جنوب السودان وآفاق المستقبل ج1-لأحمد أبو سعدة
جنوب السودان وآفاق المستقبل كتاب جديد ومهم يتحدث عن مشكلة الجنوب ولأهمية الكتاب وضرورة الإطلاع عليه قامت الجمعية الدولية للمترجمين واللغويين العرب بتقديم التهاني للكاتب والباحث الكبير الاستاذ أحمد أبو سعدة بمناسبة الأعياد وقدوم السنة الجديدة وطلبت منه إذناً خطياً لنشر الكتاب في مركز واتا للدراسات الإفريقية وقد حصلنا على موافقة حصرية لنشره في هذا المركز ونقوم بنشره علىحلقات.
جنوب السودان
و
وآفاق المستقبل
ذات يوم من أيام الخريف الجميلة كان شاب طويل القامة يخطو بثبات نحو بركة للماء وخلفه عدد من الأولاد والنسوة.
بجانب البركة جثى شاب آخر يغرف الماء ويعبئه بقربته الجلدية والناس ملتفون حول البركة يفعلون مثلما يفعل الشاب الجاثي.
كل شيء هادىء في المكان إلا صوت الماء الذي يغرف ويوضع في القرب.
دقق الشاب الطويل يتفحص البركة وجوانبها ليأخذ له مكاناً يعبىء
منه الماء.
انقطع الهدوء حين سأل الشاب الطويل الشاب الجاثي:
ماذا تفعل هنا يا عثمان؟.
مثلما تفعل أنت يا لام.
أنا هنا بفعل الحياة.
وأنا هنا بفعل الوجود.
أربع جمل تبادلها عثمان ولام وكان ما كان؟؟.
* * *
جنوب السودان وآفاق المستقبل
إهداء
إلى روح صديقيَّ
العقيد السوداني خليفة كرار بلة
والمناضل الأرتري صالح أحمد آياي
اللذين ناضلا في سبيل تحقيق الاستقلال التام والوحدة الوطنية في كل من السودان الشقيق وأرتريا، فكان للأول ما أراد، أما صالح فلقد توفاه الله وهو يناضل من أجل إعادة الحق إلى نصابه.
وإلى روح شهيد فلسطين والوطن العربي والإسلامي المجاهد
عبد العزيز الرنتيسي
غفر الله لهم
دمشق في 1/6/2006
أحمد أبو سعدة
«أينما ذهبت وأمعنت في التوغل.. في القرى والغابات وعلى قمم الجبال وجدت اللغة العربية منتشرة بين السكان.. وعليه يجب إعادة النظر وبحذر شديد فيما يجري وعلينا بذل الجهد والمال لوقف الدين الإسلامي واللغة العربية..»
ر. س. أوين
الحاكم العام الانكليزي للسودان
المقدمـة
- سألني أحد أصدقائي عن سبب كتابتي لمواضيع وكتب، لا يقرؤها ولا يهتم بها سوى عدد قليل من الناس؟
- ابتسمت وأردت الإجابة، لكنه لم يتركني أرد على كلامه بل تابع مندفعاً:
- أنت تكتب عن الصراع والاضطرابات العلنية والمخفية في مناطق متعددة وبعيدة جغرافياً و...
- قاطعته وبقوة:
- نعم إنني أكتب عن ما ذكرته، أكتب في التاريخ السياسي الحديث عن أفريقيا وهموم شعوبها؟
- عاد صديقي العزيز ليسألني ساخراً: هل تكتب الآن عن قبائل (الماوماو)؟ وأطلق لضحكته العنان.
- ضحكت بدوري وأجبته بجدية: أكتب الآن عن جنوب السودان و......
- /حلو/ عن (كرنغ) وصديقه الترابي؟
- اسمع يا صديقي: إنني أكتب عن السودان هذا البلد العربي المسلم الأصيل، صحيح وأكيد إنني لا أدعي الإنابة أو الأصالة عن الشعب السوداني الطيب، إلا أن عليك أن لا تنسى أنني عربي وأتعامل مع الناس على هذا الأساس، وهذا الأمر يماشي ويناسب معتقدي الوطني والقومي والإنساني...
إن الوقائع التي جرت وتجري على أرض السودان تخيفني وترعبني؟
- هذا كلام مغامر وليس كلام كاتب ومحلل سياسي؟ أيها العزيز، أنت تحب المغامرة؟
- أي مغامرة هذه؟ يا صديقي... إنها هموم ومتاعب أمتي، حاضرها ومستقبلها... وجودها... تلاشيها...: لذلك عليّ البحث والسعي لدرء الخطر عنها، علينا أن نقلب الكثير من صفحات التاريخ لنأخذ منها العبر، بعد ذلك نقدمها إلى أبناء أمتنا، كي يستفيدوا منها.
- أنت تحب السرد.
- لا يهم، قل ما تشاء وسمِّ الحقيقة بما يحلو لك تسميتها /سرد/ حكاية - رواية - تاريخ - صراع،... لا يهم قل ما تشاء. لكن عليك أن لا تنس أمراً حقيقياً واحداً وهو تسابق المستعمرين الأوروبيين الذي كان وما زال مزيجاً من الحقد والأنانية والسيطرة والتهافت على كسب المغانم والحصول على المواد الخام والحماسة الدينية /الفرنجية/ ونشرها في القارة السمراء.
- هز صديقي /العتيق/ رأسه وقال مازحاً... اكتب كان الله بعونك... اكتب وسنقرأ ما سوف تكتبه؟...
- حسناً سأكتب لكن عليك أن تعلم بأن ماضي أفريقيا يكاد يكون غير معلوم لكثير من الناس، وإن ما كتب عنها كان من وجهة نظر المستعمرين الأوروبيين والأمريكان واليهود الذين جاؤوا إليها واغتصبوا منها الحرية وإنسانية إنسانها، جاء المستعمرون وإرسالياتهم التبشيرية وقالوا سوف نهدي هؤلاء الأفارقة المتوحشين الضالين؟ جاؤوا وعلى وجوههم الغضب وفي قلوبهم الحقد... لكن هؤلاء المستعمرين نسوا أو تناسوا أن للإفريقيين /جذوراً/ وأن هذه الجذور أعطت وتعطي الحياة الحرة الكريمة، قبل أن تكون لهؤلاء المستعمرين حياة.
إنني في كتابي هذا لا أنقب عن ماضي القارة السمراء بشكل عام إنما أبحث عن كرامة الإنسان الإفريقي عامة والشعب السوداني العريق خاصة أننا وبلا شك أمام مسؤولية دقيقة وهامة وهي مشكلة جنوب السودان، إنني كعربي لا أقبل وأرفض وبكل قوتي ما جرى ويجري الآن في السودان بشكل عام وجنوبه بشكل خاص، إننا أمام خطر فظيع وهو لا يقل عن خطر الضياع المؤقت /لفلسطين وعربستان والإسكندرون و..... احتلال العراق....
أيها العرب إن العواصف الشيطانية التي تهب علينا من القوى المعادية لعروبتنا هي عواصف مؤقتة، فليس عيباً أن تزلزل الأرض وينشق البنيان، لكن العيب أن نقف وننظر إلى قضايانا المصيرية ببصر زائغ وأيدٍ مغلولة؟
نحن في مرحلة خطرة /الوجود أو عدمه/ مرحلة فرضتها علينا القوى الظالمة، هل نكون أو نتلاشى؟
وكتابي هذا يهدف إلى شرح بعض جوانب قضية جنوب السودان وخاصة أنَّنا على بعد خطوات قليلة من ضياع هذا الجزء الهام من أرض السودان.
إنَّ الدوائر السياسية الغربية ذات الأغراض الاستعمارية، والجمعيات التبشيرية الأوروبية والأمريكية ومعهما الإعلام العالمي المتصهين هؤلاء كلهم يحاولون تصوير مشكلة الجنوب على أنَّها مشكلة دينية وبأنَّها مشكلة شعب جائع محروم مقهور من جانب العرب السودانيين، ونظراً إلى عدم استيعاب المشكلة على أساس موضوعي أضحى المشهد مضطرباً في الأذهان.
من هنا رأيت أنَّ من واجبي كعربي تعصف به الأحداث الأليمة والمفروضة علينا من قبل قوى التجبر والبغي، أن أقدم صورة مجملة للقارئ العربي عما يجري في السودان، وخاصة في جنوبه، ونستطيع القول أنَّ الأمر وصل إلى حد الخطر الحقيقي، وما اعتمد من /حلول/ لقضية الجنوب في مباحثات (ماشاكوس)، ليس هو بالوضع الأفضل والصحيح؟
إن حرصي وخوفي على وحدة السودان شعباً وأرضاً هو الذي دفعني للمساهمة في إعداد هذا الكتاب، فلعلّي أساهم مع المخلصين في الوصول إلى حل مشرِّف تفادياً لوقوع كارثة قد تحل ليس في السودان فحسب بل في الوطن العربي كافة؟ وأنَّ ما يحصل في السودان الآن «شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً» سوف ينعكس ويهم جميع الدول الأفريقية أيضاً، يجب ألاَّ يغيب عن أذهاننا بأنَّ استمرار السودان واضطلاعه بدوره العربي يعد جسراً مهماً بين العرب الأفارقة وغيرهم من الأفارقة، وبقية شعوب العالم.
علينا التمسك بقيمنا الروحية والمادية من أجل وجودنا الذي أراده الله لنا وأبته قوى الطغيان والأنانية.
دمشق في 1/5/2006
أحمد أبو سعدة
مـدخــل
من المؤكد أن يسأل قراء هذا الكتاب عن معلوماتي التي دونتها من أين أتيت بها؟ والجواب عن ذلك في الآتي:
أراد الله عز وجل أن أعيش حياة ميدانية مع عدد من الشعوب الأفريقية وأن أساهم في أكثر من ثورة لهذه الشعوب، وهذا ما يسعدني ويمدني بالعزيمة للكتابة عن أفريقيا وأوضاعها، هذا أولاً وثانياً مطالعتي لكثير من الكتب والمصادر الأدبية والسياسية والتاريخية كذلك لقاءاتي مع العديد من قادة وزعماء الشعوب الأفريقية، ناضلت سياسياً، قاتلت كمناضل عربي إنساني بالسلاح في أكثر من بلد في القارة السمراء...
من هنا استمديت معرفتي بالقضايا والمسائل الأفريقية والكتابة عنها.
الـبـاب الأول
تعريف السودان
السودان
السودان بلد شاسع، إذ تبلغ مساحته مليون ميل مربع، وعاصمته الخرطوم والمسافة بين حدوده الشمالية والجنوبية المتاخمة لجمهورية يوغندة والكونغو تصل إلى /1400/ ميل بينما يبلغ عرضه من الشرق إلى الغرب في بعض الأماكن حوالي /1000/ ميل.
أما مساحته الإجمالية فتبلغ مليون ميلٍ مربع، كذلك تبلغ مساحة
مياهه /129810/ كم مربع ويمر في السودان نهرا النيل وهما النيل الأزرق
والنيل الأبيض.
النيل الأبيض: يبلغ طوله من بحيرة فكتوريا إلى العاصمة الخرطوم 1530 ميل.
أما النيل الأزرق: وينبع من منطقة بحر دار في أثيوبيا، ويلتقي النيلان في الخرطوم بمنطقة المقرن.
وأهم موارده: النفط /اكتشف مؤخراً/ خام الحديد - نحاس - كروم - زنك - تنجستين - ميكا - فضة - ذهب.
استقل السودان في 1/1/1956.
عدد سكانه حسب تقديرات عام /2000م/ تبلغ /35079814/ نسمة.
اللغة: العربية وهي اللغة الرسمية والوطنية ثم - النوبية - النيلية - الحامية - وعدد من اللهجات المحلية، وأدخلت الإنكليزية في عهد الاستعمار البريطاني.
الدين: الإسلام إذ يبلغ عدد المسلمين فيه 85%.
النظام السياسي: جمهوري.
عدد محافظاته: /26/ محافظة / ولاية.
العملة: الدينار السوداني.
قوته العسكرية حسب تقديرات عام /2000/ هي /94700/ فرد.
ينقسم السودان إلى قسمين هما: الشمال - الجنوب.
الأول : الشمالي الذي يعتبر أكثر تجانساً من الجنوب.
الثاني: الجنوب ويقع في قلب القارة الأفريقية وهو موضوع كتابي هذا /الجنوب وملامح المستقبل/.
الفصل الأول
السودان الحديث
تم تشكيل السودان الحديث أثناء الحكم العثماني والإدارة المصرية، ففي عام /1821م/ توجه جيش (محمد علي باشا) إلى كلٍّ من مناطق البحر الأحمر وسنار.
وفي عام /1838/ فتح منطقة شرقي السودان التي تسمى بلاد /التاكا/، ثم سواحل البحر الأحمر، وفي العقد السابع تم فتح جنوب السودان أي منطقة مديرية خط الاستواء.
وفي عام /1874/ تم فتح غرب السودان أي منطقة /دارفور/...
أثار الدخول العثماني المصري حفيظة الكثير من السودانيين فقاموا بثورات عدة لم يستطع الحكم العثماني المصري القضاء على حركة المقاومة نهائياً إلا في عام /1840/.
وفي عام /1870/ عين الخديوي الإنكليزي (صموئيل بيكر) حاكماً عاماً على المديريات الجنوبية وبعد ثلاث سنوات عاد (بيكر) للقاهرة وذهب بدلاً عنه (شارلس جورج غوردون) ومنذ عام 1873 بدأت علاقات (غوردون) بالسودان، فقد عين مديراً للاستوائية وانتهى بترفيعه إلى حاكم للسودان. ويعتبر (غوردون) آخر حاكم للسودان خلال فترة الحكم /المصري العثماني/.
في السنوات الخمس الأولى من عهد (غوردون) ( ) تدهورت الأحوال الاجتماعية والحياتية بسبب الإسراف الحكومي - كما لم تدفع رواتب الموظفين لعدة شهور وتراكمت الضرائب على الأفراد مما أدى إلى الاضطرابات والمشاكل.
وفي عام 1864 انفجر تمرد بالغ الخطورة داخل صفوف الجيش بمدينة كسلا وفي عام 1865 تمردت القوات العسكرية وانضم إليها الفيلق الرابع الذي كان معسكراً في مدينة كسلا، وجاء أحد الضباط وأقنع هذه القوات بإلقاء السلاح واعداً إياهم بالعفو.
لم تفِ الحكومة بالوعد وأعدمت الكثير من أفراد القوات المسلحة مما أثار غضب الجنود السودانيين - كذلك اندلعت نيران العصيان في كل من سواكن - سنار - كسلا وبعدها عمدت الحكومة إلى تخفيض القوات العسكرية... هكذا كان وضع السودان عندما اندلعت الثورة المهدية في شهر آب /أغسطس/ عام 1880 ومن الممكن القول بأن الثورة المهدية( ) كانت عامل احتجاج ضد النظام الذي هز وضع المجتمع السوداني نتيجة الضرائب الباهظة وسخط العسكريين وعدم رضا الكثير من الطوائف الدينية وزعمائها التقليديين... وفي خصوص الثورة المهدية ذكر اللورد (كرومر) الآتي:
«كان على الحكومة المصرية أن تواجه ثورة عارمة استمدت قوتها من عنصرين الأول ديني روحي - وناجم عن سوء الإدارة الحكومية ما أدى إلى كراهية الموظفين للنظام التركي المصري».
وهنا لابد أن نشير إلى أن الدعوة إلى المهدية قد قضت على كل ولاء قبلي وديني.
والجماهير التي انخرطت في الثورة المهدية كانت من المضطهدين والفقراء - كما أن تعاليم المهدي هي تقبّل الناس لأحكام الله على الأرض كذلك شددت تعاليمه على الجهاد حيث نادى بضرورة التخلص من كل أعراض الدنيا الفانية.
انقضت المرحلة الأولى من مراحل الثورة المهدية، أي مرحلة الثورة والانتصار عندما مات (المهدي) وبعد وفاته بدأت المرحلة الثانية وهي تأسيس الدولة السودانية، حاول الخليفة (عبدالله) مواصلة الحرب وقد قبض بقوة على الجهاز الإداري والعسكري إلا أن محاولاته باءت بالفشل.
قبائل الجنوب والثورة:
في عام 1890 ثارت قبائل الجنوب على الخليفة (عبدالله) وفي نفس الوقت أخذت الدولة توسع نشاطها في أقصى الجنوب، ففي عام 1888 أنشئت الشركة التي عرفت باسم /شركة أفريقيا الشرقية البريطانية/ وكان عملها الظاهر هو تبيان الحدود داخل مناطق النفوذ البريطانية أما الباطن لهذه الشركة فهو بسط النفوذ الإنكليزي سياسياً وتنصير أهالي الجنوب، وفي عام 1890 أصبحت يوغندة مستعمرة بريطانية وفي عام 1891 وقع كل من بريطانيا وإيطاليا بروتوكولاً عينت بموجبه مصالح الدولتين والحدود الفاصلة بين السودان وأرتريا المستعمرة الجديدة لإيطاليا، وخلال السنتين اللتين أعقبتا هذه الاتفاقية حدثت تطورات كثيرة، منها ازدياد أطماع الفرنسيين والدول الأوروبية، ودفع الحكومة البريطانية إلى التخلي عن سياسة التدخل في السودان، وبعد سقوط الخرطوم والضعف الذي لحق بالدولة المهدية - ذلك كله كان إيذائاً للقوات التركية والمصرية بالزحف إلى السودان.
بدأ احتلال السودان من جديد عام 1896 وفي عام 1897 قتل الخليفة (عبدالله) وكانت جيوش الخليفة قد هزمت، وقد أطلقت القوات الغازية سراح السجناء الذين بلغ عددهم 10.654 سجيناً في أم درمان - ومن الأعمال المؤلمة لدى السودانيين قيام الجيوش الغازية بتحطيم /قبة المهدي/ كذلك أخذ ما بقي من جثته وإحراقها في أحد مواقد السفن ثم نثر رمادها في نهر النيل، رفع بعدها العلمان الإنكليزي والمصري فوق مدينة الخرطوم.
ومن هنا نعتبر قيام السودان الإنكليزي المصري.
«جنوب السودان» جغرافياً وسكانيّاً:
يعرَّف جنوب السودان بأنَّه الجزء الذي يمتد جنوباً حتى بحيرة /البرت/ بيوغندة، ويشتمل الجنوب على ثلاث مديريات هي:
أ - بحر الغزال.
ب - الاستوائية.
ت - أعالي النيل.
وتبلغ مساحة هذه المديريات /250/ ألف ميل مربع أي ربع مساحة البلاد، ومما لا شك فيه أن نهري النيل هما اللذان وهبا الحياة للسودان ولشعبه ولشعوب أخرى – أمّا في الجنوب فقد أوجد النهر مساحات واسعة تغطيها المستنقعات وهذه المنطقة تعرف بـ/السدود/، كما أن مجرى النهر يتبدل على الدوام، هنا وفي هذه المناطق تقع الغابات الاستوائية، وتعلو الجبال التي تموج بالأزهار وبأشجار الفاكهة، وفيها تعيش الحيوانات المفترسة الكبيرة، هنا تدب قطعان الفيلة الكبيرة والصغيرة وفيها تمشي أفراس الماء كما أن وحيد القرن يهجم على كل ما يقف أمامه بقوة جارفة، في هذه المنطقة تزأر الأسود، من هنا تنطلق الظباء هاربة من ملاحقيها، هنا تتواجد الأفاعي الكبيرة الضخمة والتي تعرف بـ /الأصلة/، هذا هو الجنوب بمديرياته الثلاث...
سكان الجنوب:
ينقسم سكان الجنوب إلى ثلاث قبائل أساسية هي:
أ - النيليون الذين يتكونون من الدينكا والنوير والشلك والأنواك( ).
ب - النيليون الحاميّون: الذين يتكونون من القبائل التالية: المورلي (الديدنجا) و(البويا) و(التبوسا) و(الأتوكا) وتعيش أكثرية هذه القبائل في مديرية الاستوائية كما يعيش جزء منهم في يوغندة وكينيا.
ت - السودانيون: يتكونون من عدة قبائل صغيرة، وتعيش في الجزأين الغربي والجنوبي، وأهم هذه القبائل هي قبيلة (الزاندي)، أما القبائل الأخرى فهي (البااي) و(النيانجورا) و(الماندراي) و(الفوجلو) و(المورو) و(اللالوبا) وهذه غير قادرة على بسط نفوذها على بقية القبائل كما أنَّها لم تستقر منذ زمن قديم في جنوب السودان، أما (الشلك) فقد هاجرت من المناطق الواقعة شرق بحيرة فكتوريا بيوغندة، أما قبيلة (الدينكا) فقد هاجرت من مناطق البحيرات العظمى في شرق أفريقيا، وقبيلة (الزاندي) فقد هاجرت من أواسط أفريقيا، بينما القبائل السودانية فقد هاجرت من قرب بحيرة تشاد، وكل هذه القبائل لا تستطيع الادعاء بأنَّها من السكان الأصليين، ويعيش أكثرهم في أراضي بحر الغزال وأعالي النيل.
اللهجات:
إنَّ اللهجات الرئيسية هي لهجات النيلين والتي تشتمل على لهجات قبائل (الدينكا) و(النوير) و (الشلك) و (الأشولي) و (البرن)، أما لهجات قبائل (الباري) فهي تشمل كلاً من القبائل التالية: (الياري) و (الأتوكا)، وكذلك تشتمل لهجات قبيلة (الديدنجا) على (الديدنجا) أنفسهم وكذلك قبيلة (التوبوسا) وكذلك لهجات (الماوي) تشمل كلاً من قبيلة (الماوي والمورو)، وكذلك لهجة الزاندي على قبيلة (لموندي والكريش) والذي نفهمه من ذلك أنَّ في جنوب السودان عدة لهجات يتم التخاطب بها، ويقدّر ورد عدد اللهجات المستخدمة بـ اثنتي عشرة لهجة، وبالرغم من أنَّ هذه اللهجات يتم التخاطب بها إلاَّ أنَّها لم تستطع أن تكون لغةً أساسية حضارية، وبقيت اللغة الأساسية للمخاطبة والتفاهم هي اللغة العربية المحلية بين كافة القبائل بالرغم من كل المحاولات الأجنبية لإخفائها.
الديانة:
توجد في جنوب السودان الديانات التالية:
1 - الإسلام.
2 - الوثنية.
3 - المسيحية من كاثوليك، وبروتستانت.
النظم السياسية:
توجد في جنوب السودان تنظيمات سياسية عديدة تتباين من قبيلة إلى أخرى، فقبيلة الشلك مثلاً تمتاز بنظام ملكي يقوم على تقديس الملك، أما لدى قبيلتي (الدينكا) و (الباري) فالسيادة يتمتع بها «صانع المطر» وهي سيادة مطلقة، بينما السلطة لدى قبيلة (النوير) فهي بأيدي أشخاص من ذوي النفوذ الديني الموروث، وبعيداً عن متناول أيدي رجال السياسية، وانطلاقاً مما ذُكِر آنفاً يمكننا القول بأنَّ لجنوب السودان خصائص متعددة سياسياً وثقافياً وقومياً، وهذا ما يفقده صفة الانسجام والوحدة؟
جنوب السودان وآفاق المستقبل ج1-لأحمد أبو سعدة
جنوب السودان وآفاق المستقبل كتاب جديد ومهم يتحدث عن مشكلة الجنوب ولأهمية الكتاب وضرورة الإطلاع عليه قامت الجمعية الدولية للمترجمين واللغويين العرب بتقديم التهاني للكاتب والباحث الكبير الاستاذ أحمد أبو سعدة بمناسبة الأعياد وقدوم السنة الجديدة وطلبت منه إذناً خطياً لنشر الكتاب في مركز واتا للدراسات الإفريقية وقد حصلنا على موافقة حصرية لنشره في هذا المركز ونقوم بنشره علىحلقات.
جنوب السودان
و
وآفاق المستقبل
ذات يوم من أيام الخريف الجميلة كان شاب طويل القامة يخطو بثبات نحو بركة للماء وخلفه عدد من الأولاد والنسوة.
بجانب البركة جثى شاب آخر يغرف الماء ويعبئه بقربته الجلدية والناس ملتفون حول البركة يفعلون مثلما يفعل الشاب الجاثي.
كل شيء هادىء في المكان إلا صوت الماء الذي يغرف ويوضع في القرب.
دقق الشاب الطويل يتفحص البركة وجوانبها ليأخذ له مكاناً يعبىء
منه الماء.
انقطع الهدوء حين سأل الشاب الطويل الشاب الجاثي:
ماذا تفعل هنا يا عثمان؟.
مثلما تفعل أنت يا لام.
أنا هنا بفعل الحياة.
وأنا هنا بفعل الوجود.
أربع جمل تبادلها عثمان ولام وكان ما كان؟؟.
* * *
جنوب السودان وآفاق المستقبل
إهداء
إلى روح صديقيَّ
العقيد السوداني خليفة كرار بلة
والمناضل الأرتري صالح أحمد آياي
اللذين ناضلا في سبيل تحقيق الاستقلال التام والوحدة الوطنية في كل من السودان الشقيق وأرتريا، فكان للأول ما أراد، أما صالح فلقد توفاه الله وهو يناضل من أجل إعادة الحق إلى نصابه.
وإلى روح شهيد فلسطين والوطن العربي والإسلامي المجاهد
عبد العزيز الرنتيسي
غفر الله لهم
دمشق في 1/6/2006
أحمد أبو سعدة
«أينما ذهبت وأمعنت في التوغل.. في القرى والغابات وعلى قمم الجبال وجدت اللغة العربية منتشرة بين السكان.. وعليه يجب إعادة النظر وبحذر شديد فيما يجري وعلينا بذل الجهد والمال لوقف الدين الإسلامي واللغة العربية..»
ر. س. أوين
الحاكم العام الانكليزي للسودان
المقدمـة
- سألني أحد أصدقائي عن سبب كتابتي لمواضيع وكتب، لا يقرؤها ولا يهتم بها سوى عدد قليل من الناس؟
- ابتسمت وأردت الإجابة، لكنه لم يتركني أرد على كلامه بل تابع مندفعاً:
- أنت تكتب عن الصراع والاضطرابات العلنية والمخفية في مناطق متعددة وبعيدة جغرافياً و...
- قاطعته وبقوة:
- نعم إنني أكتب عن ما ذكرته، أكتب في التاريخ السياسي الحديث عن أفريقيا وهموم شعوبها؟
- عاد صديقي العزيز ليسألني ساخراً: هل تكتب الآن عن قبائل (الماوماو)؟ وأطلق لضحكته العنان.
- ضحكت بدوري وأجبته بجدية: أكتب الآن عن جنوب السودان و......
- /حلو/ عن (كرنغ) وصديقه الترابي؟
- اسمع يا صديقي: إنني أكتب عن السودان هذا البلد العربي المسلم الأصيل، صحيح وأكيد إنني لا أدعي الإنابة أو الأصالة عن الشعب السوداني الطيب، إلا أن عليك أن لا تنسى أنني عربي وأتعامل مع الناس على هذا الأساس، وهذا الأمر يماشي ويناسب معتقدي الوطني والقومي والإنساني...
إن الوقائع التي جرت وتجري على أرض السودان تخيفني وترعبني؟
- هذا كلام مغامر وليس كلام كاتب ومحلل سياسي؟ أيها العزيز، أنت تحب المغامرة؟
- أي مغامرة هذه؟ يا صديقي... إنها هموم ومتاعب أمتي، حاضرها ومستقبلها... وجودها... تلاشيها...: لذلك عليّ البحث والسعي لدرء الخطر عنها، علينا أن نقلب الكثير من صفحات التاريخ لنأخذ منها العبر، بعد ذلك نقدمها إلى أبناء أمتنا، كي يستفيدوا منها.
- أنت تحب السرد.
- لا يهم، قل ما تشاء وسمِّ الحقيقة بما يحلو لك تسميتها /سرد/ حكاية - رواية - تاريخ - صراع،... لا يهم قل ما تشاء. لكن عليك أن لا تنس أمراً حقيقياً واحداً وهو تسابق المستعمرين الأوروبيين الذي كان وما زال مزيجاً من الحقد والأنانية والسيطرة والتهافت على كسب المغانم والحصول على المواد الخام والحماسة الدينية /الفرنجية/ ونشرها في القارة السمراء.
- هز صديقي /العتيق/ رأسه وقال مازحاً... اكتب كان الله بعونك... اكتب وسنقرأ ما سوف تكتبه؟...
- حسناً سأكتب لكن عليك أن تعلم بأن ماضي أفريقيا يكاد يكون غير معلوم لكثير من الناس، وإن ما كتب عنها كان من وجهة نظر المستعمرين الأوروبيين والأمريكان واليهود الذين جاؤوا إليها واغتصبوا منها الحرية وإنسانية إنسانها، جاء المستعمرون وإرسالياتهم التبشيرية وقالوا سوف نهدي هؤلاء الأفارقة المتوحشين الضالين؟ جاؤوا وعلى وجوههم الغضب وفي قلوبهم الحقد... لكن هؤلاء المستعمرين نسوا أو تناسوا أن للإفريقيين /جذوراً/ وأن هذه الجذور أعطت وتعطي الحياة الحرة الكريمة، قبل أن تكون لهؤلاء المستعمرين حياة.
إنني في كتابي هذا لا أنقب عن ماضي القارة السمراء بشكل عام إنما أبحث عن كرامة الإنسان الإفريقي عامة والشعب السوداني العريق خاصة أننا وبلا شك أمام مسؤولية دقيقة وهامة وهي مشكلة جنوب السودان، إنني كعربي لا أقبل وأرفض وبكل قوتي ما جرى ويجري الآن في السودان بشكل عام وجنوبه بشكل خاص، إننا أمام خطر فظيع وهو لا يقل عن خطر الضياع المؤقت /لفلسطين وعربستان والإسكندرون و..... احتلال العراق....
أيها العرب إن العواصف الشيطانية التي تهب علينا من القوى المعادية لعروبتنا هي عواصف مؤقتة، فليس عيباً أن تزلزل الأرض وينشق البنيان، لكن العيب أن نقف وننظر إلى قضايانا المصيرية ببصر زائغ وأيدٍ مغلولة؟
نحن في مرحلة خطرة /الوجود أو عدمه/ مرحلة فرضتها علينا القوى الظالمة، هل نكون أو نتلاشى؟
وكتابي هذا يهدف إلى شرح بعض جوانب قضية جنوب السودان وخاصة أنَّنا على بعد خطوات قليلة من ضياع هذا الجزء الهام من أرض السودان.
إنَّ الدوائر السياسية الغربية ذات الأغراض الاستعمارية، والجمعيات التبشيرية الأوروبية والأمريكية ومعهما الإعلام العالمي المتصهين هؤلاء كلهم يحاولون تصوير مشكلة الجنوب على أنَّها مشكلة دينية وبأنَّها مشكلة شعب جائع محروم مقهور من جانب العرب السودانيين، ونظراً إلى عدم استيعاب المشكلة على أساس موضوعي أضحى المشهد مضطرباً في الأذهان.
من هنا رأيت أنَّ من واجبي كعربي تعصف به الأحداث الأليمة والمفروضة علينا من قبل قوى التجبر والبغي، أن أقدم صورة مجملة للقارئ العربي عما يجري في السودان، وخاصة في جنوبه، ونستطيع القول أنَّ الأمر وصل إلى حد الخطر الحقيقي، وما اعتمد من /حلول/ لقضية الجنوب في مباحثات (ماشاكوس)، ليس هو بالوضع الأفضل والصحيح؟
إن حرصي وخوفي على وحدة السودان شعباً وأرضاً هو الذي دفعني للمساهمة في إعداد هذا الكتاب، فلعلّي أساهم مع المخلصين في الوصول إلى حل مشرِّف تفادياً لوقوع كارثة قد تحل ليس في السودان فحسب بل في الوطن العربي كافة؟ وأنَّ ما يحصل في السودان الآن «شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً» سوف ينعكس ويهم جميع الدول الأفريقية أيضاً، يجب ألاَّ يغيب عن أذهاننا بأنَّ استمرار السودان واضطلاعه بدوره العربي يعد جسراً مهماً بين العرب الأفارقة وغيرهم من الأفارقة، وبقية شعوب العالم.
علينا التمسك بقيمنا الروحية والمادية من أجل وجودنا الذي أراده الله لنا وأبته قوى الطغيان والأنانية.
دمشق في 1/5/2006
أحمد أبو سعدة
مـدخــل
من المؤكد أن يسأل قراء هذا الكتاب عن معلوماتي التي دونتها من أين أتيت بها؟ والجواب عن ذلك في الآتي:
أراد الله عز وجل أن أعيش حياة ميدانية مع عدد من الشعوب الأفريقية وأن أساهم في أكثر من ثورة لهذه الشعوب، وهذا ما يسعدني ويمدني بالعزيمة للكتابة عن أفريقيا وأوضاعها، هذا أولاً وثانياً مطالعتي لكثير من الكتب والمصادر الأدبية والسياسية والتاريخية كذلك لقاءاتي مع العديد من قادة وزعماء الشعوب الأفريقية، ناضلت سياسياً، قاتلت كمناضل عربي إنساني بالسلاح في أكثر من بلد في القارة السمراء...
من هنا استمديت معرفتي بالقضايا والمسائل الأفريقية والكتابة عنها.
الـبـاب الأول
تعريف السودان
السودان
السودان بلد شاسع، إذ تبلغ مساحته مليون ميل مربع، وعاصمته الخرطوم والمسافة بين حدوده الشمالية والجنوبية المتاخمة لجمهورية يوغندة والكونغو تصل إلى /1400/ ميل بينما يبلغ عرضه من الشرق إلى الغرب في بعض الأماكن حوالي /1000/ ميل.
أما مساحته الإجمالية فتبلغ مليون ميلٍ مربع، كذلك تبلغ مساحة
مياهه /129810/ كم مربع ويمر في السودان نهرا النيل وهما النيل الأزرق
والنيل الأبيض.
النيل الأبيض: يبلغ طوله من بحيرة فكتوريا إلى العاصمة الخرطوم 1530 ميل.
أما النيل الأزرق: وينبع من منطقة بحر دار في أثيوبيا، ويلتقي النيلان في الخرطوم بمنطقة المقرن.
وأهم موارده: النفط /اكتشف مؤخراً/ خام الحديد - نحاس - كروم - زنك - تنجستين - ميكا - فضة - ذهب.
استقل السودان في 1/1/1956.
عدد سكانه حسب تقديرات عام /2000م/ تبلغ /35079814/ نسمة.
اللغة: العربية وهي اللغة الرسمية والوطنية ثم - النوبية - النيلية - الحامية - وعدد من اللهجات المحلية، وأدخلت الإنكليزية في عهد الاستعمار البريطاني.
الدين: الإسلام إذ يبلغ عدد المسلمين فيه 85%.
النظام السياسي: جمهوري.
عدد محافظاته: /26/ محافظة / ولاية.
العملة: الدينار السوداني.
قوته العسكرية حسب تقديرات عام /2000/ هي /94700/ فرد.
ينقسم السودان إلى قسمين هما: الشمال - الجنوب.
الأول : الشمالي الذي يعتبر أكثر تجانساً من الجنوب.
الثاني: الجنوب ويقع في قلب القارة الأفريقية وهو موضوع كتابي هذا /الجنوب وملامح المستقبل/.
الفصل الأول
السودان الحديث
تم تشكيل السودان الحديث أثناء الحكم العثماني والإدارة المصرية، ففي عام /1821م/ توجه جيش (محمد علي باشا) إلى كلٍّ من مناطق البحر الأحمر وسنار.
وفي عام /1838/ فتح منطقة شرقي السودان التي تسمى بلاد /التاكا/، ثم سواحل البحر الأحمر، وفي العقد السابع تم فتح جنوب السودان أي منطقة مديرية خط الاستواء.
وفي عام /1874/ تم فتح غرب السودان أي منطقة /دارفور/...
أثار الدخول العثماني المصري حفيظة الكثير من السودانيين فقاموا بثورات عدة لم يستطع الحكم العثماني المصري القضاء على حركة المقاومة نهائياً إلا في عام /1840/.
وفي عام /1870/ عين الخديوي الإنكليزي (صموئيل بيكر) حاكماً عاماً على المديريات الجنوبية وبعد ثلاث سنوات عاد (بيكر) للقاهرة وذهب بدلاً عنه (شارلس جورج غوردون) ومنذ عام 1873 بدأت علاقات (غوردون) بالسودان، فقد عين مديراً للاستوائية وانتهى بترفيعه إلى حاكم للسودان. ويعتبر (غوردون) آخر حاكم للسودان خلال فترة الحكم /المصري العثماني/.
في السنوات الخمس الأولى من عهد (غوردون) ( ) تدهورت الأحوال الاجتماعية والحياتية بسبب الإسراف الحكومي - كما لم تدفع رواتب الموظفين لعدة شهور وتراكمت الضرائب على الأفراد مما أدى إلى الاضطرابات والمشاكل.
وفي عام 1864 انفجر تمرد بالغ الخطورة داخل صفوف الجيش بمدينة كسلا وفي عام 1865 تمردت القوات العسكرية وانضم إليها الفيلق الرابع الذي كان معسكراً في مدينة كسلا، وجاء أحد الضباط وأقنع هذه القوات بإلقاء السلاح واعداً إياهم بالعفو.
لم تفِ الحكومة بالوعد وأعدمت الكثير من أفراد القوات المسلحة مما أثار غضب الجنود السودانيين - كذلك اندلعت نيران العصيان في كل من سواكن - سنار - كسلا وبعدها عمدت الحكومة إلى تخفيض القوات العسكرية... هكذا كان وضع السودان عندما اندلعت الثورة المهدية في شهر آب /أغسطس/ عام 1880 ومن الممكن القول بأن الثورة المهدية( ) كانت عامل احتجاج ضد النظام الذي هز وضع المجتمع السوداني نتيجة الضرائب الباهظة وسخط العسكريين وعدم رضا الكثير من الطوائف الدينية وزعمائها التقليديين... وفي خصوص الثورة المهدية ذكر اللورد (كرومر) الآتي:
«كان على الحكومة المصرية أن تواجه ثورة عارمة استمدت قوتها من عنصرين الأول ديني روحي - وناجم عن سوء الإدارة الحكومية ما أدى إلى كراهية الموظفين للنظام التركي المصري».
وهنا لابد أن نشير إلى أن الدعوة إلى المهدية قد قضت على كل ولاء قبلي وديني.
والجماهير التي انخرطت في الثورة المهدية كانت من المضطهدين والفقراء - كما أن تعاليم المهدي هي تقبّل الناس لأحكام الله على الأرض كذلك شددت تعاليمه على الجهاد حيث نادى بضرورة التخلص من كل أعراض الدنيا الفانية.
انقضت المرحلة الأولى من مراحل الثورة المهدية، أي مرحلة الثورة والانتصار عندما مات (المهدي) وبعد وفاته بدأت المرحلة الثانية وهي تأسيس الدولة السودانية، حاول الخليفة (عبدالله) مواصلة الحرب وقد قبض بقوة على الجهاز الإداري والعسكري إلا أن محاولاته باءت بالفشل.
قبائل الجنوب والثورة:
في عام 1890 ثارت قبائل الجنوب على الخليفة (عبدالله) وفي نفس الوقت أخذت الدولة توسع نشاطها في أقصى الجنوب، ففي عام 1888 أنشئت الشركة التي عرفت باسم /شركة أفريقيا الشرقية البريطانية/ وكان عملها الظاهر هو تبيان الحدود داخل مناطق النفوذ البريطانية أما الباطن لهذه الشركة فهو بسط النفوذ الإنكليزي سياسياً وتنصير أهالي الجنوب، وفي عام 1890 أصبحت يوغندة مستعمرة بريطانية وفي عام 1891 وقع كل من بريطانيا وإيطاليا بروتوكولاً عينت بموجبه مصالح الدولتين والحدود الفاصلة بين السودان وأرتريا المستعمرة الجديدة لإيطاليا، وخلال السنتين اللتين أعقبتا هذه الاتفاقية حدثت تطورات كثيرة، منها ازدياد أطماع الفرنسيين والدول الأوروبية، ودفع الحكومة البريطانية إلى التخلي عن سياسة التدخل في السودان، وبعد سقوط الخرطوم والضعف الذي لحق بالدولة المهدية - ذلك كله كان إيذائاً للقوات التركية والمصرية بالزحف إلى السودان.
بدأ احتلال السودان من جديد عام 1896 وفي عام 1897 قتل الخليفة (عبدالله) وكانت جيوش الخليفة قد هزمت، وقد أطلقت القوات الغازية سراح السجناء الذين بلغ عددهم 10.654 سجيناً في أم درمان - ومن الأعمال المؤلمة لدى السودانيين قيام الجيوش الغازية بتحطيم /قبة المهدي/ كذلك أخذ ما بقي من جثته وإحراقها في أحد مواقد السفن ثم نثر رمادها في نهر النيل، رفع بعدها العلمان الإنكليزي والمصري فوق مدينة الخرطوم.
ومن هنا نعتبر قيام السودان الإنكليزي المصري.
«جنوب السودان» جغرافياً وسكانيّاً:
يعرَّف جنوب السودان بأنَّه الجزء الذي يمتد جنوباً حتى بحيرة /البرت/ بيوغندة، ويشتمل الجنوب على ثلاث مديريات هي:
أ - بحر الغزال.
ب - الاستوائية.
ت - أعالي النيل.
وتبلغ مساحة هذه المديريات /250/ ألف ميل مربع أي ربع مساحة البلاد، ومما لا شك فيه أن نهري النيل هما اللذان وهبا الحياة للسودان ولشعبه ولشعوب أخرى – أمّا في الجنوب فقد أوجد النهر مساحات واسعة تغطيها المستنقعات وهذه المنطقة تعرف بـ/السدود/، كما أن مجرى النهر يتبدل على الدوام، هنا وفي هذه المناطق تقع الغابات الاستوائية، وتعلو الجبال التي تموج بالأزهار وبأشجار الفاكهة، وفيها تعيش الحيوانات المفترسة الكبيرة، هنا تدب قطعان الفيلة الكبيرة والصغيرة وفيها تمشي أفراس الماء كما أن وحيد القرن يهجم على كل ما يقف أمامه بقوة جارفة، في هذه المنطقة تزأر الأسود، من هنا تنطلق الظباء هاربة من ملاحقيها، هنا تتواجد الأفاعي الكبيرة الضخمة والتي تعرف بـ /الأصلة/، هذا هو الجنوب بمديرياته الثلاث...
سكان الجنوب:
ينقسم سكان الجنوب إلى ثلاث قبائل أساسية هي:
أ - النيليون الذين يتكونون من الدينكا والنوير والشلك والأنواك( ).
ب - النيليون الحاميّون: الذين يتكونون من القبائل التالية: المورلي (الديدنجا) و(البويا) و(التبوسا) و(الأتوكا) وتعيش أكثرية هذه القبائل في مديرية الاستوائية كما يعيش جزء منهم في يوغندة وكينيا.
ت - السودانيون: يتكونون من عدة قبائل صغيرة، وتعيش في الجزأين الغربي والجنوبي، وأهم هذه القبائل هي قبيلة (الزاندي)، أما القبائل الأخرى فهي (البااي) و(النيانجورا) و(الماندراي) و(الفوجلو) و(المورو) و(اللالوبا) وهذه غير قادرة على بسط نفوذها على بقية القبائل كما أنَّها لم تستقر منذ زمن قديم في جنوب السودان، أما (الشلك) فقد هاجرت من المناطق الواقعة شرق بحيرة فكتوريا بيوغندة، أما قبيلة (الدينكا) فقد هاجرت من مناطق البحيرات العظمى في شرق أفريقيا، وقبيلة (الزاندي) فقد هاجرت من أواسط أفريقيا، بينما القبائل السودانية فقد هاجرت من قرب بحيرة تشاد، وكل هذه القبائل لا تستطيع الادعاء بأنَّها من السكان الأصليين، ويعيش أكثرهم في أراضي بحر الغزال وأعالي النيل.
اللهجات:
إنَّ اللهجات الرئيسية هي لهجات النيلين والتي تشتمل على لهجات قبائل (الدينكا) و(النوير) و (الشلك) و (الأشولي) و (البرن)، أما لهجات قبائل (الباري) فهي تشمل كلاً من القبائل التالية: (الياري) و (الأتوكا)، وكذلك تشتمل لهجات قبيلة (الديدنجا) على (الديدنجا) أنفسهم وكذلك قبيلة (التوبوسا) وكذلك لهجات (الماوي) تشمل كلاً من قبيلة (الماوي والمورو)، وكذلك لهجة الزاندي على قبيلة (لموندي والكريش) والذي نفهمه من ذلك أنَّ في جنوب السودان عدة لهجات يتم التخاطب بها، ويقدّر ورد عدد اللهجات المستخدمة بـ اثنتي عشرة لهجة، وبالرغم من أنَّ هذه اللهجات يتم التخاطب بها إلاَّ أنَّها لم تستطع أن تكون لغةً أساسية حضارية، وبقيت اللغة الأساسية للمخاطبة والتفاهم هي اللغة العربية المحلية بين كافة القبائل بالرغم من كل المحاولات الأجنبية لإخفائها.
الديانة:
توجد في جنوب السودان الديانات التالية:
1 - الإسلام.
2 - الوثنية.
3 - المسيحية من كاثوليك، وبروتستانت.
النظم السياسية:
توجد في جنوب السودان تنظيمات سياسية عديدة تتباين من قبيلة إلى أخرى، فقبيلة الشلك مثلاً تمتاز بنظام ملكي يقوم على تقديس الملك، أما لدى قبيلتي (الدينكا) و (الباري) فالسيادة يتمتع بها «صانع المطر» وهي سيادة مطلقة، بينما السلطة لدى قبيلة (النوير) فهي بأيدي أشخاص من ذوي النفوذ الديني الموروث، وبعيداً عن متناول أيدي رجال السياسية، وانطلاقاً مما ذُكِر آنفاً يمكننا القول بأنَّ لجنوب السودان خصائص متعددة سياسياً وثقافياً وقومياً، وهذا ما يفقده صفة الانسجام والوحدة؟
جنوب السودان لأحمد أبو سعدة
الفصل الأول
عقيدة الإنكليز
«علينا أن نعلم هؤلاء الوحوش السلوك والطاعة».
هذا هو شعار المحتلين البريطانيين لجنوب السودان وهو الذي كانوا يرددونه ويعملون به.
في الوقت الذي كانت فيه قوات الحكم الثنائي تعمل لإخضاع قبائل الجنوب ووضعها تحت سيطرتها كانت الحكومة المركزية في الخرطوم تعمل لإيجاد أسس حضارية لإدارة مناطق الجنوب التي تم إخضاعها بالقوة - ومن ثم تخليصها من السيطرة البريطانية.
في عام 1921 اقترحت الحكومة المركزية أن تحكم الجنوب السلطات المحلية الأصلية ويكون هذا الحكم تحت إشراف الحكومة، هذا من جهة أما الجهة الأخرى فهي اقتراح الحاكم البريطاني أن يتخذ عدة خطوات لتثبيت وتقوية وضع الحكومة المركزية لتثبت وجودها علماً بأن الحكومة المركزية كانت توجه وتُؤتمر من قبل الحاكم العام الإنكليزي للسودان وبهذا يكون الاقتراح الذي تقدمت به الحكومة السودانية قد أُملي وفرض عليها من قبل البريطانيين، ومن هذه الاقتراحات:
أ - تأسيس جيش مستقل لجنوب السودان بحجة أن السودانيين مسلمون ويوجههم الإمام لحفظ القرآن.
ب - وعلى إثر الاقتراح الأول تم تشكيل الفرقة الاستوائية وكانت كافة عناصرها من الجنوبيين كما أسلفنا سابقاً، كما كانت لغة التخاطب هي اللغة الإنكليزية التي فرضت فرضاً، والشرط الأساسي لجنود هذه الفرقة أن يكونوا أصحاب عقيدة فرنجية مسيحية!
وهكذا تم الإعداد لقيام التمرد وبشكل غير منظور إنما بشكل خفي.
«شكل هذا الجيش وأصبح الأنانيا /1/ والأنانيا /2/ وبعدها أضحت الحركة الشعبية لتحرير السودان... والتي جلست الند للند مع الحكومة المركزية السودانية بمفاوضات ما سمي بالسلام»... وفيما يأتي نقدم مثالاً آخر وهو في منتهى الأهمية:
البلاغ رقم /واحد/:
إن الحاكم العام للسودان والذي كان أيضاً ضابطاً ممتازاً في الجيش البريطاني قد قتل قتلاً فظيعاً وبناءً عليه تطلب حكومة حضرة صاحبة الجلالة من الحكومة المصرية الآتي:
1 - أن تقدم اعتذاراً كافياً عن الجناية.
2 - أن تدفع في الحال إلى حكومة حضرة صاحبة الجلالة غرامة قدرها نصف مليون جنيه [ حينها أما الآن فثمن الفرد يبلغ عشرة ملايين دولار، وقد دفع (العقيد القذافي) هذا المبلغ للفرد الغربي الواحد ]؟؟!
«هذا ثمن الرجل الإنكليزي أما ثمن الرجل العربي فكان عشرين جنيهاً وقد ارتفع ثمنه الآن وخاصة في العراق وقد يصل إلى /100/ دولار هذا إذا تكرمت قوات الاحتلال الأمريكية الإنكليزية ودفعت؟ أما في فلسطين المحتلة فلا ثمن لـه /بلاش/».
3 - أن تصدر في خلال /24 ساعة/ الأوامر بإرجاع جميع الضباط المصريين ووحدات الجيش المصري البحتة من السودان «موت رجل إنكليزي واحد يعادل جيش مصري كامل»!
4 - أن تبلغ المصلحة المختصة أن حكومة السودان ستزيد مساحة الأطيان التي تزرع في الجزيرة من (300) ألف فدان إلى مقدار غير محدد تبعاً لما تقتضيه الحاجة. /طبعاً البريطانية/.
5 - إذا لم تلب هذه المطالب في الحال تتخذ حكومة صاحبة الجلالة على الفور التدابير المناسبة لصيانة مصالحها في مصر والسودان؟!
لقد استغلت بريطانيا حادث قتل الضابط الإنكليزي وعملت على إتمام أهدافها.
طرد الجيش المصري من السودان:
طرد الإنكليز الجيش المصري من السودان وأرغمت مصر على دفع النفقات العسكرية لعودة الجيش من السودان إلا أن الزعيم المصري (سعد زغلول) لم يقبل بذلك فقدم استقالته احتجاجاً على التصرف البريطاني وعلى إثر الاستقالة تألفت وزارة جديدة برئاسة (زيور باشا) الذي قبل وقبلت معه حكومته هذا الطرد بعدها أصدرت الحكومة المصرية المعينة من قبل الإنكليز أمراً بعودة القوات المصرية إلى البلاد، وفعلاً تمت إعادة الجيش المصري للبلاد، وقد ادعى البريطانيون أن السودانيين أبدوا ارتياحهم ورضاهم للوضع الجديد الذي أوجدوه، لكنه ثبت عكس ذلك فقد تمرد الجيش السوداني ورفض الوجود البريطاني، وفي ما يلي أورد الرواية التالية للدلالة على أن الدم العربي لا يمكن أن ينفصل وأن يتلاشى مهما طغت وتجبرت القوى الاستعمارية ومهما رضخ البعض:
اللورد اللنبي:
في السادس من شهر كانون الثاني عام 1924 أرسل اللورد (اللنبي) إلى السير (أوستين شمبرلين) التقرير التالي:
في يوم الثلاثاء 27 تشرين الثاني /نوفمبر/ من عام 1924 وأثناء القيام بعملي في مكتبي بوزارة الحربية، وصل في الساعة الرابعة والنصف من بعد الظهر المستر (كيرلس) المفتش في الخرطوم وأبلغني أن ضابطاً من الكتيبة الحادية عشرة السودانية هددني بمسدسه، فاعترتني دهشة بالغة جعلتني أكاد لا أتصرف، فتوجهت لمكتب المركز لمقابلة الكولونيل (ماك كوان) وفي أثناء الحديث جاءني أحد رجال المكتب السوداني القدامى وقال لي وقد بدت عليه علامات الانفعال، إنه رأى قوميين من الكتيبة الحادية عشرة السودانية متوجهين بسرعة نحو المعسكرات البريطانية، فخرج الكولونيل (كوان) على الفور بسيارته ليرى ماذا يجري، بعدها ذهب إلى المكان الذي به كتيبة المستر (ليستر) فقلت لهم أن يعطوا إشارات الإنذار والوقوف على أهبة الاستعداد وتنبيه الكتيبة الأخرى، كتيبة /اركليز/ للقيام بنفس الاحتياط... في الساعة الخامسة من بعد الظهر، عاد الكولونيل (كوان) وأخبرني أن جزءاً من المتمردين بمدافعهم الرشاشة قد أوقف في مواجهة الشرف في شارع الخديوي بجانب المستشفى العسكري المصري... تركت الكولونيل (كوان) وتوجهت بسيارتي لمقابلة الضابط المتولي قيادة الأركيلز (الميجور كوير)... أبلغته الحالة.
وأمرته بأن يعزز موقفه بكافة المدافع وعددها /6/ فلما أتم استعداده ذهبنا معاً في الطريق وصلت إلى الخطّ الفاصل وقلت لهم /يقصد للسودانيين/ إني السردار، أطيعوا الأوامر؟
رفض /السودانيون/ وعدت إلى الميجر (ماجركوير) وطلبت منه أن يفتح النار بكل المدافع، رد السودانيون علينا النار بالنار... لم تقع بيننا إصابات...
وفي الصباح تقدمنا من جديد غير متوقعين معارضة جدية، إذ كنا نعتقد أنهم قد هزموا، ولكن عندما قربنا من المبنى الطبي قوبلنا من جديد بضرب شديد وأثناء الضرب وصلت المدافع... فتحنا النار على الجانب الشمالي الشرقي من المنطقة... لكن الرجال السودانيين ظلوا صامدين حتى النهاية.
حاولت الكتيبتان /لستر/ و /اركل/ اقتحام المنازل المتحصن فيها السودانيون فردوا في كل مرة على أعقابهم بخسائر... حاصرنا مبنى كان فيه السودانيون وأطلقنا عليهم /40/ طلقة مدفع... اعتقدنا أنهم قد ماتوا ولم يبق منهم أحدٌ حياً.
ولكننا أخطأنا التقدير وحصلت معركة كبيرة لمدة ساعات طويلة ولما اقتحمنا المنزل - أخرجنا من بين الأنقاض أجساد ضابط وأربعة عشر جندياً سودانياً.
إن أولئك الرجال السودانيين قاوموا مقاومة جبارة حتى بدا مستحيلا أن ينجو أحد من الموت المحتم( ).
ما الهدف من وراء إبعاد الجيش المصري إلى مصر وضرب الجيش السوداني؟
الهدف واضح ولا يحتاج إلى كثير من التفسير والشرح.
الهدف هو إبعاد السودان، خاصة الجنوب، عن مصر، وقد ادعى البريطانيون أنهم يعملون لحماية القبائل الجنوبية /وهذا عكس ما كان يفعله البريطانيون/ من التأثير الثقافي السوداني وقد أوصل البريطانيون إلى الحكومة السودانية طلبهم بأن عليها أن تحكم جنوب السودان بشكل منفصل عن الشمال، ثم اقترحت الحكومة البريطانية على الحكومة السودانية إمكانية قطع الجزء الجنوبي وضمه إلى بعض أجزاء المناطق التابعة للمستعمرات البريطانية في شرق أو وسط أفريقيا.
كما اقترح البريطانيون في مذكرة مكتوبة سلمها سكرتير التعليم والصحة إلى السكرتير المدني الآتي:
«السياسة البريطانية في الجنوب يجب أن تهدف إلى فصل الجنوب عن الشمال بهدف خلق مجموعتين عرقيتين لكل منهما خصائص مختلفة وتطلعات مختلفة أيضاً» وبعد فترة سلمت مذكرة ثانية تحوي نفس العبارات ثم جاءت المذكرة الثالثة للحكومة البريطانية تقول المذكرة الآتي:
أ - يجب ترسيم الحدود بين الجنوب والشمال على خط يسير من الشرق إلى الغرب ويتبع نهري /بارو/ و /سوباط/ والنيل الأبيض وبحر الغزال.
ب - بدأت الحكومة البريطانية تنفيذ ما تريده عن طريق ضغطها على الحكومة السودانية التي استجابت لها.
وفي عام 1920 وإلى عام 1930 وخلال هذه الأعوام العشرة بدأت الحكومة بأخذ الخطوات التالية في الجنوب من أجل قطعه وضمه إلى مستعمراتها ثم بدأت بأخذ الخطوات في الجنوب وفق الترتيب الآتي:
أ - كان حكام الجنوب وعددهم ثلاثة أشخاص أي لكل إقليم حاكم يحضرون اجتماعات الحكام التسعة في الشمال، إلا أن الحاكم العام البريطاني طلب منهم عدم الذهاب إلى الخرطوم لحضور الاجتماعات، وأن عليهم أن يقيموا اجتماعاتهم في الجنوب وأن يلتقوا نظراءهم في كل من يوغندة وكينيا، وبرر الحاكم العام البريطاني خطواته هذه بقوله:
«أن خطوته هذه بُنيت على أساس طبيعي وديمقراطي ولكون المحافظات الثلاثة قريبة من الدول التي عنيناها؟!.
والحقيقة أن خطوة الحاكم الإنكليزي هي بهذا الخصوص: عزل أبناء البلد الواحد عن بعضهم البعض تقديماً للانفصال المؤجل».
ب - في العام نفسه أي عام 1922 صدر قانون استخراج جوازات السفر وتوابعه وكان الغرض من ذلك تقوية مركز وقوة الحاكم العام مما يمكنه من إعلان أي منطقة أو جزء من الجنوب منطقة مغلقة أمام كافة السودانيين أو غير السودانيين، كما فوض البند الـ /22/ من القانون بقفل أي جزء من جنوب السودان أمام التجارة، وكذلك فوض البند الـ /28/ الحاكم العام الإنكليزي منع العمال وفي أي جزء من السودان من العمل داخل السودان وخارجه إلا بموجب تصريح ممهور بتوقيع الحاكم الإنكليزي العام؟.
ت - أصدر الحاكم العام قانوناً تحت اسم قانون «المناطق المغلقة» وبموجبه أعلن كلاً من المناطق التالية مناطق مغلقة، وكذلك سمح الحاكم بدخول هذه المناطق للسودانيين الذين يحملون أذوناً مدونة من الحاكم أو السكرتير المدني أو من حاكم المحافظة:
1 - دارفور ـ
2 - الاستوائية ـ
3 - بحر الغزال ـ
4 - أعالي النيل ـ
5 - جزء من شمال كردفان ـ
6 - قيسان - قيسان ـ
7 - كسلا ـ
ث - في عام 1921 قررت الحكومة دعم الإرساليات الفرنجية في الجنوب إذ قرر الحاكم العام أن تأخذ الحكومة مسؤولية التنظيم والإشراف على الإرسالية وقد منحت الحكومة المال اللازم لهذه الإرساليات وتم صرف المال لهم وبعد 6 سنوات صادقت الحكومة على قانون منح المال للإرساليات.
ج - شدد القانون الذي صدر عام /1925/ على عدم السماح لغير الجنوبيين بالتجارة كما منع التجار الشماليين من ممارسة التجارة إلا بعد موافقة الحاكم العام.
عند قراءتنا وتمعننا لهذه الفقرات نجد أن البريطانيين كانوا يستعدون لفصل الجنوب عن الشمال وهناك من يقول أن السلطات البريطانية لم يكن لها تفكير ثابت حول الفصل وكانوا يقولون أيضاً أن الأفكار السائدة في السنوات الأولى من الحكم البريطاني للجنوب كانت غير واضحة! والحقيقة هي أن البريطانيين كانوا يعملون وبتنسيق كبير فيما بينهم، لأنهم كانوا خائفين من انتشار الثقافة السودانية الوطنية، لأن انتشارها كان من الممكن أن يهدد الوجود البريطاني لذلك عملوا على إنهاء الوجود العربي المتمثل في اللغة والثقافة العربية، أما انتشار الدين /الفرنجي/ فهو أمر عادي ولا يهدد الوجود البريطاني بل يزيد في إرسائه وبهذا الخصوص قال الحاكم العام الإنكليزي للسودان الآتي: إذا ما اقتنع الزنجي بتعاليم الدين /الفرنجي/ فإنه سيتحول إلى وغد زنديق وعاطل وسفيه ماكر؟!
لقد أريد للجنوب أن يكون قاعدة استعمارية غربية دينية متهودة، حتى يصد انتشار العقيدة والثقافة الإسلامية فيه وفي الدول التي تجاوره.
وبهذا الخصوص كتب اللورد (كتشنر) عام 1882 قائلاً:
ليس من شك في أن الدين الإسلامي يلقى ترحيباً حاراً في هذه البلاد /ويقصد طبعاً الجنوب السوداني/ فإذا لم تقبض القوى النصرانية على ناحية الأمر في أفريقيا فأعتقد أن العرب سيحظون حظوة كبيرة في هذه البلاد وسيصبح لهم مركز في وسط القارة يستطيعون منه طرد كافة التأثيرات الحضارية إلى الساحل وستقع هذه البلاد تحت العبودية.
النبي الزائف!
في عام 1909 قال القس (أرشيدكون شو) التالي عن القبائل الإفريقية: إن لم تتغير هذه القبائل السوداء في الأيام القليلة القادمة /يقصد بالتغيير التبدل الديني/ فإنهم سيصيرون /محمديين/ فهذه المنطقة منطقة استراتيجية لأغراض التبشير، إنها تمتد في عمق أفريقيا وهي منتصف الطريق بين القاهرة والكاب ثم يتابع قوله، أن الكنيسة في حاجة لإيوائها لصد انتشار الإسلام والقضاء على تعاليم النبي /الزائف/؟؟!! وبعد حوالي /100/ عامٍ تأتي صور الدانمارك الكاريكاتيرية لتثبت أن الفكر والمنهج الغربي المتصهين لا يتغير.
بعد ذلك جاءت وصية مؤتمر /ادنبره/ التنصيري عام 1910 وأهم ما جاء في هذا المؤتمر الوثيقة التي تقول:
إذا كانت أفريقيا ستكسب لمصلحة المسيح يجب أن تقوم قوة تنصيرية قوية في قلب أفريقيا لمنع تقدم الإسلام؟ وعلى أثر ذلك بدأت الإرساليات عملها خوفاً من التغلغل الإسلامي المتزايد ثم عمدت هذه الإرساليات إلى استخدام نفوذها لفصل الجنوب.
إن الانفصال قضية وطنية معقدة وأي خيار فيها لـه خسائره الكبيرة لكن الأمر الوحيد الذي يجب أن ندركه جيداً هو أن هذه القوى الغربية المتصهينة تعمل على عدم تمكن الإسلام من التغلغل في الجنوب والمناداة بضرورة إيجاد سودان خالٍ من العروبة بشكل عام والجنوب بشكل خاص وهذا هو مطلب المتمردين الذين يقف وراءهم الفرنجة.
وهذا هو السبب الرئيسي للغزو والاحتلال الإنكليزي للسودان وهو بداية التغيير في تاريخ جنوب البلاد هذا الغزو الذي أقام حكماً ثنائياً والحقيقة هو حكم أحادي إنكليزي ديني وكلنا يعرف ذلك، المهم أن الحكم هذا مهّد الطريق للدول الغربية للدخول إلى الجنوب كذلك سعى الحكم الإنكليزي الاستعماري لمحاربة انتشار الثقافة واللغة العربية وكان واضحاً أن هذا العمل يهدف إلى فصل الجنوب عن الشمال وذلك عبر إيهام الجنوبيين بأنهم مظلومون ومضطهدون من قبل الشماليين العرب، وقد وضعت سياسات عديدة لبث التفرقة وفصل الجنوب عن الشمال ومن بين هذه السياسات الظالمة التي وضعها الفرنجة ونفذتها دوائره: عام 1922 صدر قانون بجعل جنوب السودان منطقة مقفولة.
س : ما القصد من ذلك؟
ج - منع قدوم الجنوبيين إلى شمال البلاد خوفاً من تعلمهم اللغة العربية واعتناقهم للعقيدة الإسلامية كذلك أنشأت الإدارة الإنكليزية جيشاً محلياً مكوناً من أبناء الجنوب فقط وهذا الجيش يرأسه ويقوده ضباط إنكليز.
والنتيجة الطبيعية لتولي الإنكليز إدارة الجنوب أن تقوم الإرساليات التبشيرية الأوربية والأمريكية بتنصير الجنوبيين عبر الترغيب والترهيب، وهذا ما أدى إلى إضعاف التطور الاقتصادي في الجنوب، وأدى كذلك إلى التخلف وعدم مواكبة التطور في شمال البلاد وهذه سياسة من السياسات التي وضعتها ونفذتها الدوائر الاستعمارية الإنكليزية.
في عام 1938 حاول مؤتمر الخريجين السودانيين إيجاد صلة مع الجنوبيين بعد أن أثار قانون المناطق الجنوبية المقفولة الكثير من الشكوك، فأرسل المؤتمرون بعثة وطنية أصيلة إلى الجنوب لإلقاء ما أثاره القانون الإنكليزي، لكن دون جدوى وفي عام 1942 رفضت مذكرة من قبل الخريجين إلى الحاكم الإنكليزي يطلبون فيها إلغاء ذلك القانون، وفي عام 1944 تم تكوين المجلس الاستشاري في الجنوب إلا أن الأحزاب الشمالية قاطعته ولم تعترف به ثم أنشأت الجمعية التشريعية بديلاً للمجلس الاستشاري، ونتيجة لمعارضة الوطنيين لما وضعه الجنوبيون المتفرنجون فقد عارض الإداريون الجنوبيون مؤتمر /إداريي/ الذي دعا إلى الوحدة بين الجنوب والشمال.
وفي عام /1947/ انعقد مؤتمر /جوبا/( ) وفيه اعترف الجانبان بضرورة الوحدة بين الشمال والجنوب وقد مهد هذا المؤتمر لاشتراك الجنوبيين في الجمعية التشريعية وتوحيد السياسة التعليمية وكذلك إدخال اللغة العربية إلى مدارس الجنوب، هذه السياسة بالإضافة إلى خطط التنمية الاقتصادية والتعليمية والاجتماعية أدت إلى نوع من التعاون والالتصاق والوفاق بين شطري البلاد، لم يرق هذا الأمر للبريطانيين فعمدوا إلى إثارة الفتن بين أبناء البلد الواحد.
جنوب السودان لأحمد أبو سعدة
الفصل الأول
عقيدة الإنكليز
«علينا أن نعلم هؤلاء الوحوش السلوك والطاعة».
هذا هو شعار المحتلين البريطانيين لجنوب السودان وهو الذي كانوا يرددونه ويعملون به.
في الوقت الذي كانت فيه قوات الحكم الثنائي تعمل لإخضاع قبائل الجنوب ووضعها تحت سيطرتها كانت الحكومة المركزية في الخرطوم تعمل لإيجاد أسس حضارية لإدارة مناطق الجنوب التي تم إخضاعها بالقوة - ومن ثم تخليصها من السيطرة البريطانية.
في عام 1921 اقترحت الحكومة المركزية أن تحكم الجنوب السلطات المحلية الأصلية ويكون هذا الحكم تحت إشراف الحكومة، هذا من جهة أما الجهة الأخرى فهي اقتراح الحاكم البريطاني أن يتخذ عدة خطوات لتثبيت وتقوية وضع الحكومة المركزية لتثبت وجودها علماً بأن الحكومة المركزية كانت توجه وتُؤتمر من قبل الحاكم العام الإنكليزي للسودان وبهذا يكون الاقتراح الذي تقدمت به الحكومة السودانية قد أُملي وفرض عليها من قبل البريطانيين، ومن هذه الاقتراحات:
أ - تأسيس جيش مستقل لجنوب السودان بحجة أن السودانيين مسلمون ويوجههم الإمام لحفظ القرآن.
ب - وعلى إثر الاقتراح الأول تم تشكيل الفرقة الاستوائية وكانت كافة عناصرها من الجنوبيين كما أسلفنا سابقاً، كما كانت لغة التخاطب هي اللغة الإنكليزية التي فرضت فرضاً، والشرط الأساسي لجنود هذه الفرقة أن يكونوا أصحاب عقيدة فرنجية مسيحية!
وهكذا تم الإعداد لقيام التمرد وبشكل غير منظور إنما بشكل خفي.
«شكل هذا الجيش وأصبح الأنانيا /1/ والأنانيا /2/ وبعدها أضحت الحركة الشعبية لتحرير السودان... والتي جلست الند للند مع الحكومة المركزية السودانية بمفاوضات ما سمي بالسلام»... وفيما يأتي نقدم مثالاً آخر وهو في منتهى الأهمية:
البلاغ رقم /واحد/:
إن الحاكم العام للسودان والذي كان أيضاً ضابطاً ممتازاً في الجيش البريطاني قد قتل قتلاً فظيعاً وبناءً عليه تطلب حكومة حضرة صاحبة الجلالة من الحكومة المصرية الآتي:
1 - أن تقدم اعتذاراً كافياً عن الجناية.
2 - أن تدفع في الحال إلى حكومة حضرة صاحبة الجلالة غرامة قدرها نصف مليون جنيه [ حينها أما الآن فثمن الفرد يبلغ عشرة ملايين دولار، وقد دفع (العقيد القذافي) هذا المبلغ للفرد الغربي الواحد ]؟؟!
«هذا ثمن الرجل الإنكليزي أما ثمن الرجل العربي فكان عشرين جنيهاً وقد ارتفع ثمنه الآن وخاصة في العراق وقد يصل إلى /100/ دولار هذا إذا تكرمت قوات الاحتلال الأمريكية الإنكليزية ودفعت؟ أما في فلسطين المحتلة فلا ثمن لـه /بلاش/».
3 - أن تصدر في خلال /24 ساعة/ الأوامر بإرجاع جميع الضباط المصريين ووحدات الجيش المصري البحتة من السودان «موت رجل إنكليزي واحد يعادل جيش مصري كامل»!
4 - أن تبلغ المصلحة المختصة أن حكومة السودان ستزيد مساحة الأطيان التي تزرع في الجزيرة من (300) ألف فدان إلى مقدار غير محدد تبعاً لما تقتضيه الحاجة. /طبعاً البريطانية/.
5 - إذا لم تلب هذه المطالب في الحال تتخذ حكومة صاحبة الجلالة على الفور التدابير المناسبة لصيانة مصالحها في مصر والسودان؟!
لقد استغلت بريطانيا حادث قتل الضابط الإنكليزي وعملت على إتمام أهدافها.
طرد الجيش المصري من السودان:
طرد الإنكليز الجيش المصري من السودان وأرغمت مصر على دفع النفقات العسكرية لعودة الجيش من السودان إلا أن الزعيم المصري (سعد زغلول) لم يقبل بذلك فقدم استقالته احتجاجاً على التصرف البريطاني وعلى إثر الاستقالة تألفت وزارة جديدة برئاسة (زيور باشا) الذي قبل وقبلت معه حكومته هذا الطرد بعدها أصدرت الحكومة المصرية المعينة من قبل الإنكليز أمراً بعودة القوات المصرية إلى البلاد، وفعلاً تمت إعادة الجيش المصري للبلاد، وقد ادعى البريطانيون أن السودانيين أبدوا ارتياحهم ورضاهم للوضع الجديد الذي أوجدوه، لكنه ثبت عكس ذلك فقد تمرد الجيش السوداني ورفض الوجود البريطاني، وفي ما يلي أورد الرواية التالية للدلالة على أن الدم العربي لا يمكن أن ينفصل وأن يتلاشى مهما طغت وتجبرت القوى الاستعمارية ومهما رضخ البعض:
اللورد اللنبي:
في السادس من شهر كانون الثاني عام 1924 أرسل اللورد (اللنبي) إلى السير (أوستين شمبرلين) التقرير التالي:
في يوم الثلاثاء 27 تشرين الثاني /نوفمبر/ من عام 1924 وأثناء القيام بعملي في مكتبي بوزارة الحربية، وصل في الساعة الرابعة والنصف من بعد الظهر المستر (كيرلس) المفتش في الخرطوم وأبلغني أن ضابطاً من الكتيبة الحادية عشرة السودانية هددني بمسدسه، فاعترتني دهشة بالغة جعلتني أكاد لا أتصرف، فتوجهت لمكتب المركز لمقابلة الكولونيل (ماك كوان) وفي أثناء الحديث جاءني أحد رجال المكتب السوداني القدامى وقال لي وقد بدت عليه علامات الانفعال، إنه رأى قوميين من الكتيبة الحادية عشرة السودانية متوجهين بسرعة نحو المعسكرات البريطانية، فخرج الكولونيل (كوان) على الفور بسيارته ليرى ماذا يجري، بعدها ذهب إلى المكان الذي به كتيبة المستر (ليستر) فقلت لهم أن يعطوا إشارات الإنذار والوقوف على أهبة الاستعداد وتنبيه الكتيبة الأخرى، كتيبة /اركليز/ للقيام بنفس الاحتياط... في الساعة الخامسة من بعد الظهر، عاد الكولونيل (كوان) وأخبرني أن جزءاً من المتمردين بمدافعهم الرشاشة قد أوقف في مواجهة الشرف في شارع الخديوي بجانب المستشفى العسكري المصري... تركت الكولونيل (كوان) وتوجهت بسيارتي لمقابلة الضابط المتولي قيادة الأركيلز (الميجور كوير)... أبلغته الحالة.
وأمرته بأن يعزز موقفه بكافة المدافع وعددها /6/ فلما أتم استعداده ذهبنا معاً في الطريق وصلت إلى الخطّ الفاصل وقلت لهم /يقصد للسودانيين/ إني السردار، أطيعوا الأوامر؟
رفض /السودانيون/ وعدت إلى الميجر (ماجركوير) وطلبت منه أن يفتح النار بكل المدافع، رد السودانيون علينا النار بالنار... لم تقع بيننا إصابات...
وفي الصباح تقدمنا من جديد غير متوقعين معارضة جدية، إذ كنا نعتقد أنهم قد هزموا، ولكن عندما قربنا من المبنى الطبي قوبلنا من جديد بضرب شديد وأثناء الضرب وصلت المدافع... فتحنا النار على الجانب الشمالي الشرقي من المنطقة... لكن الرجال السودانيين ظلوا صامدين حتى النهاية.
حاولت الكتيبتان /لستر/ و /اركل/ اقتحام المنازل المتحصن فيها السودانيون فردوا في كل مرة على أعقابهم بخسائر... حاصرنا مبنى كان فيه السودانيون وأطلقنا عليهم /40/ طلقة مدفع... اعتقدنا أنهم قد ماتوا ولم يبق منهم أحدٌ حياً.
ولكننا أخطأنا التقدير وحصلت معركة كبيرة لمدة ساعات طويلة ولما اقتحمنا المنزل - أخرجنا من بين الأنقاض أجساد ضابط وأربعة عشر جندياً سودانياً.
إن أولئك الرجال السودانيين قاوموا مقاومة جبارة حتى بدا مستحيلا أن ينجو أحد من الموت المحتم( ).
ما الهدف من وراء إبعاد الجيش المصري إلى مصر وضرب الجيش السوداني؟
الهدف واضح ولا يحتاج إلى كثير من التفسير والشرح.
الهدف هو إبعاد السودان، خاصة الجنوب، عن مصر، وقد ادعى البريطانيون أنهم يعملون لحماية القبائل الجنوبية /وهذا عكس ما كان يفعله البريطانيون/ من التأثير الثقافي السوداني وقد أوصل البريطانيون إلى الحكومة السودانية طلبهم بأن عليها أن تحكم جنوب السودان بشكل منفصل عن الشمال، ثم اقترحت الحكومة البريطانية على الحكومة السودانية إمكانية قطع الجزء الجنوبي وضمه إلى بعض أجزاء المناطق التابعة للمستعمرات البريطانية في شرق أو وسط أفريقيا.
كما اقترح البريطانيون في مذكرة مكتوبة سلمها سكرتير التعليم والصحة إلى السكرتير المدني الآتي:
«السياسة البريطانية في الجنوب يجب أن تهدف إلى فصل الجنوب عن الشمال بهدف خلق مجموعتين عرقيتين لكل منهما خصائص مختلفة وتطلعات مختلفة أيضاً» وبعد فترة سلمت مذكرة ثانية تحوي نفس العبارات ثم جاءت المذكرة الثالثة للحكومة البريطانية تقول المذكرة الآتي:
أ - يجب ترسيم الحدود بين الجنوب والشمال على خط يسير من الشرق إلى الغرب ويتبع نهري /بارو/ و /سوباط/ والنيل الأبيض وبحر الغزال.
ب - بدأت الحكومة البريطانية تنفيذ ما تريده عن طريق ضغطها على الحكومة السودانية التي استجابت لها.
وفي عام 1920 وإلى عام 1930 وخلال هذه الأعوام العشرة بدأت الحكومة بأخذ الخطوات التالية في الجنوب من أجل قطعه وضمه إلى مستعمراتها ثم بدأت بأخذ الخطوات في الجنوب وفق الترتيب الآتي:
أ - كان حكام الجنوب وعددهم ثلاثة أشخاص أي لكل إقليم حاكم يحضرون اجتماعات الحكام التسعة في الشمال، إلا أن الحاكم العام البريطاني طلب منهم عدم الذهاب إلى الخرطوم لحضور الاجتماعات، وأن عليهم أن يقيموا اجتماعاتهم في الجنوب وأن يلتقوا نظراءهم في كل من يوغندة وكينيا، وبرر الحاكم العام البريطاني خطواته هذه بقوله:
«أن خطوته هذه بُنيت على أساس طبيعي وديمقراطي ولكون المحافظات الثلاثة قريبة من الدول التي عنيناها؟!.
والحقيقة أن خطوة الحاكم الإنكليزي هي بهذا الخصوص: عزل أبناء البلد الواحد عن بعضهم البعض تقديماً للانفصال المؤجل».
ب - في العام نفسه أي عام 1922 صدر قانون استخراج جوازات السفر وتوابعه وكان الغرض من ذلك تقوية مركز وقوة الحاكم العام مما يمكنه من إعلان أي منطقة أو جزء من الجنوب منطقة مغلقة أمام كافة السودانيين أو غير السودانيين، كما فوض البند الـ /22/ من القانون بقفل أي جزء من جنوب السودان أمام التجارة، وكذلك فوض البند الـ /28/ الحاكم العام الإنكليزي منع العمال وفي أي جزء من السودان من العمل داخل السودان وخارجه إلا بموجب تصريح ممهور بتوقيع الحاكم الإنكليزي العام؟.
ت - أصدر الحاكم العام قانوناً تحت اسم قانون «المناطق المغلقة» وبموجبه أعلن كلاً من المناطق التالية مناطق مغلقة، وكذلك سمح الحاكم بدخول هذه المناطق للسودانيين الذين يحملون أذوناً مدونة من الحاكم أو السكرتير المدني أو من حاكم المحافظة:
1 - دارفور ـ
2 - الاستوائية ـ
3 - بحر الغزال ـ
4 - أعالي النيل ـ
5 - جزء من شمال كردفان ـ
6 - قيسان - قيسان ـ
7 - كسلا ـ
ث - في عام 1921 قررت الحكومة دعم الإرساليات الفرنجية في الجنوب إذ قرر الحاكم العام أن تأخذ الحكومة مسؤولية التنظيم والإشراف على الإرسالية وقد منحت الحكومة المال اللازم لهذه الإرساليات وتم صرف المال لهم وبعد 6 سنوات صادقت الحكومة على قانون منح المال للإرساليات.
ج - شدد القانون الذي صدر عام /1925/ على عدم السماح لغير الجنوبيين بالتجارة كما منع التجار الشماليين من ممارسة التجارة إلا بعد موافقة الحاكم العام.
عند قراءتنا وتمعننا لهذه الفقرات نجد أن البريطانيين كانوا يستعدون لفصل الجنوب عن الشمال وهناك من يقول أن السلطات البريطانية لم يكن لها تفكير ثابت حول الفصل وكانوا يقولون أيضاً أن الأفكار السائدة في السنوات الأولى من الحكم البريطاني للجنوب كانت غير واضحة! والحقيقة هي أن البريطانيين كانوا يعملون وبتنسيق كبير فيما بينهم، لأنهم كانوا خائفين من انتشار الثقافة السودانية الوطنية، لأن انتشارها كان من الممكن أن يهدد الوجود البريطاني لذلك عملوا على إنهاء الوجود العربي المتمثل في اللغة والثقافة العربية، أما انتشار الدين /الفرنجي/ فهو أمر عادي ولا يهدد الوجود البريطاني بل يزيد في إرسائه وبهذا الخصوص قال الحاكم العام الإنكليزي للسودان الآتي: إذا ما اقتنع الزنجي بتعاليم الدين /الفرنجي/ فإنه سيتحول إلى وغد زنديق وعاطل وسفيه ماكر؟!
لقد أريد للجنوب أن يكون قاعدة استعمارية غربية دينية متهودة، حتى يصد انتشار العقيدة والثقافة الإسلامية فيه وفي الدول التي تجاوره.
وبهذا الخصوص كتب اللورد (كتشنر) عام 1882 قائلاً:
ليس من شك في أن الدين الإسلامي يلقى ترحيباً حاراً في هذه البلاد /ويقصد طبعاً الجنوب السوداني/ فإذا لم تقبض القوى النصرانية على ناحية الأمر في أفريقيا فأعتقد أن العرب سيحظون حظوة كبيرة في هذه البلاد وسيصبح لهم مركز في وسط القارة يستطيعون منه طرد كافة التأثيرات الحضارية إلى الساحل وستقع هذه البلاد تحت العبودية.
النبي الزائف!
في عام 1909 قال القس (أرشيدكون شو) التالي عن القبائل الإفريقية: إن لم تتغير هذه القبائل السوداء في الأيام القليلة القادمة /يقصد بالتغيير التبدل الديني/ فإنهم سيصيرون /محمديين/ فهذه المنطقة منطقة استراتيجية لأغراض التبشير، إنها تمتد في عمق أفريقيا وهي منتصف الطريق بين القاهرة والكاب ثم يتابع قوله، أن الكنيسة في حاجة لإيوائها لصد انتشار الإسلام والقضاء على تعاليم النبي /الزائف/؟؟!! وبعد حوالي /100/ عامٍ تأتي صور الدانمارك الكاريكاتيرية لتثبت أن الفكر والمنهج الغربي المتصهين لا يتغير.
بعد ذلك جاءت وصية مؤتمر /ادنبره/ التنصيري عام 1910 وأهم ما جاء في هذا المؤتمر الوثيقة التي تقول:
إذا كانت أفريقيا ستكسب لمصلحة المسيح يجب أن تقوم قوة تنصيرية قوية في قلب أفريقيا لمنع تقدم الإسلام؟ وعلى أثر ذلك بدأت الإرساليات عملها خوفاً من التغلغل الإسلامي المتزايد ثم عمدت هذه الإرساليات إلى استخدام نفوذها لفصل الجنوب.
إن الانفصال قضية وطنية معقدة وأي خيار فيها لـه خسائره الكبيرة لكن الأمر الوحيد الذي يجب أن ندركه جيداً هو أن هذه القوى الغربية المتصهينة تعمل على عدم تمكن الإسلام من التغلغل في الجنوب والمناداة بضرورة إيجاد سودان خالٍ من العروبة بشكل عام والجنوب بشكل خاص وهذا هو مطلب المتمردين الذين يقف وراءهم الفرنجة.
وهذا هو السبب الرئيسي للغزو والاحتلال الإنكليزي للسودان وهو بداية التغيير في تاريخ جنوب البلاد هذا الغزو الذي أقام حكماً ثنائياً والحقيقة هو حكم أحادي إنكليزي ديني وكلنا يعرف ذلك، المهم أن الحكم هذا مهّد الطريق للدول الغربية للدخول إلى الجنوب كذلك سعى الحكم الإنكليزي الاستعماري لمحاربة انتشار الثقافة واللغة العربية وكان واضحاً أن هذا العمل يهدف إلى فصل الجنوب عن الشمال وذلك عبر إيهام الجنوبيين بأنهم مظلومون ومضطهدون من قبل الشماليين العرب، وقد وضعت سياسات عديدة لبث التفرقة وفصل الجنوب عن الشمال ومن بين هذه السياسات الظالمة التي وضعها الفرنجة ونفذتها دوائره: عام 1922 صدر قانون بجعل جنوب السودان منطقة مقفولة.
س : ما القصد من ذلك؟
ج - منع قدوم الجنوبيين إلى شمال البلاد خوفاً من تعلمهم اللغة العربية واعتناقهم للعقيدة الإسلامية كذلك أنشأت الإدارة الإنكليزية جيشاً محلياً مكوناً من أبناء الجنوب فقط وهذا الجيش يرأسه ويقوده ضباط إنكليز.
والنتيجة الطبيعية لتولي الإنكليز إدارة الجنوب أن تقوم الإرساليات التبشيرية الأوربية والأمريكية بتنصير الجنوبيين عبر الترغيب والترهيب، وهذا ما أدى إلى إضعاف التطور الاقتصادي في الجنوب، وأدى كذلك إلى التخلف وعدم مواكبة التطور في شمال البلاد وهذه سياسة من السياسات التي وضعتها ونفذتها الدوائر الاستعمارية الإنكليزية.
في عام 1938 حاول مؤتمر الخريجين السودانيين إيجاد صلة مع الجنوبيين بعد أن أثار قانون المناطق الجنوبية المقفولة الكثير من الشكوك، فأرسل المؤتمرون بعثة وطنية أصيلة إلى الجنوب لإلقاء ما أثاره القانون الإنكليزي، لكن دون جدوى وفي عام 1942 رفضت مذكرة من قبل الخريجين إلى الحاكم الإنكليزي يطلبون فيها إلغاء ذلك القانون، وفي عام 1944 تم تكوين المجلس الاستشاري في الجنوب إلا أن الأحزاب الشمالية قاطعته ولم تعترف به ثم أنشأت الجمعية التشريعية بديلاً للمجلس الاستشاري، ونتيجة لمعارضة الوطنيين لما وضعه الجنوبيون المتفرنجون فقد عارض الإداريون الجنوبيون مؤتمر /إداريي/ الذي دعا إلى الوحدة بين الجنوب والشمال.
وفي عام /1947/ انعقد مؤتمر /جوبا/( ) وفيه اعترف الجانبان بضرورة الوحدة بين الشمال والجنوب وقد مهد هذا المؤتمر لاشتراك الجنوبيين في الجمعية التشريعية وتوحيد السياسة التعليمية وكذلك إدخال اللغة العربية إلى مدارس الجنوب، هذه السياسة بالإضافة إلى خطط التنمية الاقتصادية والتعليمية والاجتماعية أدت إلى نوع من التعاون والالتصاق والوفاق بين شطري البلاد، لم يرق هذا الأمر للبريطانيين فعمدوا إلى إثارة الفتن بين أبناء البلد الواحد.