شاهد عيان يحب باكستان-الفصل الثامن-ودارت الدوائر-نواب أكبر بكتي

ودارت الدوائر
نواب أكبر بكتي
قبل فترة خرجت علينا وسائل الإعلام الباكستانية بخبر مفاده أن " أكبر بكتي " رئيس قبيلة " بكتي " تم قتله في المنطقة الجبلية المختبئ بها بإقليم بلوشستان بعد قصف عنيف للمنطقة بالطائرات ، وأنه يجري حالياً استخراج الجثة من بين الأحجار والصخور الجبلية التي تحطمت بفعل القصف العسكري الجوي ، ثم بعد عدة أيام نقلت وسائل الإعلام صورة للتابوت الذي يضم جثة أكبر بكتي تحمله طائرة هيلوكبتر ، وتمت صلاة الجنازة عليه ودفنه ، وصرح أبناؤه بأن أباهم لم يقتل ، وأنه عبر الحدود إلى أفغانستان واختفى هناك ، وأخذت قطاعات معينة من الشعب الباكستاني تردد هذا الأمر وتؤكد على أن أكبر بكتي لم يمت ، وإنما اختفى ليعود من جديد ، فما هي قصة أكبر بكتي هذا ، وما حكاية صراعه مع الحكومة . تعالوا نتناول هذا الأمر ببعض التفصيل .
باكستان من بين دول عديدة في العالم لا يزال نظام القبائل موجوداً في بعض مناطقها ، والقبائل في باكستان تستوطن إقليم الحدود وإقليم بلوشستان بصفة خاصة ، ومن أهم القبائل المعروفة في باكستان قبائل اتشك زي ويوسف زي وقبائل البلوش ومن أهمها قبيلة بكتي وقبيلة مري ومزاري وقيصراني وجتوئي ودشتي ورند ولاشار وغيرها .
أما قبيلة بكتي فيقال إنها جاءت أصلاً مهاجرة من منطقة ( بكـ ) بالكاف الفارسية من إيران واستقرت في مناطق بلوشستان وبها سميت ، وهناك من يقول إن قبائل البلوش ومن بينها قبيلة بكتي بالطبع هم في الأصل عرب كانوا يعيشون في حلب السورية ، ثم هاجروا منها إلى إيران ومن إيران إلى باكستان ، كما يقال إنهم كانوا في الأصل يعيشون في إقليم السند ، ثم هاجروا منه إلى حيث يعيشون الآن ، وهناك آراء أخرى متعددة حول أصل هذه القبيلة وموطنها، وليس المقام هنا لتفصيلها (1) .
وقبل قيام باكستان وأيام الاحتلال الإنجليزي كانت هناك بعض الإمارات المستقلة بنفسها ، ويبلغ تعداد هذه الإمارات 562 إمارة ما بين كبيرة مثل حيدر آباد الدكن وكشمير وغيرها ، وما بين صغيرة متناثرة ، وكانت قبيلة بكتي والمنطقة التي تعيش فيها من المناطق التي لم يستطع الإنجليز إخضاعها بسهولة برغم محاولاتهم المستميتة إلى أن تم لهم ذلك في عام 1938م ، وكان رئيس القبيلة في ذلك الوقت هو محراب خان والد السيد أكبر بكتي محل الحديث (2) ، وكان أكبر بكتي لا يزال في مراحل التعليم حتى ذلك الوقت ، وبعد وفاة محراب خان في ديسمبر من عام 1939م تولى رئاسة القبيلة ابن عمه خان بهادر جمال خان إلى أن يكبر الابن أكبر بكتي (3) .
وتعيش قبيلة بكتي على مساحة 4500 كيلو متراً مربعاً ، وتسمى هذه المنطقة رسمياً باسم " إقطاعية بكتي : ديره بكتي " ، ويقع مركز بكتي في الشرق من إقليم بلوشستان ، ويعتبر طبقاً للتقسيم الإداري لباكستان منذ عام 1983م مركزاً كبيراً يضم ثلاث مدن صغيرة هي :
1 – مدينة بكتي نفسها .
2 – مدينة سوئي ، وهي السبب الرئيسي في الأهمية التي يحظى بها هذا المركز ، إذ يستخرج منها كميات ضخمة من الغاز الطبيعي الذي يغذي مناطق ضخمة في باكستان ، وتم اكتشاف الغاز في هذه المنطقة عام 1952م (4) .
3 – مدينة بهيلاوغ .
ويبلغ عدد سكان مركز بكتي مائة وواحداً وثمانين ألفاً وثلاثمائة وعشرة أفراد طبقاً لتعداد عام 1998م ، ومن بين هذا العدد حوالي عشرة آلاف نسمـة من البدو الرحل . ومن المؤكد أن هذا العدد قد زاد الآن ، حيث تبلغ نسبة النمو السكاني بها 8 , 2 . أما عدد الذين ينتمون إلى قبيلة بكتي في عموم باكستان وخارجها فيبلغ أكثر من مائتين وخمسين ألفاً .
ويعد مركز بكتي ضمن إقليم بلوشستان (5) من المناطق غير المتطورة في باكستان ، لكنها مع ذلك غير محرومة من الخدمات الرئيسية كالكهرباء والماء والتليفونات في بعض مناطقها ، ويدير حاكم قبيلة بكتي منطقتة من قلعة بكتي ، وهي قلعة قديمة بنيت عام 1830م .
وعنما تأسست باكستان أبقى الدستور الباكستاني على استقلالية منطقة بكتي واعترف بها ضمن إمارة قلات بإقليم بلوشستان ، وكانت بلوشستان كلها حتى قيام باكستان تنقسم إلى قسمين :
الأول بلوشستان الإنجليزية وتضم مدينة كويته العاصمة الحالية لبلوشستان وغيرها من المناطق .
والثاني هو قلات ، وتضم إمارة قلات ( وضمنها منطقة وأملاك بكتي ) وغيرها من الإمارات المستقلة .
وبعد أن استقلت باكستان طلب القائد المؤسس محمد علي جناح من مير أحمد يار خان رئيس قلات إذ ذاك الانضمام إلى باكستان ، فوافق بعد استشارة شعبه على شروط منها : أن يوقع على المعاهدة كل من القائد المؤسس محمد علي جناح ومير أحمد يار خان ، وأن تتمتع قلات بالحكم الذاتي تحت ما يسمى بالجركه ، وهو المجلس المنوط به حكم المنطقة ، وانضمت قلات إلى باكستان رسمياً في 15 من أبريل عام 1948م ، وتم تكوين مجلس استشاري للمنطقة كلها ، وكان أكبر بكتي من بين أعضاء هذا المجلس .
وانخرط نواب محمد أكبر بكتي في المناصب الحكومية الباكستانية كنوع من تقوية مركزه في المنطقة التي يحكمها ، فعمل مستشاراً لحاكم باكستان العام عام 1950م ، ثم أصبح نائباً لوزير الدفاع الباكستاني في وزارة فيروز خان نون ، وظل في منصبه هذا لعام كامل ، كما عمل نائباً لوزير الخارجية لفترة قبل فرض الأحكام العسكرية في البلاد عام 1958م في عهد الجنرال أيوب خان .
ولما اكتشف الغاز الطبيعي في منطقة ( سوئي ) من مناطق قبيلة بكتي عام 1952م عقد النواب محمد أكبر بكتي باعتباره رئيس القبيلة وحاكم المنطقة التي تعيش فيها معاهدة مع الحكومة الباكستانية سمح لها باستغلال الغاز الطبيعي في أراضيه على إيجار للأراضي التي اكتشف فيها الغاز ، ونسبة معينة من دخل الغاز ، ونسبة معينة من الوظائف لأهل قبيلته .
وفي سبتمبر من عام 1954م أعلن رئيس الوزراء الباكستاني في ذلك الوقت محمد علي بوكره فيما يتعلق بإقليم بلوشستان في الدستور الجديد أن بلوشستان إقليم يتمتع بالحكم الذاتي مثله مثل باقي الأقاليم ، ويتكون من أربع إمارات رئيسة هي :
1 - قلات .
2 - ليسبيله .
3 - خاران .
4 - مكران .
ثم قررت الحكومة الباكستانية في عام 1955م ضم كل الأقاليم الغربية بها بالإضافة إلى إقليم بلوشستان بقسميه في إقليم واحد مما أطلق عليه باكستان الغربية إذ ذاك وعرف بالوحدة الواحدة ، وفي عام 1957م تأسس الحزب الشعبي الوطني في بلوشستان ، وكان من أهداف الحزب العمل على فك هذه الوحدة الواحدة ( باكستان الغربية ) وإعادة النظام القديم ، واستطاع بالفعل تمرير قرار بهذا الشأن في أغسطس من عام 1958م ، وإن لم يدخل حيز التنفيذ أبداً .
وفي عام 1973م تم تعيين نواب أكبر بكتي حاكماً عاماً على إقليم بلوشستان ، ومع ازدياد الخلاف بينه وبين السيد ذو الفقار علي بوتو رئيس الوزراء الباكستاني في ذلك الوقت استقال نواب أكبر بكتي من منصبه حاكماً عاماً لإقليم بلوشستان في 31 ديسمبر عام 1973م ، واحتجاجاً على سياسة الحكومة وفرض الأحكام العسكرية في البلاد قرر نواب أكبر بكتي ألا يتحدث باللغة الأردية ، اللغة القومية للبلاد منذ عام 1980م في عهد الرئيس الراحل ضياء الحق ، ولم يعد إليها إلا في أواخر عام 1988م عندما عقدت الانتخابات ، وهي التي أسفرت عن انتخابه رئيساً لوزراء إقليم بلوشستان ضمن حكومة بينظير بوتو ، ثم انتهت هذه الرئاسة في السادس من أغسطس عام 1990م عندما أقال الرئيس الباكستاني إذ ذاك غلام إسحاق خان حكومة بينظير بوتو كلها من البلاد . وفي السادس عشر من أغسطس من عام 1990م أسس نواب أكبر بكتي حزباً سياسياً باسم الحزب الديموقراطي الوطني " جمهوري وطن بارتي " ، ويرمز إليه اختصاراً بـ " J.W.P " ، وفاز بمقعد في البرلمان الفيدرالي من قبل الحزب في انتخابات عام 1993م ، كما فاز ابنه الأمير سليم أكبر بكتي بمقعد في البرلمان المحلي لإقليم بلوشستـان في نفس الانتخابات عن الحزب نفسه أيضاً .
ورغم كل هذا فإن الحكومة الباكستانية في أي عهد من عهودها لم تكن تعجبها النشاطات السياسية في إقليم بلوشستان وخاصة نشاط الحزب السياسي الموجود بها وهو حزب الشعب الوطني ( نيشنل عوامي بارتي ) ويرمز إليه بالاختصار التالي ( ن . ي . ب : نيب ) ، وكان النواب محمد أكبر بكتي من أكبر المؤيدين لهذا الحزب ، ومن هنا دخل السجن مراراً بسبب نشاطاته السياسية المعادية لضم أقاليم باكستان كلها ضمن وحدة واحدة ، وقبض على نواب محمد أكبر بكتي عام 1959م بتهمة قتل عمه هيبت خان ، وحكم عليه بالسجن أربعة عشر عاماً ، لكن أطلق سراحه بعد فترة قصيرة في يوليو من عام 1961م ، لكن لم يكد يمض عام واحد على إطلاق سراحه حتى ألقي القبض عليه ثانية بتهمة الإخلال بالأمن في البلاد عام 1962م في عهد أيوب خان ، وقضى أربعة عشر عاماً في سجون باكستان المختلفة .
وعلى مدى تاريخ بلوشستان منذ قيام باكستان عام 1947م اشتكى أهل الإقليم دائماً من تجاهل الحكومة لهم وعدم الاهتمام بتنمية المنطقة ، والاستيلاء على حقوقها المالية المشروعة من ميزانية وغيرها وإعطائها للأقاليم الأخرى وخاصة إقليم البنجاب ، ولهذا كانت هناك فجوة مستمرة بين إقليم بلوشستان وبين الحكومة ، وكان نواب أكبر بكتي يعد قائداً لحركة المعارضة هذه ، وهو الذي يوجه هذه الخلافات وهذه المعارضة ، وظهر هناك ما يشبه حركة انفصالية تدعو لاستقلال الإقليم عن باكستان ، وهو ما هزّ الحكومة الباكستانية بعنف ، ورأت أن تقضي على هذه الفتنة في مهدها ولو باستخدام القوة المفرطة .
لكن خلافات أكبر بكتي وقبيلته مع الحكومة الباكستانية لم تأخذ شكلاً عنيفاً إلا بعد حادثة اغتصاب الدكتورة شازية خالد التي عينت طبيبة في شركة غاز سوئي الطبيعي في الثالث والعشرين من يونيو عام 2003م ، والدكتورة شازية خالد من قبيلة ميمن التي تقطن كراتشي ، ومتزوجة من مهندس يدعى خالد ، وقد اغتصبت بطريقة بشعة من قبل مسئول في البوليس الباكستاني يدعى حماد ومعه رفاقه في الثاني من يناير عام 2005م طبقاً لأقوال الدكتورة شازية خالد نفسها ، وإن كانت قد تراجعت عن أقوالها هذه فيما بعد دون سبب واضح ، وخرجت المظاهرات للمطالبة بالحقوق من جانب ، وللتنديد بما حدث مع الدكتورة شازية خالد .
وفي السابع من يناير من عام 2005م قامت قبيلة بكتي بتفجير خطوط الغاز الرئيسية في المنطقة مما أدى إلى انقطاع الغاز عن معظم مناطق باكستان ، كما قاموا بتحطيم ثماني سيارات وقتل بعض الأفراد ، وبدأت الصدامات بين القوات الحكومية والمسلحين من قبيلة بكتي ، واستمرت لأيام متتالية ، تخللها هجوم بالصواريخ وتفجير لأنابيب الغاز وقتل وسفك دماء ، وفي السابع عشر من يناير من عام 2005م قامت القوات الحكومية بشن هجوم ساحق على المنطقة راح ضحيته سبعون قتيلاً من قبيلة بكتي من بينهم اثنان وثلاثون من الهندوس ، وجرح مائة ، بينما كانت خسائر القوات الحكومية أحد عشر قتيلاً وعشرين جريحاً . وفي السابع عشر من ديسمبر عام 2005م تعرض برويز مشرف لهجوم بقصد اغتياله ، ثم تعرض بعده عدد من كبار قادة الجيش لنفس الموضوع في منطقة قبائل مري المجاورة ، فقامت القوات الحكومية بمحاصرة المنطقة كلها بما فيها منطقة قبيلة بكتي في أواخر ديسمبر عام 2005م وأوائل يناير عام 2006م وقصفت المنطقة مما نتج عنه مقتل 40 من قبيلة بكتي وعشرة من القوات الحكومية ، ومنذ ذلك التاريخ أخذت القوات الحكومية تطارد نواب أكبر بكتي وتبذل قصارى جهدها للتخلص منه لاعتقادها أنه وراء كل هذه الأزمات والصدامات ، واتخذ نواب أكبر بكتي من الجبال مقراً له ، وقد بلغ عمره أكثر من ثمانين عاماً ، إلى أن تمكنت منه في أغسطس من عام 2006م وقتلته في هجوم كاسح بالطائرات في المناطق الجبلية التي لاذ بها . ولا نظن أن هذا الأمر سيمر بسهولة كما تتصور الحكومة الباكستانية ، وستكون له عواقب وخيمة ستظهر فيما بعد ، ونحن نبني هذا الاستنتاج على ما نعرفه عن شخصية أهل بلوشستان الذين لا يتركون ثأراً ، ولا يهابون أحداً ، وولاؤهم مطلق لحاكم قبيلتهم ، وشعورهم بالظلم واضح ، ومع ذلك فإنك لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً .
هوامش
1 - لمزيد من التفصيل راجع : كامران أعظم – بكتي قبيله – لاهور – باكستان 2006م .
2 - ولد أكبر بكتي في 12 يوليو عام 1927م في منطقة باركهان بمدينة حاجي كوت ، وبدأ تعليمه الابتدائي في منطقة بكتي ثم انتقل بعد ذلك إلى أشهر المدارس الإنجليزية في شبه القاره الهندية كلها في ذلك الوقت وهي مدرسة " إيتشي سن " ، حيث كان يدرس في هذه المدرسة الأمراء فقط ، ولهذا كان أكبر بكتي يجيد اللغة الإنجليزية إجادة تامة ، وظل في التعليم حتى عام 1944م ليتفرغ بعدها لإدارة القبيلة ، وقد تزوج أكبر بكتي من ثلاث نساء واحدة من قبيلة بكتي والثانية بتهانية والثالثة من السند ، وأنجب ستة أولاد وخمس بنات من هذه الزيجات .
3 - واسمه الأصلي نواب أكبر شهباز خان الثاني .
4 - يبلغ مقدار ما تستخرجه باكستان من الغاز الطبيعي حوالي مليار وستمائة مليون متراً مكعباً ، منها تسعمائة وخمسون مليوناً تستخرج من منطقة قبيلة بكتي بإقليم بلوشستان ، لكن العجيب أن هذه المناطق لم تمد إلى منازلها حطوط الغاز حتى الآن .
5 - يحيط إقليم بلوشستان بحوالي 43 % من مساحة باكستان كلها البالغة ما يقرب من ثمانمائة ألف كيلو متراً مربعاً ، بينما يبلغ عدد سكان الإقليم ما لا يزيد عن 5 % من عدد سكان باكستان البالغ مائة وستين مليوناً تقريباً .

جزاك الله خير يا دكتور

أشكركم يا رجل .