خروف العيد
حدثني الصديق الصدوق قال: اتفق أن نزلت يوما إلى السوق لبيع بعض الخضار، فبينا أنا في جلبة الزبائن إذ مر بي بدوي يحمل حملا بين ذراعيه وصادف أن التفت إلي ذلك الحمل فرشقني بنظرة عميقة لا يُفهم سرها ولا يُدرك معناها، وقذف الله في قلبي حبه، فتركت بضاعتي ولحقت به ولم يهنأ لي خاطر حتى ابتعته منه ولم يكن العيد قد اقترب ففكرت أن يكون أضحية.
عدت به إلى البيت غير مجهد لقلة وزنه وقد اكتفيت به في القفة دون مؤونة الأسبوع. حضر الصغار و أمهم لمشاهدة هذا الحمل الوديع فما نظر إليه فرد منهم إلا لان له وحنّ، كانت تلك النظرة العميقة كافية لبث السكن في قلوب من يرونه. قرّبنا مربضه منا و أبعدناه عن مربط الكلب خشية أن يصيبه بسوء، لكن أنس الصغار إليه جعل حريته أطول من قيده، يتجولون به في المزرعة فلا رأوه يقرب خضارا في زرعه ولا فاكهة في شجرها ولم يبادر مرة إلى الهرب رغم سهوهم عن تقييده حتى اعتدنا حل وثاقه، وبطول الوقت نزعنا طوقه وفككنا عقاله فصار مثلنا في حرية التنقل، فأما طعامه فغاية في العجب لم نر مثله فما قدمنا له حشيشا أو برسيما أو علفا مركبا أو خبزا جافا إلا عافه وما نقدمه له من طعامنا يأكله بشراهة حتى عاد بعد فترة يجالسنا ويأكل في صحن مثلنا فلا ينثر ولا يسيل ولا يلطخ ما حوله، وهذا ما جعل الكل يوقره ويجله وهيأ له الله من القلوب حبا ورحمة فصار ينام في الغرفة اتقاء البرد والحرّ ورغبة منا في التودد إليه، إذ كان لا يترك في مرقده بعرا، و إذا ألجأته الحاجة طرق الباب وتوارى عنا خلف صيرة الدواب. واقترب عيد الإضحى وقد أضحى خروفا سمينا تطمع فيه العين ويشفق عليه القلب، إما هو فكان في همّ وكدر مضاعف لا يتكلم ولا يطعَم، حتى قدمت ليلة العيد وقد عزمت بيني وبين نفسي أن أجعله أضحية لقلة مال وضيق حال، سهرنا تلك الليلة صامتين، وخلا كل إلى مرقده إلاّه فقد ظل يذرع الفناء، كنا نسمعه ينقر الأرض برجليه، واقترب الفجر فأفقت على بكاء وأنين فخلته أحد أبنائي وتبيّنت الأمر فإذا الصوت يصدر من خارج البيت عند الصيرة، اقتربت فرأيت ذلك الخروف وقد أجهش ببكاء إنساني شجي أسال دمعي، وخبا غدري فحننت عليه وربتّ على كتفيه ومسحت على صوفه اللين، ورأيته يرفع إليّ عينين امتلأتا وما حدث بعد ذلك أذهلني حدّ الغياب، لقد نطق كما ينطق الإنسان وقال : لقد اشترى الجميع أضاحيهم إلا نحن يا أبي...
