"بيتر" رحمه الله
حدثني الصديق الصدوق قال: جاءتني يوما إلى مكتبي سيدّة في الأربعين تطلب لآلامها شفاء، وبعد جلسة أولى تبيّنتُ مصابها، لقد توفّي صغيرها بحادث سير وترك فيها رحيله جرحا يعسر أن يندمل، قالت "أنا طبيبة بيطريّة علّمتني المهنة المنح، وقد رفقت بالحيوان فعالجت منه المشرّد وشفيتُ جراح المصاب، لكنني أفقت على رغبة في الاستمرار وكان "بيتر" كلّ ما يمكنني الحصول عليه لأستمر، وفجأة رحل"، لن أنسى عينيها المليئتين بدموع حارّة وتهدّج صوتها إذ تذكره وحسرتها، فما زلت بها حتى سرّيت عنها وأقنعتها أن تتبنّى طفلا يعينها على تخطّي أزمتها، ووجّهتها إلى وكالة تعمل في البنجاب، أتممنا الإجراءات الإدارية لدى صديقة تعمل أخصّائيّة اجتماعيّة، لقد حدّدتْ لها ما تحتاج إليه من الوثائق والعقود والالتزامات، وبعد شهر مرهق سافرتْ فيه المسكينة مرّتين إلى البنجاب كان طفل يتيم لقيط بين يديها، ولأنّني طبيبها فلقد تعهّدتها بالإرشاد والتفّقد. وأعلمتها الأخصائيّة بجدول لمواعيد ستجمعنا مع الأسرة الجديدة في بيتها.
قالت: ما رأيك لو أدعوه "بيتر".
قلت: هذا اسم مناسب لولد سيعيد الفرح إلى القلب.
كانت المرأة المسكينة تسبغ عليه من نعم الأمومة ما لا يتخيّله إنسان فتطيل حضنه وتتفقّد أدويته و مواعيد تطعيمه بنفسها، وتمنع خادمة البيت لمسه، وربما منحته من العطف والدّلال ما يتجاوز حنان الأمّ، وفي ذلك لا تعدم لمسة البيطريّة، إذ كانت تلبسه معاطف حبيبة إلى النّفس بها صور لكلاب أو لها من أغطية الرأس ما يحاكي رؤوس الدببة والكلاب والسّنانير والأرانب، وطوال نومه تفتح جهاز التّسجيل على صوت هادئ طبيعيّ تسمع منه همسا خرير المياه وزقزقة العصافير و حفيف الأشجار، فكنت تدخل الصّالون فيخالجك شعور بالنفاذ إلى سهل رطيب، وتقول: "لا يجب أن ينسى المرء انتماءه". وعشرتها له ألفة و أنس فما كاد يحبو حتى علّمته السّعي وراء الكرة الصّغيرة، و البحث عنها وراء الأرائك وكانت تعلّمه من صنوف الفعل ما يجعل المرء يضحك، حتى كان ذات يوم وقد كان لنا موعد مع الأخصّائيّة الاجتماعيّة في بيتها. طرقت الباب، فبرزت إليّ الخادمة
- صباح النّور هل السّيّدة هنا؟
- أجل إنّها في انتظارك ستأتي حالا.
- هل وصلت الأخصّائيّة الاجتماعيّة؟
- ليس بعد، تفضّل رجاء.
دخلت الصالون، وغابت الخادمة لتدعو سيدتها، جلت بالمكان وتوغّلت إلى مجلس فرعيّ يطل على الحديقة وتحيطه السّتائر، كان المجلس رائعا يتخلله النور من نافذة اتّخذت لي مجلسا فواجهتني لوحة زيتيّة لكلب ألمانيّ أقعى على سجّاد فاخر وانتثرت حوله كرات ملوّنة يحجم كرة التّنس. لبثت أتأمّل دقّة الرّسّام الذي لم يغفل التّفاصيل، وقفت ورحت أمرّر يدي على اللوحة أتحسّس طلاءها و إطارها المذهّب، كانت السّيّدة تقف ورائي ولم تنبّهني إلى وجودها إلا يدها تربّت على كتفي برفق، التفتّ وكاد يغمى عليّ من هول ما رأيت.
كان "بيتر" بالكاد يقف على رجليه و قد أوثقت رقبته بطوق تدلى منه شريط جلدي جعلتْ نهايته في يدها، لم أستطع الكلام، في حين قالت هي:
- صباح النّور دكتور، هل أعجبتك اللوحة؟ إنها لـبيتر رحمه الله قبل وفاته في الحادث الأليم.