بعد فترة غياب لم تكن من جفوة - وليس من طبعي الجفاء - اشتقت إلى زملاء القلم وأساتيذ الفكر، الذين أبعدتني عنهم أحداث سورية التي دفعتني أو ورطتني في دخول متاهة السياسة، التي لم تعد «خبز الشعب» في بلاد العرب، كما كان يقال في الخمسينيات من هذا القرن، وإنما هي في هذا القرن «سمٌّ»، من يتعاطاه إما أن يموت وإما أن يصاب بعاهة!
كنت في ذلك العالم غريباً، فالكل يلبسون أقنعة، الكل - كما يقول الشاعر مظفر النواب - «يحمل في الداخل ضده»، إلا المحكوم عليهم بأن يلفظهم ذلك العالم لأنهم لا يستطيعون مجانسة هذه الفئة من المجتمع، فيبقون كالجسم الغريب في الجسد، يقلق الفكر ويتسبب في القلاقل، حتى يضطر إلى استئصاله أو مدافعته إلى أن ينسحب من الجسد. ثياب النفاق لم يطقها جسدي، الذي كان يتجول في بساتين واتا الوارفة بخضرتها وزهرها وظلالها وثمارها! الكراهية المغلفة بالرياء وجبّة الصداقة المبطنة بالعقارب لا يمكن لمن اعتاد الشفافية في مجتمع الأدب والفكر أن يتقبلها أو يتعايش مع من يلبسها. مرّت بي خلال فترة المصابرة تلك حالات غثيان وهذيان وفقدان ذاكرة الجمال، ولوثت يد السياسة القذرة نقاء زجاج الشعر وعطر الأدب، في ذلك المجتمع عرفت أن الماسونية ليست منظمة، وإنما آلاف المنظمات، لها محفل في كل قصر، وتحت كل كرسي، وفي مكل سيارة فارهة، وفي أرقام كل رصيد مصرفي ضخم يقتطع من قوت الكادحين ليلقى تحت أقدام السفلة والمكّاسين، وتحت كل ربطة عنق لم تنسج خيوطها في القدس أو تصبغ في غزة، وتحت كل لسان يزعم أن للعالم إلهين؛ الله في السماء، ونجل هُبل في الأرض، وفي رأس كل وصولي (ميكافيلي). عرفت أن عبادة الشيطان ليست مقصورة على الخمارات والمواخير، بل يمكن أن تكون في المسجد، وأن تجارة الرقيق لم ينهها الرئيس الأمريكي إبراهام لنكولن، بل أنهى أقل أشكالها وهو المتاجرة بالأفراد، ليأتي مَنْ بعده وينشروا المتاجرة بشعوب بأكملها، بل وبالأجيال التي لم تولد بعد!
كانت تجربة مرة خسرت فيها كثيرين، لكن المهم فيها أنني لم أخسر نفسي، ولذلك أعُدُّ نفسي خرجت منها منتصراً برغم الجراح والإصابات والخسائر التي بقيت أسددها سنوات، من وقتي وجهدي ومستقبل أولادي واستقرار أسرتي، لكنني اكتشفت أنني كنت غالياً جداً، ثميناً فوق الأثمان؛ لأنني لم أبع نفسي بالأثمان المرتفعة التي أكثرتْ في الإغواء والإغراء مساوماتِها، ودسّتْ سماسرة الرقيق في عدد من الأقنعة لإقناعي بإغراءات كانت فوق مطامحي الدنيوية وأحلام طفولتي، كانت بهراً وصورة مصغرة من آخر مجلس في السلطنة للسلطان عبد الحميد؛ «إما أن تعطي فلسطين لليهود وإما أن تُخلع»، في حين رأيت من ينادون بالمبادئ والقيم ويرفعون الشعارات البراقة يَعْرضون أنفسهم في سوق النخاسة بلا سماسرة وبأبخس الأثمان، فعرفت قيمة نفسي، وخرجت من تلك المعمعة جريحاً منهنهاً ذاهلاً بلا قبيلة وبلا سيف وبلا راحلة، لكنني خرجت منتصراً، فرجعت إلى عالمي النقي، عالم الكلمة التي يعرف ناطقها قيمتها ولا يصدرها إلا ومقابلها رصيد من من الجوهر في داخله، هنا في عالم الفكر عملتنا، من الدانق إلى الدينار؛ من النص إلى الذوق، حقيقية، أما ذلك العالم فكل عملته مزيفة، من السنت إلى الدولار، من المشاعر إلى الشعارات، لذا كان لا بد من الصحوة وعودة المسافر الغائب عن أهله ما دام في العمر بقية وفي النفس همة، وها أنا تلميذكم العاق وأخوكم القاطع رحم الأدب، أعود إليكم مردداً قول أبي تمام:
إنْ يُكْدِ مطّرفُ الإخاءِ فإنّنا نغدو ونمضي في إخاءٍ تالدِ
أو يَفترقْ نسبٌ فيجمعُ بيننا أدبٌ أقمناهُ مقام الوالدِ
وقول السابقين: «الأدب رحم بين أهله»، عودةً تختلف عن سياقات العودة المعروفة في الحياة، إذ اعتاد الناس على أن تعود الروح إلى الجسد، أما هنا فعودتي هي عودة الجسد إلى الروح.
