أين ذهب فاء الثلاثين ؟ قراءة في قصيدة رفعتك في الفؤاد..

كتب الشاعر:مجدوب المشراوي:
رفعْتُكَ في الفؤاد وأنت حولي = لتعرفَ كم تسوّرَنِي المخيف
ُ 2/لتعرف َ من ْ تسمَّرَ من قديم ٍ = لتعرفَ أينَ أوجعنِي السّخيف
ُ 3/أ ُعيدُكَ في سراب ٍ ما أراه ُ = تجمَّعَ أو تَحَمّله ُ الهفيف ُ
4/توارى في تمائم ِ من ْ تفانَوا = نظيف ٌ ليس َ يجهله ُ النّظيف ُ
5/وأرّقنِي وقد سبَحت ْ خيوطي =بيانُك َ حينَ هذّبهُ الطّريف ُ
6/سأعشق ُ كل ّ قافية ٍ تنامتْ = وما أخفى مفاتنها الشريف
7/ ُتقاتل ُ في الشتاء بذور نفسي = ويرفعها إلى الأعلى الخريف
8/لأني أحمل ُ الأشجار َ وحدي = ويسرع ُ في مجابهتي الحفيف
ُ 9/أ ُلحّن ُ كل ّ شِبْر ٍ من ْ شجونِي = ويَسمن ُ في مرابعنا النّحيف
.................................................. .
بعد قراءة أولى ..وثانية..وثالثة..سألت النص:
أين ذهبت فاء الثلاثين ؟
السؤال مستفز،ما في ذلك شك..يسأل عن مبهم..ويبحث عن غريب..
لا أنكر ذلك،ولا أنفيه..لكنها الحقيقة التي وصلت إليها من خلال عدة قراءات للنص..وتطلعي إلى ما وراء النص،موسيقيا..لأن الروي[الفاء] ملفت للانتباه،واستعماله ليس سهلا،وليس بريئا..خاصة إذا كان النص يحمل عناصر الجمال ،ولا يتجاوز القاريء إلى قضايا قد يتركها معلقة دون إجابة شافية[من طرف واحد]لأني لا أبحث عن شاعر يقنعني بما يقول،لكني أبحث عن نص أجد فيه ما أقول،أو ما كان يمكنني أن أقول..
هذا النص:
لماذا كان الفاء رويا ؟بل لماذا تكررحرف الفاء في النص حتى غدا نصا فائيا..؟
ماهي سمة هذا الحرف صوتيا؟وما قيمته في المعنى؟بل ماذا أضاف إلى النص ؟
لنتتبع البناء الهندسي :
في البيت الأول خمسة فاءات.. مدخل ملغم ..
وفي الثاني ثلاثة تداولتها ثنائية بنقيض:معرفة/سخافة،وإن شئت[في معرفة السخافة]
وفي البيت الثالث ثلاثة استحوذت اثنين منها كلمة القافية[هفيف]ثم يرتقي الصوت المتأفف ليعود إلى سابق عهده
في البيت الرابع:أربعة فاءات:[التفاني/النظيف]
وفي البيت الخامس اكتفى بواحدة كانت رويا..ثم يعود إلى سابق عهده في هندسة النص،وموسيقاه الداخلية..
ففي البيت السادس يأتي بأربعة فاءات كاملات [إخفاء مفاتن القافية الشريفة]
وفي البيت السابع أربعة فاءات [رفعة النفس في الخريف]..........دلالة على تقدم العمر........
وفي البيت الثامن نزل درجة،فتكررت ثلاث مرات وقد استحوذت كلمة القافية على اثنين منها[ الحفيف..]
وفي البيت التاسع إحساس بالثقل،والتعب،فيتوقف عن تكرار الفاء في موسيقى النص الداخلية..[ في النحيف..]
نلاحظ التنوع في استعمالها ،مع ملاحظة الإستعمال الدقيق عندما تتكرر ثلاثة مرات..
بحيث تكررت في بيتين ..وبالطريقة ذاتها
وبشكل واحد كذلك:فاء في الشطر الأول ،وفاءان في الشطر الثاني..
وهو ما لم يفعله مع تكرارها أكثر من ذلك في البيتين: الرابع والسابع تساوت بين الشطرين،ولم يفعل ذلك في البيت السادس..واحدة في الشطر الأول ،وثلاثة في الشطر الثاني..
ولي أن أسأل عن العدد ثلاثة في النص:
فالقصيدة من تسعة أبيات،وهو مكرر العدد ثلاثة..
ومجموع الفاءات في النص تسعة وعشرون فاءً ..وأرى أن الفاء الناقصة تكمن في كلمة [توارى]والأفضل:تفانى]لتتعمق الدلالة أكثر..
فالتفاني ليس كالمواراة..خاصة وأن كلمة من تفانوا التي تشاركها المكان، تزيد المعنى عمقا..
يلاحظ الرقم ثلاثة في تكرار الحرف،أو عدد الأبيات،أو ترتيبه بين الأشطر عندما يكون أربعة مثلا..
ففي [الجواهر اللماعة] [للمرزوقي] (1) نجد الفاء يقابل الرقم ثلاثة ويأتي في الرتبة الثالثة كذلك..
ويذكر ابن خلدون "أن أهل التّصرّف من المتصوّفة،زعموا أن الكمال الأسمائي مظاهره أرواح الأفلاك والكواكب وأنّ طبائع الحروف وأسرارها سارية في الأسماء فهي سارية في الأكوان على هذا النظام" (2)
هذا هو الجواب عن سؤالي الأول:أين ذهبت فاء الثلاثين؟
فالفاء حرف شفوي ..وتكراره يوحي بالتأفف..والضجر والضيق..فأين كل ذلك في القصيدة؟
النص يحوي نفسا شريفة مترفعة عن الدنايا..بلغت خريف العمر ،وسمت بأخلاقها عن الرزايا..[ويرفعها إلى الأعلى الخريف]..وقد أثمرت خيرا،ولم تألُ جهدا في العطاء المستمر ،والخير العميم.[أحمل الأشجار وحدي]..ثم مواجهة الصعاب..وما يتسرب إلى طيات النفس ليثنيها عن الخير،فلا ترجع،ولا تخنع..ليستمر العطاء العميم الذي يلحق الجميع[ويسمن في مرابعنا النحيف]..
وإن كان التأويل يوحي بعودة الضمير على القصيدة،فما أجمل أن تكون النفس في جمال القصيدة!
وقديما قال المتنبي:
وإذا كانت النفوس كبارا....تعبت في مرادها الأجسام..
كذلك يوحي لنا النص بهذا موزعا بين أكثر من بيت..[4/6/7/8/9]..
وقد ارتبطت ببعض المفردات الدالة على الخير والإيجاب،كـ:نظيف ..شريف..
وأما الهفيف فما كان ضامرا،فارغ المحتوى..ربما لمناسبة المعنى المحتوى في [سراب]
ولأن القصيدة هندسة معمارية،لا يحسن التصميم،والتنفيذ إلا من ملك ملكة قوية،وقدرة على القول الجميل..وأحسب هذا النص من القول الجميل..وأعدّه منه بكل فخر واعتزاز..
ما قيمة الفاء في المعنى؟
لنأخذ بعض المفردات المحتواة على الفاء..[وأكتفي بالوقوف على المدخل..]
الكلمة الأولى[رفعتك..]لو غيرناها بمفردة:[حملتك..]ما الذي يتغير؟ وما الفرق بينهما ؟ عروضيا لا يتغير موسيقى النص://0/0..هي نفسها//0/0..أما المعنى،فالدلالة تختلف..فمالذي يناسب السياق في البيت:الرفع،أم الحمل؟
لا أظننا نختلف أن رفع،توحي بتغير المكان إلى الأعلى،وزيادة الدرجة والمكانة..
والسياق يوحي بذلك:في الفؤاد..
أما حَمَلَ،فليس فيه ما يوحي بالرفعة قد يكون الحمل ثقيلا،وِزرا،كريها،غير مرغوب
كالأمانة التي رفضتها الجبال الراسيات..والرفعة معنوية،والحمل يكون ماديا أكثرُه..
فالمرأة حامل..لوجود جنين برحمها..والصدق فضيلة ترفع صاحبها..وشتان بين المادي والمعنوي..
ومفردة [فؤاد]..أفضل استعمالا ودلالة من [قلب..] لأن الفؤاد القلب وما حوى من مشاعر وأحاسيس..ولذلك عندما استعمله الله في القرآن عن أم موسى ،ليخبرنا بنزع مشاعر الأمومة منه ،حتى يتم وعد الله إليها بإعادته..[..إنّا رادوه إليك..] كما هو في قوله تعالى:"فأصبح فؤاد أم موسى فارغا،إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين"[القصص10]..بينما القلب هو مضخة الدم،إذا صلحت صلح الجسد كله،وإن فسدت اعترت الجسد الأمراض والعلل..
والفاء عند المتصوفة له مكانته،فهو يقابل في الجدول [..الحرف والمرتبة المناسبة له في الوجود التكويني..]
الحرف.....المرتبة المناسبة
الفاء...... الملائكة.](3)
ثم يضيف في الكلام عن منزلة الحروف،والجدول الذي فيه:[..تفصيل له عند التحقيق فإنه يبيّن ترتيب الحرف والاسم الألاهي المناسب له والحقيقة الوجودية الكونية والمنزلة الفلكية واسم النبي الذي تخصّه:
الرقم الاسم الألاهي......المرتبة الكونية...المنزلة الفلكية..الحكمة..النبي...الحرف اللفظي..
17 القوي ......الملائكة.......أخبية ..علوية..موسى.. الفاء....] (4)
وكما هو واضح فإن الحرف هو رمز،كما هو عند الصوفية..وارتباط الحرف عندهم بالمنازل والمراتب أمرلا جدال فيه..وعند تفكيك الفاء في الجدول فإنه يوحي بالقوة [القوي..موسى..]وبالشفافية[الملائكة] كما هو في الوجود التكويني..
وفي البناء اللغوي عثرت على جملة اعترضت المسير،فكانت تفرض ذاتها بالقوة،لتعمق المعنى،وليستقيم الوزن..بدونها يسقط بناء البيت كله..
وأرّقنِي وقد سبَحت ْ خيوطي =بيانُك َ حينَ هذّبهُ الطّريف ُ
كان [رقميا ] تعيينها بمطتين،أو فصلتين..[-..-].[،...،]لأن الاجملة الإعتراضية،أو المعترضة،تكون أحيانا أقوى دلالة من التركيب المحتواة فيه كقول بدوي الجبل:
الخالدان: –لا أقول الشمس والــــــــــــــــــــقمر- شعري والزمان..
فخلود الشعر تجاوز خلود الشمس والقمر..
ولأن الشاعر عندنا أرقه البيان حين هذّبه الجديد المتغيّر..فقد انتشى،بروعة البيان،وسبح بمخيلته بعيدا..وأبقى خيوطا تشذّه إلى السحر والجمال..والقافية التي يعشقها..
والقصيدة موسيقاها الخارجية كالتالي:
رفعْتُكَ فــلفؤاد وأنت حولي = لتعرفَ كم تسووّرَنِـــلمخيفو
//0// /0 //0/ //0/ /0/0 = //0// /0 // 0///0 //0/0
مفَاعلتن مفاعلَتن فعولن = مفاعلتن مفاعلتن فعولن
وعنه قالوا: بحور الشعر وافرها جميلُ = مفاعلتن مفاعلتن فعول
هكذا..
احتكم النص إلى المتلقي ليجد منه الرواء الذي افتقده من صاحبه..كأنه تأفف منه فألقاه،وسكت دون تسعٍ ،ليكتفي بــ"خير القول ما قل ودل"
لا ننكر أنه جميل،ودالّ،ولكنه كان سيمد المتعة أكثر،والجمال ألوان الزمن البديع حين كان الشعر يمثل وحده وزارات ،
وقصورا للثقافة تحت خيمة يدخلها النسيم من كل و[جهة] هو مولّيها..
...........................
1/الجواهر اللماعة..المرزوقي ص:13
2/مقدمة ابن خلدون ص:632
3/ التصوف الإسلامي من الرمز إلى العرفان..د.محمد بن بريكة..ص 183 دار المتون..
4 /المرجع السابق صص: /186/

جمّلت النص بقراءتك فكان إبداع على ابداع
رائع جدا ،قراءة مميزة ،لما تحمله من حسن التبصّر في النص من خلال ظاهرة صوتية متمثلة في الفاء وهومسار من مسارات التأويل،ومع أنها دراسة صوتية إلا أنها تحفر في النص عميقا لتستخرج المسكوت عنه تحت أنقاظ الترديد المتواتر لحرف الفاء،لذلك فهي تنزع نحو السيميائية،لأنك جعلت من الحرف رمزا وهوتخريج ممتاز جعل دراستك النقدية متألقة ،بورك فيك
فالدراسة أعجبتني واستوقفتني .
تحياتي وعيد سعيد
د.شادية شقروش .

اقتباس:

---

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة د.شادية شقروش

جمّلت النص بقراءتك فكان إبداعا على ابداع
رائع جدا ،قراءة مميزة ،لما تحمله من حسن التبصّر في النص من خلال ظاهرة صوتية متمثلة في الفاء وهومسار من مسارات التأويل،ومع أنها دراسة صوتية إلا أنها تحفر في النص عميقا لتستخرج المسكوت عنه تحت أنقاظ الترديد المتواتر لحرف الفاء،لذلك فهي تنزع نحو السيميائية،لأنك جعلت من الحرف رمزا وهوتخريج ممتاز جعل دراستك النقدية متألقة ،بورك فيك
فالدراسة أعجبتني واستوقفتني .
تحياتي وعيد سعيد
د.شادية شقروش .

---

الفاضلة د.شادية شقروش
لك جزيل الشكر أن كنت سبّاقة إلى القراءة،والرد..
وشهادة أعتزّ بها،وأفتخر أن يكون التأويل،أخذ منك اعترافا جميلا بأنه :كان إبداعا على إبداع
شكرا لك مرة أخرى ،ولا عدمنا مرورك العطر..بين شوارع نصوصنا
كل عام وأنت بألف خير..

أهلا أيها الكبير ..

قراءة أدركت منها أن الشاعر يجهل كثيرا مما ينثر بين أيدي النقاد .. أحييك على الإحترافية العالية في هذه الدراسة التي تؤكد عبقريتك في استنطاق الحروف والألفاظ والدلالات كأحسن ما يجب ..

أحييك وأعلن أني علقت ُ هنا قارئا لا أكثر .