفة الكتابة والقراءة فها هو ذا نص آخر، ومِنْ لَدُنْ مَنْ؟ من لدن الجاحظ ذاته لا سواه، إذ أورد فى كتابه: "الحيوان" هذا الخبر: "قالَ ذو الرُّمَّةِ لعيسى بن عمر: اكتبْ شِعرى، فالكتابُ أحبُّ إلى من الحفظ لأنّ الأعرابى ينسى الكلمةَ وقد سهر فى طلبها ليلَته، فيضَعُ فى موضعها كلمةً فى وزنها، ثم يُنشِدها الناسَ، والكتاب لا يَنْسَى ولا يُبدِّلُ كلامًا بكلام".
وفى فصل تال يلح عبد الله إبراهيم على أن القرآن والحديث النبوى قد استفادا من التراث الثقافى السابق على الإسلام لغة ومضمونا. وأحب أن أقف عند السجع والأساطير التى يقول إن هذين المصدرين قد تشرباهما من الثقافات القديمة: فالسجع، كما يقول، كان معروفا فى الخطب والقصص الجاهلى وكلام الكهان، وتبناهما القرآن والحديث. فأما أن يكون فى القرآن سجع (أو "فواصل" كما يحب المتحرجون أن يقولوا) فليس فيه ما يدعو إلى العجب، إذ يقول القرآن إنه ما من رسول أرسله الله إلا استعمل فى مخاطبة قومه لغتهم كى يفهموا عنه. وبطبيعة الحال فإن هذا لا يعنى ألا تكون لأسلوب القرآن خصوصية يتميز بها عن الأساليب الأخرى مما كان معروفا فى الجاهلية من شعر وخطب وغير ذلك.
لكن لا بد من توضيح شىء هام هو أن الخطب الجاهلية لم تكن تلتزم السجع عادة، وهذا يخالف ما أكده المؤلف من أن السجع كان يسود تلك الخطب. هذه واحدة، والثانية أن سجع القرآن يختلف عن سجع الكهان اختلافا حادا: فسجع الكهان يقوم على كلام عام غامض يصلح توجيه معانيه إلى الناحية التى يتخيلها أى إنسان تبعا لما يتوقعه من ذلك الكلام، أما القرآن فيدعو فى وضوح إلى معان محددة تخالف معانى الكهان مخالفة بلقاء، إذ يلح على التوحيد والإيمان بالبعث بعد الموت والقيام للحساب، ويحمل حملة شعواء على الوثنية والتوهم بأن الموت هو نهاية للحياة لا شىء بعده، وينادى بمكارم الأخلاق واستقامة السلوك والعطف على المكسورين المحتاجين والحفاظ على الكرامة وتحرى الأعمال الصالحة، والكفّ عن التناحر القبلى والافتخار بالآباء والأجداد وينهى عن التمسك بالتقاليد وعن الظلم وخلف الوعد وشرب الخمر... إلخ. وهو ما لا يعرفه سجع الكهان، الذى لا أستبعد أن يكون أصحابه من سدنة معابد الأصنام فى بلاد العرب قد حاولوا من خلاله تقليد الأسلوب القرآنى واستخدامه فى ألاعيبهم التى يحاولون خداع قصادهم من المشركين أنهم يستوحونها من الجن، لا كما يقول المستشرقون ومن يجرى فى ركابهم ويقلدهم من أن القرآن قد استقى فواصله من الأسلوب السجعى الكهانى.
وبالمثل أود أن أتريث إزاء ما يقال عن الأقسام التى تأتى فى أول بعض السور القرآنية من أنها تقليد لنظيراتها فى سجع الكهان وما يلمز به البعضُ النصَّ القرآنى المجيد بالقول بأنه نابع من نفس البئر. وأولًا لا بد أن نعرف أن هناك من يشكك فى صحة أسجاع الكهان أصلا: سواء من الباحثين العرب أو من المستشرقين. وقد يساعد على الاقتناع بهذا الرأى ما فى تلك الأسجاع من الزعم بمعرفة الكهان للغيب المحجوب عن البشر، إذ الغيب شأن من شؤون الله سبحانه وتعالى لا يمكن أحدا من عباده أن يَنْفُذ من خلال حُجُبه إلا إذا أوحى الله بشىء من ذلك لنبى من أنبيائه. ونبينا عليه السلام مأمور فى القرآن بأن يقول عن ربه: "عالِمُ الغيب (أى الله سبحانه) فلا يُظْهِر على غيبه أحدا * إلا من ارتضى من رسولٍ، فإنه يَسْلُك من بين ومن خلفه رَصَدًا * لِيَعْلَم أنْ قد أبلغوا رسالات ربهم"، "قل: لا يعلم مَنْ فى السماوات والأرض الغيبَ إلا الله"، "قل: ما كنتُ بِدْعًا من الرسل، وما أدرى ما يُفْعَل بى ولا بكم"، "ولو كنتُ أعلم الغيب لاستكثرتُ من الخير وما مَسَّنِىَ السوء"، "وعنده (أى عند الله) مفاتحُ الغيب، لا يعلمها إلا هو"... إلخ. فماذا يكون الكاهن بالنسبة للنبى، وبخاصة إذا علمنا أن الكهنة كانوا يزعمون أنهم إنما يستعينون فى مهمتهم الكهنوتية بالشياطين، ولم يقولوا إن الوحى يأتيهم من السماء من لدن الله سبحانه وتعالى؟ وعلى هذا فنحن مضطرون إلى أن نرفض ما ورد أيضا فى تلك الأخبار ذاتها من كلام منسوب للكهنة فى هذه الظروف من مثل: "عبد المسيح، على جملٍ مُشِيح (أى سريع)، إلى سطيح، وقد أوفى على الضريح، بعثك مَلِك بنى ساسان، لارتجاج الإيوان، وخمود النيران، ورؤيا الموبَذان. رأى إبلا صِعَابا، تقود خيلًا عِرَابا، قد اقتحمت فى الواد، وانتشرت فى البلاد. يا عبد المسيح، إذا كثرت التلاوة، وظهر صاحب الهراوة، وفاض وادى السماوة، وغاضت بحيرة ساوة، وخمدت نار فارس، فليست بابل للفُرْس مُقَاما، ولا الشام لسطيحٍ شاما. يملك منهم ملوك وملكات، عدد سقوط الشرفات، وكل ما هو آت آت"، أو "انهضى غير رَقْحَاءَ ولا زانية، وستلدين مَلِكًا يسمَّى: معاوية"، لأنه إذا كانت الواقعة لم تحدث أصلا فبطبيعة الحال لا يمكن أن يكون الكلام المتصل بها قد قيل! أما قول الكاهن الذى نفَّر بين هاشم بن عبد مناف وأمية بن عبد شمس فهو لا يزيد عن أن يكون حُكْمًا فى قضية اجتماعية ليس إلا، ولا يدخل فى باب الإنباء بالغيب.
إذن فالباحثون الذين ينكرون صحة هذه الأسجاع ويَرَوْن أنها من صنع المتأخرين ليسوا على خطإ أكيد بل يمكن أن يكون كلاهم هذا صحيحا. كما أن السجع إنما هو مجرد أداة، مَثَلُه فى هذا مَثَلُ السكين والسيف والقلم وغيرها من الوسائل والأدوات التى يصطنعها البشر فى حياتهم، لا يحمل أية دلالة عقيدية أو أخلاقية فى حد ذاته، على عكس ما يقول اللمازون الذين يحاولون الإيهام بأنه ليس هناك فرق بين دعوة الرسول عليه السلام ووظيفة الكهان. ومن هنا نجد السجع مستعملا فى القرآن كما كان مستعملا لدى الكهنة، رغم أنهم إنما كانوا يستخدمونه فى الكذب والإيهام بالتنبؤ بالغيب وفى التنفير بين المتنافسين على السمعة وما أشبه، على حين أنه فى القرآن مسْتَعْمَلٌ، كما قلنا، فى الدعوة إلى الإيمان بالله واليوم الآخر والحث على البر والعدل والصدق والعلم والأخوّة والتراحم والتعاون والمساواة ونبذ الربا والقمار والخمر... إلى آخر ما نعرف من القيم الكريمة النبيلة التى رفع لواءها القرآن الكريم والتى تتعارض مع دعاوى الكهانة وخرافاتها. ولقد نزل القرآن بنفس اللغة التى كان الكهان يتخذونها، وهى اللغة العربية، كما أن الرسول كان يمارس حياته، فيما عدا كهانتهم ووثنيتهم، مثلما كانوا يمارسون حياتهم، فكان يأكل ويشرب ويتزوج مثلما كانوا يأكلون ويشربون ويتزوجون، وكان يركب الناقة والحصان مثلما كانوا يفعلون. وفى القرآن نقرأ أن كتاب الله قد "نزل بلسان عربى مبين"، وهذا أمر طبيعى، كى يفهمه العرب الذين اتجه إليهم القرآن أول ما اتجه: "وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليُبَيِّن لهم"، والسجع جزء من هذا اللسان الذى نزل به القرآن، وهو عنصر جذاب لأولئك القوم، فأين وجه الحرج فى أن يستعين به كِتَاب الدعوة الجديدة حتى تنصت إليه الأسماع وتَصْغُو له القلوب والعقول؟
أجل لقد كان سجع الكهان يدور فى فَلَك الوثنية ويتمّ فى بيوت الأوثان، بخلاف السجع فى القرآن، الذى حارب الوثنيةَ وقام الرسولُ الذى نزل عليه ذلك الكتاب الكريم بهدم أوثانها وبيوتها. كما كان الكهان يتقاضَوْن أجرا على ما يقولون، أما النبى فلم يكن يمد يده إلى مال أحد، وآيات القرآن الكريم واضحة تمام الوضوح فى هذا: "قل: لا أسألكم عليه أجرا. إِنْ هو إلا ذِكْرَى للعالمين"، "وما أسألكم عليه من أجر. إِنْ أجرىَ إلا على رب العالمين"، "قل: ما أسألكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا"، "قل: لا أسألكم عليه أجرا إلا المودّة فى القُرْبَى". ليس هذا فحسب، بل لقد حرّم الإسلام أيضا عليه وعلى أهل بيته جميعا أن يأخذوا شيئا أى شىء من أموال الصدقات، وكلنا يعرف أنه عليه الصلاة والسلام كان يتشدد فى هذا أيما تشدد! ولقد حارب الإسلام والرسول الكهانة والمتكهنين حربا شعواء، وأبدى عليه السلام امتعاضه ونفوره الشديد من طريقتهم المتكلفة الغامضة فى التسجيع، فكيف يقال إنه صلى الله عليه وسلم قد جرى فى رِكَابهم ونَهَجَ نَهْجَهم كما يردد بعض الرُّقَعَاء؟
ومصداقًا لهذا نلفت النظر إلى القصة التالية وما فيها من دلالات على موقف الرسول الأكرم من "سجع الكهان" أيضا لا من "الكهان" أنفسهم فقط، فقد "اقتتلت امرأتان من هُذَيْل، فرَمَتْ إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما فى بطنها، فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقضى رسول الله أن دية جنينها غُرّة: عبد أو وليدة. وقضى بدية المرأة على عاقلتها، وورَّثها ولدَها ومن معهم. فقال حمل بن النابغة الهُذَلِى: يا رسول الله، كيف أغرم من لا شَرِبَ ولا أَكَلَ، ولا نَطَقَ ولا استهلّ؟ فمثل ذلك يُطَلّ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما هذا من إخوان الكهان"، من أجل سجعه الذى سجع"، إذ كان كهان الوثنية، كما سبق بيانه، يخدعون الناس ويشيعون الوهم فى العقول ويصطنعون أسلوبا متكلفا لا يبغى كشف الحق بل يمكِّن للباطل تمكينا، فأراد عليه السلام من المسلمين أن ينبذوا هذا الأسلوب العفن الضار. إنهما إذن طريقان مختلفان، وأسلوبان فى استعمال السجع لا يلتقيان!
هذا، وقد زعم مؤلفنا الألمعى أن السجع يكثر فى أحاديث الرسول رغم حملته العنيفة عليه، وبخاصة سجع الكهان، وفى هذا الكلام غلو شديد، فقلما يقابلنا السجع فى أحاديثه صلى الله عليه وسلم. ومن جهته لم يستشهد عبد الله إبراهيم من الحديث إلا بنص واحد هو "أيها الناس، أفشوا السلام، وأطعِموا الطعام، وصِلُوا الأرحام، وصَلُّوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام"، ولا يكفى نص واحد ولا نصان اثنان ولا ثلاثة ولا أربعة ولا حتى عشرة مثلا كى يقال إن السجع يكثر فى أحاديثه عليه السلام، إذ أحاديث الرسول تعد بالآلاف، وهى ذات أسلوب مرسل قلما يكون مسجوعا. وطبعا يريد عبد الله إبراهيم من وراء هذا إلى القول بأن القرآن صناعة محمدية. وقد عالجت هذا الموضوع فى أكثر من كتاب لى كـ"مصدر القرآن" و"القرآن والحديث- دراسة أسلوبية" و"من ينابيع الثقافة الإسلامية فى العصرين الإسلامى والأموى"، وبينت بالتحليل المضمونى والأسلوبى أن أسلوب القرآن والروح السارى فيه يختلفان عن نظيريهما فى الأحاديث اختلافا يقطع بأن مصدريهما مختلفان، فيرجع إليها.
ثم لو كان صلى الله عليه وسلم يجرى على سُنّة الكهانة والمتكهنين كما يزعم الزاعمون فكيف يفسر المتنطعون الذين يتهمونه هذا الاتهام الأرعن أنه قد حورب من قومه، على حين أن الكهان كانوا محطّ رهبة ورجاء من هؤلاء القوم، ولم يكن أحد من العرب ليفكر فى مس شعرة من شعرهم؟ بل كيف يفسرون معاداة الكهان له عند إعلانه دعوته لو أنه كان واحدا منهم، وهم الذين لم نسمع قط أنهم عادَوْا أى واحد من أبناء مهنتهم؟ بل إننا لم نسمع أيضا أن أحدا منهم اتهم الرسول عليه السلام بأنه قد أخذ منهم أسلوبه، فكيف نفسر ذلك أيضا؟ صحيح أن قومه قد اتهموه بأنه كاهن، لكنهم اتهموه كذلك بأنه شاعر، وبأنه مجنون، وبأنه ساحر، وكل تهمة من هذه تناقض التهمة الأخرى، كما أن أيًّا منها لا ينطبق على حالته صلى الله عليه وسلم، مما يدل على أنها مجرد دَعَاوَى ومزاعمَ كاذبةٍ متخبطةٍ مبعثها الحقد والغيظ. وأكبر دليل على بطلان هذه الأقاويل أنهم هم أنفسهم قد انتهَوْا إلى الإيمان به لاحِسِين كل تلك الاتهامات ومكذّبين أنفسهم بأنفسهم! بل لقد عرضوا عليه قبل هذا أنه إن كان الذى يأتيه رَئِيًّا من الجن فإنهم على استعداد لبذل كل ما يملكون فى تطبيبه حتى يَشْفُوه منه، وكان جوابه التمسك بما يدعو إليه وعدم الالتفات إلى هذه السخافات، والمزيد من التفانى فى حثهم على نبذ الأوثان والكفر بالكهّان. وقد انتهى هذا كله، كما هو معروف، بأَنْ دخل الجميع فى دين الله على بكرة أبيهم بما فيهم الكهان أنفسهم وأهلوهم، فعلام يدل هذا أيضا لو كان عند من يتهمونه بهذه التهمة عقول تفكر وتبصر؟ إن القرآن حملة مستمرة على الشيطنة والشياطين، فبالله كيف يَسُوغ فى منطق العقل أن يقال إنه عليه السلام كان يستعين بالشياطين؟
ولقد أكثر أعداء الإسلام فى العصر الحديث من المستشرقين والمبشرين ومن يلوذ بهم ويردد مزاعمهم من الكلام فى أقسام القرآن التى استُهِلَّتْ بها بعض السور المكية مثل: "والسماء والطارق * وما أدراك ما الطارق؟ * النَّجْم الثاقب * إنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عليها حافظ"، "والنجمِ إذا هَوَى * ما ضلَّ صاحبُكم وما غَوَى * وما ينطق عن الهوى * إنْ هو إلا وحىٌ يُوحَى"، "ق والقرآنِ المجيد * بل عجبوا أنْ جاءهم مُنْذِرٌ منهم فقال الكافرون: هذا شىء عجيب"، "حم والكتاب المبين * إنا أنزلناه فى ليلة مباركة. إنا كنا منذِرين * فيها يُفْرَق كل أمرٍ حكيم * أمرا من عندنا"... إلخ، قائلين إنه عليه السلام إنما يقلد الكهان فى طريقتهم بالقَسَم بمظاهر الطبيعة كالذى رُوِىَ عن الكاهن الخزاعى من قوله: "والقمر الباهر، والكوكب الزاهر، والغمام الماطر، وما بالجو من طائر، وما اهتدى بعَلَمٍ مسافر، من مُنْجِدٍ وغائر"، والذى رُوِىَ عن سواد بن قارب الدَّوْسِى وقوله: "والسماء والأرض، والغَمْر والبَرْض، والقَرْض والفَرْض، إنكم لأهل الهضاب الشُّمّ، والنخيل العُمّ، والصخور الصُّمّ، من أَجَأ العيطاء، وسَلْمَى ذات الرقبة السطعاء... أُقْسِم بالضياء والَحَلك، والنجوم والفَلَك، والشروق والدَّلَك، لقد خبأتَ بُرْثُن فرخ، فى إعليط مَرْخ، تحت آسرة الشَّرْخ... والسحاب والتراب، والأصباب والأحداب، والنَّعَم الكُثاب، لقد خبأتَ قُطَامة فَسِيط، وقُذّة مَرِيط، فى مَدَرَةٍ من مَدِىّ مَطِيط... أُقْسِم بالسَّوَام العازب، والوقير الكارب، والمجد الراكب، والمُشِيح الحارب، لقد خبأتَ نُفَاثة فَنَن، فى قطيعٍ قد مَرَن، أو أديمٍ قد جَرَن... أُقْسِم بنَفْنَف اللُّوح، والماء المسفوح، والفضاء المندوح، لقد خبأت زَمَعَةَ طَلًا أعفر، فى زِعْنِفَةِ أديمٍ أحمر، تحت حِلْسِ نِضْوٍ أدبر... والناظرِ من حيث لا يُرَى، والسامعِ قبل أن يناجَى، والعالمِ بما لا يُدْرَى، لقد عَنَّتْ لكم عُقَابٌ عجزاء، فى شغانيبِ دَوْحَةٍ جرداء، تحمل جَدْلا، فتماريتم: إما يَدًا وإما رِجْلًا"، وكالذى رواه الجاحظ لعُزَّى سَلَمَة من أنه قال: "والأرض والسماء، والعُقَاب والصقعاء، واقعة ببقعاء، لقد نَفَّرَ المجدُ بنى العُشَراء، للمجد والسناء"، وكالذى جاء فى حديث زبراء الكاهنة مع بنى رئام من قضاعة، إذ قالت: "واللوح الخافق، والليل الغاسق، والصباح الشارق، والنجم الطارق، والمُزْن الوادق، إن شجر الوادى ليَأْدُو خَتْلًا، ويَحْرُق أنيابًا عُصْلًا، وإن صخر الطَّوْد لَيُنْذِر ثُكْلًا، لا تجدون عنه مَعْلًا"، وأخيرا كالذى نُسِبَ إلى سلمى الهمدانية وما أبدته من رأى فى حريمٍ المُرَادِىّ: "والخَفْو والوميض، والشفق كالإِحْرِيض، والقُلّة والحضيض، إن حريمًا لمَنِيِع الحِيز، سيدٌ مَزِيز، ذو معقل حَرِيز، غير أنى أرى الحُمَّة ستظفر منه بعَثْرة، بطيئة الجَبْرة". ويجد القارئ هذه النصوص تحت عنوان: "خُطَب الكُهّان" و"خُطَب الكواهن" من كتاب "جمهرة خُطَب العرب" للمرحوم الأستاذ أحمد زكى صفوت.
ونظرة سريعة إلى هذه الأقسام تنبئنا أنها فى التنبؤ بالغيب أو فى التنفير بين المتنافسين على الافتخار بحسن الأحدوثة بين الناس، على حين تهدف أقسام القرآن إلى تأكيد حقيقة اليوم الآخر أو صدق الوحى القرآنى أو ضلال الشرك والمشركين وأشباه ذلك. وهذا لو أغضينا البصر عن سخف التنفير ومخالفته لأصول الاجتماع الصحيحة التى ينبغى أن تقوم على الإعلاء من شأن العمل النافع ووجوب التجرد فى القيام به بحيث يضع فاعلُه مصلحةَ المجتمع والبشرية نُصْبَ عينيه وينتظر الأجر والمثوبة من الله ولا تشغل نفسَه الرغبةُ فى الاشتهار بين الناس كى يتحدثوا عنه بالحق أو بالباطل، وهذا أيضا لو جارينا الاعتقاد الجاهلى الأخرق وصدَّقنا أن الكهان يستطيعون أن يتنبأوا فعلا بالغيب، وهو ما سبق أن قلنا إنه أمر مستحيل، إلا أننا نجرى هنا مع المُتَّهِمين إلى أقصى حد حتى نبين لهم ولمن يقرأون ما يكتبون أن كلامهم لا يقوم على أى أساس. كما أن الأقسام الخاصة بــ"التراب والأصباب والأحداب والنَّعَم والسحاب والغمام الماطر والمُزْن الوادق والصقعاء والعُقَاب والذئب والغَمْر والقَرْض والفَرْض والبَرْض واللوح الخافق ونَفْنَف اللُّوح والماء المسفوح والفضاء المندوح والخَفْو والوميض والشفق الذى يشبه الإحريض والقُلّة والحضيض والحَلَك والفَلَك والدَّلَك والسَّوَام العازب والوقير الكارب والمجد الراكب والمُشِيح الحارب والناظر من حيث لا يُرَى والسامع قبل أن يناجَى والعالم بما لا يُدْرَى" هى أقسام لم ترد فى القرآن الكريم، وفى المقابل فإن القَسَم بــ"القرآن المجيد والقرآن ذى الذِّكْر والكتاب المبين والكتاب المسطور فى رَقٍّ منشور والبيت المعمور والسقف المرفوع والبحر المسجور والصافّات صَفًّا والذاريات ذَرْوًا والمرسَلات عُرْفًا والنازعات غَرْقًا والليالى العشر والشَّفْع والوَتْر وما خَلَقَ الذَّكَرَ والأنثى والضُّحَى والتين والزيتون وطُور سِينِين وهذا البلد الأمين والعاديات ضَبْحًا" هو أيضا قَسَم لا تعرفه النصوص المنسوبة إلى أولئك الكهان، مثلما لا تعرف التركيبَ القرآنى التالى: "لا أُقْسِم بكذا"، ولا مجىء عبارة "هل فى ذلك قَسَمٌ لذى حِجْر؟" أو "وإنه لَقَسَمٌ لو تعلمون عظيم" أو "بل الأمر كذا وكذا" بعد القَسَم، أو مجىء حرف هجائى أو أكثر قبله، كما فى قوله تعالى: "والفجر * وليالٍ عشْر * والشَّفْع والوَتْر * والليل إذا يَسْرِ * هل فى ذلك قَسَمٌ لِذِى حِجْر؟"، "فلا أُقْسِم بمواقع النجوم * وإنه لقَسَمٌ لو تعلمون عظيم * إنه لقرآن كريم * فى كتاب مكنون * لا يَمَسُّه إلا المطَهَّرون"، "ص والقرآن ذى الذكر * بل الذى كفروا فى عِزّةٍ وشِقَاق"، "ق والقرآن المجيد * بل عجبوا أن جاءهم مُنْذِرٌ منهم فقال الكافرون: هذا شىء عجيب"، "يس والقرآن الحكيم * إنك لمن المرسَلين * على صراط مستقيم". ثم إن النصوص المتضمِّنة لأقسام الكهان تتميز بأنها قصيرة النفس، إذ سرعان ما ينتهى النص الذى وردت فيه هذه الأقسام عقب الفراغ من نبإ الغيب المزعوم أو التنفير بين المتخاصمين مما لا يستغرق إلا بضع جمل قصيرة ليست بذات عدد، بينما تمضى السورة القرآنية بعد ذلك متناولةً أمور العقيدة الجديدة وقيمها الأخلاقية وما إلى هذا، وكثيرا ما تطول طولا كبيرا لا تناسُب بينه وبين نصوص الكهانة المدّعاة.
وهذا كله إذا لم نقل إن هذه الأقسام الكهنوتية إنما صيغت على غرار أقسام القرآن الكريم: إما ممن صنعوها فى العصر العباسى ونسبوها زورا للجاهليين، وإما من كهانٍ صاغوها بعد نزول القرآن فوضعوه أمامهم واحْتَذَوْه، أو إن الكهان السابقين على نزول القرآن إنما كانوا يقلّدون، فيما صحت نسبته لهم، أسلوبا من أساليب القَسَم كان مستعملا فيما نزل من وحى على الأنبياء العرب السابقين كهُودٍ وصالحٍ وشُعَيْب. والعجيب أن كاتب مادة "سَجْع" فى الطبعة الجديدة من "The Encyclopaedia of Islam" ("دائرة المعارف الإسلامية" الاستشراقية) لا يختلف مع الباحثين الآخرين فى وَسْم كلّ ما نُسِبَ للكهان من أقوالٍ بأنها لا تبعث على الاطمئنان، ومع هذا يتهم الرسول بأنه يقلد فى قرآنه سجع أولئك الكهان، وإن أضاف أنه قد عمل فى ذات الوقت على أن يصبَّ فى هذا القالب الكهنوتى القديم المبادئ الجديدة التى أتى بها! أى كما يقال فى المثل: "عَنْزَة ولو طارت"!
وأما أن الحنفاء كانوا يلقون مواعظهم مسجوعة فلا بد أن نعرف أنهم لم يكونوا يخرجون عن التنبيه إلى تأمل بعض مظاهر الطبيعة وأن البشر جميعا صائرون إلى الموت وما أشبه، ولم يكونوا يلمسون أيا من الموضوعات الكثيرة التى يعج بها القرآن من عقائد إلهية وأخروية وعبادات وتشريعات اجتماعية ومالية وتجارية وحربية وأخلاقية وذوقية وقصص عن الأمم القديمة وأنبيائها... إلخ. كذلك فإن الحنفاء إما آمنوا به عليه السلام أو آمن بعد موتهم كل أهليهم من أبناء وزوجات وأقارب.
كذلك فالقَسَم بالقلم أو بالكتاب شىء جديد تماما على الأدب العربى لم يقع من قبل فى أى نص شعرى أو خطابى أو فى مَثَلٍ من الأمثال السائرة. وهذا يدل على أهمية القلم والكتابة فى حضارة الإسلام، فقد كان العرب فى جاهليتهم أميين فى أغلبيتهم الساحقة، لكنهم بعد الإسلام صاروا أكبر أمة تكتب وتقرأ فى العالم، وتعلمت كثير من الشعوب منهم مثلما تعلموا هم من غيرهم قبل ذلك. وقد دفع المسلمون العلوم خطوات جبارة فى طريق الثقافة العالمية، وظلوا لقرون يمارسون هذه الأستاذية إلى أن نضبت حيويتهم بفعل عوامل متعددة وجنحوا للمغيب قليلا قليلا فى البداية ثم بعد ذلك بوتيرة متسارعة، فى الوقت الذى كانت أوربا فيه تبزغ شمسها شيئا فشيئا ثم بوتيرة متسارعة بعد ذلك حتى احتلت المقدمة واستقرت هناك فى رسوخ وشموخ، وتقهقرنا نحن إلى الوراء حتى انتهينا فى آخر المطاف إلى ذيل القائمة. ثم حدث أن تحركنا قليلا حركة ظننا معها أن تباشير الفجر قد هلت وأن النور سرعان ما ينتشر فى الآفاق فنستعيد مجدنا وتفوقنا، لكن يبدو أن انتعاش الآمال كان قائما على غير أساس متين، إذ انتكست الأمور ولم يعد يظهر فى الأفق ما يوحى بأن الفجر قد اقترب كما كنا نتوقع، إذ نحن نحارب عدوا يتدرع فى صراعه معنا، بغية القضاء علينا، بالعلم والعمل والجِد والنظام والثقة بالنفس والأسلحة التى اخترعها بعقله وصنعها بيده وتعاوُن دوله فيما بينهم على حين نظن أننا سوف ننتصر عليهم بالجهل والهرجلة والتنابذ والخضوع وفقدان الكرامة وانعدام الثقة بالذات والاعتماد على الآخرين فى استيراد السلاح وكثير من حاجات الحياة ولا نخترع شيئا.
وإنى لأستعجب أن يقرأ بعض الناس القرآن الكريم ثم يقولوا بعد ذلك إنه من كلام الكهان، أو إنه تقليد لكلام الكهان! إن هذا الادعاء لهو دليل على أن صاحبه كاذب بالثلث أو منكوس العقل مطموس البصيرة. ولسوف أورد هنا نص ثلاث سور قصيرة هى "الضحى" و"الليل" و"البلد"، وأترك القارئ (أيًّا كان دينه ومذهبه) وجهًا لوجهٍ أمامها ليسأل ضميره بصدق وأمانة: أَمِثْل هذا الكلام هو من وحى الشياطين أو يجرى من جاء به على سُنّة الشياطين؟ يقول جل جلاله: "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * وَالضُّحَى* وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى * وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى * أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى * فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ"، "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى * وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى * إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى * فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى * وَمَا يُغْنِى عَنْهُ مَالُه ُ إِذَا تَرَدَّى * إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى * وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالأُولَى * فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى * لا يَصْلاهَا إِلا الأَشْقَى * الَّذِى كَذَّبَ وَتَوَلَّى * وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِى يُؤْتِى مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى"، "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم * لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ * لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِى كَبَدٍ * أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ * يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالا لُبَدًا * أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ * أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ * فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِى يَوْمٍ ذِى مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ * ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ * أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ * عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ". والله إن كان هذا الكلام النبيل الكريم هو من كلام الكهان، ومن وحى الشيطان، فليس هناك شىء يستحق الثقة إذن فى دنيا الإنسان، وبخاصة أن الإسلام حرب على الكهانة والكاهنين والأبالسة والشياطين!
فى ضوء ما مر نستطيع أن نضع الكلام التالى لعبد الله إبراهيم، هذا المدلس الذى خدع جامعة قطر لسنوات موهما إياها أنه "أستاذ مساعد" وصار يقبض مرتب الأستاذ المساعد عدة أعوام، على حين أنه لم يكن سوى "مدرس" أتى من إحدى الجامعات الليبية حيث يسمون "المدرس" الجامعى: "أستاذا مساعدا"، و"الأستاذ المساعد": "أستاذا مشاركا"، ثم لم ترض له بجاحته وعراقته فى التدليس إلا أن يمضى شوطا آخر فى الخداع اللئيم الأثيم فتَقَدَّمَ بأوراقه للترقية إلى "أستاذ" مرة واحدة، لكن القدر كان له بالمرصاد، إذ اكتشفت اللجنة التى كانت مكلفة بالنظر فى أوراق المتقدمين لدرجة جديدة بقسم اللغة العربية هناك، بالمصادفة المحضة، أنه مدلس كبير، ولما تحققت الجامعة القطرية من حقيقة الأمر أنهت عقده، وإن كانت اكتفت بهذا فلم تحوله لمجلس تأديب، فاستمر يزعم المزاعم ويفترى على الجامعة وإدارتها وأساتذتها الأكاذيب، وكل ذلك لأن من البشر بشرا ثخينى جلد الوجه لا يخجلون.
وهذا نص ما قاله ذلك المدلس العريق عن الإسلام والرسول والكهان فى "سيرة المرويّات النثرية السردية الجاهلية/ شبكة الذاكرة الثقافية"، وأرجو من القارئ أن يرهف أذنيه ليلتقط ما بين السطور، وقبل ذلك ما فى السطور نفسها، من افتراءات ضالة مضلة عن تشابه القرآن وأسجاع الكهان: "استأثر ضرب آخر من النثر باهتمام طائفة من الكهّان والمتنبّئين والمتعبّدين فى العصر الجاهلى، ونُسِب إليهم لأنه كان الوسيلة المعبرة عن مقاصدهم وأفكارهم. ويبدو أن جملة الظروف الثقافية القائمة آنذاك قد دفعت هذا النوع من النثر إلى مقدمة أنواع النثر الجاهلى لأنه ارتبط بالنظم الدينية التى كانت قائمة آنذاك. ومن ناحية منطقية فإن الإسلام جَبَّ مضمون نثر الكهان وأساليبه السجعية، ولكن إذا نُظِر للأمر من ناحية واقعية فإن واقع الحال يكشف أن جوهر الرسالة الإسلامية والأسلوب الذى جاءت فيه لم يكن يتعارض مع نثر الكهان. ذلك أن الموضوعات التى كانت تتواتر فيه هى إجمالا أخلاقية وعظيّة تتخلّلها ضروب من التأويلات الغامضة، أما أساليبه فيغلب عليها الأسجاع التى تماثل إلى حد ما الصيغ السجعيّة التى نجدها فى الخطب والنصوص الدينية. ومن المحتمل أنّ أصل التعارض كان قائمًا فى الوظائف التى يقوم بها كلّ من النبى والمتنبّئ، أى الخلاف فى وظيفة الرسول ووظيفة الكاهن. ذلك أنه لو نظر إلى ماهية النصوص بعيدًا عن سلطة المقدس لوجدنا أنّ التماثل فى المضامين والأساليب لا يفضى إلى نوع من التعارض الحقيقى، ويرجح أنّ ظروفًا واقعية وتاريخية أوجدت ذلك التعارض، وفرضت نوعًا من التناقض بينهما".
هذا ما قاله عبد الله إبراهيم، وتعليقنا هو: هل صحيح أن جوهر الرسالة الإسلامية والأسلوب الذى جاءت فيه لم يكن يتعارض مع نثر الكهان كما زعم هذا المدلس؟ هل كان الكهان يدعون إلى الصدق والعفة وإعطاء الفقراء والمساكين واليتامى وأبناء السبيل حقوقهم فى أموال القادرين؟ هل كانوا يحثون على النظام والنظافة وإماطة الأذى عن الطريق وتنظيف الأسنان وتمشيط الشعر؟ هل كانوا يحضون على العلم ويَرَوْنَه أفضل ألوان العبادة؟ هل كانوا يحمّسون الناس إلى تشغيل عقولهم والحرص على استقلال آرائهم فلا يكونوا إمّعات؟ هل كانوا حرصاء على نشر الوعى بالسنن الكونية فى السماوات والأرض ودنيا البشر؟ هل كانوا يقولون إن من الذنوب ذنوبا لا يكفرها إلا العمل؟ هل كانوا يحاربون الوثنية والثنوية والتثليث وتأليه البشر والجماد ويقفون حياتهم على دعوة التوحيد؟ هل كانوا يقولون إن لكل داء دواء، وعلى البشر أن يبحثوا عن الدواء لكل مرض يصيبهم؟ هل كانوا يصلّون ويزكّون ويصومون؟ هل كانوا يعملون بكل جهدهم على الوقوف بكل قواهم ضد الاستغلال والظلم والجبروت والتأله؟ هل كانوا يقولون باليوم الآخر والحساب الإلهى والجنة والنار؟ هل كانوا يتفكرون فى عظمة الله وما ينبغى له من التمجيد والتحميد والطاعة والإخبات؟ هل كانوا يؤمنون بالرسل والنبيين السابقين؟ وأخيرا وليس آخرا: هل كانوا يكرهون مهنتهم القائمة على الكذب والتدليس والتضليل ويتوعدون من يقصدهم بسخط الله عليهم؟ ثم هل كان الرسول يدعى المقدرة على التنبؤ بالغيب؟ أم هل كان يأخذ أجرا على دعوته؟ أم هل كان يفتخر بأنه على صلة بالشياطين؟ أم هل كان يلوذ ببيوت الأوثان؟ أم هل كان يؤرّث نيران المفاخرة بين الناس ثم يلتف ليفصل بينهم؟ لقد كان الكهنة يفعلون هذا كله وأشنع منه، أما الرسول فقد كانت سبيله هى سبيل الطهر والأمانة والسمو والعقل والعلم والتحضر. ألا إن المدلّسين لفى ضلال مبين!
ومعروف أن القرآن حريص على إنهاء كل آية من آياته تقريبا بفاصلة مسجوعة، وهذه الفاصلة تجعل للكلام طعما شامخا عجيبا علاوة على ترسيخها أسماء الله أو مبادئ الإسلام فى نفس المسلم. وقد حاول مؤلفو الإنجيل المسجوع مضاهاة الفواصل القرآنية، بيد أنهم قد أفسدوا الأمر أيما إفساد. والفواصل القرآنية تعمل فى العادة على التذكير بالله وصفاته والمبادئ القويمة والأخلاق الجميلة وما إلى هذا. وبعضها يتكرر بنصه من سورة إلى سورة، أو بصيغة قريبة.
وقد تكون السورة كلها مسجوعة على روى واحد، وبخاصة السور المكية، وبالأخص القصير منها، وهذا قليل جدا. وقد تكون متنوعة السجعات. وقد تكون كلها مسجوعة على حرف واحد مع الخروج على هذا الحرف فى فاصلة أو فاصلتين أو عدة فواصل قليلة. ومع هذا فكثيرا ما تكون تلك الفواصل على روىّ مقارب فى مخرج الكلام للحرف الذى يدور عليه سجع سائر السورة. وبالمثل قد تتكرر لفظة الفاصلة أو ألفاظها فى نفس السورة، بل قد تتكرر فى آيتين متقاربتين. ولا يصح أن ننسى أن فى القرآن حملة شعواء على الكهان والأوثان التى كانوا يقومون على بيوتها وعلى الشياطين الذين كان أولئك الكهان يزعمون اتصالهم بهم ومعرفة المغيبات عن طريقهم. وهذا كله من خصائص النص القرآنى مما لا وجود له فى سجع الكهان لوقلنا إنه كان سابقا للكتاب الذى نزل على محمد عليه السلام.
وعلى كل حال فقد اختفى سجع الكهان إلى الأبد بتخلفه وظلماته وبهلوانياته، إذ أزاحه القرآن الشريف والحديث الكريم من طريق العقول بما فيهما من دعوة إلى الإيمان بالله وتقواه ويقظة العقل والضمير وتجريم الكهانة والاعتقاد فى مصداقية مدعيها والبعد عن كل ما يخامر العقل من خمر وخرافات ودعاوى خاصة بمعرفة الغيب وما إلى ذلك بسبيل، وهجر الكتاب والخطباء السجع الغامض المتنطع الثقيل الظل المُوهِم بأن فى جَعْبَة صاحبه شيئا، على حين ليس فى جعبته أى شىء، والتزم الكتاب والمتحدثون بالنثر الواضح. ويبقى القَصَص، وقد كان معروفا فى الجاهلية، إلا أنه لم يصلنا شىء مكتوب منه، وإنما تم تسجيله كتابة فى العصر العباسى، بالإضافة إلى القصص الشعرى الذى كان العرب يتلونه عند ترديدهم لأشعار الجاهلية. أما فى الإسلام فهناك أيضا القصص القرآنى والنبوى. كما أن بعض الخلفاء استعانوا بالقُصّاص فى المساجد والجيوش لاعتبارات سياسية وتربوية مما لا نجده فى الجاهلية.
هذا من ناحية الأسلوب اللغوى والزعم بأن القرآن قد تشرب هذا الأسلوب من النصوص الدينية التى سبقت ظهور الإسلام. وأما من ناحية المضمون فلو أن القارئ قارن بين الكتاب المقدس مثلا والقرآن المجيد فى هذا المضمار لتبين له أن الاتجاهين يختلفان كل الاختلاف: فمثلا نجد أن الصورة التى يرسمها القرآن العظيم لربنا جلت قدرته تختلف اختلافا بعيدا جدا عن صورته سبحانه فى كتاب اليهود والنصارى: فالله فى الكتاب المقدس يتصرف ويشعر وتفوته أشياء ويمكن خداعه والانتصار عليه فى المصارعة كالبشر: فهو، حين قام فى أول الخليقة بالتمشى فى الجنة عند هبوب ريح النهار ولم ير آدم كما كان يتوقع، أخذ يناديه حتى يعرف أين هو. وهو يدخل مع يعقوب فى صراع طوال ليلة من الليالى كتّفه فيه يعقوب تكتيفة يصعب عليه التخلص منها لولا ارتخاء ذراعى يعقوب اللتين كان يطوقه بهما وضربه له على حق فخذه مما سبب له آلام عرق النَّسا. وهو سبحانه يحقد على بنى آدم ويندم على خلقه إياهم. وهو لا يحسن اختيار أنبيائه ورسله: فنوح يكرع الخمر حتى يفقد وعيه تماما وينطرح على الأرض داخل خيمته عارى السوأة، وعندما يفيق ويعلم أن ابنه الأكبر رآه على هذه الحال المخزية يلعنه هو وأولاده مع أن الابن وأولاده لا ذنب لهم على الإطلاق. وإبراهيم يترك زوجته لأحد الحكام من أول لحظة ويفرح بأنه وهب له قطيعا من الماشية. وموسى يرد على الله ردا جافا وكأنه يخاطب شخصا مثله، بل ويقتل المصرى عن عمد وسبق إصرار وبعدما نظر حوله وتيقن أن أحدا لن يراه. وهارون فى الكتاب المقدس هو الذى صنع العجل ليعبده بنو إسرائيل وليس السامرى. وداوود يَفْجُر بزوجة قائده العسكرى وجاره فى غيابه ثم يكلف بعض رجال الجيش بوضع الزوج المسكين المخلص له ولدولته فى الصف الأول من القتال كى يقتله الأعداء وتخلص له الزوجة تماما. كل ذلك بقلب صخرى بارد. وابن داود يغتصب أخته فى بيت النبوة. وسليمان يتزوج نساء وثنيات كثيرات، ثم لا يكتفى بهذا بل وينصب لهن فى قصره أوثانا يعبدنها، ويعبدها معهن هو أيضا... وبالنسبة لعيسى عليه السلام نجد الأناجيل التى بين أيدينا مفعمة بالتناقضات وما لا يليق بنبى كريم كالسيد المسيح. وهذا علاوة على أن الإنجيل الذى يتحدث عنه القرآن شىء، والأناجيل التى تحت تصرفنا الآن شىء آخر: فإنجيل القرآن هو كتاب من عند الله أنزله عز وجل على عبده عيسى مثلما أنزل على عبده محمد القرآن المجيد بينما الأناجيل الأربعة هى من صنع متى ومرقس ولوقا ويوحنا كتبوها بعد رفع الله لنبيه عيسى إليه بزمن طويل، فهى عبارة عن سِيَرٍ عِيسَوِيّة كالسير النبوية التى كتبها علماؤنا عن حياة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم مع تفوق السيرة النبوية عندنا على تلك الأناجيل فى الدقة والصحة. وهذا كله غير نفى القرآن لحادثة الصلب وللتثليث والفداء، وهى الأسس الجوهرية التى تنهض عليها النصرانية.
وثم نقطة هامة تتمثل فى أن هناك فروقا أسلوبية حاسمة بين الكتابين: فما من سورة قرآنية إلا وتبتدئ باسم الله الرحمن الرحيم فى حين يخلو الكتاب المقدس من أية تسمية فى مفتتح كل سفر. والتسمية بـ"السِّفْر" هنا تختلف عن التسمية بـ"السُّورة" عندنا. كما أن كل سفر من أسفار الكتاب المقدس يستقل بموضوع معين بخلاف سور القرآن، التى تتضمن عادة عددا من الموضوعات. ومن تلك الفروق أيضا أن بعض السور القرآنية لا تزيد على سطر أو سطرين أو ثلاثة أو صفحة أو صفحتين أو ثلاث بينما كل أسفار الكتاب المقدس أسفار كبيرة. كما يخلو القرآن من أسماء معاصرى النبى تماما إلا زيدا، أما الكتاب المقدس فيطفح بأسماء البارزين من معاصرى كل نبى وغير قليل من غير البارزين. وفى القرآن يُكْتَفَى بالخطوط العامة فى أحداث التاريخ وفى القصص على حين يهتم الكتاب المقدس بذكر التفاصيل كما هو معلوم. كذلك فالكتاب المقدس يراعى التسلسل التاريخى، أما القرآن فيركز على اللب والعبرة. وفى الكتاب المقدس مناظر وصور داعرة متعددة على عكس القرآن، الذى يخلو من تلك السمة تماما. وفى القرآن كثيرا ما يقابلنا تحول الضمير من المتكلم أو الغائب المفرد إلى الجمع وكذلك حذف جملة جواب الشرط وعدم ذكر اسمى الطرفين اللذين يكون بسبيل الحديث عنهما اعتمادا فى كل هذا على السياق مما يخلو منه الكتاب المقدس. ومن الفروق بين أسلوبى الكتابين كذلك أن عددا من سور القرآن يبدأ بحرف من حروف المعجم أو أكثر، ولا وجوود لشىء من هذا فى الكتاب المقدس. وهناك أسلوب "إذ"، التى تأتى فى بداية موضوع أو قصة ما مسبوقة بـ"واو" أو عارية عنها، ويفسرها المفسرون بـ"اذْكُرْ". ولعل أقرب شىء إلى معناها هو "تَنَبَّهْ إلى الموضوع التالى، أو إليك هذه القصة لتتمعن فيها". وهذا الأسلوب لا وجود له فى كتاب اليهود والنصارى.
ثم كيف يا ترى علم الرسول بما فى تلك الكتب التى يزعم الزاعمون أنه عليه الصلاة والسلام قد استقى منها قرآنه؟ هل دله على ذلك أحد؟ فمن هو؟ ولماذا لم يتقدم ويوجه إليه إصبع الاتهام؟ أم هل قرأ تلك الكتب بنفسه؟ فمن يا ترى شاهده وهو يطالعها؟ بل من رأى يوما فى يده كتابا؟ وهذا إن كان يقرأ ويكتب أصلا؟ ولماذا كانت جميع الروايات القرآنية المتعلقة برب العالمين تليق بجلاله وبنبييه عليهم السلام بينما هى على العكس من ذلك فى الكتاب المقدس؟ أيكون محمد، الذى يتهمه الأوغاد بأنه رسول مزيف، أَغْيَرَ على الكتاب المقدس وأنبيائه من أتباع أولئك الأنبياء؟ كيف ذلك بالله عليكم؟ ثم لو كان محمد نبيا كاذبا فكيف قص علينا المعجزات التى قام بها أنبياء الكتاب المقدس وكررها مرارا فى القرآن فى الوقت الذى كلما طالبه قومه بمعجزة أجابهم قائلا: "سبحان ربى! هل كنت إلا بشرا رسولا؟". إن الأنبياء المزيفين لا يقعون فى هذا الخطإ القاتل لأنهم بذلك يعطون، بكل أريحية وسذاجة لا تليق بهم، السلاح الذى يحاربهم به أعداؤهم، إذ اعترفوا للأنبياء السابقين بوقوع المعجزات على أيديهم فى الوقت الذى يقرون فيه بأنه لا معجزات لديهم. وقد توقفت فى هذا أو ذاك من كتبى عند بعض المزاعم التى تقول إنه أخذ هذه الحكاية أو تلك العبارة أو الصورة من الكتاب الفلانى أو العلانى، فوجدت أن كل ذلك تعلات متهافتة يراد بها إحداث أكبر قدر من الضجيج والشوشرة لصرف الناس عن الاستجابة لدعوة الإسلام. وشىء آخر هو: لو كان هذا الاتهام صحيحا فلماذا لم ينبر أحد من حنفاء الجاهلية أو من الرهبان الذين أخذ محمد منهم أو أولادهم فيفضحوه ويشنعوا عليه ويدمروا دينه؟ نعم لماذا؟ هذا هو السؤال!
وفى الفصل السادس من جزء الكتاب الأول يقول د. عبد الله إبراهيم إن الخطابة والقص كانا متداخلين فى الجاهلية وظلا على هذه الحال لا انفصام بينهما فى الثقافة الإسلامية بحيث إن الخطيب كان قاصا كذلك. لكن هل كان الكهان قصاصين؟ وهل كان عبد المطلب مثلا قصاصا؟ أم هل كان ابنه أبو طالب ممن يقصون القصص أيضا؟ وهل كان مرثد الخير والملبب بن عوف وجعادة بن أفلح وعامر بن الظرب العدوانى وقبيصة بن نعيم وهانئ بن قبيصة وعمرو بن كلثوم وأكثم بن صيفى من أهل القصص؟ أم هل كان أبو بكر وعمر وعثمان وعلى وسعد بن أبى وقاص وجرير بن عبد الله البجلى وعائشة والخنساء وعكرشة بنت الأطرش وأم الخير بنت الحريش وبشار بن برد وهارون الرشيد وواصل بن عطاء... ممن يقصون، وقد كانوا خطباء؟
وفى هذا السياق نراه يورد خبرا عن سحبان وائل الخطيب المشهور الذى ضُرِبَ به المثل فى الفصاحة فقيل: "أبلغ من سحبان وائل"، وهو من المخضرمين. وهذا هو الخبر المذكور، وهو منقول عن "خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب" لعبد القادر البغدادى: "حكى الأصمعى قال: كان إذا خطب يسيل عرقًا، ولا يعيد كلمة، ولا يتوقف، ولا يقعد حتى يفرغ. وقدم على معاوية وفد من خراسان فيهم سعيد بن عثمان، فطلب سحبانَ فأُتِى به، فقال: تكلم. فقال: انظروا لى عصًا تُقَوّم من أودى. فقالوا: وما تصنع بها وأنت بحضرة أمير المؤمنين؟ قال: ما كان يصنع بها موسى وهو يخاطب ربه، وعصاه فى يده. فضحك معاوية، وقال: هاتوا عصاه، فأخذها ثم قام فتكلم من صلاة الظهر إلى أن قامت صلاة العصر، ما تنحنح ولا سعل ولا توقف ولا ابتدأ فى معنى فخرج منه، وقد بقى عليه شىء. فما زالت تلك حالته حتى أشار معاوية بيده، فأشار إليه سحبان أنْ: لا تقطعْ على كلامى. فقال معاوية: الصلاة. فقال: هى أمامك، ونحن فى صلاة وتحميد، ووعد ووعيد. فقال معاوية: أنت أخطب العرب. فقال سحبان: والعجم، والإنس والجن".
والآن إلى التحليل: وبادئ ذى بدء أحب أن أقف عند قوله، عن غياب نص الخطبة واكتفاء الراوى بحكاية الظروف التى واكبت الخطبة، إنها إستراتيجية لعبت على ثنائبة الغياب والحضور للنص. ولكنه لم يقل لنا: من صاحب تلك الإستراتيجية، ذلك المصطلح الذى يغرم به نقاد آخر زمن وكأننا مقبلون على الحرب العالمية الثالثة، وهو جزء من "إستراتيجية" أولئك النقاد الفارغين من العلم الصحيح رغبة منهم فى إرهاب القراء والتهويل عليهم وإشعارهم أنهم إزاء معركة حربية سوف تطير فيها الرقاب وتنهدم البيوت وتفرقع فيها القنابل وتطفأ الأنوار ويعلو الصياح والصراخ وتنتشر رائحة الموت فى كل مكان؟ ثم ما حكاية الغياب والحضور للنص، أَىْ نص الخطبة؟ لقد غابت الخطبة، وما دامت قد غابت فهى ليست حاضرة. هذا ما يقوله المنطق. أما أن تغيب وتحضر فكلام لا يدخل العقل، وإلا فليذكر لنا نصها أو حتى موضوعها العام، وهيهات! أما أنا فأشرح لكم الأمر. إنه يطنطن بما يسمى: "الثنائيات الضدية" جريا على طريقة نقاد الزمن الأغبر الذين يظنون أنهم بهذه الثنائيات الضدية قد اكتشفوا كنوز على بابا والأربعين حراميا بينما الناس جميعا بما فيهم الأطفال يعرفون أن الليل يقابله النهار، والأرض تقابلها السماء، والرجل تقابله المرأة، والماشى يقابله الراكب، والمدلس يقابله الصادق، ومزور الشهادات يقابله الرجل المستقيم، والأهلى يقابله الزمالك، والعقاد يقابله طه حسين، والكتاب الجادون يقابلهم النقاد الهلاسون.
ثم يمضى ناقدنا الإستراتيجى الهمام ناسيا "ثنائياته الضدية" وداخلا فى نوع آخر من الثنائيات هو "الثنائية التوافقية" (وهذا مصطلح اخترعته لتوى على سبيل السخرية) يتمثل فى أن غياب نص الخطبة واكبه غياب هيبة أمير المؤمنين. ولم لا، وعندنا شغل "إستراتيجى" معتبر؟ وهذا منطوق كلام يفهم منه أنه لو كان ذلك "الإستراتيجى" (الذى لا أعرف من هو لأن ناقدنا الكريم لم يتكرم علينا باسمه) قد أورد ضمن حكايته نص الخطبة لظلت هيبة معاوية متلبسة به لا تفارقه. أيظن ظانٌّ أن الخليفة يستمد هيبته من نص الخطبة، وعليه فإذا غاب النص غابت الهيبة، وإذا حضر حضرت الهيبة؟ والله عشنا وشفنا! ثم إن ناقدنا لم يكتف بهذا بل أضاف إلى غياب هيبة الخليفة انعدام أهمية الصلاة أيضا، وكأن الخطبة ألغت فريضة الصلاة إلغاء، وهو ما يكشف لنا عن أعماق ناقدنا الظريف ورغبته الحارقة فى أن تختفى الصلاة وكل ما تمثله لأنها قذى فى عيون بعض البشر. من قال إن تأخير الصلاة بضع دقائق أو حتى إلى وقت الصلاة التالية يلغى أهميتها؟ والله إنى لأستغرب كيف يفكر بعض الناس. المعروف أن الناس يفكرون بعقولهم، لكن يبدو أن بعض الناس يفكرون بشىء آخر لا داعى للتلفظ به.
ولقد تذكرت الآن عبارة قالها لى مقاول مبانٍ من قريتى كان يصبّ الهيكل الخرسانى لبيتى هناك فى ثمانينات القرن الماضى، وكنا نتداول الكلام فى ذلك الموضوع ونحن واقفان على الطريق العام الذى يمر بالقرية، وظن أننى أتذاكى عليه وأحاول مراوغته باعتبار أنى دكتور، وهو مقاول أمى، وكنت أستلطفه وأثق به لكنه كان يزعجنى أحيانا بتصرفاته وخُلْفه المواعيد، فأراد أن يرينى أنه يفهمها وهى طائرة، لكنه أتى بعبارة جديدة علىَّ فقال وهو يولينى ظهره ويشير إلى مؤخرته: إنى أفهمها بـ...، فضحكت حتى كدت أموت من الضحك، وقلت على سبيل الإعجاب به وبفصاحته المنتنة: الله يخرب بيت شيطانك! من أين لك يا ولد بكل هذه البلاغة التى لم "أشمّ" لها نظيرا من قبل؟
ولكن ها هنا نقطة هامة فاتت د. عبد الله إبراهيم. هلا سأل نفسه: أين نص خطبتنا هذه تلك التى رويت فى طائفة من كتب التراث مع بعض الاختلافات غير ذات الشأن بين كتاب وآخر واستنبط منها مؤلفنا صنوف القواعد والأفكار والأحكام النقدية والتاريخية والنفسية والاجتماعية؟ لقد حاولت العثور عليها فى مئات من كتب القدماء فلم ألقها. بل لقد وجدت فى "المستقصى فى أمثال العرب" للزمخشرى إشارة إلى خطبة له أخرى أطول من هذه، إذ قيل إنها استغرقت شطر اليوم، وكانت فى الصلح بين قبيلتين، ولكنى لم أجد لها هى أيضا نصا فى مئات الكتب التى رجعت إليها. جاء فى كتاب الزمخشرى المشار إليه آنفا تحت عنوان "أبلغ من سحبان وائل: "خطب فى صلح بين حيين شطر يوم فما أعاد كلمة وهو القائل:
لقد علم الحىُّ اليمانون أننى

إذا قلت: "أما بعد" أنى خطيبها

وقال فى طلحة الطلحات:


يا طَلْحُ أكرم مَنْ مشى

حسبًا وأعطاهم لتالِدْ

منك العطاء، فأعطنى

وعلىَّ حَمْدُك فى المشاهدْ


فحكَّمَه، فقال: فرسك الورد، وقصرك بزرنج، وغلامك الخباز، وعشرة آلاف درهم. فقال طلحة: أف لك! لم تسألنى على قدرى، إنما سألتنى على قدرك وقدر قبيلتك باهلة. والله لو سألتنى كل فرس وقصر وغلام لى لأعطيتك. ثم أمر له مما سأل وقال: والله ما رأيتُ مسألةَ محكَّمٍ أَلْأَمَ منها".
وإلى القارئ الآن كل ما وجدته فى تلك الكتب من خُطَبه، وهو كما ترى بضعة أسطر لا غير: "ومما يُؤْثَر من خطبه قوله: إن الدنيا دار بلاغ، والآخرة دار قرار أيها الناس، فخذوا من دار ممرّكم لدار مقرّكم، ولا تهتكوا أستاركم عند من لا تخفى عليه أسراركم، وأخرجوا من الدنيا قلوبكم قبل أن تخرج منها أبدانكم، ففيها حَيِيتم ولغيرها خُلِقْتم. إن الرجل إذا هلك قال الناس: ما ترك؟ وقال الملائكة: ما قَدَّم؟ قدِّموا بعضًا يكون لكم، ولا تخلّفوا كُلًّا يكون عليكم". وفى "جمهرة خطب العرب" لأحمد زكى صفوت نقرأ فى هامش هذه الخطبة أنها تنسب أيضا إلى الإمام على بن أبى طالب ولأعرابى من البادية، وأن طول خطب سحبان قد يكون هو السبب فى عدم حفظها. إذن فحديث عبد الله إبراهيم المتحذلق عن الثنائية الضدية والإستراتيجية التى لعبت على ثنائية الغياب والحضور هو كلام فى الهجايص. فالرجل لم تحفظ له سوى خطبة واحدة رغم كل تلك السمعة الهائلة فى الفصاحة والتدفق والإطالة فى الخطابة.
كذلك يثير دهشتى أن سحبان كان، كما قرأنا، يصلح بين الناس مما يدل على أنهم كانوا يجلونه ويسمعون كلمته ويرضون بحكمه، لكننا فى الخبر الفائت نراه يمد يده للسؤال ويغالى فى الطلب. وأغرب من ذلك أن طلحة يستجيب له فى الحال بل ويقلل من شأنه وشأن ما طلب ويقسم أنه لو كان قد طلب كل ماله لوهبه له فى الحال، وكأنه قاعد على كنوز الدنيا يغرف منها المال غرفا بغير حساب ويعطيه لمن يسأل. الحق أنْ لو كان ذلك صحيحا لافتقر فى ساعة زمن وجلس بعدها على قارعة الطريق ينعى ميلة بخته ويمد يده للسابلة صارخا من تباريح آلام بطنه: جوعان يا ناس! ولكان سحبان كلما مر به نظر إليه شزرا واستحقارا و لم تَبِضّ له كَفُّه بشىء.
ويمضى عبد الله إبراهيم بعد ذلك مع الكهانة والكهان، الذين يقول عنهم إنه لا فرق بينهم وبين النبى محمد وقرآنه: فكلا الطرفين يستعملان السجع ويعظان، ومن ثم لا فرق بينهما. وقد بينّا آنفا أن هذا كله خطأ صراح وتدليس، فلا داعى لإعادة الكلام فى ذلك الموضوع. لكن صاحبنا لا يقف هنا بل يقول إن الشيطان لم يكن يترك لا الكاهن ولا النبى: فأما الكهان فأمرهم معروف، وأما النبى فقد كان النبى يقرأ سورة "النجم" حين نزلت عليه، ولما بلغ قوله: "أفرأيتم اللات والعزى * ومناة الثالثة الأخرى؟" ألقى الشيطان على لسانه الجملتين التاليتين وصفًا لهذه الأوثان الثلاثة وثناءً عليها: "تلك الغرانيق العلا * وإن شفاعتهن تُرْتَجَى". وهو يحيل فى هذه الرواية إلى الطبرى وابن كثير...
وهناك فعلا روايات خاصة بـ"قصة الغرانيق"، لكنها تقول إن هاتين الجملتين قد حُذِفتا من السورة فيما بعد. لقد كان محمد عليه الصلاة والسلام يتمنى أن يصالح القرشيين حتى يكسبهم إلى صفه بدلا من استمرارهم فى عداوتهم لدعوته وإيذائهم له ولأتباعه، ومن ثَمَّ سها أو نعس عند الكعبة فى حضور المشركين فضمّن سورة "النجم" تَيْنِك الجملتين فى الموضع المذكور، أو دسهما الشيطان فى تلاوته وهو لا يشعر. بيد أن أقل نظرة فى سورة "النجم" أو فى سيرة حياته صلى الله عليه وسلم كافية للقطع بأن تلك القصة لا يمكن أن تكون قد حدثت على هذا النحو الذى اخترعه بعض الزنادقة قديما، وأخذ أعداء الإسلام يرددونها منذئذ، ومنهم عبقرى زمانه وفيلسوف أوانه!
وقد تناول عدد من علماء المسلمين فى القديم والحديث الروايات التى تتعلق بهاتين الآيتين المزعومتين وبينوا أنها لا تتمتع بأية مصداقية. وتناول القاضى عياض فى كتابه: "الشفا فى التعريف بحقوق المصطفى" هذه المسألة أيضا مقلبا إياها على جوانبها المختلفة فقال: "وقد توجهتْ هنا لبعض الطاعنين سؤالات منها ما رُوِى من أن النبى صلى الله عليه وسلم لما قرأ "والنجم"، وقال: "أفرأيتم اللات والعزى * ومناة الثالثة الأخرى؟" قال: تلك الغرانيق العلا، وإن شفاعتها لَتُرْتَجَى. ويروى: تُرْتَضَى. وفى رواية: إن شفاعتها لترتجى، وإنها لمع الغرانيق العلا. وفى أخرى: والغرانقة العلا، تلك للشفاعة تُرْتَجَى. فلما ختم السورة سجد، وسجد معه المسلمون والكفار لما سمعوه أثنى على آلهتهم. وما وقع فى بعض الروايات أن الشيطان ألقاها على لسانه، وأن النبى صلى الله عليه وسلم كان تمنَّى أنْ لو نزل عليه شىء يقارب بينه وبين قومه. وفى رواية أخرى: ألا ينزل عليه شىء ينفرهم عنه، وذكر هذه القصة، وأن جبريل عليه السلام جاء فعرض عليه السورة، فلما بلغ الكلمتين قال له: ما جئتك بهاتين. فحزن لذلك النبى صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى تسلية له: "وما أرسلْنا من قبلك من رسول ولا نبى إلا إذا تمنى ألقى الشيطانُ فى أمنيته فينسخ الله ما يلقى الشيطان ثم يُحْكِم الله آياته والله عليم حكيم" ( سورة الحج / 52 .(وقوله: "وإنْ كادوا لَيفتنونك عن الذى أوحينا إليك لتفترى علينا غيره وإذًا لاتخذوك خليلا * ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا" ( سورة الإسراء / 73، 74 .(فاعلم، أكرمك الله، أن لنا فى الكلام على مشكل هذا الحديث مأخذين: أحدهما فى توهين أصله، والثانى على تسليمه. أما المأخذ الأول فيكفيك أن هذا حديث لم يخرجه أحد من أهل الصحة ولا رواه ثقة بسند سليم متصل، وإنما أُولِعَ به وبمثله المفسرون والمؤرخون المُولَعون بكل غريب، المتلقفون من الصحف كل صحيح وسقيم .
وصدق القاضى بكر بن العلاء المالكى حيث قال: لقد بُلِى الناس ببعض أهل الأهواء والتفسير، وتعلق بذلك الملحدون مع ضعف نَقَلَته واضطراب رواياته وانقطاع إسناده واختلاف كلماته: فقائل يقول: إنه فى الصلاة. وآخر يقول: قالها فى نادى قومه حين أنزلت عليه السورة. وآخر يقول: قالها وقد أصابته سِنَة. وآخر يقول: بل حدَّث نفسه فسَهَا. وآخر يقول: إن الشيطان قالها على لسانه، وإن النبى صلى الله عليه وسلم لما عرضها على جبريل قال: ما هكذا أقرأتُك. وآخر يقول: بل أعلمهم الشيطان أن النبى صلى الله عليه وسلم قرأها، فلما بلغ النبى صلى الله عليه وسلم ذلك قال: والله ما هكذا نزلت... إلى غير ذلك من اختلاف الرواة.
و من حُكِيَتْ هذه الحكاية عنه من المفسرين والتابعين لم يسندها أحد منهم ولا رفعها إلى صاحب، وأكثر الطرق عنهم فيها ضعيفة واهية، والمرفوع فيه حديث شعبة: عن أبى بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال فيما أحسب (الشك فى الحديث) أن النبى صلى الله عليه وسلم كان بمكة... وذكر القصة.
قال أبو بكر البزاز: هذا الحديث لا نعلمه يُرْوَى عن النبى صلى الله عليه وسلم بإسناد متصل يجوز ذكره إلا هذا، ولم يسنده عن شعبة إلا أمية بن خالد، وغيره يرسله عن سعيد بن جبير، وإنما يعرف عن الكلبى عن أبى صالح عن ابن عباس. فقد بين لك أبو بكر رحمه الله أنه لا يُعْرَف من طريق يجوز ذكره سوى هذا. وفيه من الضعف ما نبه عليه مع وقوع الشك فيه، كما ذكرناه، الذى لا يوثق به ولا حقيقة معه. وأما حديث الكلبى فمما لا تجوز الراوية عنه ولا ذكره لقوة ضعفه وكذبه، كما أشار إليه البراز رحمه الله. والذى منه فى الصحيح أن النبى صلى الله عليه وسلم قرأ: "والنجم" وهو بمكة، فسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس. هذا توهينه من طريق النقل.
فأما من جهة المعنى فقد قامت الحجة وأجمعت الأمة على عصمته صلى الله عليه وسلم ونزاهته عن مثل هذه الرذيلة: إما من تمنيه أن ينزل عليه مثل هذا من مدح آلهة غير الله، وهو كفر، أو أن يتسور عليه الشيطان، ويشبّه عليه القرآن حتى يجعل فيه ما ليس منه، ويعتقد النبى صلى الله عليه وسلم أن من القرآن ما ليس منه حتى ينبهه جبريل عليه السلام، وذلك كله ممتنع فى حقه صلى الله عليه وسلم، أو يقول ذلك النبى صلى الله عليه وسلم من قِبَل نفسه عمدًا، وذلك كفر، أو سهوًا، وهو معصوم من هذا كله.
وقد قررنا بالبراهين والإجماع عصمته صلى الله عليه وسلم من جريان الكفر على قلبه أو لسانه لا عمدًا ولا سهوًا، أو أن يُشَبَّه عليه ما يلقيه الملَك بما يُلْقِى الشيطان، أو يكون للشيطان عليه سبيل، أو أن يتقوَّل على الله، لا عمدًا ولا سهوًا، ما لم ينزل عليه، وقد قال الله تعالى: "ولو تقوَّل علينا بعضَ الأقاويل * لأخذْنا منه باليمين * ثم لقطعْنا منه الوتين" (سورة الحاقة / 44، 46). قال تعالى: "إذًا لأذقناك ضِعْف الحياة وضِعْف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا" (سورة الإسراء / 75 ).
ووجه ثان، وهو استحالة هذه القصة نظرًا وعُرْفًا. وذلك أن هذا الكلام لو كان، كما رُوِى، لكان بعيد الالتئام لكونه متناقض الأقسام، ممتزج المدح بالذم، متخاذل التأليف والنظم، ولما كان النبى صلى الله عليه وسلم ولا من بحضرته من المسلمين وصناديد المشركين ممن يخفى عليه ذلك. وهذا لا يخفى على أدنى متأمل، فكيف بمن رَجَح حِلْمُه، واتسع فى باب البيان ومعرفة فصيح الكلام علمُه؟
ووجه ثالث أنه عُلِم، من عادة المنافقين ومعاندى المشركين وضَعَفَة القلوب والجهلة من المسلمين، نفورهم لأول وهلة، وتخليط العدو على النبى صلى الله عليه وسلم لأقل فتنة، وتعييرهم المسلمين والشماتة بهم الفينة بعد الفينة، وارتداد مَنْ فى قلبه مرض ممن أظهر الإسلام لأدنى شبهة، ولم يحك أحد فى هذه القصة شيئًا سوى هذه الرواية الضعيفة الأصل، ولو كان ذلك لوجدت قريش بها على المسلمين الصولة، ولأقامت بها اليهود عليهم الحجة، كما فعلوا مكابرة فى قصة الإسراء حتى كانت فى ذلك لبعض الضعفاء ردة، وكذلك ما روى فى قصة القضية، ولا فتنة أعظم من هذه البينة لو وجدت، ولا تشغيب للمعادى حينئذ أشد من هذه الحادثة لو أمكنت، فما رُوِىَ عن معاند فيها كلمة، ولا عن مسلم بسببها بِنْت شَفَة، فدل على بُطْلها واجتثاث أصلها. ولا شك فى إدخال بعض شياطين الإنس أو الجن هذا الحديث على بعض مُغَفَّلى المحدِّثين ليلبس به على ضعفاء المسلمين.
ووجه رابع: ذكر الرواة لهذه القضية أن فيها نزلت "وإنْ كادوا ليفتنونك عن الذى أوحينا إليك لتفترى علينا غيره. وإذن لاتخذوك خليلا * ولولا أن ثبتناك لقد كِدْتَ تركَن إليهم شيئا قليلا" (سورة الإسراء / 73، 74). وهاتان الآيتان تردّان الخبر الذى رَوَوْه، لأن الله تعالى ذكر أنهم كادوا يفتنونه حتى يفترى، ولولا أنه ثبته لكاد يركن إليهم. فمضمون هذا ومفهومه أن الله تعالى عصمه من أن يفترى، وثبته حتى لم يركن إليهم قليلًا، فكيف كثيرًا؟ وهم يروون أخبارهم الواهية أنه زاد على الركون والافتراء بمدح آلهتهم وأنه قال صلى الله عليه وسلم: افتريت على الله، وقلت ما لم يقل. وهذا ضد مفهوم الآية، وهى تضعّف الحديث لو صح، فكيف ولا صحة له؟
و هذا مثل قوله تعالى فى الآية الأخرى: "ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك، وما يضلون إلا أنفسهم، وما يضرونك من شىء" (سورة النساء/ 113). وقد رُوِى عن ابن عباس: كل ما فى القرآن من "كاد" فهو ما لا يكون، قال الله تعالى: "يكاد سَنَا برقه يَذْهَب بالأبصار"، ولم يذهب. و"أكاد أخفيها"، ولم يفعل. قال القشيرى القاضى: ولقد طالبته قريش وثقيف إذا مر بآلهتهم أن يُقْبِل بوجهه إليها ووعدوه الإيمان به إن فعل، فما فعل ولا كان ليفعل. قال ابن الأنبارى: ما قارَبَ الرسولُ ولا رَكَنَ.
وقد ذُكِرَتْ فى معنى هذه الآية تفاسير أُخَر غير ما ذكرناه من نص الله على عصمة رسوله يرد سفسافها، فلم يبق فى الآية إلا أن الله تعالى امتن على رسوله بعصمته وتثبيته مما كاده به الكفار، وراموا من فتنته. ومرادنا من ذلك تنزيهه وعصمته صلى الله عليه وسلم، وهو مفهوم الآية.
و أما المأخذ الثانى فهو مبنى على تسليم الحديث لو صح، وقد أعاذنا الله من صحته، ولكن على كل حال فقد أجاب على ذلك أئمة المسلمين بأجوبة منها الغث والسمين: فمنها ما روى قتادة ومقاتل أن النبى صلى الله عليه وسلم أصابته سِنَة عند قراءته هذه السورة فجرى هذا الكلام على لسانه بحكم النوم. وهذا لا يصح، إذ لا يجوز على النبى مثله فى حالة من أحواله، ولا يخلقه الله على لسانه، ولا يستولى الشيطان عليه فى نوم ولا يقظة لعصمته فى هذا الباب من جميع العمد والسهو. وفى قول الكلبى: إن النبى صلى الله عليه وسلم حدّث نفسه، فقال ذلك الشيطان على لسانه. وفى رواية ابن شهاب عن أبى بكر بن عبد الرحمن قال: وسها، فلما أُخْبِر بذلك قال: إنما ذلك من الشيطان. وكل هذا لا يصح أن يقوله النبى صلى الله عليه وسلم لا سهوًا ولا قصدًا، ولا يتقوَّله الشيطان على لسانه.
وقيل: لعل النبى صلى الله عليه وسلم قال فى أثناء تلاوته على تقدير التقرير والتوبيخ للكفار كقول إبراهيم عليه السلام: "هذا ربى" على أحد التأويلات، وكقوله: "بل فَعَلَه كبيرُهم هذا" بعد السَّكْت وبيان الفصل بين الكلامين، ثم رجع إلى تلاوته. وهذا ممكن مع بيان الفصل وقرينة تدل على المراد، وأنه ليس من المتلوّ، وهو أحد ما ذكره القاضى أبو بكر. ولا يُعْتَرَض على هذا بما رُوِى أنه كان فى الصلاة، فقد كان الكلام قبلُ فيها غير ممنوع.
والذى يظهر ويترجح فى تأويله عنده وعند غيره من المحققين على تسليمه أن النبى صلى الله عليه وسلم كان، كما أمره ربه، يرتل القرآن ترتيلا، ويفصّل الآى تفصيلا فى قراءته كما رواه الثقات عنه، فيمكن ترصد الشيطان لتلك السكتات ودسه فيها ما اختلقه من تلك الكلمات محاكيًا نغمة النبى صلى الله عليه وسلم بحيث يسمعه من دنا إليه من الكفار، فظنوها من قول النبى صلى الله عليه وسلم وأشاعوها، ولم يقدح ذلك عند المسلمين بحفظ السورة قبل ذلك على ما أنزلها الله وتحققهم من حال النبى صلى الله عليه وسلم فى ذم الأوثان وعيبها على ما عرف منه.
وقد حكى موسى بن عقبة فى "مغازيه" نحو هذا، وقال: إن المسلمين لم يسمعوها، وإنما ألقى الشيطان ذلك فى أسماع المشركين وقلوبهم، ويكون ما رُوِى من حزن النبى صلى الله عليه وسلم لهذه الإشاعة والشبهة، وسبب هذه الفتنة. وقد قال الله تعالى: "وما أرسلنا مِنْ قبلك مِنْ رسول ولا نبى إلا إذا تمنى ألقى الشيطان فى أمنيته فينسخ الله ما يلقى الشيطان ثم يُحْكِم الله آياته والله عليم حكيم"، فمعنى "تمنى": تلا. قال الله تعالى: "لا يعلمون الكتاب إلا أمانى"، أى تلاوة. وقوله: "فينسخ الله ما يلقى الشيطان"، أى يُذْهِبه، ويزيل اللَّبْس به، ويُحْكِم آياته.
وقيل: معنى الآية هو ما يقع للنبى صلى الله عليه وسلم من السهو إذا قرأ فينتبه لذلك ويرجع عنه. وهذا نحو قول الكلبى فى الآية: إنه حدث نفسه. وقال: "إذا تمنى"، أى حدَّث نفسه. وفى رواية أبى بكر بن عبد الرحمن نحوه. وهذا السهو فى القراءة إنما يصح فيما ليس طريقه تغيير المعانى، وتبديل الألفاظ، وزيادة ما ليس من القرآن، بل السهو عن إسقاط آية منه أو كلمة، ولكنه لا يُقَرّ على هذا السهو، بل يُنَبَّه عليه ويُذْكَّر به للحين على ما سنذكره فى حكم ما يجوز عليه من السهو وما لا يجوز. ومما يظهر فى تأويله أيضًا أن مجاهدًا روى هذه القصة: "والغرانقة العلا"، فإن سلمنا القصة قلنا: لا يبعد أن هذا كان قرآنًا، والمراد بالغرانقة العلا، وأن شفاعتهن لترتجى: الملائكة على هذه الرواية. وبهذا فسر الكلبى "الغرانقة" أنها الملائكة، وذلك أن الكفار كانوا يعتقدون الأوثان والملائكة بنات الله، كما حكى عنهم ورد عليهم فى هذه السورة بقوله: "ألكم الذكر وله الأنثى؟"، فأنكر الله هذا من قولهم. ورجاء الشفاعة من الملائكة صحيح، فلما تأوله المشركون على أن المراد بهذا الذكر آلهتهم، ولبس عليهم الشيطان ذلك، وزيَّنه فى قلوبهم وألقاه إليهم نَسَخ الله ما ألقى الشيطان، وأحكم آياته، ورفع تلاوة تينك اللفظتين اللتين وجد الشيطان بهما سبيلا للإلباس، كما نُسِخ كثير من القرآن ورُفِعَتْ تلاوته، وكان فى إنزال الله تعالى لذلك حكمة، وفى نسخه حكمة، ليضل به من يشاء ويهدى من يشاء، وما يضل به إلا الفاسقين، و"ليجعل ما يلقى الشيطان فتنة للذين فى قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم وإن الظالمين لفى شقاق بعيد * وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم. وإن الله لهادِ الذين آمنوا إلى صراط مستقيم" (سورة الحج / 53، 54 ).
وقيل: إن النبى صلى الله عليه وسلم لما قرأ هذه السورة وبلغ ذكر اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى خاف الكفار أن يأتى بشىء من ذمها فسبقوا إلى مدحها بتلك الكلمتين ليخلطوا فى تلاوة النبى صلى الله عليه وسلم، ويشغبوا عليه على عادتهم وقولهم: "لا تسمعوا لهذا القرآن والْغَوْا فيه لعلكم تغلبون" (سورة فصلت/ 26 ). ونسب هذا الفعل إلى الشيطان لحمله لهم عليه، وأشاعوا ذلك وأذاعوه، وأن النبى صلى الله عليه وسلم قاله، فحزن لذلك من كذبهم وافترائهم عليه، فسلاه الله تعالى بقوله: "وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبى إلا إذا تمنى ألقى الشيطان فى أمنيته"، وبين للناس الحق من ذلك من الباطل، وحفظ القرآن، وأحكم آياته، ودفع ما لبس به العدو، كما ضمنه تعالى من قوله: "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون" (سورة الحجر / 9)".
والحقيقة إن النظر فى سورة "النجم" ليؤكد هذا الحكم الذى توصل إليه أولئك العلماء. فهذه السورة من أولها إلى آخرها عبارة عن حملة مدمدمة على المشركين وما يعبدون من أصنام بحيث لا يُعْقَل إمكان احتوائها على هاتين الآيتين المزعومتين، وإلا فكيف يمكن أن يتجاور فيها الذمُّ العنيف للأوثان والمدحُ الشديد لها؟ ترى هل يمكن تصوُّر انخراط شخص فى فاصل من التقريظ لشخص آخر لينتقل بعدها مباشرة لسبه وإهانته؟ ترى هل يُعْقَل ابتلاعُ العرب مثل هاتين الآيتين اللتين تمدحان آلهتهم، وهم يسمعون عقيب ذلك قوله تعالى: "ألكم الذَّكَر وله الأنثى؟ * تلك إذن قسمةٌ ضِيزَى * إنْ هى إلا أسماءٌ سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان. إنْ تتَّبِعون إلا الظن وما تَهْوَى الأنفس. ولقد جاءهم من ربهم الهدى"؟ إن هذا أمر لا يمكن تصوره!
كما أن وقائع حياته صلى الله عليه وسلم تجعلنا نستبعد تمام الاستبعاد أن تكون عزيمته قد ضعفت يوما، فقد كان مثال الصبر والإيمان بنصرة ربه له ولدعوته. ومواقفه من الكفار طوال ثلاثة وعشرين عاما وعدم استجابته فى مكة لوساطة عمه بينه وبينهم رغم ما كان يشعر به من حب واحترام عميق نحوه، ورغم الإيذاء الرهيب الذى كان يتعرض له هو وأتباعه، وكذلك رفضه لما عرضوه عليه من المال والرئاسة، هى أقوى برهان على أنه ليس ذلك الشخص الذى يمكن أن يقع فى هذا الضعف والتخاذل!
وقد أضفتُ طريقةً جديدةً للتحقق من أمر هاتين الآيتين هى طريقة التحليل الأسلوبى، إذ نظرتُ فى الجملتين المذكورتين لأرى مدى مشابهتهما لآيات القرآن فوجدت أنهما لا تمتان إليها بأية صلةٍ. ذلك أن الجملتين المزعومتين تجعلان الأصنام الثلاثة مناطا للشفاعة يوم القيامة دون تعليقها على إذن الله، وهو ما لم يسنده القرآن فى أى موضع منه إلى أى كائن مهما تكن منزلته عنده سبحانه. ولن نذهب بعيدا للاستشهاد على ما نقول، فبعد هاتين الآيتين بخمس آيات فقط نقرأ قوله تعالى: "وكم مِنْ مَلَكٍ فى السماوات لا تُغْنِى شفاعتُهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويَرْضَى". فكيف يقال هذا عن الملائكة فى ذات الوقت الذى تؤكد إحدى الآيتين المزعومتين أن شفاعة الأصنام الثلاثة جديرة بالرجاء من غير تعليق لها على إذن الله؟
ثم إنه قد ورد فى الآية الثانية من آيتى الغرانيق كلمة "تُرْتَجَى"، وهى أيضا غريبة على الأسلوب القرآنى، إذ ليس فى القرآن المجيد أى فعل من مادة "ر ج و" على صيغة "افتعل". أما ما جاء فى إحدى الروايات من أن نص الآية هو: "وإنّ شفاعتهن لتُرْتَضَى"، فالرد عليه هو أن هذا الفعل بهذه الصيغة، وإن ورد فى القرآن ثلاث مرات، لم يقع فى أى منها على "الشفاعة"، وإنما تُسْتَخْدَم مع الشفاعة عادةً الأفعال التالية: "تنفع، تُغْنِى، يملك".
كذلك بدأت مجموعةُ الآيات التى تتحدث عن اللات والعُزَّى ومناة بقوله عَزَّ شأنُه: "أ(فـ)ـرأيتم...؟"، وهذا التركيب قد ورد فى القرآن إحدى وعشرين مرة كلها فى مخاصمة الكفار والتهكم العنيف بهم كما فى الشواهد التالية: "قل: أرأيتم إن أتاكم عذابُه بَيَاتًا أو نهارا ماذا يستعجل منه المجرمون؟"، "قل: أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزقٍ فجعلتم منه حلالا وحراما، قل: آللهُ أَذِنَ لكم أم على الله تفترون؟"، "قل: أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشَهِد شاهدٌ من بنى إسرائيل على مِثلِه فآمن واستكبرتم؟ إن الله لا يهدى القوم الظالمين"، "أفرأيتم الماء الذى تشربون؟ * أأنتم أنزلتموه من المُزْن أم نحن المُنْزِلون؟ * لو نشاء جعلناه أُجَاجًا، فلولا تشكرون". فكيف يمكن إذن أن يجىء هذا التركيب فى سورة "النجم" بالذات فى سياق ملاطفة الكفار ومراضاتهم بمدح آلهتهم؟ وفوق هذا لم يحدث أن أُضيفت كلمة "شفاعة" فى القرآن الكريم (فى حال مجيئها مضافة) إلا إلى الضمير "هم" على خلاف ما أتت عليه فى آيتى الغرانيق من إضافتها إلى الضمير "هنّ".
وفضلا عن ذلك فتركيب الجملة الأولى من الآيتين المزعومتين حسبما تقول بعض الروايات يتكون من "إنّ + ضمير (اسمها) + اسم معرّف بالألف واللام (خبرها)". وهذا التركيب لم يُسْتَعْمَل لـ"ذاتٍ عاقلةٍ" فى أى من المواضع التى ورد فيها فى القرآن الكريم (وهى تبلغ العشرات) دون تأكيد اسم "إنّ" الضمير المتصل بضميرٍ منفصل، كما فى الأمثلة التالية: "ألا إنهم هم المفسدون/ ألا إنهم هم السفهاء/ إنه هو التواب الرحيم/ إنك أنت السميع العليم/ إنك أنت التواب الرحيم/ إنه هو السميع العليم/ إنه هو العليم الحكيم/ إنه هو الغفور الرحيم/ إنى أنا النذير المبين/ إنه هو السميع البصير/ إننى أنا الله/ إنك أنت الأعلى/ إنا لنحن الغالبون/ إنه هو العزيز الحكيم/ وإنا لنحن الصافّون/ وإنا لنحن المسبِّحون/ إنهم لهم المنصورون/ إنك أنت الوهاب/ إنه هو السميع البصير/ إنه هو العزيز الرحيم/ إنك أنت العزيز الكريم/ إنه هو الحكيم العليم/ إنه هو البَرُّ الرحيم/ ألا إنهم هم الكاذبون/ فإن الله هو الغنى الحميد". أما فى المرة الوحيدة التى ورد التركيب المذكور دون تأكيد اسم "إنّ" الضمير بضميرٍ مثله (وذلك فى قوله تعالى: "إنه الحق من ربك") فلم يكن الضمير عائدا على ذات عاقلة. وعلى ذلك فإن التركيب فى أُولَى آيَتَىِ الغرانيق، بناء على تلك الرواية، هو أيضا تركيب غريب على أسلوب القرآن الكريم.
مما سبق يتأكد لنا على نحوٍ قاطعٍ أن الجملتين المذكورتين ليستا من القرآن، وليس القرآن منهما، فى قليل أو كثير. بل إنى لأستبعد أن تكون كلمة "الغرانيق" قد وردت فى أى من الأحاديث التى قالها النبى عليه الصلاة والسلام. وينبغى أن نضيف إلى ما مرّ أن كُتُب الصحاح لم يرد فيها أى ذكر لهذه الرواية، ومثلها فى ذلك الخلوّ ما كتبه ابن هشام وأمثاله فى السيرة النبوية.
ولقد قرأت فى كتاب "الأصنام" لابن الكلبى أن المشركين كانوا يرددون هاتين العبارتين فى الجاهلية تعظيما للأصنام الثلاثة، ومن ثَمَّ فإنى لا أستبعد ما طرحه القاضى عياض فى كتابه: "الشفا" والكاتب الهندى سيد أمير على فى كتابه: "The Spirit of Islam" من تفسير لما يمكن أن يكون قد حدث بناءً على ما ورد من روايات فى هذا الموضوع، إذ يرى كلاهما أن النبى، عندما كان يقرأ سورة "النجم"، وبلغ الآيات التى تهاجم الأصنام الثلاثة، توقَّع بعض المشركين ما سيأتى بعد ذلك فسارع إلى ترديد هاتين العبارتين فى محاولة لصرف مسار الحديث إلى المدح بدلا من الذم والتوبيخ. وقد كان الكفار فى كثير من الأحيان إذا سمعوا القرآن أحدثوا لَغْطًا ولَغْوًا كى يصرفوا الحاضرين عما تقوله آياته الكريمة كما تقول الآية السادسة والعشرون من سورة "فُصِّلَتْ". فهذا الذى يقوله العالمان الجليلان هو من ذلك الباب. وبهذا تتبدد الشبهات التى حاول أن يثيرها عبد الله إبراهيم والتى تتغيا اتهام الرسول بأنه هو صانع القرآن بعدما استقى مادته وأسلوبه من هنا وها هنا. صحيح أن صاحبنا يلف ويدور ويستخدم لغة مراوغة، لكن رواغيته لا تخفى على من عنده خبرة بهذا النوع من الكتّاب. قال الله تعالى عنه وعن أشباهه: "ولَتَعْرِفَنَّهم فى لحن القول. والله يُخْرِج أضغانكم".
وفى ص238- 241 يقابلنا كلام عن الوصايا الجاهلية التى يؤكد عبد الله إبراهيم، كعادته دائما بمناسبة وغير مناسبة وكأنها قطعة من اللادن يلوكها باستمرار، أنها نتاج مجتمع شفوى، ومن ثم لا بد أن تكون قد خضعت للتحوير، فحذفت منها أشياء وأضيفت إليها أشياء. وفى الوصية التى تنسب إلى زوجة عوف بن محلم الشيبانى وتتوجه فيها إلى ابنتها، قبيل انتقالها إلى بيت زوجها الملك الكندى الحارث بن عمرو، بطائفة من النصائح متى راعتها فى علاقتها به ضمنت لنفسها وله السعادة. لكن د. عبد الله إبراهيم لم ير فى تلك الوصية سوى أنها ترسّخ الذكورية التى لا ترى فى المرأة شيئا غير كونها متعة للرجل. يقصد أنها وصية رجعية. وهو صادق فى كلامه هذا بدليل افتخاره بزناه بالسيدة العراقية المتزوجة، التى كانت تهرب من أهلها وتقابل صاحبنا خارج الديار لا لاقتراف الإثم بنذالةٍ، حاشا لله، بل ليصليا معا صلاة التهجد طوال الليل ليأخذ أجرا ويمكنها من الحصول على أجر مثله مكافأة لهما على تأديتهما واجبا حداثيا تقدميا مخالفا للاهوت الرجعى المتكلس. وأين الذكورية، وأمها تقول لها: "لكن النساء للرجال خُلِقْنَ، ولهنّ خُلِق الرجال"؟ وأين الذكورية، وأمها تقول لها: "كونى له أَمَةً يكن لك عبدا وشيكا"؟
ترى ماذا كان ينبغى للأم أن تقوله لابنتها فى الجاهلية، وهى مقبلة على الاقتران بملك؟ أَوَكان يريد منها أن تقول لها: إذا أمرك بشىء فقولى له: أنا لست جارية عندك ولا عند الذين نفضوا بذرتك. ليس لك علىَّ أمر ولا نهى. واعرف من الآن أنى لم أتزوجك لتحبسنى فى البيت بل ضع فى حسبانك أنى سوف أخرج وأتصرمح فى الشوارع وأنزه طَرْفى فى واجهات المحلات وأشترى كل ما تتوق إليه نفسى، فقد كانوا يدللوننى فى بيت أبى، ولا أستطيع أن أغير ما عودونى عليه. ويكون فى علمك أنى فى أقرب فرصة سوف أنزل للبحث لى عن عمل يناسب "الدبلون" الذى حصلتُ عليه، فالمرأة رأسها برأس الرجل، وليكون لى قرشان أضعهما على جنبٍ احتراسا من غدرات الزمن حتى إذا ما لعبتَ بذيلك هكذا أو هكذا كنتُ قادرة على مواجهة المستقبل دون الحَوْجة إلى أى إنسان يبيع فِىَّ ويشترى مثلك!
طبعا أنا أتهكم على حكاية الذكورية هذه، وأتهكم أكثر على شخص كان حريصا فى سيرته الذاتية على القول بأنه كان معشوق النساء فى أى مكان يحل فيه. وأى نساء؟ نساء متزوجات يواعدهن فندقا فى بلد مجاور لبلده، فتهرب المرأة من أهلها ومن زوجها فى تمرد ولهان يخرج على الخلق الكريم والتقاليد النظيفة وتذهب فتعبّ هى والبغل الأسترالى من الحرام عَبًّا، ثم يعودان إلى مستقرهما فى بلدهما. ولو صدق هذا الشخص فيما كتب، ولم يكن، بكلامه عن عشق النساء الشديد له، يغطى على ضعفه وعُنَّته بالحديث عن نساء لا وجود لهن فى حياته، فمعناه أنه شخص متجرد من الإنسانية لأن تعرُّف أهل رفيقته الخائنة عليها من خلال الكتاب سهل جدا، وقد يكون سببا فى أن يقتلوها حفاظا على شرف الأسرة حسب فهمهم. ثم إن الرجل النبيل لا يخوض خلال ما يكتبه على الملإ فى الحديث عن مثل تلك الأفعال فيعلمها القاصى والدانى، والمهذب وقليل الأدب.
والغريب أن السيرة المذكورة لا تعرض لزوجة كاتبها من قريب أو من بعيد، اللهم إلا مرة واحدة تقريبا وعلى نحو عارض، وكأنها شبح يلفه الظلام. فأين الانفتاح إذن والنسوية وحقوق الزوجة على زوجها؟ ولقد هاجم ذلك الشخص فى سياق كلامه الدين الذى يحرم العلاقات الجنسية خارج دائرة الزواج، لأن الحب (يقصد الزنا) لا ينبغى فى رأيه أن يخضع للاعتبارات اللاهوتية المتخلفة. فماذا هو فاعل يا ترى إذا ما انتهى إلى سمعه أن زوجته تبادله نفس السلوك وتلعب بذيلها من وراء ظهره رافعة شعار النسوية والحرية وتَسَاوِى الزوج والزوجة فى كل شىء، ومنها الزنا، وكذلك الحمل والولادة والإرضاع بالمرة؟
على كل حال هذا هو نص الوصية: "أى بُنَيَّة، إن الوصية لو تُرِكَتْ لفَضْل أدبٍ تُرِكَتْ لذلك منك، ولكنها تذكرة للغافل، ومعونة للعاقل. ولو أن امرأةً استغنتْ عن الزوج لِغَنَى أبويها وشدة حاجتهما إليها كنتِ أغنى الناس عنه، ولكن النساء للرجال خُلِقْنَ، ولهنّ خُلِق الرجال. أى بُنَيَّة، إنك فارقتِ الجو الذى منه خَرَجْتِ، وخلَّفْتِ العُشّ الذى فيه دَرَجْتِ، إلى وكرٍ لم تعرفيه، وقرينٍ لم تألفيه، فأصبح بمُلْكه عليك رقيبًا ومَلِيكًا، فكونى له أَمَةً يكن لك عبدًا وشيكا. يا بُنَيَّة، احملى عنى عشر خصال تكن لك ذخرا وذكرا: الصحبة بالقناعة، والمعاشرة بحسن السمع والطاعة، والتعهد لموقع عينه، والتفقد لموضع أنفه، فلا تقع عينه منك على قبيح، ولا يشم منك إلا أطيب ريح، والكحل أحسن الحُسْن، والماء أطيب الطِّيب المفقود، والتعهد لوقت طعامه، والهُدُوّ عنه عند منامه، فإن حرارة الجوع مَلْهَبة، وتنغيص النوم مَغْضَبة، والاحتفاظ ببيته وماله، والإرعاء على نفسه وحَشَمه وعياله، فإن الاحتفاظ بالمال حسن التقدير، والإرعاء على العيال والحَشَم جميل حسن التدبير. ولا تفشى له سرا، ولا تعصى له أمرا، فإنك إن أفشيت سره لم تأمنى غدره، وإن عصيت أمره أَوْغَرْتِ صدره. ثم اتَّقِى مع ذلك الفرحَ إن كان تَرِحًا، والاكتئابَ عنده إن كان فَرِحًا، فإن الخَصْلة الأولى من التقصير، والثانية من التكدير. وكونى أشد ما تكونين له إعظامًا، يكن أشد ما يكون لك إكرامًا، وأشد ما تكونين له موافَقَة، يكن أطول ما تكونين له مرافَقَة. واعلمى أنك لا تَصِلِين إلى ما تحبين حتى تُؤْثِرى رضاه على رضاك، وهواه على هواك، فيما أحببتِ وكرهتِ، والله يَخِير لكِ".
وتعليقى على هذا النص البديع هو ما يلى: أمن المعقول أن أُمًّا من الأمهات حين تريد أن تنصح بنتها فى ليلة زفافها تلجأ إلى مثل هذه العبارات المسجوعة المجنَّسة المتوازنة (رغم ما فى السجع والجناس والتوازن هنا من بساطة) كما فى هذا النص؟ لا أظن أن الأم، حتى لو كانت أديبة، يمكن أن تنهج فى حديثها الشفوى المباشر مع ابنتها هذا النهج، بخلاف ما لو قصدت أن تُخَلِّف وراءها عملا من الأعمال الأدبية التى تبقى على مدى الزمان، فإنها حينئذ تحتشد لذلك وتجتهد فى كتابة نصيحة محبَّرة موشَّاة لبنتها ولكل بنات العالمين، وكذلك للقراء والأدباء أيضا، تبقى على مدار الدهر. أم ترى هناك من يقول معترضًا: ومن أدراك بأن تلك الأم لم تُرِدْ ذلك ولم تفعله، وبخاصة أننا هنا إزاء مَلِكٍ وزوجته وحماته لا ناسٍ من عُرْض الطريق؟ على كل حال فإنى معجبٌ إعجابًا شديدًا بكلام الأم وأجده يرن فى سمعى رنين الذهب، ويهَشّ قلبى إليه هَشَاشَ الأرض العطشى لوابل الغيث المُحُيِى!
والواقع أن انشغالى بمسألة بروز السجع والجناس وما إليه فى كثير من خطب الجاهليين سَبَبُه افتقادى لذلك فى نظيراتها من خُطَب الرسول والخلفاء الراشدين، اللهم إلا ما جاء عَفْوًا بين الحين والحين. فلماذا كان كثير من الخُطَب التى وردتنا عن عصر ما قبل الإسلام على هذا النحو من الاهتمام بالسجع والجناس والتوازن بخلاف ما عليه الخُطَب فى صدر الإسلام بوجه عام، فضلا عن أن السجع والمحسنات البديعية فيها كانت، كما يُفْهَم من الرواية، أمرا ارتجاليًّا؟ فهل يستطيع الخطباء، وبالذات فى ذلك العصر قبل أن يلتفت العرب إلى هذه التزاويق ويصبح الحرص عليها جزءا من التركيبة الذهنية الإبداعية عندهم، أن يرتجلوا كلاما مُحَسَّنا بالبديع على هذا النحو الذى نراه فى عدد من الخطب الجاهلية؟ هذه هى النقطة التى تحيك فى صدرى بالنسبة لصحة نصوص الخطب الجاهلية، أما ما سوى ذلك من ملاحظات فما أسهل التعامل معها والخروج منها بالنتائج التى يؤدى إليها المنطق كما رأينا فيما مرّ. أيكون المسلمون الأوائل قد نفروا من الجرى خلف السجع بسبب ارتباطه بالكهان؟ أتراهم كانوا يُلْقُون بكل ثقلهم وراء المضمون والوصول به إلى الإقناع وتحويله إلى واقع تطبيقى بدلا من المتعة الفنية المتمثلة هنا فى البديع فى حد ذاتها، إذ كانوا بصدد تكوين دولة تضم العرب جميعا لأول مرة فى تاريخهم المعروف، ثم بصدد صراع ضارٍ مع القوى العالمية الكبرى حولهم، صراع حياة أو موت، فلم يكن لديهم الوقت ولا البال للاهتمام بالسجع والمحسنات البديعية؟ أترى الجاهليين، وهم الأميون، كانوا يعوّلون على موسيقى السجع والجناس والتوازن لتسهيل حفظ النصوص النثرية كالخطب والمنافرات؟
مرة أخرى أجدنى أقول: هذه هى النقطة التى تحيك فى صدرى بالنسبة لصحة نصوص الخطب الجاهلية، أما ما سوى ذلك من ملاحظات فما أسهل التعامل معها والخروج منها بالنتائج التى يؤدى إليها المنطق كما رأينا فيما مرّ. ومع ذلك فها هو ذا الجاحظ، فى "البيان والتبيين"، يقرر أن العرب فى جاهليتهم كانوا يعتمدون السجع فى بعض ضروب الخطابة كالمنافرة والمفاخرة، والترسُّل فى بعضها الآخر كما هو الحال فى خطب الصلح والمعاهدات، وهو ما يدل على أنه لا يجد فيها شيئا مما يحيك فى صدرى تجاه هذه المسألة. وقد يكون موقف الجاحظ أحرى بالقبول من موقفى لأنه كان أعرف بالأدب العربى قبل الإسلام لقربه من عصر الجاهلية ومعرفته الموسوعية بالثقافة العربية وآدابها كما هو معلوم للجميع، فوق أنه كان أديبا كبيرا، وبلاغيا عجيبا، وناقدا ذواقة للكلام، ودارسا ومحللا للنصوص والأساليب من الطراز الأول، ومتكلما يصعب أن يوجد له نظيرٌ مُسَامِت.
وكنت قد وضعت، عن نص يتحدث عن امرأةٌ ذهبت تعاين تلك العروس نفسها للملك المذكور قبل أن يتقدم لخطبتها، تحليلا فنيا ومضمونيا منذ بضع عشرة سنة فى كتابى: "فصول من ثقافة العرب قبل الإسلام" أحببت أن أضعه تحت عين القارئ ليرى طريقتى فى تحليل النص الأدبى وأنها تتجنب إرهاق النص وعدم تحميله من المعانى والأفكار والعواطف ما ليس فيه على عكس من يسمون أنفسهم: "نقادا حداثيين". قلت: "على أن ثَمَّةَ نصوصًا أخرى من الخطب والأحاديث يغلب عليها التكلف فى هندسة العبارة والاستقصاء فى المعنى والتشقيق فى التفاصيل بحيث لا يكاد المتكلم يترك شاردة ولا واردة دون أن يذكرها مما يجعلنا لا نثق فى أنها جاهلية الصياغة، كوصف عصام الكِنْدِيّة لأم إياس بنت عَوْف بن مُحَلِّم الشيبانى فى النص التالى: "لما بلغ الحارثَ بن عمرو مَلِكَ كِنْدَة جمالُ أم إياس بنت عَوْف بن مُحَلِّم الشيبانى وكمالها وقوة عقلها أراد أن يتزوجها، فدعا امرأةً من كِنْدَة يقال لها: عِصَام، ذات عقل ولسان وأدب وبيان، وقال لها: اذهبى حتى تَعْلَمى لى عِلْمَ ابنة عوف. فمضت حتى انتهت إلى أمها أمامةَ بنت الحارث فأعلمتها ما قَدِمَتْ له، فأرسلت أمامةُ إلى ابنتها وقالت: أَى بُنَيّة، هذه خالتك أتت إليك لتنظر إلى بعض شأنك، فلا تسترى عنها شيئا أرادت النظر إليه من وجهٍ وخُلُق، وناطِقيها فيما استنطَقَتْكِ فيه. فدخلت عصام عليها فنظرتْ إلى ما لم تر عينُها مثلَه قَطُّ بهجة وحسنا وجمالا، فإذا هى أكمل الناس عقلا وأفصحهم لسانا، فخرجت من عندها وهى تقول: "تَرَكَ الخداعَ مَنْ كَشَفَ القناع"، فذهبت مثلا. ثم أقبلتْ إلى الحارث فقال لها: "ما وراءك يا عصام؟"، فأرسلها مثلا. قالت: "صَرَّحَ المَخْضُ عن الزُّبْد"، فذهبتْ مَثَلًا. قال: أخبرينى. قالت: أُخْبِرك صدقًا وحَقًّا. رأيتُ جبهة كالمرآة الصقيلة يزينها شعرٌ حالكٌ كأذناب الخيل المضفورة، إن أَرْسَلَتْه خِلْتَه السلاسل، وإن مَشَطَتْه قلتَ: عناقيدُ كَرْمٍ جلاها الوابل، وحاجبين كأنهما خُطّا بقلم، أو سُوِّدَا بحُمَم، قد تقوّسا على عينى الظبية العَبْهَرَة (البيضاء الرقيقة البَضّة)، التى لم يَرُعْها قانص ولم يَذْعَرها قَسْوَرَة (أى الأسد)، بينهما أنفٌ كحَدّ السيف المصقول، لم يَخْنَسَ به قِصَرٌ ولم يمضِ به طول، حَفَّتْ به وَجْنتان كالأُرْجُوَان، فى بياضٍ مَحْضٍ كالجُمَان، شُقَّ فيه فم، كالخاتم لذيذ المُبْتَسَم، فيه ثنايا غُرٌّ ذواتُ أَشَر، وأسنانٌ تبدو كالدُّرَر، وريقٌ كالخمر له نَشْر الروض بالسَّحَر، يتقلب فيه لسان، ذو فصاحة وبيان، يحركه عقل وافر، وجواب حاضر، تلتقى دونه شفتان حمراوان كالورد، يحلبان ريقا كالشهد، تحت ذلك عنق كإبريق الفضة، رُكِّب فى صدرٍ كصدر تمثال دمية، يتصل به عَضُدان ممتلئان لحمًا، مكتنزان شحمًا، وذراعان ليس فيهما عَظْمٌ يُحَسّ، ولا عِرْقٌ يُجَسّ، رُكِّبَتْ فيهما كفّان دقيقٌ قَصَبُهما، ليّنٌ عَصَبُهما، تَعْقِد إن شئتَ منهما الأنامل، وتُرَكَّب الفصوص فى حُفَر المفاصل، وقد تربَّع فى صدرها حُقّان كأنهما رمانتان يخرقان عليها ثيابها، تحت ذلك بطنٌ طُوِىَ كطَى القَبَاطِى (أى الملابس الرقيقة المُتَّخَذَة من الكَتّان) المُدْمَجَة، كُسِىَ عُكَنًا (العُكَن: ثنيّات البطن) كالقراطيس المُدْرَجَة، تحيط تلك العُكَنُ بسُرَّة كَمُدْهُن العاج المجلوّ، خلْفَ ذلك ظهرٌ كالجدول ينتهى إلى خَصْرٍ، لولا رحمة الله، لانبتر، تحته كَفَلٌ يُقْعِدها إذا نهضتْ، ويُنْهِضها إذا قعدتْ. كأنه دِعْصُ رملٍ، لبَّده سقوط الطل، يحمله فخذان لفَّاوان، كأنهما نَضِيد الجُمَان، تحتهما ساقان خَدْلَتان، كالبَرْدِىّ وُشِّيَتَا بشعرٍ أسود، كأنه حَلَق الزَّرَد، يحمل ذلك قدمان، كحَذْو اللسان، فتبارك الله، مع صغرهما، كيف تطيقان حمل ما فوقهما؟ فأما ما سوى ذلك فتركتُ أن أصفه، غير أنه أحسن ما وصفه واصف بنَظْمٍ أو نَثْر. فأرسل الملك إلى أبيها فخطبها، فزوَّجه إياها".
إن هذا لَبِكتابة تقرير فنى فى مسابقات العهر (التى يسمونها زورا بــ"مسابقات ملكات الجمال") يضع نُصْبَ عينيه تقديم وصف تفصيلى لكل ملمح أو عضو من أعضاء الفتاة المشتركة فى تلك المسابقات أشبهُ منه بحديثِ خاطبةٍ إلى ملك من ملوك العرب فى تلك العصور، وبخاصة أن الوصف لم يتنزه عن تناول أشد مناطق الجسد حساسية مما من شأنه إثارة غيرة الرجل الكريم حتى لو كان المقصود هو البحث له عن زوجة تمتعه وتَسُرّه! وفضلا عن ذلك فإنى لا أظن أن امرأة عربية فى تلك العصور كانت ترضى بأن تتجرد من ملابسها وتذهب فتستعرض مفاتنها الداخلية على هذا النحو ولا حتى أمام أمها! والطريف أنه، بعد كل ما قالته المرأة الكِنْدِيّة فى وصف جمال الفتاة، تعود فتقول: "فأما ما سوى ذلك فتركتُ أن أصفه، غير أنه أحسن ما وصفه واصف بنظم أو نثر". فهل تراها تركتْ شيئا لم تصفه مما يحتاج الرجل معرفته عن المرأة التى يبغى خِطْبَتها؟ ثم إن مقدمة النص تقول إن "الحارثَ بن عمرو ملك كِنْدَة قد بلغه جمالُ أم إياس بنت عَوْف بن مُحَلِّم الشيبانى وكمالها وقوة عقلها"، أى أنه كان على علم بجمالها وكمالها، فما معنى كل هذا الوصف الدقيق المفصَّل الذى لا يدل إلا على شىء واحد: أنه لم يكن يعرف عن الفتاة شيئا؟ وإلى جانب هذا لا ينبغى أن ننسى أن تعبيرات مثل "خلْفَ ذلك ظهرٌ كالجدول ينتهى إلى خَصْرٍ، لولا رحمة الله لانبتر"، "فتبارك الله مع صغرهما، كيف تطيقان حمل ما فوقهما؟" لا تصدر غالبا إلا عن مسلم فى العصر العباسى فنازلًا حين كان الأدباء يستخدمون مثل هذه العبارات الماجنة التى يُوهِم ظاهرُها التديّنَ رغم ذلك، وهو مجون تشفّ عنه العبارة التالية بدورها أحسن شَفّ: "تحته كَفَلٌ يُقْعِدها إذا نهضتْ، ويُنْهِضها إذا قعدتْ"، فضلا عما فيها من ترفٍ فى تذوق الجمال النسائى لم يكن يعرفه الجاهليون، إلى جانب التلاعب البديعىّ المعقَّد الذى لم يكن لهم به عهد، إذ فيها موازنة ومقابلة وسجع وتورية ورَدٌّ للأعجاز على الصدور فى وقت معا. وهناك أيضا المقابلة بين "النظم والنثر" فى الجملة التالية التى وردت قرب نهاية النص: "غير أنه أحسنُ ما وصفه واصفٌ بنَظْمٍ أو نَثْر" مما لم يكن الجاهليون يعرفونه فى تعبيراتهم، بل إننى لا أظنهم كانوا يستخدمون هاتين الكلمتين بالمعنى الاصطلاحى الذى عُرِفَتَا به فى دنيا الأدب والنقد فيما بعد!
وفى بداية الفصل السابع من جزء الكتاب الأول الذى فى أيدينا وتحت عنوان "الإسلام والسرد" يقول الكاتب ما مؤداه أن النصوص الكهانية قد محاها الإسلام أو عبث بها وحمَّلها ما لم يكن موجودا بها بل عكسه، فصرنا نقرأ فيها نبوءات عن قرب ظهور النبى محمد، ولم نعد باستطاعتنا وضع أيدينا على ما استفاده القرآن والحديث منها، زيادة على ما يستشعره الباحثون من حرج يمنعهم من دراسة هذين المصدرين أصلا لمعرفة ذلك نظرا لما يتمتع بهما هذان المصدران من قدسية. صحيح أن الكاتب لا يقول مباشرة ما يريد قوله بل يحاول التمترس وراء تعبيرات رواغة مثل "الحرج الذى يسببه البحث فى النصوص الدينية بعيدا عن هيمنة المقدس"، "وتبقى كشوف البحث هامشية إن لم يقع استيعاب النظرة التبجيلية للنصوص الدينية"، "نصوص تحصنت وراء قوة لاهوتية"... لكن هذه الطريقة التى يبرع الكاتب وأمثاله فى انتهاجها لا تفيده بشىء، فنيته ساطعة كالشمس ساعة الظهيرة.
وأول شىء ألفت النظر إليه هو أن الكاتب قد غفل غفلة بشعة عن حقيقة ساطعة يبصرها حتى الأعمى، ألا وهى أنه حتى لو ضاعت كل نصوص الكهان فهناك كثير من النصوص الشعرية الجاهلية القصصية. لكن من الواضح أنه ليس من رحابة الأفق بحيث يعى أن القصص ليس نثرا فقط بل كثيرا ما يكون شعرا. ولتأبط شرا، على سبيل التمثيل ليس إلا، مقطوعتان شعريتان رائعتان عن حكايته مع الغول. وفى معلقة امرئ القيس قصص غزلية سريعة تصور مغامراته فى دنيا النساء تصويرا رائعا أخذ فيها شاعرنا راحته على الآخر. وفى شعر الصعاليك قصص طريفة تحوى سردا ووصفا وحوارا جميلا. وهناك خبر الحكومة النقدية التى قامت بها زوجة امرئ القيس فى المقارنة بين شعر له وشعر لعلقمة الفحل وحكمت فيها لصالح الأخير، فما كان من الزوج إلا أن ثار بها وطلقها متهما إياها بأنها واقعة فى غرام خصمه، ولذلك حكمت له، ولم تكن على الحياد بين الشعرين.
وكلام عبد الله إبراهيم قاطع فى أنه يتهم القرآن والحديث بالأخذ عن نصوص الكهان والتنكر لها فى ذات الوقت وبأنهما يتترسان وراء المقدس فيرتعب أى من المؤمنين بهما من المقارنة بينهما وبين تلك النصوص. وبطبيعة الحال لا يمكن أن يكون قد تم العبث بهذه النصوص وتضمينها التبشير بمجىء محمد عليه السلام بالنبوة فى عهد النبى، إذ لم تكن نبوة النبى بحاجة إلى مثل تلك البشارة لأن النبوة قد جاءت فعلا ونجحت فى اكتساح الكهانة والكهان، وكان النبى لا يبالى بهم أية بالة بل كان يحمل عليهم حملة شعواء حتى ليكفِّر من يأتيهم مصدقا بما يقولون عن علمهم الغيب، وبخاصة أنهم كانوا مرتبطين بالمعابد الوثنية ويأكلون أموال الناس بالباطل، ويثبّتون تقاليد المباهاة والمفاخرة بالأحساب والأنساب والأموال بين العرب، وهذا كله يسير فى اتجاه يناقض تماما اتجاه الإسلام وقيمه ومبادئه الرفيغة. ومعروف أنه صلى الله عليه وسلم بعد فتح مكة قد أرسل عددا من الصحابة لهدم الأوثان وإغلاق معابدها والقضاء على نفوذ كهنتها. فكيف يخطر على بال الرسول أن المسلمين تلاعبوا بخطبهم وحولوها من اتجاهها إلى الاتجاه المعاكس لها؟ ثم إن الكهان بوجه عام قد أتوه من تلقاء أنفسهم معلنين إيمانهم به. فلماذا يلجأ هو أو أصحابه إلى هذه الوسيلة التى لا يحتاجون إليها فى شىء؟ ثم إن الوقائع فى حياته وعقب موته عليه السلام وتكدسها وخطورتها وانشغال الناس بالفتوح وترتيب أمر الخلافة لم تكن لتسمح بمثل ذلك التلاعب.
وشىء آخر، وهو أنه كانت هناك خطب كهان لا علاقة بينها وبين التنبؤ بمجىء محمد بالنبوة كقول حازى جهينة كقوله: "والأرض والسَّماء، والعقابِ الصَّقْعاءُ، واقعةً ببقعاءُ، لقد نَفَّر المجدُ بنى العُشَراءِ، للمجْد والسَّناء". ومنه الأسجاع الموجودة فى النص التالى، وهو من "الأغانى" للأصفهانى: "قال ابن الكلبى فى خبرٍ طويلٍ ذكره: كان قسى مقيمًا باليمن، فضاق عليه موضعه ونبا به، فأتى الطائف، وهو يومئذ منازل فهمٍ وعَدْوَان ابْنَىْ عمرو بن قيس بن عيلان، فانتهى إلى الظَّرِب العَدْوانى، وهو أبو عامر بن الظرب، فوجده نائمًا تحت الشجرة، فأيقظه وقال: من أنت؟ قال: أنا الظرب. قال: على أَلِيّةٌ إن لم أقتلك أو تحالفنى وتزوجنى ابنتك. ففعل. وانصرف الظرب وقسى معه، فلقيه ابنه عامر بن الظرب فقال: من هذا معك يا أبت؟ فقص قصته. قال عامرٌ: لله أبوه! لقد ثقف أمره. فسمى يومئذٍ: ثقيفًا. قال: وعيَّر الظرب تزويجه قسيا، وقيل: زَوَّجْتَ عبدًا. فسار إلى الكهان يسألهم، فانتهى إلى شق بن مصعب البجلى، وكان أقربهم منه. فلما انتهى إليه قال: إنا قد جئناك فى أمر، فما هو؟ قال: جئتم فى قسى، وقسى عبد إياد، أبق ليلة الواد، فى وج ذات الأنداد، فوالى سعدًا ليفاد، ثم لوى بغير معاد. يعنى سعد بن قيس بن عيلان بن مضر. قال: ثم توجه إلى سطيح الذئبى، حىٌّ من غسان، ويقال: إنهم حى من قضاعة نزولٌ فى غسان، فقال: إنا جئناك فى أمر، فما هو؟ قال: جئتم فى قسى، وقسى من ولد ثمود القديم، ولدته أمه بصحراء بريم، فالتقطه إيادٌ وهو عديم، فاستعبده وهو مليم. فرجع الظَّرِب وهو لا يدرى ما يصنع فى أمره، وقد وكّد عليه فى الحلف والتزويج، وكانوا على كفرهم يوفون بالقول".
وهذه اقتباسات أخرى يحتوى كل منها على سجع كاهن: "وَلِى هاشمٌ بعد أبيه عبدِ مناف ما كان إليه من السِّقَاية والرِّفَادة، فحسده أمية بن عبد شمس بن عبد مناف على رياسته وإطعامه، وكان ذا مال. فتكلَّف أن يصنع صنيع هاشم فعجز عنه، فشَمِت به ناس من قريش، فغضب ونال من هاشم ودعاه إلى المنافرة. فكره هاشم ذلك لسِنّه وقَدْره، فلم تَدَعْه قريش حتى نافره على خمسين ناقة سُودِ الحَدَق ينحرها ببطن مكة والجلاء عن مكة عشر سنين. فرَضِىَ بذلك أمية، وجعلا بينهما الكاهن الخزاعى، وهو جَدّ عمرو بن الحَمِق (الصحابى المعروف)، ومنزله بعُسْفان (بين مكة ويثرب). وكان مع أمية همهمة بن عبد العُزَّى الفِهْرِىّ، وكانت ابنته عند أمية، فقال الكاهن: والقمر الباهر، والكوكب الزاهر، والغمام الماطر، وما بالجو من طائر، وما اهتدى بعلمٍ مسافر، من مُنْجِدٍ وغائر، لقد سبق هاشمٌ أميةَ إلى المآثر، أوّلٌ منه وآخِر، وأبو همهمة بذلك خابر. فقضى لهاشم بالغلبة، وأخذ هاشمٌ الإبلَ فنحرها وأطعمها، وغاب أمية عن مكة بالشام عشر سنين. فكانت هذه أول عداوة وقعت بين هاشم وأمية".
وهذا هو الاقتباس الثانى، وهو عن تكهُّن عوف بن ربيعة الأسدى بمقتل حُجْر بن الحارث، حيث تجرى القصة على النحو التالى: "كان حُجْر بن الحارث أبو امرئ القيس ملكَ بنى أسد، وكان له عليهم إتاوة كلَّ سنة لما يحتاج إليه. فبقى كذلك دهرا، ثم بعث إليهم من يَجْبِى ذلك منهم، وحُجْرٌ يومئذ بتِهَامة، فطردوا رسله وضربوهم. فبلغ ذلك حُجْرًا فسار إليهم فأخذ سَرَوَاتِهم وخِيَارَهم وجعل يقتلهم بالعصا، فسُمُّوا: "عبيدَ العصا"، وأباح الأموال وصيَّرهم إلى تِهَامَة وحبس جماعة من أشرافهم منهم عَبِيد بن الأبرص الشاعر، فقال شعرا يستعطفه فيه، ومنه قوله:
أنت المَلِيك عليهمو

وهم العبيد إلى القيامة


فرقَّ لهم وعفا عنهم وردّهم إلى بلادهم. فلما صاروا على مسيرة يوم من تهامة تكهَّن كاهنهم، وهو عوف بن ربيعة بن عامر الأسدى، فقال لهم: يا عبادى. قالوا: لبيك ربَّنا. فقال: مَنِ الملك الصَّلْهَب (الشديد)، الغلاّب غير المغلَّب، فى الإبل كأنها الربرب (أى قطيع بقر الوحش)، لا يقلق رأسه الصخب، هذا دمه ينثعب (يسيل)، وهو غدًا أول من يُسْتَلَب؟ قالوا: ومن هو ربَّنا؟ قال: لولا تَجَيُّشُ نفسٍ جاشية، لأخبرتكم أنه حُجْرٌ ضاحية (أى علانية). فركبوا كل صَعْبٍ وذَلُول حتى بلغوا عسكر حُجْر فهجموا عليه فى قُبَّته فقتلوه".
أما فى القصة التالية فنرى الكاهن يحذِّر بنى الحارث بن كعب من الإغارة على بنى تميم، وإلا تعرضوا للهزيمة الـمُرّة على أيديهم: "كان بنو تميم قد أغاروا على لَطِيمَةٍ (قافلة) لكسرى فيها مسك وعنبر وجوهر كثير، فأوقع كسرى بهم وقتل المقاتلة، وبقيت أموالهم وذراريهم فى مساكنهم لا مانع لها. وبلغ ذلك بنى الحارث بن كعب من مَذْحِج، فمشى بعضهم إلى بعض وقالوا: اغتنموا بنى تميم. فاجتمعت بنو الحارث وأحلافها من زيد وحزم بن ريان فى عسكر عظيم وساروا يريدون بنى تميم، فحذَّرهم كاهن كان مع الحارث، واسمه سلمة بن المغفل، وقال: إنكم تسيرون أعقابا (أى بعضكم فى إثر بعض)، وتغزون أحبابا، سعدا ورَبَابا، وتَرِدُون مياها جِبَابا (جمع "جُبّ"، وهو البئر)، فتَلْقَوْن عليها ضِرابا، وتكون غنيمتكم ترابا، فأطيعوا أمرى ولا تغزوا تميما. ولكنهم خالفوه وقاتلوا بنى تميم فهُزِموا هزيمة نكراء".
وأنا لا أقول إن هذه الأسجاع بالضرورة صحيحة لكنى مع هذا لا أستبعد أن تكون. أما النصوص الكهانية التى تشتمل على نبوءة بمجىء نبى عربى قد أظل زمانه فإننى لا أرتاح إلى القول بصحتها كالذى رُوِىَ عن سَطِيحٍ الذئبى الغَسّانى من أنه "لما كان ليلة وُلِد النبى ارتجَّ إيوان كسرى، فسقطت منه أربع عشرة شرفة، فعَظُمَ ذلك على أهل مملكته، فما كان أوشك أنْ كتب إليه صاحب اليمن يخبره أن بحيرة ساوة غاضت تلك الليلة، وكتب إليه صاحب السماوة يخبره أن وادى السماوة انقطع تلك الليلة، وكتب إليه صاحب طبرية أن الماء لم يجر تلك الليلة فى بحيرة طبرية، وكتب إليه صاحب فارس يخبره أن بيوت النيران خمدت تلك الليلة، ولم تخمد قبل ذلك بألف سنة. فلما تواترت الكتب أبرز سريره وظهر لأهل مملكته فأخبرهم الخبر، فقال المُوبَذَان: أيها الملك، إنى رأيت تلك الليلة رؤيا هالتنى. قال له: وما رأيتَ؟ قال: رأيتُ إبلًا صِعَابًا، تقود خيلا عِرَابا، قد اقتحمت دجلة وانتشرت فى بلادنا. قال: رأيتَ عظيما، فما عندك فى تأويلها؟ قال: ما عندى فيها ولا فى تأويلها شىء، ولكنْ أَرْسِلْ إلى عاملك بالحِيرة يوجِّه إليك رجلا من علمائهم، فإنهم أصحاب علم بالحِدْثان. فبعث إليه عبدَ المسيح بن بُقَيْلَة الغسانى، فلما قدم عليه أخبره كسرى الخبر، فقال له: أيها الملك، والله ما عندى فيها ولا فى تأويلها شىء، ولكن جَهِّزْنى إلى خال لى بالشام يقال له: سَطِيح. قال: جهِّزوه. فلما قدم إلى سطيح وجده قد احْتُضِر، فناداه فلم يجبه، وكلمه فلم يرد عليه، فقال عبد المسيح:
أصمُّ أم يسمع غِطْرِيفُ اليمنْ؟

يا فاضل الخطة أَعْيتْ مَنْ ومَنْ؟

أتاك شيخ الحى من آل سَنَنْ



أبيــض فضفـاض الرداء والبـدنْ
رسول قَيْل العجم يَهْوِى للوَثَنْ

لا يرهب الرَّعْد ولا رَيْب الزمنْ


فرفع إليه رأسه وقال: عبد المسيح، على جملٍ مُشِيح (أى سريع)، إلى سطيح، وقد أوفى على الضريح، بعثك مَلِك بنى ساسان، لارتجاج الإيوان، وخمود النيران، ورؤيا الموبَذان. رأى إبلا صِعَابا، تقود خيلا عِرَابا، قد اقتحمت فى الواد، وانتشرت فى البلاد. يا عبد المسيح، إذا كثرت التلاوة، وظهر صاحب الهراوة، وفاض وادى السماوة، وغاضت بحيرة ساوة، وخمدت نار فارس، فليست بابل للفرس مُقَاما، ولا الشام لسطيحٍ شاما. يملك منهم ملوك وملكات، عدد سقوط الشرفات، وكل ما هو آتٍ آت...إلخ". كذلك لو كان هذا النص صحيحا لاستشهد به بعض المسلمين على الأقل فى بداية الدعوة ورفعوه فى وجه من ينكرون نبوة محمد. أما قول الكاهن الذى نفَّر بين هاشم بن عبد مناف وأمية بن عبد شمس فهو لا يزيد عن أن يكون حُكْمًا فى قضية اجتماعية ليس إلا، ولا يدخل فى باب الإنباء بالغيب.
ولا شك أن أى عاقل سينُكْرِ ما جاء فى تلك الأخبار من أن هذا الكاهن أو ذاك كان يستطيع أن يعلم الغيب، إذ الغيب، كما قلنا مرارا، شأن من شأن الله سبحانه وتعالى لا يمكن أحدا من عباده أن ينفذ من خلال حُجُبه إلا إذا أوحى الله بشىء من ذلك لرسول من رسله. ورسولنا عليه السلام مأمور فى القرآن بأن يقول: "وعنده (أى عند الله) مفاتح الغيب، لا يعلمها إلا هو"، "قل: لا يعلم من فى السماوات والأرض الغيبَ إلا الله"، "قل: ما كنتُ بِدْعًا من الرسل، وما أدرى ما يُفْعَل بى ولا بكم"، "ولو كنتُ أعلم الغيب لاستكثرتُ من الخير وما مَسَّنِىَ السوء"، "عالِم الغيب (أى الله سبحانه) فلا يُظْهِر على غيبه أحدا * إلا من ارتضى من رسولٍ، فإنه يَسْلُك من بين ومن خلفه رَصَدًا * لِيَعْلَم أنْ قد أبلغوا رسالات ربهم"... إلخ. فماذا يكون الكاهن بالنسبة للنبى، وبخاصة إذا علمنا أن الكهنة كانوا يزعمون أنهم إنما يستعينون فى مهمتهم الكهنوتية بالشياطين، ولم يكن ينزل عليهم الوحى من السماء من لدن الله سبحانه وتعالى؟ وعلى هذا فنحن مضطرون إلى أن نرفض ما ورد أيضا فى تلك الأخبار ذاتها من كلام منسوب للكهنة فى هذه الظروف من مثل قول الكاهن اليمنى لهند بنت عتبة حين شك زوجها الأول فى سلوكها: "انهضى غير رَقْحَاءَ ولا زانية، وستلدين مَلِكًا يسمَّى: معاوية". ومن الواضح أن مثل تلك النبوءة مصنوعة صنعا على يد واحد من أنصار بنى أمية بعد تولى معاوية حكم المسلمين!
وثم نقطة شديدة الأهمية هنا، وهى أن الكاتب قد أهمل جانبين كبيرين ومهمين من جوانب الأدب النثرى فى الجاهلية، أحدهما هو القصص المتعلق بالأمثال ويلقى ضوءا على معانيها والظروف التى واكبت ضَرْبَها بغض النظر عما إذا كانت القصة المواكبة للمثل المضروب صحيحة أو مخترعة. فالمهم أنها نص نثرى قصصى جاهلى. وهذا مثال من كتاب "الأمثال" للميدانى: "زعموا أن أخوين كانا فيما مضى فى إبل لهما، فأجدبت بلادهما، وكان قريبًا منهما وادٍ فيه حية قد حمته من كل واحد، فقال أحدهما للآخر: يا فلان، لو أنى أتيت هذا الوادى المُكْلِىء فرعيت فيه إبلى وأصلحتها. فقال له أخوه: إنى أخاف عليك الحية. ألا ترى أن أحدًا لم يهبط ذاك الوادى إلا أهلكته؟ قال: فو الله لأهبطنّ. فهبط ذلك الوادى فرَعَى إبله به زمانًا، ثم إن الحية لدغته فقتلته، فقال أخوه: ما فى الحياة بعد أخى خير، و لأطلبنّ الحية فأقتلها أو لأَتْبَعَنَّ أخى. فهبط ذلك الوادى فطلب الحية ليقتلها، فقالت: ألست ترى أنى قتلت أخاك؟ فهل لك فى الصلح فأدعك بهذا الوادى فتكون به وأعطيك ما بقيت دينارًا فى كل يوم؟ قال: أفاعلة أنت؟ قالت: نعم. قال: فإنى أفعل. فحلف لها وأعطاها المواثيق لا يضيرها، وجعلت تعطيه كل يوم دينارًا، فكثر ماله ونمت إبله حتى كان من أحسن الناس حالًا، ثم ذكر أخاه فقال: كيف ينفعنى العيش وأنا أنظر إلى قاتل أخى فلان؟ فعمد إلى فأس فأحدّها ثم قعد لها، فمرت به، فتبعها فضربها فأخطأها، ودخلت الجحر، ووقع الفأس بالجبل فوق جحرها فأثر فيه. فلما رأت ما فعل قطعت عنه الدينار الذى كانت تعطيه. فلما رأى ذلك وتخوف شرَّها ندم، فقال لها: هل لكِ فى أن نتواثق ونعود إلى ما كنا عليه؟ فقالت: كيف أعاودك وهذا أثر فأسك؟".


والثانى هو القصص القصير الذى يشتمل عليه كتاب "التيجان فى ملوك حمير" مثلا، ومنه القصة التالية: "قال أبو محمد: حدثنى أبو عبد الأيلى عن ابن لهيعة أنه قال: إن آخر مال الحارث بن مضاض أصابه عبد الله بن جدعان التيمى من قريش. قال: حدثنى مكحول عن أبى صالح عن عبيد بن شرية الجرهمى، وكان عبيد بن شرية معمَّرًا أدرك حرب داحس وبلغ إلى أيام معاوية فى الإسلام وكان مسامرًا له. قال عبيد: جمع الحجيجَ بمكة عبدُ الله بن جدعان، وكان واسع المال كثير المعروف جوادًا، فاجتمع وجوه العرب فى داره على مائدة، فقلنا له: ما كان أصل مالك يا عبد الله؟ قال: نعم كنت صعلوكًا من صعاليك قريش فتّاكًا أطلب الغوائر. فبينما أنا كذلك إذ أتانى عامر البراض أخو بنى كنانة فقال لى: ألا أبغيك قَنَصًا يا عبد الله؟ قلت: نعم. قال لى: إن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن نزل بعراعر آمنًا على أسرابه. فركبت فرسى وسرت أنا ومالك البراض، فطردْنا مائة ناقة حتى ألقيناها بالطائف، فأرسل كلاب إلى قريش أن سفيهكم أغارَ علىَّ وطرد لى مائة ناقة، فليس لكم أن تشهدوا سوق عكاظ ولى لديكم وَبَرَة، وكان عكاظ فى وسط أرض قيس عيلان، وإن قريشًا ائتمرت بقتلى لا أجنى عليهم الجرائر، فيُطْلَبون بسببى وهم تجار لا يستغنون عن بلد. فلما أتيت منزلى من الطائف قيل لى: إن قبائل قريش ائتمرت بقتلك، فانج بنفسك. فأخذت زادًا ومزادًا وخرجت هاربًا مع الصباح إلى دوحة الزيتون أتظلل فيها، وقريش تطلبنى. وإنى أتيت دوحة الزيتون هاربًا مستسلمًا للقتل، فلم أزل أهرب وأطلب موضعًا أختفى فيه، والقوم فى طلبى، حتى أتيت إلى حجر طبق على حجر بينهما خلل يدخل منه النحيف متجانفًا فى ذلك الخلل، فدخلت وأدخلت معى زادى ومزادى، ثم هال على السرب، ثم قلت لنفسى: موتى فى هذا السرب أحب إلىّ من أن يقتلنى قومى، فيشمت عدو ويحزن حبيب، وأترك لقومى دحلًا فى قريش. فسرت هاربًا مُلَجِّجًا فى السرب حتى دخلت دارًا عظيمة فيها بيت، وفى وسط البيت جوهر وياقوت ولُجَيْن وعِقْيان، وفيها أربعة أَسِرَّة على كل سرير رجل قاعد، وعلى رأسه لوح من رخام مكتوب بالمُسْنَد. فقرأت الألواح فأصبت فيها أن أهل الألواح الحارث بن مضاض وعبد المسيح ونفيلة ومضاض بن عبد المسيح، فأقمت خمسة أيام فى ذلك البيت آكل من زادى وأشرب من مزادى حتى أَيِسَتْ قريش منى، فخرجتُ ليلًا وأحرزت فلم أجد أحدًا فى الغيضة، فأخرجت ما أصبت من المال وأخذت الألواح خيفةً من قريش تكون لى عندهم براءة، ثم بلغت منزلى فأخذت جملًا وخرجت إلى ذات الحُلَيْفة ليلًا. فلما أصبح الصباح أتت سيارة يريدون مدين، فسرت معهم لا يدرون من أنا ولا ما معى حتى بلغتُ مصر، فبعت ما معى وأصبت مالًا جليلًا. فرجعت فنزلت ينبع على مالك البرَّاض أخى بنى كنانة، فقصصتُ عليه قصتى مع قريش، فقال لى: هاك خمسين ناقة، واجعل أنت مثلها وسر بنا إلى كلاب. فقلت له: لا. أنا قد وُسِّعَ على فى رزقى، ولكن اشتر لى مائة. فاشتراها وسقتها أنا وهو حتى أتينا كلابًا فأرسلنا إلى ابنه جعفر بن كلاب، فدفعنا إليه العكرة من النوق، ثم تبعنا كلابا فى بيته وهو شيخ كبير، فقلت له: لا تموت هزلًا. فلما أتانا قال لى: ارجعوا بالرحب والسعة. فرجعنا من عنده، ثم سرنا إلى سوق عكاظ، وأرسلتُ إلى قريش فشهدتُ عكاظَ ذلك الموسم، ثم انصرفت معهم إلى مكة. فلما ظهر بعض مالى وثبوا على وقالوا: غدرتَ. وأعلمتُهم بما كان من المغارة وأخرجت لهم الألواح، فأرسلوا معى خويلد بن أسد بن عبد العزى، وخويلد أبو خديجة زوج النبى صلى الله عليه وآله وسلم، ووهب بن عبد مناف الزهرى، وهو جد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أبو آمنة أم النبى صلى الله عليه وآله وسلم، فسارا معى، وسرت بالألواح حتى دخلت ودخلا معى وعاينّا الأشباح، فقالا لى: رُدَّ الألواح. فرددت كل لوح إلى مكانه وخرجنا واعْتَوَنَّا على حجر عظيم فسددنا به الخلل لئلا يكون القبر ملعبة للسفهاء".
ورغم ذلك يقول كاتبنا إن القصص الجاهلى كان حافظة لأوضاع العرب قبل الإسلام وتقاليدهم ودينهم، فلما جاء الإسلام أزاح هذا القصص واستولى على نصوصه وحمّلها قيم الإسلام الجديدة، وصرنا لا نستطيع الاطمئنان إلى صحة شىء من تلك القصص. وهذا خطأ أبلق بيِّن التهافت. وهأنذا قد أوردت عددا من النصوص القصصية الجاهلية لا يمكن أن يرى القارئ فيها شيئا إسلاميا يحتمل تنطع المتنطعين القائلين بأن الإسلام قد حرّف القصص الجاهلى وصيره قصصا إسلاميا يعدّ الخروج على مواضعاته خروجا على الإسلام. ثم يمضى قائلا إنه سوف يرينا مصداق ذلك فى موقف الرسول عليه السلام من بعض القُصّاص فى زمنه. بل إنه قد زاد فى الطنبور نغمة فزعم بجرأة لا أدرى كيف واتته بهذه البساطة أن القص فى الإسلام لا بد أن يكون هدفه دينيا وعظيا وأن تكون الأخبار التى يتضمنها أخبارا حقيقية، ولا يجوز أن يكون شيئا آخر، وأن ذلك استمر حتى القرن الثالث حين شرع القَصّ يخرج عن تلك المواضعات الدينية الوعظية.
وأول كل شىء هو أن ملاحظته الخاصة بأن القصص الإسلامى اتخذ منحى وعظيا دينيا إنما تصدق على القرآن والحديث. وهذا أمر طبيعى جدا. ذلك أن القرآن لم ينزل من السماء لتسلية الناس ولا مهمة الرسول أن يُسَرِّىَ عنهم فى جلسات استرخاء يضحكون فيها ويهيصون ويزأطون. لكن تلك الملاحظة ذاتها خاطئة من أساسها فيما يتعلق بأى قصص خارج هذين المصدرين المجيدين.
ونبدأ بحكاية أم زرع، وهى حكاية لا وشيجة بينها وبين الوعظ والإرشاد، وراويتها أم المؤمنين الصِّدّيقة بنت الصِّدّيق: "جلَس إحدى عَشْرةَ امرأةً فتعاهَدْنَ وتعاقَدْنَ ألّا يكتُمْنَ مِن أخبارِ أزواجِهنَّ شيئًا. قالتِ الأولى: زَوْجى لَحْمُ جَملٍ غثٌّ على رأسِ جَبَلٍ لا سهلٌ فيُرْتقى ولا سَمينٌ فينتقلُ. وقالتِ الثّانيةُ: زَوْجى لا أبُثُّ خبَرَه. إنِّى أخافُ ألّا أذَرَه. إنْ أذكُرْه أذكُرْ عُجَرَه وبُجَرَه. وقالتِ الثّالثُة: زَوْجى العَشَنَّق.ُ إنْ أنطِقْ أُطلَّقْ، وإنْ أسكُتْ أُعلَّقْ. وقالتِ الرّابعةُ: زَوْجى كلَيْلِ تِهامةَ لا حَرٌّ ولا قُرٌّ ولا مخافةَ ولا سآمةَ. وقالتِ الخامسةُ: زَوْجى إنْ دخَل فهِدَ، وإنْ خرَج أسِدَ، ولا يسأَلُ عمّا عهِدَ. وقالتِ السّادسةُ: زَوْجى إنْ أكَل لفَّ، وإنْ شرِب اشتَفَّ، وإنْ اضطجَع التَفَّ، ولا يُولِجُ الكفَّ لِيعلَمَ البثَّ. وقالتِ السّابعةُ: زَوْجى غَياياءُ أو عَياياءُ طَباقاءُ. كلُّ داءٍ له دواءٌ: شجَّكِ أو فلَّكِ أو جمَع كُلًّا لكِ. وقالتِ الثّامنةُ: زَوْجى المسُّ مسُّ أرنَبٍ والرِّيحُ رِيحُ زَرْنَبٍ. قالتِ التّاسعةُ: زَوْجى رفيعُ العِمادِ، طويلُ النِّجادِ، عظيمُ الرَّمادِ، قريبُ البيتِ مِن النّادِ. قالتِ العاشرةُ: زَوْجى مالكٌ، فما مالكٌ؟ مالكٌ خيرٌ مِن ذلكَ، له إِبِلٌ كثيراتُ المَبارِكِ، قليلاتُ المَسارِحِ إذا سمِعْنَ أصواتَ المَزاهِرِ أيقَنَّ أنَّهنَّ هوالِكُ. قالتِ الحاديةَ عَشْرةَ: زَوْجى أبو زَرع،ٍ وما أبو زَرْعٍ؟ أناسَ مِن حُلىّ أُذُنى وملَأ مِن شَحمٍ عضُدى، فبجَّحنى، فبجحَتْ إلى نفسى. وَجَدَنى فى أهلِ غُنَيمةٍ بشِقٍّ فجعَلنى فى أهلِ صَهيلٍ وأَطيطٍ ودائسٍ ومُنقٍّ. فعندَه أقولُ فلا أُقبَّحُ، وأرقُدُ فأتصبَّحُ، وأشرَبُ فأتقمَّحُ. أمُّ أبى زَرْعٍ، فما أمُّ أبى زَرْعٍ؟ عُكومُها رَداحٌ، وبَيْتُها فَساحٌ. ابنُ أبى زَرْعٍ، فما ابنُ أبى زَرْعٍ؟ مَضجَعُه كمَسَلِّ شَطْبَةٍ، ويُشبِعُه ذراعُ الجَفْرَةِ. وابنةُ أبى زَرْعٍ، فما ابنةُ أبى زَرْعٍ؟ طَوْعُ أبيها وطَوْعُ أمِّها، ومِلْءُ كسائِها وغيظُ جارتِها. جاريةُ أبى زَرْعٍ، فما جاريةُ أبى زَرْعٍ؟ لا تبُثُّ حديثَنا تبثيثًا، ولا تُنقِّثُ مِيرتَنا تنقيثًا، ولا تملأُ بيتَنا تعشيشًا. قالت: خرَج أبو زَرْعٍ والأَوْطابُ تُمخَضُ، فلقى امرأةً معها ولدانِ لها كالفهدَيْنِ يلعَبانِ مِن تحتِ خَصْرِها برُمّانتَيْنِ، فطلَّقنى ونكَحها، فنكَحْتُ بعدَه رجُلًا سَرِيًّا ركِب شَرِيًّا وأخَذ خَطِّيًّا وأراح علَىّ نَعَمًا ثَرِيًّا، وأعطانى مِن كلِّ رائحةٍ زَوْجًا وقال: كُلى أمَّ زَرْعٍ ومِيرى أهلَكِ. فلو جمَعْتُ كلَّ شىء أعطانيه ما بلَغ أصغَرَ آنيةِ أبى زَرْعٍ. قالت عائشةُ: فقال لى رسولُ اللهِ ﷺ: كُنْتُ لكِ كأبى زَرْعٍ لِأُمِّ زَرْعٍ ) قال هِشامُ بنُ عمّارٍ: سأَل عيسى بنُ يونُسَ عن الدّائسِ، فقال: هو الأندَرُ. والمُنَقّ: الغِرْبالُ)".
وهذا نص قصصى رائع شاهدتُه بعد معالجته سينمائيا ضمن فلم "الرسالة" الشهير الذى أخرجه المرحوم مصطفى العقاد، فكانت متعتى به متعة عظيمة فنيا ومضمونيا. وراوية القصة هى أم سلمة رضى الله عنها، التى صارت بعد عودتها من الحبشة أما للمؤمنين. والنص يصور موقفا حرجا وُضِع فيه المسلمون المهاجرون إلى الحبشة لدن الملك الذى لا يُظْلَم عنده أحد. قالت حسبما جاء فى "سيرة ابن إسحاق" (ت 152هـ): "لما ضاقت علينا مكة وأُوذِىَ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفُتِنوا ورأوا ما يصيبهم من البلاء والفتنة فى دينهم وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يستطيع دفع ذلك عنهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم فى منعة من قومه وعمه لا يصل إليه شئ مما يكره مما ينال أصحابه، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن بأرض الحبشة ملكًا لا يظلم أحد عنده، فالحقوا ببلاده حتى يجعل الله لكم فرجًا ومخرجًا مما أنتم فيه، فخرجنا إليها أرسالًا حتى اجتمعنا بها فنزلنا بخير دار إلى خير جار، أَمِنَّا على ديننا، ولم نخش منه ظلمًا. فلما رأت قريش أنْ قد أصبنا دارًا وأمنًا أجمعوا على أن يبعثوا إليه فينا ليخرجنا من بلاده وليردنا عليهم، فبعثوا عمرو بن العاصى، وعبد الله بن أبى ربيعة، فجمعوا له هدايا ولبطارقته، فلم يدعوا منهم رجلًا إلا هيأوا له هدية على ذى حدة، وقالوا لهما: ادفعا إلى كل بطريق هديته قبل أن تكلموا فيهم، ثم ادفعوا إليه هداياه، وإن استطعتم أن يردهم عليكما قبل أن يكلمهم فافعلا. فقدما عليه، فلم يبق بطريق من بطارقته إلا قدموا له هديته وكلموه وقالوا له: إنا قَدِمْنا على هذا الملك فى سفهاء من سفهائنا فارقوا أقوامهم فى دينهم ولم يدخلوا فى دينكم، فبعثنا قومهم فيهم ليردهم الملك عليهم، فإذا نحن كلمناه فأشيروا عليه بأن يفعل، فقالوا: نفعل. ثم قدما إلى النجاشى هداياه، وكان أحب ما يهدى إليه من مكة الأدم، فلما أدخلوا عليه هداياه قالوا له: أيها الملك إن فتية منا سفهاء فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا فى دينك، وجاؤوا بدين مبتدَع لا نعرفه، وقد لجأوا إلى بلادك، فبعثَنا إليك فيهم عشائرهم: آباؤهم، وأعمامهم وقومهم لتردهم عليهم، فهم أعلى بهم عينًا. فقالت بطارقته: صدَقوا أيها الملك. لو رددتهم عليهم كانوا هم أعلى بهم عينًا، فإنهم لم يدخلوا فى دينك فتمنعهم بذلك. فغضب ثم قال: لا لعمر الله لا أردهم عليهم حتى أدعوهم وأكلمهم وأنظر ما أمْرُهم. قوم لجأوا إلى بلادى واختاروا جوارى على جوار غيرى، فإن كانوا كما يقولون رددتهم عليهم، وإن كانوا على غير ذلك منعتهم ولم أخلّ بينهم وبينهم، ولم أنعمهم عينًا. فأرسل إليهم النجاشى فجمعهم ولم يكن شىء أبغض إلى عمرو بن العاصى وعبد الله بن أبى ربيعة من أن يسمع كلامهم. فلما جاءهم رسول النجاشى اجتمع القوم فقالوا: ماذا تقولون؟ فقالوا: وماذا نقول؟ نقول والله ما نعرف، وما نحن عليه من أمر ديننا، وما جاء به نبينا كائن فى ذلك ما كان. فلما دخلوا عليه كان الذى يكلمه منهم جعفر بن أبى طالب، فقال له النجاشى: ما هذا الدين الذى أنتم عليه؟ فارقتم دين قومكم، ولا تدخلون فى يهودية ولا نصرانية، فما هذا الدين؟ فقال جعفر: أيها الملك ،كنا قومًا على الشرك: نعبد الأوثان، ونأكل الميتة، ونسىء الجوار، ونستحل المحارم بعضنا من بعض فى سفك الدماء وغيرها، لا نحل شيئًا ولا نحرمه، فبعث الله إلينا نبيا من أنفسنا نعرف وفاءه وصدقه وأمانته، فدعانا إلى أن نعبد الله وحده لا شريك له، ونصل الرحم، ونحسن الجوار، ونصلى ونصوم، ولا نعبد غيره، فقال: هل معك شىء مما جاء به (وقد دعا أساقفته فأمرهم فنشروا المصاحف حوله)؟ فقال جعفر: نعم. قال: هلم فاتْلُ علىَّ ما جاء به. فقرأ عليه صدرًا من "كهيعص"، فبكا والله النجاشى حتى أخضل لحيته، وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم، ثم قال: إن هذا الكلام ليخرج من المشكاة الذى جاء بها موسى. انطلقوا راشدين. لا والله لا أردهم عليكم ولا أنعمكم عينًا. فخرجا من عنده، وكان أتقى الرجلين فينا عبد الله بن أبى ربيعة، فقال له عمرو بن العاصى: والله لآتِيَنَّه غدا بما أستأصِلُ به خضراءهم، لأخبرنّه أنهم يزعمون أن إلهه الذى يعبد (عيسى بن مريم) عبد، فقال له عبد الله بن ربيعة: لا تفعل، فإنهم وإن كانوا خالفونا فإن لهم رحمًا ولهم حقا. فقال: والله لأفعلن. فلما كان الغد دخل عليه فقال: أيها الملك، إنهم يقولون فى عيسى قولًا عظيمًا، فأرسل إليهم فسَلْهُمْ عنه. فبعث إليهم، ولم ينزل بنا مثلها. فقال بعضنا لبعض: ماذا تقولون له فى عيسى إن هو سألكم عنه؟ فقالوا: نقول والله الذى قاله فيه، والذى أمرنا نبينا أن نقوله فيه، فدخلوا عليه، وعنده بطارقته، فقال: ما تقولون فى عيسى بن مريم؟ فقال له جعفر: نقول: هو عبد الله ورسوله وكلمته وروحه ألقاها إلى مريم العذراء البتول. فدلى النجاشى يده إلى الأرض فأخذ عويدًا بين أصبعيه فقال: ما عدا عيسى ابن مريم مما قلتَ هذا العود. فتناخرت بطارقته، فقال: وإن تناخرتم والله. إذهبوا، فأنتم شيوم بأرضى (والشيوم: الآمنون)، ومن سبكم غرم، ومن سبكم غرم، ومن سبكم غرم (ثلاثًا). ما أحب أن لى دبيرًا، وأنى آذيت رجلًا منكم (والدبير بلسانهم: الذهب). فوالله ما أخذ الله منى الرشوة حين رد على ملكى، فآخذ الرشوة فيه، ولا أطاع الناس فىَّ فأطيع الناس فيه. ردوا عليهما هداياهما، فلا حاجة لنا بها، واخرجا من بلادى. فخرجا مقبوحين مردودا عليهما ما جاءا به. فأقمنا مع خير جار فى خير دار، فلم ينشب أن خرج عليه رجل من الحبشة ينازعه فى ملكه، فو الله ما علمنا حزنًا قط كان أشد منه، فَرَقًا أن يظهر ذلك الملك عليه، فيأتى ملك لا يعرف من حقنا ما كان يعرف. فجعلنا ندعوا الله ونستنصره للنجاشى، فخرج إليه سائرًا، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعضهم لبعض: من رجل يخرج فيحضر الوقعة حتى ينظر على من تكون. فقال الزبير، وكان من أحدثهم سنًا: أنا. فنفخوا له قربة، فجعلها فى صدره ثم خرج يسبح عليها فى النيل حتى خرج من شقه الآخر إلى حيث التقى الناس، فحضر الوقعة، فهزم الله ذلك الملك وقتله، وظهر النجاشى عليه، فجاءنا الزبير فجعل يليح إلينا بردائه ويقول: ألا أبشروا فقد أظهر الله النجاشى. فو الله ما علمنا فرحنا بشئ قط فَرَحَنا بظهور النجاشى، ثم أقمنا عنده حتى خرج من خرج منا راجعًا إلى مكة، وأقام من أقام. نا أحمد: نا يونس عن ابن اسحق قال: قال الزهرى: فحدثت بهذا الحديث عروة بن الزبير عن سلمة، فقال عروة: هل تدرى ما قوله: ما أخذ الله منى الرشوة حين رد على ملكى، فآخذ الرشوة فيهم ولا أطاع الناس فىَّ فأطيع الناس فيه؟ فقال الزهرى: لا، ما حدثنى ذاك أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث عن أم سلمة، فقال عروة: فإن عائشة حدثتنى أن أباه كان ملك قومه، وكان له أخ من صلبه اثنا عشر رجلًا، ولم يكن لأبى النجاشى ولد غير النجاشى، فأدارت الحبشة رأيها بينها فقالوا: لو أنا قتلنا أبا النجاشى وملَّكْنا أخاه فإن له اثنى عشر رجلًا من صلبه فيتوارثوا الملك لبقيت الحبشة عليهم دهرًا طويلًا لا يكون بينها اختلاف، فغدوا عليه فقتلوه وملّكوا أخاه، فدخل النجاشى لعمه حتى غلب عليه فلا يدير أمره غيره، وكان لبيبًا. فلما رأت الحبشة مكانه من عمه قالوا: لقد غلب هذا الغلام على أمر عمه، فما نأمن أن يملّكه علينا، وقد عرف أنا قتلنا أباه وجعلناه مكانه، وإنا لا نأمن أن يملّكه علينا فيقتلنا. فإما أن نقتله وإما أن نخرجه من بلادنا. فقال: ويحكم! قتلتم أباه بالأمس، وأقتله اليوم؟ بل أخرجوه من بلادكم، فخرجوا به فوقفوه بالسوق فباعوه من تاجر من التجار، فقذفه فى سفينته، بستمائة درهم أو سبعمائة درهم، فانطلق به. فلما كان العَشِىّ هاجت سحائب الخريف، فخرج عمه يتمطر تحتها فأصابته صاعقة فقتلته. ففزعوا إلى ولده، فإذا هم محمَّقون ليس فى أحد منهم خير. فمرج على الحبشة أمرهم، فقال بعضهم لبعض: تعلمُنَّ والله إن ملككم الذى لا يصلح أمركم غيره لَلَّذى بعتُم الغداة، فإن كان لكم بأمر الحبشة حاجة فأدركوه قبل أن يذهب. فخرجوا فى طلبه حتى أدركوه فردوه فعقدوا عليه تاجه وأجلسوه على سريره وملَّكوه. فقال التاجر: ردوا على مالى كما أخذتم منى غلامى. فقالوا: لا نعطيك، فقال: إذًا والله أكلمه. فقالوا: وإِنْ. فمشى إليه فقال: أيها الملك، إنى ابتعت غلامًا، فقبض منى الذين باعوه ثمنه، ثم عَدَوْا على غلامى فنزعوه من يدى ولم يردوا علىَّ مالى. فكان أول ما اختبر من صلابة حكمه وعدله أن قال: لَتَرُدُّنّ عليه ماله أو ليجعلن غلامه يده فى يده، فليذهبن به حيث شاء؟ فقالوا: بل نعطيه ماله. فأعطوه إياه، فلذلك يقول: ما أخذ الله منى رشوة فآخذ الرشوة فيه حين رد إلىَّ ملكى، ولا أطاع الناسَ فىَّ فأطيعهم فيه. نا أحمد: نا يونس عن ابن اسحق قال: حدثنى يزيد بن رومان عن عروة ابن الزبير قال: إنما كان يكلم النجاشى عثمان بن عفان. نا أحمد: نا يونس عن ابن اسحق قال: وليس كذلك، إنما كان يكلمه جعفر بن أبى طالب. نا أحمد: نا يونس عن ابن اسحق قال: حدثنى بعض أهل العلم أن فتية من الحبشة قد رأوا رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهى هناك مع زوجهتا عثمان بن عفان، وكانت فيما يقال أجمل وأحسن البشر، وكانوا يقفون إليها ينظرون إليها ويدركلون لها إذا رأوها عجبًا منها حتى آذاها ذلك من أمرهم، وهم يتقون أن يؤذوا أحدًا منهم للغربة، ولما رَأَوْا من حسن جوارهم. فلما سار النجاشى إلى عدوه ساروا معه فقتلهم الله جميعًا لم يفلت منهم أحد".
فهذه قصة من قصص الرحلات والمغامرات واللجوء السياسى ومكائد البلاط، وتخلو تماما من الوعظ والإرشاد، وفيها السرد الشائق والوصف الحى والحوار الساخن والمفاجآت المدهشة المنعشة. وإلى القارئ تلك القصة أيضا، وهى أيضا لاعلاقة لها بوعظ أو إرشاد بل تحكى لنا مغامرة ليلية قام بها بعض الشبان المسلمين فى عهد الرسول عليه السلام للتخلص من عدو خبيث كان يسبب المشاكل للنبى وصحبه ويثير القلاقل ويحيك المؤامرات، وهو اليهودى الشيطان كعب بن الأشرف، ولم يكن ثم وسيلة أخرى للقضاء على شره وكيده سوى قتله، إذ كان أحد الرؤوس الكبيرة خائنة العهد الذى كان بين اليهود والمسلمين، وهو "صحيفة المدينة"، علاوة على نظمه الأشعار التى يشبب فيها بحرائر المسلمين ومنهن زوجة العباس بن عبد المطلب عم الرسول عليه السلام. ووضَع الفتيان المغامرون خطة لاستدراج الفريسة خارج حصنه وهو حديث عهد بالبناء بعروسه. يقول ابن إسحاق فى "السيرة النبوية": "وقُتِل كعب بن الأشرف. وكان من حديثه أنه لما أصيب أهل بدر، وقَدِم زيد بن حارثة إلى أهل السافلة، وقدم عبد الله بن رواحة إلى أهل العالية مبشرين، بعثهما رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل المدينة من المسلمين بفَتْح الله وقتل من قُتِل من المشركين. كما حدثنى عبد الله بن المغيث بن أبى بردة الطفرى، وعبد الله بن أبى بكر بن محمد بن عرمو بن حزم، وعاصم بن عمر بن قتادة، وصالح بن أبى أمامة بن سهل، كُلٌّ قد حدثنى بعض حديثه، قالوا: قال كعب بن الأشرف، وكان رجلًا من طَيِّئ، ثم أحد بنى نبهان، وكانت أمه من بنى النضير حين بلغه الخبر: وَيْحَكُمْ! أحقٌّ هذا؟ أترون أن محمدًا قتل هؤلاء الذين يسمى هذان الرجلان (يعنى زيدًا وعبد الله)؟ فهؤلاء أشراف العرب وملوك الناس. والله لئن كان محمد أصاب هؤلاء القوم لَبَطْنُ الأرض خير من ظهرها! فلما تيقن عدو الله الخبر خرج حتى قدم مكة، فنزل على المطلب بن أبى وداعة بن ضبيرة السهمى، وعنده عاتكة ابنة أبى العاص بن أمية بن عبد شمس، فأنزلته وأكرمته. وجعل يحرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينشد الأشعار ويبكى على أصحاب القليب من قريش الذين أصيبوا. ثم رجع كعب بن الأشرف فشبَّب بأم الفضل ابنة الحارث، ثم شبب بنساء المسلمين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كما حدثنى عبد الله بن مغيث: من لى بابن الأشرف؟ فقال له محمد بن مسلمة أخو بنى عبد الأشهل: أنا لك به يا رسول الله، أنا أقتله. قال: افعل إن قدرت على ذلك. فرجع محمد فمكث ثلاثًا لا يأكل ولا يشرب إلا ما يعلق نفسه، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: لم تركت الطعام والشراب؟ قال: يا رسول الله إنى قلت لك قولًا لا أدرى هل أفى لك به أم لا. قال: إنما عليك الجهد. قال: يا رسول الله، إنه لا بد لنا أن نقول. قال: قولوا ما بدا لكم، فأنتم فى حل من ذلك. فاجتمع فى قتله محمد بن مسلمة وسلكان بن سلامة بن وقش، وهو أبو نائلة أحد بنى عبد الأشهل، والحارث بن أوس بن معاذ أحد بنى عبد الأشهل، ثم قدَّموا، إلى عدو الله ابن الأشرف قبل أن يأتوه، سلكان بن سلامة أبا نائلة، فجاءه، فتحدث معه ساعة وتناشدا، وكان أبو نائلة يقول الشعر، ثم قال: ويحك يا ابن الأشرف! إنى قد جئتك لحاجة أريد ذكرها لك، فاكتمها عنى. قال: أفعل. قال: كان قدوم هذا الرجل علينا من البلاء: عادتْنا العرب، ورمتنا عن قوس واحدة، وقطعت عنا السبل حتى ضل العيال، وجهدت الأنفس، فأصبحنا وقد جهدنا عيالنا. فقال كعب: أنا ابن الأشرف. أمَا والله لقد كنت أخبرك يا بن سلامة أن الأمر سيصير إلى ما كنت أقول لك. فقال سلكان: إنى قد أردت أن تبيعنا طعامًا ونرهنك، ونوثق لك ونحسن فى ذلك. قال: ترهنونى أبناءكم؟ قال: أردت أن تفضحنا؟ إن لى أصحابًا على مثل رأيى، وقد أردت أن آتيك بهم لتبيعهم وتحسن فى ذلك ونرهنك من الحلقة ما لك فيه وفاء. وأراد سلكان ألا ينكر السلاح إذا جاؤوا به. قال: إن فى الحلقة لَوَفاءً. فرجع سلكان إلى أصحابه فأخبرهم خبره، وأمرهم أن يأخذوا السلاح ثم ينطلقوا فيجتمعوا إليه. فاجتمعوا عند رسول الله صلى الله عليه. أخبرنا عبد الله بن الحسن الحرانى قال: نا النفيلى قال: نا محمد بن سلمة عن محمد بن إسحاق قال: حدثنى ثور عن عكرمة مولى ابن عباس عن ابن عباس قال: مشى معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بقيع الغرقد، ثم وجههم وقال: انطلقوا على اسم الله. اللهم أعنهم. ثم رجع إلى بيته فى ليلة مقمرة، فانتهَوْا إلى حصنه، فهتف به أبو نائلة، وكان حديث عهد بعِرْسٍ، فوثب فى ملحفته، فأخذت امرأته بناحيته وقالت: إنك رجل محارب، وإن صاحب الحرب لا ينزل فى مثل هذه الساعة. قال: أبو نائلة لو وجدنى نائمًا ما أيقظنى. قالت: فو الله إنى لأعرف فى صوته الشر. قال يقول لها: لو يُدْعَى الفتى لطعنةٍ لأجاب. قال أبو شعيب: حدثنا التوزى أبو محمد قال: قال الأصمعى: ما تكلم بهذه الكلمة لو وجدنى نائما. ما أيقظنى أحد فى جاهلية ولا إسلام إلا قُتِل: قال: فنزل فتحدث معهم ساعة، وتحدثوا معه، ثم قال: هل لك يا ابن الأشراف أن نتماشى إلى شعب العجوز فنتحدث بقية ليلتنا هذه؟ قال: إن شئتم. فخرجوا يتماشَوْن ساعة، ثم إن أبا نائلة شام يده فى فود رأسه ثم شم يده، ثم قال: ما رأيت كالليلة طيبًا أعطر قط. ثم مشى ساعة ثم عاج لمثلها حتى اطمأن، ثم مشى ساعة ثم عاد لمثلها فأخذ بفَوْدَى رأسه ثم قال: اضربوا عدو الله. فضربوه، فاختلفت عليه أسيافهم فلم تُغْنِ شيئًا. قال محمد بن مسلمة: فذكرت مِغْوَلًا فى سيفى حين رأيت أسيافنا لم تغن شيئًا، فأخذته وقد صاح عدو الله صيحة لم تبق حولنا حصنا إلا أوقدت عليه الناس، فوضعته فى ثنته ثم تحاملت عليه حتى بلغت عانته فوقع عدو الله، وقد أصيب الحارث بن أوس بن معاذ فجرح فى رأسه أو فى رجله، أصابه بعض أسيافنا. قال: فخرجنا حتى سلكنا على بنى أمية بن زيد، ثم على بنى قريظة، ثم على بعاث حتى أسندنا فى حرة العريض، وقد أبطأ عنا صاحبنا الحارث بن أوس، ونزفه الدم، فوقفنا له ساعة، ثم أتانا يتبع آثارنا، فاحتملناه، فجئنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قائم يصلى، فسلمنا عليه، فخرج إلينا، فأخبرناه بقتل عدو الله، وتفل على جرح صاحبنا، ورجعنا إلى أهلنا، فأصبحنا وقد خافت يهود تبعتنا، فليس بها يهودى إلا وهو يخاف على نفسه".
ومعروف كتاب "كليلة ودمنة"، وصاحبه هو عبد الله بن المقفع (ت 142هـ). ولا علاقة لقصصه بالدين والمواعظ فى قليل أو كثير. وليس فيها سجع. ولست بحاجة إلى الاستشهاد على صحة ما أقول. ومن قصص الفترة التى حددها عبد الله إبراهيم ما خطته يد سهل بن هارون (ت 215) من قصص طويل كـ"النمر والثعلب" و"ثعلة وعفراء" و"المخزومى والهذلية". وهو قصص أبعد ما يكون عن القضايا الدينية وما يتعلق بها من وعظ وإرشاد وما إلى ذلك، بل يعالج مسائل الحكم والسياسة وقيادة أمور الدولة وصراع الكبار فى ذلك المضمار.
ولدينا كذلك الجاحظ، وهو من أهل القرن الثانى والثالث (150- 255 هـ)، وقصصه مبثوب فى كتبه هنا وهناك، وفى هذا القصص براعة فى السرد والوصف وتحليل النفوس وللتصرفات. ويمكن أن نأخذ حكايته عن سهل بن هارون مع ديكه وضيوفه، التى كلما قرأتها انتشيت انتشاء للأسلوب الذى رُوِيَتْ به وصيغت فى قوالبه محاورات الشخصيات، وللتحليل العميق لنفوسهم والتقاط حركات اليد وتعبيرات الوجه وتلوينات الصوت منها. وكالعادة أجد لزاما علىَّ أن أؤكد خلوها من أمور الدين والمواعظ والتوجيهات الأخلاقية، إذ هى تصوير ساخر لسهل بن هارون، الذى كان الجاحظ معجبا به لوسامته وأناقته ومنطقه وإبداعه وعقله، لكنه كان دائم التشنيع عليه لبخله، الذى لا أدرى أكان حقيقيا أم كاذبا: "قال دِعْبلٌ الشاعر: أقمنا عند سهل بن هارونَ فلم نبرحْ حتّى كدنَا نموتُ من الجوع. فلما اضطررناه قال: ياغلام، ويْلَك! غَدِّنا. قال: فأُتِينا بقَصْعةٍ فيها مرقٌ فيه لحمُ ديكٍ عاسٍ هرم ليس قبلَها ولا بعدَها غيرُها لا تحزُّ فيه السكين، ولا تؤثِّر فيه الأضراس. فاطّلع فى القصعة وقلَّب بصرَه فيها، ثمّ أخذ قِطْعةَ خبزٍ يابس فقلَّب جميع ما فى القَصعة حتَّى فقد الرأس من الدِّيك وحده. فبقى مطرِقًا ساعَةً ثمَّ رفع رأسه إلى الغلام فقال: أين الرَّأس؟ فقال: رميتُ به. قال: ولم رميت به؟ قال: لم أظنّك تأكله. قال: ولأَى شىء ظَننتَ أنِّى لا آكلُه؟ فواللّه إنِّى لأَمقتُ مَنْ يرمى برجليهِ فكيف من يرمى برأسه؟ ثم قال لَهُ: لو لم أكرهْ مَا صنَعْتَ إلاّ للطِّيَرةِ والفأل لكَرِهْتُه. الرأس رئيسٌ، وفيهِ الحواسُّ، ومنه يصدَح الديك، ولولا صوتُه ما أرِيدَ. وفِيهِ فَرْقُه الذى يُتَبَرَّك به، وعَينُهُ التى يُضْرَب بها المثل. يقال: شرابٌ كعين الديك. ودِمَاغُه عجيب لوجَع الكُلْيَة. ولم أرَ عَظْمًا قَطُّ أهشَّ تحت الأسنانِ من عَظْم رأسِهِ. فهَلاّ إذْ ظننتَ أنِّى لا آكلُه ظننتَ أنّ العِيال يأْكُلُونه؟ وإنْ كانَ بلَغَ من نُبْلِك أنّك لا تأْكلُه فإنّ عِنْدَنا من يأْكُلُه. أوَما علمتَ أنّه خيرٌ من طَرَف الجَناحِ، ومن السَّاق والعنق؟ انظرْ أين هو. قال: واللّه ما أدرى أينَ رميتُ بِهِ. قال: لكنِّى أدرى أنّك رمَيْتَ بِهِ فى بطنك. واللّهُ حَسيبك!".
وهذا ليس سوى عينة صغيرة من أعمال قصصية تنتمى إلى القرنين الأولين فى تاريخ الإسلام ولا تدور حول أية مواعظ أو إرشادات بعكس ما يزعم عبد الله إبراهيم. ونتحول الآن إلى القصص الشعرى، وما أكثره، وبخاصة فى دنيا الغرام. أى أن موضوعه بعيد تمام البعد عن كل مواعظ أو توجيهات خلقية.
وهذه يائية سحيم عبد بنى الحسحاس الرهيبة بناءً على إحدى رواياتها، إذ، وكانت، فيما تقول الروايات، سببا فى أن قتلته قبيلة الفتاة التى وقعت فى غرامه ومارس الجنس معها ثم وَزَّه شيطانه على إعلان القصيدة، فبلغت مسامع أهل الفتاة الذين كان عبدا لهم، فكانت النتيجة أن قتلوه انتقاما لعرضهم. وهذه القصيدة تذكرنى برواية الكاتب السودانى الشهير: "موسم الهجرة إلى الشمال" حيث يغرق بطلها فى ممارسة الجنس مع الفتيات البريطانيات البيض على سبيل الثأر من بلادهن التى كانت تستعمر السودان حقبة من الزمن، فهنا أيضا نشعر بتلذذ الشاعر الرهيب باستعادة اللحظات النشوى مع الفتاة التى يعمل عند أهلها عبدا غير مبال بأى اعتبار آخر، إذ إن ابتهاجه بالنوم مع بنت أسياده ونيل متعته منها يَجُبّ كل شىء آخر:
عُمَيرةَ وَدِّع إِن تَجَهَّزتَ غَادِيا

كَفَى الشَّيْبُ والإِسلامُ لِلمَرْءِ ناهيا

جُنُونًا بِها فيما اعتَشَرْنا عُلَالةً

عَلاقَةَ حُبٍّ مُستَسِرًّا وَباديا

لَيالِىَ تصطادُ القُلوبَ بِفاحِمٍ

تَراهُ أَثيثًا ناعِمَ النَّبْتِ عَافِيا

وجِيدٍ كَجيدِ الرِّيْمِ لَيسَ بِعاطِلٍ

مِنَ الدُرِّ والياقُوتِ والشَّذرِ حالِيا

كأَنَّ الثُّرَيّا عُلِّقَت فوقَ نَحْرِها

وجَمْرَ غَضًى هَبَّت لَهُ الريحُ ذاكيا

إِذا اندَفَعَتْ فى رَيْطَةٍ وخَميصةٍ

ولاثَت بأَعلَى الرِّدفِ بُرْدًا يَمانيا

فَمَا بَيضَةٌ باتَ الظَّليمُ يَحُفُّها

وَيَرفَعُ عَنها جُؤجُؤًا مُتَجافياو

َيَجعَلُها بَينَ الجَناحِ ودَفِّهِ

وَيُفْرِشُها وَحْفًا مِنَ الزِّفِّ وافيا

فَيرفَعُ عَنها وَهى بَيضاءُ طَلَّةُ

وَقَد واجَهَتْ قَرنًا مِنَ الشَمسِ ضاحيا

بِأَحْسَنَ مِنها يَومَ قالَت: أراحِلٌ

مَعَ الرَّكبِ أَم ثاوٍ لَدَيْنا لَياليا؟

فإِن تَثْوِ لا تُمْلَل وإِن تُضْحِ غاديًا

تُزَوَّدْ وَتَرْجِعْ عن عُمَيْرَةَ راضيا

وَمَن يَكُ لا يَبقَى عَلَى النَأْى وُدُّهُ

فَقَد زَوَّدَتْ زادًا عُمَيرَةُ باقيا

أَلِكْنِى إِليها عَمْرَكَ الله يا فَتًى

بآيةِ ما جاءت إِلَيْنا تَهَاديا

تَهادِىَ سَيلٍ فى أَباطِحَ سَهْلَةٍ

إِذا ما عَلا صَمْدًا تَفَرَّعَ واديا

فَفاءَت ولَم تَقْضِ الذى هُوَ أَهلُهُ

وَمِن حاجَةِ الإِنسانِ ما لَيْسَ لاقيا

وَبِتْنا وِسَادانا إِلى عَلَجانَةٍ

وحِقْفٍ تَهاداهُ الرِّياحُ تَهادِيا

تُوَسِّدُنى كَفًّا وتَثْنِى بِمِعصَمٍ

عَلَىّ وَتَحْوِى رِجلَها مِن وَرائيا

وَهَبَّت لَنا ريحُ الشَمالِ بِقِرَّةٍ

ولا ثَوبَ إِلّا بُردُها وردائيا

فَما زالَ بُردِى طَيِّبًا مِن ثِيابِها

إِلى الحَوْلِ حتّى أَنهَجَ البُردُ باليا

ألا يا طبيب الجن، باللَه داونى

فإن طبيب الإنس أعياه ما بيا

فقال: دواء الحب أن تلصق الحشا

بأحشاء من تهوى إذا كان خاليا

سَقَتْنى عَلى لَوحٍ مِنَ الماءِ شَربةً

سقاها بها الله الذّهاب الغواديا

وأَشهَدُ عِندَ اللهِ أَنْ قَد رأَيتُها

وعِشْرينَ مِنها إصبَعًا مِنْ وَرائيا

أَقلِّبُها لِلجانِبين وأَتَّقِى

بِها الرِيحَ والشَّفَّان مِن عَنْ شمالِيا

أَلا أَيُّها الوادى الَّذى ضَمَّ سَيلُهُ

إِلَينا نَوَى الحَسناءِ، حُيِّيتَ واديا

فَيالَيْتَنى والعامِرِيَّةَ نَلتَقى

نَرودُ لِأَهلَيْنا الرِّياضَ الخَوالِيا

وَما بَرِحَتْ بِالدَّيْرِ مِنها أَثارةٌ

وبِالجَوِّ حَتَّى دَمَّنَتْهُ لَيالِيا

فإِن تُقبِلى بِالوُدَّ أُقْبِل بِمِثلِهِ

وإِن تُدبِرى أَذهَبْ إِلى حالِ بالِيا

أَلَم تَعلَمى أَنِّى صَرُومُ مُواصِلُ

إِذا لَم يَكُن شىءٌ لِشىءٍ مُواتِيا؟

وما جئتُها أبغى الشفاء بنظرةٍ

فأبصرتُها إلا رجعت بدائيا

ولا طلع النجم الذى يهتدى به

ولا الصبح حتى هيَّجا ذِكْرَها ليا

أشَوْقًا ولمّا يمضِ لى غير ليلة

رُوَيْدَ الهوى حتى يغيب لياليا

أَلا نادِ فى آثارِهنَّ الغَوانِيا

سُقِينَ سِمامًا. ما لَهُنَّ وَما لِيا؟

تَجَمَّعنَ مِن شَتَّى ثَلاثٍ وأَربَعٍ

وَواحِدَةٍ حَتىَّ كَمَلْنَ ثَمانِيا

سليمى وسلمى والرباب وتربها

وأروى وريا والمنى وقطاميا

وأَقبَلنَ مِن أَقصَى الخِيامِ يَعُدْنَنى

نَوَاهِدَ لَم يَعرِفْنَ خَلقًا سَوائيا

يَعُدنَ مَريضًا هُنّ هَيَّجْنَ داءَهُ

أَلا إِنَّما بَعضُ العَوائدِ دائيا

وَرَاهُنَّ رَبِّى مِثلَ ما قَد وَرَيْنَنى

وأَحْمَى عَلى أَكبادِهِنَّ المَكَاوِيا

وَقائِلَةٍ والدمعُ يحدرُ كحلها:

أَهَذا الَّذى وَجْدًا يُبكّى الغَوانِيا؟

فَلَم أَر مِثلى مُستَغيثًا بِشَرْبَةٍ

وَلا مِثلَ ساقينا المُصَرّدِ ساقِيا

وَسِرْب عذارى بِتْنَ جَنْبَىَ مَوْهِنًا

مِنَ اللَّيلِ قَد نازَعَتُهُنَّ رِدائِيا

تَبَصَّرْ خَليلى: هَل تَرَى مِن ظَعَائنٍ

تَحَمَّلنَ مِن جَنْبَىْ شَرَوْرَى غَوادِيا

تَأَطَّرْنَ حتّى قُلتُ: لَسْنَ بَوارِحًا

ولا لَاحِقاتِ الحَىّ إِلَا سَوارِيا

أَخَذنَ عَلى المِقْراةِ أوعَن يَمينِها

إِذا قُلتُ: "قَد وَرَّعْنَ" أَنزَلنَ حادِيا؟

أَشارَت بِمِدْراها وَقالَت لِتِرْبِها:

أَعَبْدُ بَنِى الحَسْحَاسِ يُزْجِى القَوافِيا؟

رَأَتْ قَتَبًا رَثًّا وسَحْقَ عَباءةٍ

وأَسوَدَ مِمّا يَملِكُ الناسُ عارِيا

وَما ضَرَّنى إِلّا كَما ضَرَّ خِضْرِمًا

مِنَ البَحرِ خُطّافٌ حسا منهِ ماضِيا

فَقُل لِلغَوانى: ما لَهُنَّ وَما لِيا

تَساقيْنَ سمًّا إِذ رَأَيْنَ خَيالِيا؟

يُرَجِّلنَ أَقوامًا وَيترُكنَ لِمَّتى

وَذاكَ هَوانٌ ظاهِرٌ قد بَدا لِيا

أَغَالِىَ، أَعلى اللَهُ كَعْبَكَ عالِيا

وَرَوّى بِرَيّاكَ العِظام البَوالِيا

أغالىَ، لَو أَشكو الَّذى قَد أَصابَنى

إِلى جَبَلٍ صَعْب الذُّرَى لانْحَنَى لِيَا

أغالى، ما شَمسُ النَهارِ إِذا بَدَت

بأَحسَن مِما بَيْنَ بُرْدَيكَ غالِيا

تَحدَّرْنَ مِن تِلكَ الهِضاب عَشِيَّةً

إِلى الطَّلْعِ يَبغين الهَوى وَالتَّصابِيا

فَلَو كُنتُ وَرْدًا لَونُهُ لَعشِقْنَنِى

وَلَكنَّ رَبّى شانَنى بسَوَادِيا

فَما ضَرَّنى أَن كانَت امّى وَليدةً

تَصُرُّ وتَبْرِى لِلِّقاحِ التَّوَادِيا

تَعاوَرنَ مِسْواكى وأَبقَينَ مُذهَبًا

مِنَ الصَّوْغِ فى صُغْرَى بَنانِ شِمالِيا

وقُلنَ: أَلا يا الْعَبْنَ ما لَم يَرِنْ بنا

نُعاسٌ، فإِنَّا قَد أَطَلنا التَّنائيا

لَعِبْنَ بِدَكْداكٍ خَصيبٍ جَنابُهُ

وأَلقَينَ عَن أَعطافِهِنَّ المَراديا

وَقُلن لِمِثلِ الرِّئْمِ: أَنت أَحَقُّنا

بنزع الرِّداء إِن أَرَدْتِ تَخالِيا

فَقامَت وَأَلقَت بِالخِمارِ مُدِلَّةً

تَفادَى القصارُ السودُ مِنها تَفادِيا

وَما رِمْنَ حَتّى أَرسَلَ الحَىُّ داعِيا

وَحَتَّى بَدا الصُّبحُ الَّذى كانَ تالِيا

تَمارَيْن حَتّى غابَ نَجْمُ مَكيدة

وَحَتّى بَدا النَّجمُ الذى كانَ تالِيا

وَحَتّى استَبانَ الفَجْرُ أَشقَرَ ساطِعًا

كَأَنَّ عَلى أَعلاهُ سِبًّا يَمَانِيا

فأَدبَرنَ يَخفِضنَ الشُخوصَ كأَنَّما

قَتَلْنَ قَتيلًا أَو أَصَبنَ الدَّواهِيا

وأَصبَحْنَ صَرعَى فى البُيُوتِ كأَنَّما

شَرِبنَ مُدامًا ما يُجِبْنَ المُنادِيا

فَعَزَّيتُ نَفسى واجتَنَبتُ غَوايَتى

وقَرَّبتُ حُرْجوجَ العَشيَّةِ ناجِيا

مَرُوحًا إِذا صامَ النَهارُ كأَنَّما

كَسَوتُ قُتُودى ناصِعَ اللَونِ طاوِيا

شَبوبًا تَحاماهُ الكِلابُ تَحامِيا

هُوَ اللَّيثُ مَعدُوًّا عَليهِ وَعادِيا

حَمَتهُ العشاءَ لَيلَةٌ ذاتُ قِرَّةٍ

بِوَعْساء رَملٍ أَو بِحَزْنانَ خالِيا

يثيرُ ويُبْدِى عَن عُروقٍ كَأَنَّها

أَعِنَّةُ خَرّازٍ جَديدًا وَباليا

يُنَحِّى تُرابًا عَن مَبيتٍ ومَكْنِسٍ

رُكَامًا كَبَيْتِ الصَّيْدَنانِىّ دانِيا

فَصَبَّحَهُ الرَّامى مِنَ الغَوْثِ غُدوَةً

بأََكْلُبِه يُغْرِى الكِلابَ الضَّوارِيا

فَجالَ عَلى وَحْشِيِّه وتَخالُهُ

عَلى مَتْنِهِ سِبًّا جَديدًا يَمانِيا

يَذودُ ذيادَ الخامِسات وقَد بَدَت

سَوابِقُها مِنَ الكِلابِ غَواشِيا

فَدَع ذا، ولَكِن هَل تَرى ضَوءَ بارقٍ

يُضِىءُ حَبِيًّا مُنجِدًا مُتَعالِيا

يُضىء سَناهُ الهَضْبَ هَضْبَ مُتالِعٍ

وحُبَّ بِذاكَ الهَضْبِ لَو كانَ دانِيا

نَعِمْتُ بِهِ عَينًا وأَيقنتُ أَنَّهُ

يَحُطُّ الوُعولَ والصُّخورَ الرَّواسِيا

فَما حَرَّكَتهُ الرِيحُ حتّى حَسِبتُهُ

بِحَرَّةِ لَيْلَى أَو بِنَخلَةَ ثاوِيا

فَمَرَّ عَلى الأَنْهاءِ فالتَجَّ مُزْنُهُ

فَعقَّ طَويلًا يَسكُبُ الماءَ سَاجِيا

رُكامًا يَسُحُ الماءَ مِن كُلِّ فيقَةٍ

كَما سُقْتَ مَنكوبَ الدَّوَابِرِ حافِيا

ومَرًّ عَلى الأَجبالِ أَجبالِ طَيِّئٍ

فغادَرَ بالقيعان رَنْقًا وصافيا

أَجَشُّ هَزيمٌ سَيْلُهُ مَعَ وَدقِهِ

تَرى خَشَبَ الغُلّان فِيهِ طَوَافِيا

لَهُ فُرَّقٌ جُونٌ يُنَتَّجْنَ حَوْلَهُ

يُفَقِّئْنَ بِالمِيثِ الدِّماثِ السَّوابِيا

فَلَمّا تَدَلّى لِلْجِبالِ وأَهلِها

وأَهلِ الفُراتِ جاوَزَ الجَرَّ ضاحِيا

أَثارَ خَنازير السَّوادِ ارتِجازهُ

وَجادَت أَعاليهِ العَقِيقُ المُعَالِيا

بَكى شَجْوَهُ واغتاظَ حَتّى حَسِبْتُهُ

مِنَ البُعْدِ لمّا جَلْجَلَ الرَّعدُ حادِيا

فأَصبَحتِ الثِيرانُ غَرقى، وأَصبَحَت

نِساءُ تَميمٍ يَلْتَقِطنَ الصَّياصِيا


وهذه قصيدة قصصية أخرى، ولكن لعمر بن أبى ربيعة، تصور لنا لقاء بين شاب ثرى وسيم أنيق معجبانى وثلة من الفتيات اللعوبات الحسان. فالشاعر يروى لنا مغامرة غرامية فى الهواء الطلق فى أحضان الصحراء الرحيبة بعيدا عن عيون العاذلين. وما أروع الوصف والسرد وتصوير الشخصيات واستبطان مشاعرهم وإدارة الحوار المكثف الموحى بينهم:
أَمِن آلِ نُعمٍ أَنتَ غادٍ فَمُبْكِرُ

غَداةَ غَدٍ أَم رائِحٌ فَمُهَجِّرُ

لِحاجَةِ نَفْسٍ لَم تَقُل فى جَوابِها

فَتُبلِغَ عُذرًا، وَالمَقالَةُ تُعْذِرُ؟

تَهيمُ إِلى نُعْمٍ فَلا الشَّملُ جامِعٌ

وَلا الحَبلُ مَوصولٌ وَلا القَلبُ مُقصِرُ

وَلا قُرْبُ نُعْمٍ إِن دَنَت لك نافعٌ

وَلا نَأيُها يُسْلِى وَلا أَنتَ تَصْبِرُ

وَأُخْرى أَتَت مِن دونِ نُعْمٍٍ، وَمِثلُها

نَهَى ذا النُّهَى لَو تَرْعَوِى أَو تُفَكِّرُ

إِذا زُرتُ نُعْمًا لَم يَزَلْ ذو قَرابَةٍ

لَها كُلَّما لاقَيتُها يَتَنَمَّرُ

عَزيزٌ عَلَيهِ أَن أُلِمَّ بِبَيتِها

يُسِرُّ لِى الشَّحْناءَ، وَالبُغْضُ مُظْهَرُ

أَلِكْنِى إِلَيها بِالسَّلامِ، فَإِنَّهُ

يُشَهَّرُ إِلمامى بِها وَيُنَكَّرُ

بِآيَةِ ما قالَت غَداةَ لَقِيتُها

بِمَدْفَعِ أَكْنانٍ: أَهَذا المُشَهَّرُ؟

قِفى فَانظُرى أَسماءُ: هَل تَعْرِفينَهُ

أَهَذا المُغِيرِىُّ الَّذى كانَ يُذْكَرُ؟

أَهَذا الَّذى أَطرَيْتِ نَعْتًا فَلَم أَكُن،

وَعَيْشِكِ، أَنساهُ إِلى يَوْم أُقبَرُ؟

فَقالَت: نَعَم لا شَكَّ غَيَّرَ لَوْنَهُ

سُرَى اللَّيلِ يُحْيِى نَصَّهُ وَالتَهَجُّرُ

لَئِن كانَ إِيّاهُ لَقَد حالَ بَعْدَنا

عَنِ العَهدِ، والإنسانُ قَد يَتَغَيَّرُ

رَأَتْ رَجُلًا أَمّا إِذا الشَّمسُ عارَضَتْ

فَيَضْحَى، وَأَمّا بِالعَشى فَيَخْصَرُ

أَخا سَفَرٍ جَوّابَ أَرضٍ تَقاذَفَتْ

بِهِ فَلَواتٌ، فَهوَ أَشعَثُ أَغبَرُ

قَليلًا عَلى ظَهْرِ المَطِيَّةِ ظِلُّهُ

سِوَى ما نَفى عَنهُ الرِّداءُ المُحَبَّرُ

وَأَعجَبَها مِن عَيْشِها ظِلُّ غُرفَةٍ

وَرَيّانُ مُلتَفُّ الحَدائِقِ أَخضَرُ

وَوالٍ كَفاها كُلَّ شىء يَهُمُّها

فَلَيسَت لِشَىْءٍ آخِرَ اللَيلِ تَسهَرُ

وَلَيلَةَ ذى دَوْرانَ جَشَّمْتِنى السُّرَى

وَقَد يَجْشَمُ الهَولَ المُحِبُّ المُغَرّرُ

فَبِتُّ رَقيبًا لِلرِّفاقِ عَلى شَفًا

أُحاذِرُ مِنهُم مَن يَطُوفُ وَأَنظُرُ

إِلَيهِم مَتى يَسْتَمْكِنُ النَّوْمُ مِنهُمُو

وَلِى مَجْلِسٌ لَولا اللُّبانَةُ أَوْعَرُ

وَباتَتْ قَلُوصِى بِالعَرَاءِ، وَرَحْلُها

لِطارِقِ لَيْلٍ أَو لِمَن جاءَ مُعْوِرُ

وَبِتُّ أُناجِى النَفسَ: أَينَ خِباؤُها؟

وَكَيفَ لِما آتى مِنَ الأَمرِ مَصْدَرُ؟

فَدَلَّ عَلَيها القَلبَ رَيَّا عَرَفتُها

لَها، وَهَوَى النَّفْسِ الَّذى كادَ يَظهَرُ

فَلَمّا فَقَدتُ الصَوتَ مِنهُم وَأُطفِئَتْ

مَصابيحُ شُبَّتْ فى العِشاءِ وَأَنْوُرُ

وَغابَ قُمَيرٌ كُنتُ أَرجو غُيُوبَهُ

وَرَوَّحَ رُعْيانٌ وَنَوَّمَ سُمَّرُ

وَخُفِّضَ عَنّى النَّومُ أَقبَلتُ مِشيَةَ الـ

ـحُبابِ وَرُكْنِى خَشيَةَ الحَىّ أَزْوَرُ

فَحَيَّيْتُ إِذ فاجَأتُها، فَتَوَلَّهَت

وَكادَت بِمَخْفوضِ التَحِيَّةِ تَجهَرُ

وَقالَت وَعَضَّتْ بِالبَنانِ: فَضَحْتَنى

وَأَنتَ امْرُؤٌ مَيْسورُ أَمرِكَ أَعسَرُ

أَرَيْتَكَ إِذ هُنَّا عَلَيْكَ أَلَمْ تَخَف،

وُقِيتَ، وَحَولى مِن عَدُوِّكَ حُضَّرُ؟

فَوَ اللهِ ما أَدرى أَتَعْجيلُ حاجَةٍ

سَرَت بِكَ أم قد نامَ مَنْ كُنتَ تَحذَرُ

فَقُلتُ لَها: بَل قادَنى الشَّوقُ وَالهَوى

إِلَيكِ، وَما عَينٌ مِنَ الناسِ تَنظُرُ

فَقالَت وَقَد لانَت وَأَفرَخَ رَوْعُها:

كَلَاكَ بِحِفْظٍ رَبُّكَ المُتَكَبِّرُ

فَأَنتَ، أَبا الخَطّابِ، غَيرُ مُدافَعٍ

عَلَىَّ أَميرٌ ما مَكَثْتَ مُؤَمَّرُ

فَبِتُّ قَريرَ العَيْنِ أُعْطِيتُ حاجَتى

أُقَبِّلُ فاها فى الخَلاءِ فَأُكثِرُ

فَيا لَكَ مِن لَيلٍ تَقاصَرَ طولُهُ

وَما كانَ لَيْلِى قَبلَ ذَلِكَ يَقْصُرُ

وَيا لَكَ مِن مَلْهًى هُناكَ وَمَجلِسٍ

لَنا لَم يُكَدِّرْهُ عَلَينا مُكَدِّرُ

يَمُجُّ ذَكِىَّ المِسكِ مِنها مُفَلَّجٌ

رَقيقُ الحَواشى ذو غُروبٍ مُؤَشَّرُ

تَراهُ إِذا تَفتَرُّ عَنْهُ كَأَنَّهُ

حَصَى بَرَدٍ أَو أُقحُوانٌ مُنَوِّرُ

وَتَرْنو بِعَينَيها إِلَىَّ كَما رَنا

إِلَى رَبْرَبٍ وَسطَ الخَميلَةِ جُؤذَرُ

فَلَمّا تَقَضّى اللَيلُ إِلّا أَقَلَّهُ

وَكادَت تَوالِى نَجْمِهِ تَتَغَوَّرُ

أَشارَت بِأَنَّ الحَى قَد حانَ مِنهُمُو

هُبوبٌ، وَلَكِنْ مَوعِدٌ مِنكَ عَزْوَرُ

فَما راعَنى إِلّا مُنادٍ: تَرَحَّلوا

وَقَد لاحَ مَعروفٌ مِنَ الصُّبحِ أَشْقَرُ

فَلَمّا رَأَت مَن قَد تَنَبَّهَ مِنهُمُو

وَأَيقاظَهُم قالَت: أَشِرْ. كَيفَ تَأمُرُ؟

فَقُلتُ: أُباديهِم فَإِمّا أَفوتُهُم

وَإِمّا يَنالُ السَيفُ ثَأرًا فَيَثأَرُ

فَقالَت: أَتَحقيقًا لِما قالَ كاشِحٌ

عَلَينا وَتَصْديقًا لِما كانَ يُؤْثَرُ؟


ثم ها هى ذى رائية بشار الفاجرة، وأنا أصفها وأصمها بذلك كى يعرف القراء أن كاتبنا يطلق الأحكام الخاطئة الفطيرة فى دراسته التى تحتاج مراجعة شاملة وتعمقا كافيا يناسب الموضوع والمقام:
قَد لامَنِى فى خَليلَتى عُمَرُ

وَاللَّومُ فى غَيرِ كُنهِهِ ضَجَرُ

قالَ: أَفِق. قُلتُ: لا. فَقالَ: بَلى

قَد شاعَ فى الناسِ عَنكُمُ الخَبَرُ

فَقُلتُ: إِن شاعَ ما اعتِذارى مِمْ

مَا لَيْسَ لى فيهِ عِندَهُم عُذُرُ؟

لا أَكتُمُ الناسَ حُبَّ قاتِلَتى

لا لا وَلا أَكْرَهُ الَّذى ذَكَروا

لوموا، فَلا لَوْمَ بَعْدَها أَبَدًا

صاحِبُكُم، وَالجَليلِ، مُحْتَضَرُ

قُمْ قُمْ إِلَيهِم فَقُل لَهُم: قَد أَبَى

وَقالَ: لا لا أُفيقُ، فَانتَحِروا

ماذا عَسى أَن يَقولَ قائِلُهُم

وَذا هَوًى ساقَ حَيْنَهُ القَدَرُ

يا قَومِ، ما لى وَما لَهُم أَبَدًا

يَنظُرُ فى عَيْبِ غَيرِهِ البَطِرُ؟

يا عَجَبًا لِلخِلافِ يا عَجَبًا

بِفِى الَّذى لامَ فى الهَوى الحَجَرُ

ما لامَ فى ذى مَوَدَّةٍ أَحَدٌ

يُؤمِنُ بِاللهِ. قُمْ، فَقَد كَفَروا

حَسْبى وَحَسْبُ الَّتى كَلِفتُ بِها

مِنّى وَمِنها الحَديثُ وَالنَّظَرُ

أَو قُبلَةٌ فى خِلالِ ذاكَ، وَلا بَأَسَ إِذا لَم تُحْلَلِ الأُزُرُ

أَو لَمْسُ ما تَحتَ مِرْطِها بِيَدِى

وَالبابُ قَد حالَ دونَهُ السُّتُرُ

وَالساقُ بَرّاقَةٌ خَلاخِلُها

وَالصَّوتُ عالٍ، فَقَد عَلا البُهُرُ

وَاستَرخَت الكَفُّ لِلغزَالِ وَقا

لَت: "اُلهُ عَنّى"، وَالدَّمعُ مُنحَدِرُ

اِذْهَب فَما أَنتَ كَالَّذِى ذَكَروا

أَنتَ، وَرَبّى، مُعارِكٌ أَشِرُ

وَغابَتِ اليَومَ عَنكَ حاضِنَتى

فَاللهُ لى اليَوْمَ مِنْكَ مُنْتَصِرُ

يا رَبِّ، خُذ لى، فَقَد تَرى ضُعُفى

مِن فاسِقِ الكَفِّ ما لَهُ شُكُرُ

أَهْوَى إِلى مِعْضَدى فَرَضَّضَهُ

ذو قوةٍ ما يُطاقُ مُقتَدِرُ

يُلْصِقُ بى لِحيَةً لَهُ خَشُنَت

ذاتَ سوادٍ كَأَنَّها الإِبَرُ

حَتّى عَلَانِى وَإِخوَتى غَيَبٌ

وَيْلِى عَلَيْهِم لَو أَنَّهُم حَضَروا

أُقسِمُ بِاللهِ لا نَجَوْتَ بِها

اِذهَبْ، فَأَنتَ المُسَوَّرُ الظَّفِرُ

كَيفَ بِأُمّى إِذا رَأَت شَفَتِى؟

وَكَيفَ إِن شاعَ مِنكَ ذا الخَبَرُ؟

أَم كَيْفَ، لا كَيْفَ، لى بِحاضِنَتى

يا حِبُّ لَو كانَ يَنفَعُ الحَذَرُ؟

قُلتُ لَها عِندَ ذاكَ: يا سَكَنِى

لا بَأسَ. إِنّى مُجَرِّبٌ حَذِرُ

قولى لَهُم: بَقَّةٌ لَها ظُفُرٌ

إِن كان فى البَقِّ ما لَهُ ظُفُرُ


وإذا ما بلغنا الصفحة 253 من الكتاب الحالى ألفينا مؤلفنا يتريث لدى النضر بن الحارث، الذى صوره لنا منافسا مزعجا للرسول لم يستطع الرسول مواجهته، فالرسول يقص، وهو يقص كما يقص الرسول، وبالتالى فلا أحد أحسن من أحد. وزد على هذا أنه عليه السلام قد واجه صعوبة فى إفهام المكيين للفوارق بين ما يورده من أخبار قديمة وما يورده النضر منها. ولكن كيف كان يستطيع ذلك، والتماثل بين الجانبين قائم فى موضوعات الأخبار وأساليبها النثرية؟ ولهذا تجرد الرسول للرد عليه كما لم يتجرد لغيره، إذ اختصه بثمانى آيات أنذرته بالويل والثبور وسوء العاقبة، وهو ما تحقق فى بدر حين وقع فى الأسر وقُتِل.
وواضح أن عبد الله إبراهيم يرى أن الرسول قاصٌّ مَثَلُه مَثَلُ النضر لا نبى يوحى إليه من السماء. فأما أنه ليس نبيا فلا أتعرض له هنا، إذ كلٌّ وما يعتقد: فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر. لكن أكان الرسول قاصا؟ لا لم يكن الرسول قاصا. لقد أقر النضر بأنه ينقل من كتب الأمم الأخرى، أما محمد فيقول إنه نبى. وسواء كان نبيا كما نؤمن أوليس نبيا كما يؤمن الكاتب وأشباهه فإنه كان يبشر وينذر ويدعو الناس إلى الإيمان بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر، ويحضهم على التمسك بالأخلاق الكريمة والنزول على مقتضى الإنسانية العالية ومراعاة أصول اللياقة فى التعامل مع الآخرين والانتهاء عن الكذب والزنا والسرقة والقتل والتكبر... إلخ. ثم لو كان قصاصا لما وقف قومه منه موقف العداوة والبغضاء والإيذاء باليد واللسان بل والتآمر على قتله على عكس ما فعلوا تجاه النضر ومن يشبهونه.
كذلك نرى الكاتب يغالى مغالاة سخيفة فى تصوير الخطر والإزعاج الذى كان يمثله النضر للرسول عليه السلام، وإلا فماذا يساوى النضر بجانب الملوك الذين أرسل إليهم النبى يعرض عليهم الدخول فى الإسلام؟ إنه لا يساوى شيئا، ومع هذا لم يضع الرسول أولئك الملوك فى اعتباره. بل إن أتباعه بعد مماته قضوا على مُلْك فارس والروم وغيرهم من حكام المنطقة واعتنقت البلاد التى كانت تحت سلطانهم الدين الجديد، فكيف نتصور أن النضر أو غير النضر يمكن أن يزعجوه ويمثلوا له كل ذلك الخطر الذى يزعمه عبد الله إبراهيم؟ ولا ننس أن القرآن قد هدد النضر بسوء المآل، وهو ما حدث ويرينا أن كل ما قاله الرسول فى مكة عن مصير المشركين فى الدنيا قد تحقق بحذافيره مما يدل على أنه لا يصدر التهديدات من لدنه بل من لدن القوة والقدرة الإلهية، لكن عبد الله إبراهيم يدعى أن النبى إنما ساقه البغض الذى يحمله تجاه الرجل إلى قتله. ترى هل كان النبى يشم على ظهر يده وهو فى مكة عندما قرأ على المشركين الآيات التى هددت النضر وتوعدته بوخامة العواقب، فعلم بوقوع المعارك بينه وبين قومه قبل الهنا بسنة وبانتصاره هو ورجاله على المشركين ووقوع النضر، الذى كان أحد قواد المكيين، أسيرا فى أيدى المسلمين؟ ومع هذا ففى البشر من طمس الله على عقله وقلبه وذوقه وإنسانيته كلها فيقف مع النضر القصاص ضد محمد المصلح العظيم صلوات الله وتسليماته عليه. لكن لم العجب من موقف كهذا يتخذه مدلس عديم الحياء وكذاب أشر ومزور عريق فى التزوير؟ وهل يمكن أن يتخذ ذلك المزور الوقح جانب محمد نبى الصدق والعفاف والحضارة.
وأما أن الآيات التى وردت فى شأن النضر هى من بُنَيَّات عواطف الرسول الانتقامية فمعنى هذا أن القرآن إنما يعكس مواقف الرسول ومشاعره وأفكاره. فلم يا ترى لا نجد فى القرآن تمجيدا له صلى الله عليه وسلم على الدوام؟ إن القرآن يوقفه عليه السلام عند حده بوصفه عبدا لله لا يملك لنفسه من الأمر شيئا ولا يعلم الغيب ولا يتميز عن الآخرين بل عليه أن يخضع مثلهم لأوامر القرآن ونواهيه، ولا نسمعه يتحدث فيه بابتهاج وفخار عن انتصاراته المتتالية على أعداء دينه أو يثنى فيه على أهله وزوجاته أو يَذْكُرهم بأسمائهم، وينبهه إلى أنه ليس له أية سيطرة على البشر ولا يحق له أن يكره أحدا منهم على دخول دينه، ويهدده بعقاب شديد لو تقوَّل على الله شيئا؟ نعم إننا ننظر فى القرآن ونعيد النظر مرارا وتكرارا فلا نجد شيئا من ذلك بل على العكس يسند القرآن نصر بدر مثلا إلى الله عز وجل، ولا نرى فيه اسم أى واحد من أهله أو زوجاته عليه السلام ولا حتى خديجة أو أبى طالب عند وفاتهما فى نفس العام لدرجة أنه قد أُطْلِق على ذلك العام: "عام الحزن"، بل إن اسمه الكريم هو من أقل أسماء الأنبياء ترددا فى كتاب الله.
ومما أطال عبد الله إبراهيم القول فيه أن الإسلام قد محا كل ما كان النضر يقرؤه على قومه عند الكعبة كى يصرفهم عما يتلوه عليهم من قرآن لأن ما فى يد النضر كان يشكل خطرا شديدا على الدين الجديد وكتابه ورسوله، جريا على سياسة النبى فى الاحتفاء بكل ما من شأنه أن يعضده ويقوى مصداقيته ونبذ ما كان بخلاف ذلك. وهذا كلام تافه، إذ لو كان الأمر كذلك فلم حرص القرآن والحديث على ذكر كل ما كان يُتَّهَم به النبى من الكذب والسحر والشعر والكهانة وكل ما كان القرشيون والنصارى واليهود يفعلونه أو يقولونه ضد الإسلام ولا نزال نقرؤه ونتعبد به وسوف يتعبد به المسلمون إلى آخر الزمان؟ لقد كان ينبغى فى هذه الحالة تجاهل هذا كله بله تصوير الأمر وكأن جميع العرب قد آمنوا بالدين الجديد من أول وهلة. ولم كذلك بقيت فى الذاكرة المسلمة أشعار سفيان بن الحارث وابن الزبعرى وكعب بن الأشرف المسيئة غاية الإساءة إلى الإسلام ورسوله والمؤمنين به؟ ولم احتفظوا بأشعار أمية بن أبى الصلت ما دام قد كفر بما أنزل على محمد، ومن بينها مثلا حائيته المهيجة لمشاعر المشركين وإشعال حقدهم على النبى ودينه ورجاله بوصفها لما وقع بالكافرين من هزيمة صاعقة مذلة فى بدر، إذ انطلق أمية كالإعصار يبكى من جُنْدِلوا فيها بحرقة لاهبة تستفز حتى الجماد وتضرم لظى الثأر فى النفوس؟ بل لماذا ذكرت الأحاديث الشريفة استماع النبى لأشعار ذلك الرجل أصلا رغم أنه، كما تقول الروايات الإسلامية نفسها، كان يتطلع إلى أن يكون هو النبى؟ لقد كان أحرى به صلى الله عليه وسلم أن يكون موقفه وموقف المسلمين معه من شعر أمية أعنف من موقفهم المزعوم تجاه قصص النضر بن الحارث، وبخاصة إذا ما وضعنا فى اعتبارنا أن قصص النضر لم تكن من إبداعه هو ولا كانت تهاجم الإسلام، على العكس من أشعار أمية. إنها مجرد قصص وأخبار للتسلية وتمضية الوقت الطويل أمام الكعبة ومنع السأم. هذا هو ما يقوله العقل والمنطق والتحليل النفسى وفهم السياق لا الذى يهرف به د. عبد الله إبراهيم المدلس الذى خدع الجامعة الخليجية إياها ومكث سنوات يقبض مرتب الأستاذ المساعد رغم أنه لم يكن سوى مدرس، ثم لم يكتف بهذا بل سال لعابه وازدادت شهوته إلى الخداع وسرقة مزيد من المال الحرام، فقدم للجامعة بعض الأبحاث السطحية للحصول على درجة الأستاذ فى لعبة، وكاد أن ينجح لولا المصادفة وكلمة قلتها عفو اللحظة لم أقصد، شَهِدَ الله، من روائها شيئا لأنى لم أكن على علم بذلك الخداع فى الأساس.
وفى الصفحة 256 يورد الكاتب حكاية تميم الدارى ولقائه للجسّاسة فى ظروف غاية فى الخطورة فى كهف فى عرض البحر، يوردها إيراد المبتهج الساخر اللامز الهامز لظنه أن الرسول قد انخدع بتلك الحكاية وكان يقرّب تميمًا إليه لهذا السبب: وهذه الحكاية منسوبة إلى فاطمة بنت قيس على أنها حديث. تقول الرواية: "صلَّيْتُ مع رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فكنتُ فى صفِّ النساءِ التى تلى ظهورَ القومِ، فلما قضى رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ صلاتَه، جلس على المنبرِ وهو يضحكُ، فقال: لِيَلْزَمْ كلُّ إنسانٍ مُصلَّاه. ثم قال: أتدرون لِمَ جمعتُكم؟ قالوا: اللهُ ورسولُه أعلمُ. قال: إنى واللهِ ما جمعتُكم لرغبةٍ ولا لرهبةٍ، ولكن جمعتُكم لأنَّ تميمًا الدَّارىّ كان رجلًا نصرانيًّا، فجاء فبايع وأسلم، وحدَّثنى حديثًا وافق الذى كنتُ أُحَدِّثكم عن المسيح ِالدجالِ. حدَّثنى أنه ركب فى سفينةٍ بحريةٍ مع ثلاثين رجلًا من لَخْمٍ وجُذامٍ، فلعب بهم المَوْجُ شهرًا فى البحرِ، ثم أَرْفَأوا إلى جزيرةٍ فى البحر ِحتى مغرب الشمسِ، فجلسوا فى أَقْرُبِ السفينةِ، فدخلوا الجزيرةَ، فلَقِيَتْهم دابَّةٌ أَهْلَبُ كثيرُ الشَّعرِ، لا يدرون ما قُبُلُه من دُبُرِه من كثرةِ الشَّعرِ، فقالوا: ويلك! ما أنت؟ فقالت: أنا الجسَّاسةُ. قالوا: وما الجسَّاسةُ؟ قالت: أيها القوم، انطلِقوا إلى هذا الرجلِ فى الديرِ، فإنه إلى خبرِكم بالأشواقِ. قال: لما سمَّت لنا رجلًا فَرِقْنا منها أن تكون شيطانةً. قال: فانطلقْنا سِراعًا حتى دخلنا الديرَ، فإذا فيه أعظمُ إنسانٍ رأيناه قطُّ خَلْقًا، وأشدُّه وثاقًا، مجموعة يداه إلى عُنُقِه، ما بين ركبتَيْه إلى كَعْبَيه بالحديدِ. قلنا: ويلك! ما أنت؟ قال: قد قدرتُم على خبرى، فأخبرونى: ما أنتم؟ قالوا: نحن أناسٌ من العربِ ركبنا فى سفينةٍ بحريةٍ، فصادفْنا البحرَ حين اغتلمَ، فلعب بنا المَوجُ شهرًا، ثم أرفَأْنا إلى جزيرتِك هذه، فجلسْنا فى أقربِها، فدخلنا الجزيرةَ، فلقيتْنا دابةٌ أهلبُ كثيرُ الشَّعْرِ لا يُدْرَى ما قُبُلُه من دُبُرِه من كثرةِ الشَّعرِ، فقلنا: ويلكِ! ما أنتِ؟ فقالت: أنا الجسَّاسةُ. قلنا: وما الجسَّاسةُ؟ قالت: اعْمِدوا إلى هذا الرجلِ فى الديرِ، فإنه إلى خبركم بالأشواقِ. فأقبلْنا إليكَ سِراعًا، وفزِعْنا منها، ولم نأمن أن تكون شيطانةً. فقال: أخبِرونى عن نخلِ بَيْسانَ. قلنا: عن أى شأنِها تستخبرُ؟ قال: أسألُكم عن نخلِها: هل يُثْمِرُ؟ قلنا له: نعم. قال: أمَا إنه يوشك ألا تُثْمِرَ. قال: أخبرونى عن بحيرةِ الطبريةِ. قلنا: عن أى شأنِها تستخبرُ؟ قال: هل فيها ماءٌ؟ قالوا: هى كثيرةُ الماءِ. قال: أما إنَّ ماءَها يوشِك أن يذهبَ. قال: أخبِرونى عن عينِ زُغَر. قالوا: عن أى شأنِها تستخْبِرُ؟ قال: هل فى العينِ ماءٌ؟ وهل يزرعُ أهلُها بماءِ العَيْنِ؟ قلنا له: نعم هى كثيرةُ الماءِ، وأهلُها يزرعون من مائِها. قال: أخبرونى عن نبى الأُمِّيِّينَ: ما فعل؟ قالوا: قد خرج من مكةَ ونزل يثربَ. قال: أَقاتَلَه العربُ؟ قلنا: نعم. قال: كيف صنع بهم؟ فأخبرناه أنه قد ظهر على مَنْ يليه من العربِ وأطاعوه. قال لهم: قد كان ذلك؟ قلنا: نعم. قال: أمَا إنَّ ذلك خيرٌ لهم أن يطيعوه، وإنى مُخْبِرُكم عنى. إنى أنا المسيحُ، وإنى أوشك أن يُؤذَنَ لى فى الخروجِ، فأخرج فأسيرُ فى الأرضِ فلا أدَعُ قريةً إلا هبطتُها فى أربعين ليلةً، غيرَ مكةَ وطَيْبَةَ، فهما مُحرَّمتانِ علىَّ كلتاهما. كلما أردتُ أن أدخل واحدةً أو واحدًا منهما استقبلَنى ملَكٌ بيدِه السَّيْفُ صَلْتًا، يَصدُّنى عنها. وإنَّ على كل نَقْبٍ منها ملائكةً يحرسونها. قالت: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وطعَن بمِخصرَتِه فى المنبرِ: "هذه طَيْبةُ، هذه طَيْبةُ، هذه طَيْبةُ!" (يعنى المدينةَ). ألا هل كنتُ حدَّثتُكم ذلك؟ فقال الناسُ: نعم. قال: فإنه أعجَبنى حديثُ تميمٍ أنه وافق الذى كنتُ أُحدِّثُكم عنه وعن المدينةِ ومكةَ. ألا إنه فى بحرِ الشام أو بحرِ اليمنِ. لا بل من قِبَلِ المشرقِ، ما هو من قبلِ المشرقِ، ما هو من قبلِ المشرقِ، ما هو. وأومأ بيده إلى المشرقِ. قالت: فحفظتُ هذا من رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ".
والقصة بديعة بلا أدنى جدال، ففيها سرد ووصف وحوار وتشويق ومغامرات، كل ذلك بأسلوب مفعم بالحيوية والحرارة. ولو أردنا أن نأخذها على حرفيتها بوصفها قصة حقيقية لأرهقناها، وإلا فهناك الأسئلة التالية: كيف يمكث أولئك المسافرون المساكين فى البحر المضطرب شهرا تائهين ثم يعودون مرة أخرى إلى بلادهم؟ فمن يا ترى دلهم على طريق العودة؟ وكيف اختزل الراوى تلك المغامرة المهلكة فى كلمتين، ولم يفصّل الأهوال التى خاضوها وهددت حياتهم بحيث كانت عودتهم حياة جديدة كتبت لهم بعد هلاك محقق؟ ترى لِمَ لَمْ يذكر الجهة التى كانوا يقصدونها، والغاية التى كانوا يَتَغَيَّوْنَها من ذلك السفر؟ وما الذى دفعهم إلى ركوب البحر المتوسط؟ وإلى أى بلد كانوا مسافرين؟ وكيف يقول تميم إن البحر الذى لجأوا إلى جزيرة فيه ولقُوا هناك المسيح الدجال هو بحر الشام، وقد قال الرسول عليه السلام ما نصه: "فإنّه أعجبنى حديث تميم أنّه وافق الذى كنت أحدثكم عنه وعن المدينة ومكة. ألا إنّه فى بحر الشام أو بحر اليمن. لا بل من قبل المشرق. ما هو من قبل المشرق. ما هو من قبل المشرق. ما هو. وأومأ بيده إلى المشرق"؟

ثم لماذا تميم الدارى وحده هو الذى حكى لنا تلك القصة؟ أين بقية الثلاثين مسافرا؟ ومن هم أصلا؟ إن أمرا مثل هذا لا يمكن أن يسكت عنه أحد ممن تورطوا فيه، ومن ثم لا يمكن أن يمر مرور الكرام فلا ترتجّ له الجزيرة العربية، إذ ليس كل يوم يضلّ الناس طريقهم فى البحر، ولمدة شهر كامل، ويُشْفُون على الهلاك ويرمى بهم الموج الهائج إلى جزيرة غريبة يرون فيها تلك العجائب الأسطورية التى يرد فيها ذكر النبى العربى زعيم الأمة وباسط سيادته على البلاد جميعا. لقد أنفق ابن جبير الأندلسى مثلا الصفحات تلو الصفحات فى وصف رحلته البحرية التى قام بها قاصدا مصر، ومنها إلى مكة بغية الحج، مع أن رحلة ابن جبير لم تكن بهذه الخطورة ولا شهد هو ومن معه شيئا من تلك الغرائب الأسطورية. لكننا ننظر فنلاحظ أن الراوى هنا لم يقف عند أى شىء من الأهوال التى عاشها وسائر الركاب سوى أنهم ضلوا طريقهم شهرا وصلوا بعده إلى الجزيرة المشار إليها ولا قال لنا كيف كانت العودة. وطبيعى أنها سوف تستغرق وقتا طويلا آخر. ثم كيف عاش أولئك المسافرون طوال ذلك الشهر فى البحر الهائج المغتلم ليلا ونهارا دون طعام وشراب، ووقتا مثله فى العودة، إذ إن أمثالهم فى سفينة كسفينتهم لا يحملون سوى طعام عدة أيام فى العادة؟ وكيف كانوا يبصرون طريقهم ليلا؟ وكيف لم تغرق السفينة بهم إلى قاع البحر فى هذا الجو الهائج المائج؟ ومن حمل ذلك المسيح إلى تلك الجزيرة وحبسه وقيده هناك بالأصفاد؟ ولماذا؟ وكيف يعيش وهو مصفَّد ومكبَّل طوال القرون والأحقاب دون طعام وشراب؟ وكيف تفاهم مع أولئك المسافرين الضالين، ولغتُه ليست لغتهم؟ بل كيف تفاهموا مع الدابة، وهى حيوان أعجم لا يعرف لغة بشرية، وفى ذات الوقت ليسوا هم سليمان بن داود؟ وماذا تفعل تلك الدابة هناك؟ لقد ورد الحديث فى سورة "النمل" عن دابة يخرجها ربنا سبحانه وتعالى من الأرض حين يقع القول على الكافرين، وقيل إن تلك الدابة هى هذه، فكيف يقول المولى سبحانه إنه سوف يخرجها من الأرض حين يقع القول على الكافرين لتقول لهم إن الناس كانوا بآيات الله لا يوقنون، فى حين أنها قد خرجت قبل ذلك وتعيش فى جزيرة فوق الأرض ولم تتطرق فى حديثها معهم إلى شىء من ذلك؟ ثم إن بعض الأحاديث تذكر بدلا من الدابة إنسانا، وبعضها تذكر امرأة على وجه التحديد.

كذلك تقول بعض الأحاديث إن المسيح الدجال يخرج من جهة المشرق، وبعضها: من خلة بين الشام والعراق، وبعضها: من خراسان. فكيف يتسق هذا وما جاء فى بعض الأحاديث من أن البحر الذى تاه فيه تميم وأصحابه هو بحر الشام، فلا هو بين الشام والعراق ولا هو فى المشرق ولا هو خراسان؟ وفى أحد أحاديث الدجال أنه سوف يتبعه عند ظهوره سبعون ألفا من يهود إصبهان. وفى حديث آخر أنه سوف يتبعه ثمانون ألفا من خوز كرمان. وفى حديث ثالث أنه سوف يخرج عند فتح القسطنطينية. وها هى ذى القسطنطينية قد فتحت منذ عدة قرون. ثم لماذا سألهم المسيح الدجال عن بحيرة طبرية ونخل بيسان وبثر زُغَر بالذات؟ أيمكن أن يتوقف حدث كونى كخروج الدجال على جفاف بحيرة محلية أو يبوس عدد من صفوف النخيل لا راحت ولا جاءت؟ وبالمناسبة فالبيرونى، فى "الجماهر فى معرفة الجواهر" يصف بحيرة زُغَر بأنها متناهية فى المرارة، أى لا تُشْرَب. وهذا يناقض ما جاء فى الرواية من أن أهلها يشربون ويسقون منها. وفى "مسالك الأبصار فى ممالك الأمصار" نجد ابن فضل الله العمرى يصف تلك البحيرة بـ"النتنة"، ذاكرا أن الناس يسمونها: "المنتنة". وفى "معجم البلدان" يخصص لها ياقوت الحموى مادة بعنوان "البحيرة المنتنة" ناعتا إياها بـ"المقلوبة" و"الملعونة"، مع التأكيد بأنها لا يُنْتَفَع منها بشىء قط وأنها منتنة الرائحة ولا يتولد فيها حيوان. ونفس الشىء يقوله النويرى فى "نهاية الأرب فى فنون الأدب".

وهل من المعقول أن تقتصر رؤية الدجال على ثلاثين شخصا فى عصر واحد بل فى وقت واحد دون البشرية جميعا فى كل العصور؟ ثم كيف تقول القصة عن المسيح الدجال إنه أجملُ البشر مع أن الرسول قد وصفه وصفا منفرا، إذ ذكر أنه أعور ناتئ حدقة العين فكأنها عنبة طافية، ومكتوب بين عينيه: "كافر"، وفى بعض الأحاديث الأخرى أنه قصيرٌ أفحجُ جعدٌ أعورُ مطموسُ العين؟ ولماذا كان يتحرق شوقا إلى تميم الدارى وأصحابه؟ أكان يعرف أنهم سيستقلون سفينة ويضلون طريقهم فى البحر ويأتون إليه؟ إذن فهو يعلم الغيب. فكيف لم يعرف إذن أن محمدا قد بُعِثَ نبيا؟ ولماذا قال كلاما طيبا فى حقه عليه الصلاة والسلام وكان يتحرق شوقا إلى معرفة ظهوره وأثنى على العرب لإيمانهم به رغم أنه، عند ظهوره، سوف يدعو إلى عكس ما دعا إليه الرسول عليه السلام بل سوف يَدَّعِى الربوبية، وستكون معه جنة ونار تناقضان جنة القرآن وناره على خط مستقيم؟

ومنذ متى كان الرسول عليه السلام يُسْتَخَفّ بهذه الطريقة لمجرد أن أحدهم ذكر شيئا يعضد صدقه وصحة دينه؟ إن رجلا مثله حَوَّل دفةَ التاريخ ومسيرتَه إلى الجهة التى يريد وعلى النحو الذى يريد، لا يمكن أن يكون بتلك الخفة لمجرد سماعه بحكاية ظريفة كهذه؟ لقد كان الإسلام قد انتشر فى بلاد العرب، ولم يعودوا محتاجين إلى من يبرهن لهم على صدقه عليه السلام. ثم ما دمنا فى الشهادات وأهميتها فهل تكفى شهادة رجل واحد فى شأن خطير كهذا الشأن؟ لقد اشترط الإسلام أربعة شهود فى الزنا، واشترط شاهدين أو شاهدا وشاهدتين فى الدَّيْن، فكيف يكتفى الرسول بشاهد واحد فى مثل ذلك الأمر، وهو أكبر وأهم وأجل من الدَّيْن والزنا بمراحل شاسعة؟ وهناك ملاحظة أخرى، وهى أنه لم يرو ذلك الحديث سوى فاطمة بنت قيس من كل من كانوا حاضرين فى المسجد ساعةَ جَمَعَهم النبى عليه السلام لينبئهم بما حدَّثه به تميم. فكيف ذلك، والموضوع من الغرابة بمكان مكين بحيث لا يمكن أن يقف إزاءه بقية الصحابة لامبالين؟ بل لماذا احتاج النبى أصلا إلى جمع الناس لإخبارهم بالأمر، وتميم قد قاله حين قدم مع قومه فى عام الوفود، أى أمام الناس المحتشدين لشهود مثل تلك اللقاءات العامة الخطيرة؟ وأخيرا فلِمَ يا ترى لم يحاول الرسول أن يرسل أحدا لاكتشاف تلك الجزيرة وإحضار ذلك الكائن العجيب الذى يعد برهانا على صحة رسالته إلى المدينة؟ وهو نفس السؤال الذى أقوله دائما كلما جاءت سيرة المهدى المنتظر واختفائه فى السرداب إياه! يا عبد الله إبراهيم، العب غيرها! واضح أنك قد أدمنت التدليس، فتراك تحتفى بتلك الحكايات الأسطورية، وبخاصة إذا ظننت أنها تسىء إلى الإسلام وإلى نبيه، الذى تتحدث عنه على أنه مدَّعٍ يصدق الخرافات ويستعين بها.

ومن المرويات التى ورد ذكرها عند الكاتب فى هذا السياق حديث ابن صياد. وقد لاحظت أن الكاتب يسارع إلى قبول كل ما يمكن أن يتخذه أداة للتقليل من صدق النبوة. وعليه أريد أن أدرس هذا الحديث هنا وأحلله. وخلاصته أنه كان هناك شخص عجيب معاصر للنبى صلَّى الله عليه وسلَّم فى المدينة كنيته ابن صياد أو ابن صائد، واسمه صافى أو عبد الله. وكان من يهود المدينة، وقيل: من الأنصار، وكان صغيرًا عند قدوم النبى صلَّى الله عليه وسلَّم إلى المدينة. وقيل إنه أسلم. وكان يتكهن أحيانًا فيصدق ويكذب. وقد انتشر خبره بين الناس، وشاع أنه الدجال. فأراد النبى صلَّى الله عليه وسلَّم أن يطّلع على أمره ويتبين حاله حسبما تقول الروايات، فكان يذهب إليه متخفيًا حتى لا يشعر به رجاء أن يسمع منه شيئًا على حين بغتة. وكان يوجه إليه بعض الأسئلة التى من شأنها الكشف عن حقيقته. وقد عاش بعد النبى صلَّى الله عليه وسلَّم ثمّ فُقِدَ يوم الحَرّة. وفى الحديث "حَدَّثَنَا عَبْدَانُ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ عَنْ يُونُسَ عَنْ الزُّهْرِى قَالَ: أَخْبَرَنِى سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِى اللَّهُ عَنْهُمَا أَخْبَرَهُ أَنَّ عُمَرَ انْطَلَقَ مَعَ النَّبِى صلَّى الله عليه وسلَّم فِى رَهْطٍ قِبَلَ ابْنِ صَيَّادٍ حَتَّى وَجَدُوهُ يَلْعَبُ مَعَ الصِّبْيَانِ عِنْدَ أُطُمِ بَنِى مَغَالَةَ، وَقَدْ قَارَبَ ابْنُ صَيَّادٍ الْحُلُمَ، فَلَمْ يَشْعُرْ حَتَّى ضَرَبَ النَّبِىُّ صلَّى الله عليه وسلَّم بِيَدِهِ ثُمَّ قَالَ لابْنِ صَيَّادٍ: تَشْهَدُ أَنِّى رَسُولُ اللَّهِ؟ فَنَظَرَ إِلَيْهِ ابْنُ صَيَّادٍ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ الأُمِّيِّينَ. فَقَالَ ابْنُ صَيَّادٍ لِلنَّبِى صلَّى الله عليه وسلَّم: أَتَشْهَدُ أَنِّى رَسُولُ اللَّهِ؟ فَرَفَضَهُ وَقَالَ: آمَنْتُ بِاللَّهِ وَبِرُسُلِهِ. فَقَالَ لَهُ: مَاذَا تَرَى؟ قَالَ ابْنُ صَيَّادٍ: يَأْتِينِى صَادِقٌ وَكَاذِبٌ. فَقَالَ النَّبِى صلَّى الله عليه وسلَّم: خُلِّطَ عَلَيْكَ الأَمْرُ. ثُمَّ قَالَ لَهُ النَّبِى صلَّى الله عليه وسلَّم: إِنِّى قَدْ خَبَأْتُ لَكَ خَبِيئًا. فَقَالَ ابْنُ صَيَّادٍ: هُوَ الدُّخُّ. فَقَالَ: اخْسَأْ، فَلَنْ تَعْدُوَ قَدْرَكَ. فَقَالَ عُمَرُ رَضِى اللَّهُ عَنْهُ: دَعْنِى يَا رَسُولَ اللَّهِ أَضْرِبْ عُنُقَهُ. فَقَالَ النَّبِى صلَّى الله عليه وسلَّم: إِنْ يَكُنْهُ فَلَنْ تُسَلَّطَ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْهُ فَلا خَيْرَ لَكَ فِى قَتْلِهِ. وَقَالَ سَالِمٌ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ رَضِى اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ: انْطَلَقَ بَعْدَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى الله عليه وسلَّم وَأُبَىّ بْنُ كَعْبٍ إِلَى النَّخْلِ الَّتِى فِيهَا ابْنُ صَيَّادٍ وَهُوَ يَخْتِلُ أَنْ يَسْمَعَ مِنْ ابْنِ صَيَّادٍ شَيْئًا قَبْلَ أَنْ يَرَاهُ ابْنُ صَيَّادٍ، فَرَآهُ النَّبِى صلَّى الله عليه وسلَّم وَهُوَ مُضْطَجِعٌ (يَعْنِى فِى قَطِيفَةٍ لَهُ فِيهَا رَمْزَةٌ أَوْ زَمْرَةٌ)، فَرَأَتْ أمُّ ابْنِ صَيّادٍ رَسُولَ اللَّهِ صلَّى الله عليه وسلَّم وَهُوَ يَتَّقِى بِجُذُوعِ النَّخْلِ، فَقَالَتْ لابْنِ صَيَّادٍ: يَا صَافِ، هَذَا مُحَمَّدٌ صلَّى الله عليه وسلَّم. فَثَارَ ابْنُ صَيَّادٍ، فَقَالَ النَّبِى صلَّى الله عليه وسلَّم: لَوْ تَرَكَتْهُ بَيَّنَ" (رواه البخارى 1355).
وقرأتُ فى موقع "الإسلام: سؤال وجواب" تعليقا على هذه الرواية ما يلى: "فى الحديث السابق الذى فيه بعض أحوال ابن صياد وامتحان النبى صلَّى الله عليه وسلَّم له ما يدل على أن النبى صلَّى الله عليه وسلَّم كان متوقفًا فى أمر ابن صياد لأنه لم يُوحَ إليه أنه الدجّال ولا غيره. وكان كثير من الصحابة يظنون أن ابن صياد هو الدجال. وكان عمر بن الخطاب رضى الله عنهما يحلف أنه الدجال بحضرة النبى صلَّى الله عليه وسلَّم وحضرة الصحابة، ولم ينكر عليه النبى صلَّى الله عليه وسلَّم ذلك. ففى الحديث عن محمد بن المنكدر قال: "رَأَيْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَحْلِفُ بِاللَّهِ أَنَّ ابْنَ الصَّائِدِ الدَّجَّالُ. قُلْتُ: تَحْلِفُ بِاللَّهِ؟ قَالَ: إِنِّى سَمِعْتُ عُمَرَ يَحْلِفُ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ النَّبِى صلَّى الله عليه وسلَّم، فَلَمْ يُنْكِرْهُ النَّبِىُّ صلَّى الله عليه وسلَّم" (رواه البخارى برقم 6808).
وقد حصلت لابن عمر قصّة عجيبة مع ابن صائد وردت فى صحيح الإمام مسلم عن نَافِعٍ قَالَ: لَقِى ابْنُ عُمَرَ ابْنَ صَائِدٍ فِى بَعْضِ طُرُقِ الْمَدِينَةِ فَقَالَ لَهُ قَوْلا أَغْضَبَهُ فَانْتَفَخَ حَتَّى مَلأَ السِّكَّةَ، فَدَخَلَ ابْنُ عُمَرَ عَلَى حَفْصَةَ وَقَدْ بَلَغَهَا، فَقَالَتْ لَهُ: رَحِمَكَ اللَّهُ! مَا أَرَدْتَ مِنْ ابْنِ صَائِدٍ؟ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلَّى الله عليه وسلَّم قَالَ: إِنَّمَا يَخْرُجُ مِنْ غَضْبَةٍ يَغْضَبُهَا؟ (صحيح مسلم 2932).
وبالرغم من ذلك فقد كان ابن صياد لما كبر يحاول الدّفاع عن نفسه ويُنكر أنه الدّجال ويُظهر تضايقه من هذه التهمة، ويحتج على ذلك بأن ما أخبر به النبى صلَّى الله عليه وسلَّم من صفات الدجال لا تنطبق عليه. ففى الحديث "عن أبى سعيد الخدرى رضى الله عنه قال: "خَرَجْنَا حُجَّاجًا أَوْ عُمَّارًا وَمَعَنَا ابْنُ صَائِدٍ، قَالَ: فَنَزَلْنَا مَنْزِلا، فَتَفَرَّقَ النَّاسُ وَبَقِيتُ أَنَا وَهُوَ، فَاسْتَوْحَشْتُ مِنْهُ وَحْشَةً شَدِيدَةً مِمَّا يُقَالُ عَلَيْهِ. قَالَ: وَجَاءَ بِمَتَاعِهِ فَوَضَعَهُ مَعَ مَتَاعِى، فَقُلْتُ: إِنَّ الْحَرَّ شَدِيدٌ، فَلَوْ وَضَعْتَهُ تَحْتَ تِلْكَ الشَّجَرَةِ. قَالَ: فَفَعَلَ. قَالَ: فَرُفِعَتْ لَنَا غَنَمٌ، فَانْطَلَقَ فَجَاءَ بِعُسٍّ (قدح كبير)، فَقَالَ: اشْرَبْ أَبَا سَعِيدٍ. فَقُلْتُ: إِنَّ الْحَرَّ شَدِيدٌ، وَاللَّبَنُ حَارٌّ (مَا بِى إِلا أَنِّى أَكْرَهُ أَنْ أَشْرَبَ عَنْ يَدِهِ أَوْ قَالَ: آخُذَ عَنْ يَدِهِ). فَقَالَ: أَبَا سَعِيدٍ، لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آخُذَ حَبْلًا فَأُعَلِّقَهُ بِشَجَرَةٍ ثُمَّ أَخْتَنِقَ مِمَّا يَقُولُ لِى النَّاسُ. يَا أَبَا سَعِيدٍ، مَنْ خَفِى عَلَيْهِ حَدِيثُ رَسُولِ اللَّهِ صلَّى الله عليه وسلَّم مَا خَفِى عَلَيْكُمْ مَعْشَرَ الأَنْصَارِ. أَلَسْتَ مِنْ أَعْلَمِ النَّاسِ بِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صلَّى الله عليه وسلَّم؟ أَلَيْسَ قَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى الله عليه وسلَّم: "هُوَ كَافِرٌ"، وَأَنَا مُسْلِمٌ؟ أَوَلَيْسَ قَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى الله عليه وسلَّم: "هُوَ عَقِيمٌ لا يُولَدُ لَهُ"، وَقَدْ تَرَكْتُ وَلَدِى بِالْمَدِينَةِ؟ أَوَلَيْسَ قَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى الله عليه وسلَّم: "لا يَدْخُلُ الْمَدِينَةَ وَلا مَكَّةَ"، وَقَدْ أَقْبَلْتُ مِنْ الْمَدِينَةِ، وَأَنَا أُرِيدُ مَكَّةَ؟ قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِى: حَتَّى كِدْتُ أَنْ أَعْذِرَهُ. ثُمَّ قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ إِنِّى لأَعْرِفُهُ وَأَعْرِفُ مَوْلِدَهُ وَأَيْنَ هُوَ الآنَ. قَالَ: قُلْتُ لَهُ: تَبًّا لَكَ سَائِرَ الْيَوْمِ" (رواه مسلم برقم 5211). وقال ابن صياد فى رواية: "أَمَا وَاللَّهِ إِنِّى لأَعْلَمُ الآنَ حَيْثُ هُوَ وَأَعْرِفُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ. وَقِيلَ لَهُ: أَيَسُرُّكَ أَنَّكَ ذَاكَ الرَّجُلُ؟ فَقَالَ: لَوْ عُرِضَ عَلَىَّ مَا كَرِهْتُ" (رواه مسلم برقم 5210).
وقد التبس على العلماء ما جاء فى ابن صياد، وأشكل عليهم أمره: فمن قائل إنه الدجال، ومنهم من يقول إنه ليس الدجال. ومع كل فريق دليله، فتضاربت أقوالهم كثيرًا. وقد اجتهد ابن حجر فى التوفيق بين هذه الأقوال فقال: "أقرب ما يجمع به بين ما تضمنه حديث تميم وكون ابن صياد هو الدجال أن الدجال بعينه هو الذى شاهده تميم موثوقا، وأن ابن صياد هو شيطان تبدّى فى صورة الدجال فى تلك المدة إلى أن توجه إلى أصبهان فاستتر مع قرينه إلى أن تجىء المدة التى قدّر الله تعالى خروجه فيها" (فتح البارى 13 / 328 ). وقيل إنّ ابن صياد هو دجّال من الدّجاجلة وليس هو الدّجال الأكبر. والله تعالى أعلم".
هذا ما قرأته فى الموقع المذكور. ولكن هل يعقل أن يظن النبى مجرد ظن ولو عابرا أن ابن صياد هو المسيح الدجال؟ إن هذا لو صح وقوعه من النبى عليه السلام لكان تكذيبا للنبوءات التى تنبأها عليه السلام فيما يتعلق بانتصار الإسلام وانتشاره فى العالم أجمع وفتح القسطنطينية وحرب المسلمين لليهود فى آخر الزمان... إلخ. ذلك أنه لو كان هذا العَيِّل المسمى: "ابن صياد" هو المسيح الدجال فمعنى هذا أن القيامة ستقوم بعد قليل، إذ مجىء المسيح الدجال مقترن بالساعة. ثم هل يعقل أيضا أن "عيلا" صغيرا يلعب فى الشوارع والحوارى مع أمثاله من العيال الصغار يمكن أن يشغل النبى كما تقول الروايات الخاصة به، والنبى صلَّى الله عليه وسلَّم قد قلم أظفار كبار اليهود بل قلم رقابهم ولم يأخذوا معه غلوة واحدة، كما قضى على الكهانة والكهان إلى أبد الآبدين، ولم يستعص عليه واحد منهم؟ ثم هل يمكن أن يكون المسيح الدجال ولدا صغير لم يبلغ الحلم بعد؟ وهل هناك من ينزل من بطن أمه مختونا حسبما جاء فى بعض الروايات؟ ولماذا ينزل ابن صياد مختونا دون سائر البشر؟ والعجيب أن ابن صياد لا تنطبق عليه علامات المسيح الدجال، فلم يكن ابن صياد أعور لا العين اليمنى ولا العين اليسرى، ولا العينين الاثنتين كما قال لى طبيب شاب ذات مرة، فضحكت من كلامه. وبالمثل لم يكن مكتوبا بين عينى ابن صياد كلمة "كافر" كما تقول الروايات. كما أن المسيح الدجال يزعم الألوهية وتكون معه جنة ونار يفتن بهما الناس، ولم يحدث ان ادعى ابن صياد الألوهية ولا زعم مجرد زعم أن معه جنة ونارا. وماذا نصنع بتفسير قوله "برؤية عرش على الماء بأنه يرى إبليس" فى حين أن القرآن قد جعل عرش الله على الماء قبل خلق العالم حسبما جاء فى سورة "هود"؟
ثم لو كان ابن صياد كاهنا فمنذ متى كان النبى قبل فتحِ مكة وأمْرِه بهدم طواغيت الوثنية يذهب للكهان يستطلع طلعهم؟ كذلك فعجيب أن يدَّعى ابن صياد أنه رسول الله، وهو غلام صغير، وكأن النبوة شغل عيال. ولو كان دجالا فكيف قال إنه يأتيه صادق وكاذب، والدجاجلة لا يرضون بنسبة الكذب إلى شياطينهم أبدا، بل يجعلونهم كلهم صادقين لا يمكنهم أن يخبروهم بشىء كاذب؟ ثم من أين لابن صياد الكهانة؟ وهل يمكن أن يكون الكهان عيالا صغارا؟ وما المعبد الذى كان يقوم عليه ويقصده الناس فيه؟ ولماذا يا ترى يختبر النبى ابن صياد فيخبئ له خبيئا فى نفسه كما كان يفعل الوثنيون فى الجاهلية مع كهانهم حين يقصدونهم للسؤال عن شىء مسروق أو عن عِرْض فلانة أو علانة ممن اتهمن بالزنا؟ إن معنى هذا أنه عليه السلام يريد أن يختبره ويعرف أنه صادق فى تكهنه أو لا. ترى أَوَلَوِ استطاع معرفة ذلك الخبىء أكان النبى يؤمن به ويصدقه كما يقتضى الأمر فى مثل تلك الأحوال؟ الله أكبر. إن هذا لكلام فى غاية الخطورة. والعجيب أن ابن صياد استطاع أن يعرف ما خبأه له رسول الله، فلماذا يظل النبى يعيب ابن صياد؟ أكانت تخبئة النبى له "الدخان" تضييع وقت وعبثا من عبث العابثين؟ نعيذ النبى عليه السلام أن يكون من العابثين مضيعى الوقت فى السخافات والتفاهات؟ وإذا كان ابن صياد قد اعتنق الإسلام فلم كل تلك الروايات عن كهانته ودجله والحيرة بشأنه؟ كذلك فإن كلام الروايات عن أن ابن صياد حين غضب انتفخ حتى ملأ السكة فى المدينة كديدنه حين يغلبه الغضب هو كلام مضحك لا يليق بالصحابة الذين نسبت إليهم تلك الروايات. وأعجب من ذلك كله أن الروايات تقول إن المسلمين رغم دخول ابن صياد فى الإسلام ظلوا يعتقدون أنه المسيح الدجال حتى لقد فكر فى الانتحار والتخلص من هذه الشائعة المسيئة؟ يعنى: عنزة ولو طارت! إن فى هذا تصويرا للمسلمين على أنهم سذج لا عقل عندهم ولا يفكرون، ومن السهل الميسور الضحك عليهم وخداعهم.
ومن العجيب أشد العجب أن يؤكد عبد الله بن عمر فى أحد الأحاديث أن المسيح الدجال إنما يكون من يهود أصبهان: "عن عبد الله بن عمر وحذيفة بن اليمان: يَخرُجُ المَسيحُ الدَّجّالُ مِن يَهوديَّةِ أصفَهانَ"، وأن نسمع فى حديث آخر "عن عبد الله بن عمر: واللهِ ما أشُكُّ أنَّ المَسِيحَ الدَّجّالَ ابنُ صَيّاد" لأنه إذا كان المسيح الدجال من يهود أصبهان، وكان ابن صياد من يهود المدينة، فإنه لا يمكن أن يكون هو المسيح الدجال كما يقول العقل والمنطق. ثم كيف يقسم عمر بن الخطاب أن ابن صياد هو الدجال فلا ينكر عليه النبى ذلك بما يفيد أنه فعلا هو المسيح الدجال ثم يتضح رغم هذا أنه ليس المسيح الدجال؟ فهذا هو موضوع ابن صياد ورأيى فى مدى مصداقية الروايات التى أتتنا عنه.
وفى الفصل الثامن يعود المؤلف إلى موضوع أكثر الكلام فيه من قبل، وهو انهيار مكانة القصاص، الذى يعزوه إلى علة أدبية. أى أن المسلمين صاروا يكرهون القصص كنوع أدبى. وقد رددنا عليه من قبل فلا لزوم لإعادة القول فيه كرة أخرى، وبخاصة أن الروايات التى أوردها لتعضيد تعليله لهذا التطور تشير بكل قوة إلى ما سبق أن وضحناه، وهو أن القصاص أدخلوا فى الدين الخرافات التى لا يقبلها العقل والمبالغات فى تصوير هذه الشخصية أو تلك من العلماء أو المتصوفة وما إلى ذلك وفى الحديث عن نعيم الجنة بحيث خضع فهم الدين إلى مقاييس عامية تند عن كل عقل ومنطق، وإلا فكما وضحنا آنفا قد عرف الإسلام القصص الدنيوى الذى لا علاقة له بالوعظ والإرشاد والنصوص القرآنية والحديثية، بل يتغيا فيه الكاتب التثقيف السياسى أو التعمق بالقراء فى فهم الحياة وتصوير بعض الطوائف التى تعتمد فى تحصيل معاشها على الخداع والادعاء الكاذب مثل البخلاء ومدعى العلم والمتشددين فى فهم الدين وتطبيقه والشحاذين واللصوص ومتصنعى الورع على سبيل المثال. رأينا ذلك فى "كليلة ودمنة" و"رسالة النمر والثعلب" وحكايات الجاحظ فى "البخلاء" و"الحيوان"... إلخ. وهو ما يصدق على القصص الشعرى أيضا كما سبق بيانه.
وفى هذا السياق يورد عبد الله إبراهيم حكاية رفض أم أبى حنيفة الأخذ بفتوى أفتاها بها وفضلت سؤال واحد من تلاميذه، مما أثار استعجاب هذا التلميذ. لقد وضع الكاتب هذه الحكاية فى إطار الصراع بين القاص والفقيه مع أنها واضحة الدلالة على المثل القائل: "لا كرامة لنبى فى وطنه" أو "زامر الحى لا يُطْرِب"، وعلى أن الأم تظل تنظر إلى ابنها على أنه ولد صغير لا يؤخذ كلامه مأخذ الجد حتى لو كانت فى أعماقها تفخر بتبجيل الناس له واحترامهم علمه. ومثله موقف الأبناء من أبيهم. فهم، حتى لو كان أعلم العلماء، لا يهتمون فى الغالب بتتبع كتاباته والاجتهاد فى التعلم منه. إنه بالنسبة إليهم مجرد أب، وكل ما ينتظرونه منه إمدادهم بالمال والطعام الفخم والملابس الغالية وما إلى ذلك، وإذا حدث أن ثار بأحدهم فسرعان ما ينسى الابن كل أيادى أبيه عليه ويغاضبه ويرى أنه مقصر فى حقه أيما تقصير. وكثير من الزوجات ينطبق هذا عليهن. وكلنا نردد حكاية سقراط مع زوجته، إذ كانت تهينه وهو منهمك فى تعليم حوارييه فى الأماكن العامة أعقد قضايا الفكر والفلسفة وترى أنه لا يؤدى عملا مفيدا يدر عليه مالا يتعيش به هو وأسرته بل يضيع وقته فى التفاهات.
وفى ذات الفصل وتحت عنوان جانبى هو "فساد القصاص" يتحث صاحبنا عن أسرة الرقاشى الفارسية الأصل والتى كان عميدها من خطباء كسرى، ويذكر منهك عبد الصمد الرقاشى، الذى يقول عنه إنه كان يذهل الجاحظ وعامة البصريين لأنه يضمّن قصصه معلومات تفصيلية فى الاعتبار بخلق الكائنات حتى لقد استغرق حديثه عن خلق البعوضة ثلاثة مجالس قصصية تامة، إذ رأى أبو عثمان فى ذلك ميزة متفردة من قاص استطاع تخصيص ثلاثة مجالس لخلق البعوضة لأن استعراض المعلومات كان من تقاليد التفوق، فقد كان الجمهور مفتونا بالتوسع والإغراق فى التفاصيل ويهيم بالتخيلات (ص299).
وكل ما قاله عبد الله إبراهيم تدليس فى تدليس: فالجاحظ لا يقصد بالقصص ما نعرفه الآن بالفن القصصى بل الخطابة، فهو يقول فى هذا السياق عن عبد الصمد هذا والفضل أبيه ما نصه: "والفضلُ هو الذى يقول فى قصصه: سَلِ الأرض فقل: من شَقَّ أنهارَكِ، وغَرس أشجارَك، وجنَى ثمارَك؟ فإنْ لم تُجِبْك حِوارًا، أجابتك اعتبارًا. وكان عبدُ الصمد بنُ الفَضْل أغزَرَ من أبيه وأعجَبَ وأبْيَنَ وأخطب. وقال: وحدّثنى أبو جعفرٍ الصُّوفى القاصُّ قال: تكلّم عبدُ الصمد فى خَلْق البعوضة وفى جميع شأنها ثلاثَة مجالسَ تامّة، قال: وكان يزيدُ بن أبان، عمُّ الفضل بن عيسى بن أبان الرَّقاشى، من أصحاب أنَسٍ والحسَن، وكان يتكلّم فى مجلسِ الحسَن، وكان زاهدًا عابدًا، وعالمًا فاضلًا، وكان خطيبًا، وكان قاصًّا مُجيدًا. قال أبو عبيدة: كان أبوهم خطيبًا، وكذلك جدُّهم، وكانواخطباءَ الأكاسرة. فلما سُبُوا ووُلِد لهم الأولادُ فى بلاد الإسلام وفى جزيرة العرب نَزَعهم ذلك العِرْق، فقاموا فى أهل هذه اللغة كمَقَامهم فى أهل تلك اللُّغة، وفيهم شِعر وخُطَب، وما زالوا كذلك حَتَّى أصهرَ إليهمُ الغُرَباء ففَسد ذلكَ العِرْقُ ودخله الخَوَرُ".
بل لقد أغنانا عبد الله إبراهيم نفسه عن الاحتراز فى تفسير كلام ابن الجوزى الذى يصور موقفه من القص، إذ قال إن المرويات القصصية الموجهة للعامة مشحونة بالإسرائيليات أو بأخبار أقوام مشوا على الماء أو خرجوا إلى الصحارى دون التزود بماء أو طعام. وكان ينبغى أن يضع صاحبنا هذا الكلام نصب عينيه وهو يتكلم عن موقف ابن الجوزى من هذا الفن ويعرف أنه ليس موقفا مبدئيا تجاهه بإطلاق بل بنوع خاص منه يرسخ ثقافة الخرافات الدينية والنزعات غير العقلانية. وهو ما لم يفعله، مما يشير إلى أنه ليس بين أفكاره ترابط، فهو يقول الشىء هنا ثم يقول ما يناقضه فى مكان آخر غير بعيد. لكنه كعادته لا يترك سانحة دون أن يفترصها فى الإساءة إلى الإسلام، إذ هو فى أثناء حديثه عن موضوع القصص الشعبى ينحرف فجأة إلى ما قاله المستشرق الأوكرانى الأمريكى ياروسلاف ستيتكفييتش موردا إياه إيراد المصدق به، وهو أن كثيرا من "القدحات السردية فى القرآن وما تتضمنه من ممكنات ذات تكوين أسطورى أو قصصى" كانت أساسا مغريا وثمينا لتكوين قصص متماسكة تمتزج بها مواد خرافية كثيرة التداخل (ص304).
ومن البين الواضح تمام الوضوح أن المقصود بالقص هنا ليس الفن القصصى بل الخطابة والحديث إلى الآخرين، وإلا فهل ما قاله عبد الصمد فى البعوضة يدخل فى ميدان القصص بحال؟ وقد رأينا كيف ذكر الجاحظ أن عبد الصمد قد عقد ثلاثة مجالس للحديث عن خلق البعوضة، فجعلها عبد الله إبراهيم ثلاثة مجالس قصصية تامة. ومع هذا يعود فيقول إن ما صنعه عبد الصمد استعراض معلومات وإغراق فى التفاصيل يهيم بهما الجمهور فى ذلك الوقت، ليعود فيقول إن هذا الجمهور كان مشغوفا بالتخيلات. فأين القصص هنا؟ وأين التخيلات؟
ثم إن الجاحظ إنما يتحدث عن براعة الرقاشيين فى الخطابة منذ أيام كسرى قبل سبيهم واعتناقهم الإسلام وبقائهم على هذه البراعة إلى أن أصهر إليهم الغرباء، فحينئذ تخلت عنهم براعتهم. لكن د. عبد الله إبراهيم جعل براعتهم فى الخطابة براعة فى القص رغم نص الجاحظ نصا واضحا على براعتهم فى الشعر والخطب. كذلك لم يقل الجاحظ إن براعتهم فى الخطابة قد فسدت لإصهار القصاصين الأدعياء غير البارعين إليهم بل لإصهار الغرباء، أى من ليسوا رقاشيين، إليهم.
ويستمر الكاتب فى توهم معانٍ لما يقرؤه ليس لها فى خارج ذهنه وجود قائلا إن المتخيلات السردية (أى القصص الفنى لا الأخبار التاريخية) دُفِعَتْ إلى الخلف وانتشرت فى أوساط العامة حيث انحدرت إلى عالم الحضيض والمرويات المدنسة بالفحش والركاكة والإباحية وتحررت من التفسير النمطى المغلق للدين، فوصفت بالدونية، وصار عندنا ثنائية العامة والخاصة، وهى الثنائية التى تحرص عليها المجتمعات التقليدية. والعجيب أنه بعدما أكد لنا أن الفن القصصى كله كان محتقرا فى المجتمعات الإسلامية انقلب على نفسه وقال إنه كانت هناك قصص للخاصة، وأخرى للعامة. وقد ذكر ضمن الأخيرة المرويات الإسرائيلية، التى تقابلنا فى تواريخ الطبرى والمقدسى والمسعودى وابن الأثير... ناسيا أنه قبل قليل قد ذكر أن هؤلاء العلماء كانوا يحقرون قصص العامة ويترفعون عنها. ليس ذلك فقط بل إنه يتهم القرآن بامتصاصه الأساطير والخرافات من هنا وهاهنا، ثم يستدير فى نفس الفقرة قائلا إن الخاصة كانوا يرون فى آداب العامة ملهاة عن الدين وترهات وأباطيل وهذيانات.
وعجيب أن يكتب إنسان عنده شىء من الفهم أن انقسام المجتمع إلى خاصة وعامة هو شىء محصور فى المجتمعات التقليدية، وكأن المجتمعات الأخرى مكونة من طبقة واحدة متساوية فى الكسب والثقافة والذوق والفن والأدب يأكلون من صحن واحد ويفكرون بطريقة واحدة ويتحدثون بمستوى لغوى واحد. إن كل المجتمعات تنقس هذا الانقسام وأزيد من ذلك، وهذه سنة الله، ولن تجد لسنةالله تبديلا. لكن بعض الناس حين يتكلم أو يكتب يخلع عقله وينطلق مع الخيالات التى لا يعرفها الواقع ظانا أنه يكفى أن يفكر فى شىء تفكيرا نظريا فيكون هذا التفكير النظرى هو الواقع الذى لا يقبل نقضا ولا إبراما. وعجيب أيضا أن يجعل الكاتب من قبول الإسرائيليات خصيصة من خصائص العوام مع أن كبار المفسرين القدامى لم ينجوا من إيرادها فى كتبهم. وعجيب للمرة الثالثة أن يفرد للحديث عن موقف ابن الجوزى الرافض لقصص العوام عدة صفحات بسط فيها شروطه المتشددة فى وجوب مراعاة أوامر الدين ونواهيه عند القص والحرص على صحة ما يروى من الأخبار رغم أن فيما كتبه ابن الجوزى نفسه عن النساء والحمقى والمغفلين ما فيه من التحرر من كثير من هذه القيود الصعبة بما يفهم منه بكل وضوح أن المقصود هو قصص الوعظ والإرشاد.
وقد أغنانا ابن الجوزى عن تخمين ما يريد من القص، إذ هاجم من يرددون ما فى العهد القديم من طوامّ عقدية وخلقية تنسب إلى أنبياء الله ورسله مثل ما يقال فيه عن داود وبَتْشَبَع امرأة قائده الحربى وجاره فى المسكن أوريا الحثى وتآمره عليه وتخلصه منه لتكون زوجته خالصة له بعدما شاهدها عارية وهى تستحم فى فناء دارها وأرسل يستدعيها وزنى بها، أو ما يقوله البعض من أن هَمَّ يوسف بامرأة العزيز المذكور فى القرآن معناه أنه حل تكّة سراويله وقعد منها مقعد زوجها معها فى الفراش لولا أن الله قد صده عن ذلك. والدليل على ما أقول هو أن ابن الجوزى فى "المدهش" مثلا غير ابن الجوزى فى "أخبار الحمقى والمغفلين" و"أخبار النساء" حيث نجده يأخذ راحته فى القص المضحك والخارج على بعض الحدود فى اللفظ أو المعنى أو فى الأمرين جميعا. وإذن فكلام ابن الجوزى، على النحو الذى أورده عبد الله إبراهيم، مضلل لأنه يوهم أن موقفه المتنطس من القص هو موقف مبدئى من ذلك الفن بكل أنواعه لا بما يتعلق منه بالدين فقط وأنه لم يتزحزح عن ذلك الموقف بتاتا. وهذا غير صحيح.
ويكفى ما تقدم من ملاحظات لم أرد بها استقصاء كل ما هو مَعِيبٌ فى الكتاب بل أردت أن أركز على عينة منه يستطيع القراء اتخاذها دليلا للإبحار بعقل واعج فى سائر الموسوعة. وعلى رأى أبو نضال (أسامة فوزى صاحب جريدة "عرب تايمز" بأمريكا) فى آخر كل حلقة مشباكيّة من أخبار المقاومة فى غزة وتحليل وقائعها: وبِيْكَفِّى. وطاااااخ!

































]]>
منتدى الدكتور إبراهيم عوض إبراهيم عوض https://wata.cc/forums/showthread.php?109644-%D8%B9%D8%A8%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D9%84%D9%87-%D8%A5%D8%A8%D8%B1%D8%A7%D9%87%D9%8A%D9%85-%D9%88%D9%85%D9%88%D8%B3%D9%88%D8%B9%D8%AA%D9%87-%D9%81%D9%89-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D8%B1%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A8%D9%89