قصص من أمريكا اللاتينية: من مواليد برج الحوت
من مواليد برج الحوت
ماتيلدي بيانكي
( الأوروغواي)
ترجمة: عبد الحميد الغرباوي
أصلي
أهدي هذه الكلمات التي تحمل الجمال و المأساة إلى الذي أحببت حبا أخويا هو في الغالب أقوى من الكل.
هذا الإهداء المشبع بالبحر الذي أحببناه كلانا كما لو كان بيتنا، إليه أهديه.
بيد أن أكسول سبقني، ذلك لأنه و بصرامة أنجز قدره ؛ فقد ذراعيه و ساقيه ثماني سنوات مباشرة بعد أن كتبت إليه هذه الأسطر.
إذا ما بتأن قرأ قارئي المحترم ما سيلي ، فسيعرف في النهاية ما حدث لرائعي أكسل.
نسخة مصورة
يأتي من البحر
كان أتى من البحر
أتى من البحر
لا يزال
مدثرا بهالة زرقاء، بلآلئ الزبد السرمدية، بكل أصدافه و أخيرا، الطحالب الخضراء أو قناديل البحر المتلألئة المنتشرة في القاع، بالأسماك المتوازنة ذوات المنشار ، رسل الحقائق المحرمة على البشر.
بحر النجوم المكتنفة بالأسرار، الصخور المتآكلة من الانتظار، القواقع الصدفية، بحر قوارب الرعب.
كان لابتسامته، حين يجتاز عوما المضيق الشاسع ، ألق لا حدود له كمضيق بويرتو دو لا بالوما الذي لا ينسى، هناك، على الجبهات الشرقية للأوروغواي الشرقية.
و سرعان ما كان أكسول ينطلق في حواره الأرضي، ذلك لأنه هناك، في الوحدة المعدنية للماء، الذي ينساب على جسده، كان يتلو مزامير النبوءة، تلك التي لم تكن سوى الواقع المشتهى للمحيطات.
قلنا إنه كان يأتي من البحر، مستعدا لكل شيء، مسرورا، موزعا حركات حفاوة، حنونا يمد ذراعيه الطويلتين إلى إيميليا و هو يردد:
ـ لا تستطيعين تصور ما أشعر به هناك، لا، أنتِ لا تستطيعين.
تذكرتْ أن الوقت كان زوالا، و بحنان قدمت له فخذ حمل مشوي، يقطر دما. جائعا، تناول أكسول الغنيمة بين يديه، تشممها، لكن اندفاعه أخذ شيئا فشيئا يتلاشى، تردد، أهمل قطعا ريانة في صحنه.
ترك المائدة و قد فقد الشهية، ذلك لأن تلك الخفة، و تلك اللقاءات مع ذاته، و تلك الرغبة الرائعة في الحياة ( في العوم) هجرته، تاركة إياه تائها وسط أشياء يومية،على مقربة من الأرض و الأحجار.
و تأتي ساعات الشمس و القيلولة. يتأمل أميليا غافية إلى جانبه، شديدة الاستدارة، كثيرة الحيوية،مدثرة بأكثر من حجاب، مذهبة بهذه الشمس و هذه الأرض، حالمة و بكل تأكيد، بفواكه و أشجار، أو بأفخاذ حملان. و متسللا، فر أكسول، تاركا ذاته تنزلق في حرص على الأرض المعشوشبة،و حينها كان يرشف اليود و الملح. كان النسيم البحري يوقظ فيه ضميره الفاتر النشاط. كان يشعر بأطرافه واحدا واحدا و بكثافة ، و يودعها في النهاية إلى تلك الفسقية الهائلة و الشاسعة، ما وراء بحار الأحلام في جنان الطفولة.
كان أكسول قد أخذ يسترجع نشاطه. التجديف بالذراعين بداية،ثم مصب المضيق،الفضاء العريض و ها عرض البحر كله في ملكه، غياب تلك اللحوم المدماة، نسيان الأجساد الممتلئة، و الحجب، و أيضا المتع اليومية العذبة، توديع تلك الألوان الآسرة، للزهور، لفروع الشجر، للعصافير، للثياب، مزينات البيوت، الأدوات غير المستعملة التي تفرض علينا تواصلا يوميا، و التي تولد فينا الاحتياجات.
أكسول ، الآن، يمرح، يغطس، يشق برأسه خارجا سطح الماء، يبتعد، يسبح في اتجاه عرض البحر، يلتحق بالأحواض المتتابعة، يترك ذاته، دون حركة، تطفو على الماء، يتأمل المضيفات الشفافات ، الكائنات الذهبية و الفضية، قناديل البحر العمياء ذوات الرؤوس الرائعة و الشعور من الخيوط
الحصوية، و التي لا تزال دلالتها منيعة عليه.
كان أكسول لا يعود إلا مع نزول الليل، مرددا، مسميا، مناديا وجوها غير معروفة. كان محميا بالسماء، بقلنسوة قطنية شديدة الزرقة بحيث أن أكسول يتعذر عليه رؤية الظل.
كانت أميليا جزعة. شيء ما غريب كان يحدث ، شيء لم تتمكن بعد من معرفة كنهه. كان أكسول يردد تلك الأسماء، لكن لم تكن ترى سوى ظله مشكلا بقعة على الحائط الحجري، و أما حديثه المنفرد فكان
غير مفهوم. اعتقدت أنها تبينت وسط تلك الأسماء كلمة نيبتون. لكن ربما لم يكن ذلك سوى مجرد وهم.
أما أكسول فلم يكن يزعجه إلا أنفه، ذقنه و عيناه الجاحظتان. كان لا يسمع سوى أصوات آتية من إيمليا
التي لا مثيل لها، و لا يرى إلا حركات منعزلة. حينئذ تقبل عليه. و يثور ضد يد النار تلك التي تلمس كتفه، ضد رؤية تلك الحفيرات، الأعين المتلهفة و أكيدا الممتلئة بفكرة عقد مقارنات، بأطعمة، بأطاييب متنوعة، بحيطان أو بـبـيوت من طين و حجر.
كم هو صعب اكتشاف إلى أي حد يمكن لليل أن يجعل الروح ملولبة، و إلى أي مدى هي السماء
معتمة و النجوم في الأعالي تفتح ممرات، و تقدم إلينا، في سخاء، ليلها الخالص، ساكبة إياه خلسة على
الشرم إلى أن تصير المشاهد مشهدا واحدا.
أكسول جامدا و أكثر فأكثر غير ذي بال، متمددا على ملاءات غريبة، يتحسس جلده الخشن. كان قد نام،و حلم بأن حراشف صلبة نبتت له تقيه من البرد، تعزله عن العالم.
عندما استفاق، مرعوبا، لم يستطع أن يحيد ببصره عن النافذة المشرفة على الشاطئ. و قرر الهروب مثل سارق ليجد نفسه على مبعدة أمتار من الضفة الصامتة. و بصيحة فرح كبيرة، احتفى بارتماءة في الماء أثارت شرارات فسفورية مضيئة. سبح إلى أن وصل صخور الرأس. هناك،كان المحيط يطقطق بوداعات الزبد، بأعمدة إشارات السفن وصواري مقدمتها المائلة الساطعة، بالسفن التي لم تصل في الواقع أبدا،برفات الطيور التي تحضن البحر و ترقص في ألعاب ضوئية، في شكل نجوم دقيقة زاعقة.
و هذه المرة، عاد أكسول إلى الشاطئ منهكا، العينان شبيهتان بالزجاج، غريبتان عن طبيعتهما. أسرعت أميليا إلى أحضانه باكية، كما يفعل الناس. يـبصر أكسول البيت جوار الماء. يريد الوقوف. كان أصلا يجد صعوبة في المشي. و بجهد جهيد يصل إلى العتبة الحجرية. كان يكشف و باستمرار عن ساقه اليمنى، محاولا رسم ابتسامة لم تكن سوى عبوسا أو في كل الأحوال ابتسامة زرقاء.
كانت ساقه تنحف، من البطة و إلى القدم، و البشرة تخضر،تفقد نسيجها. والعروق، مثل شعرات، تتزاحم في كتلة خضراء شفافة ترسل رائحة الملح، اليود، و الرخويات.
لم تنطق أميليا ببنت شفة و هي تراه. و سرعان ما جمعت متاعها، الأشياء المحببة لديها.تنورات داخلية، أعشاب، زهور و قدور تحت ذراعها،و انطلقت تركض متفوهة بأشياء لم يتمكن أكسول من فهمها.
و تجنبا للكثير من التعاليق، تم المناداة على أطباء و أخصائيين. فحصوه، جعلوه يعتمد أشكالا من الوضعيات، صوروه، استشاروا مختلف الأصدقاء في المهنة. هيأوا وصفات طبية ألغيت بعد ذلك، سألوه في مسائل عمومية، خصوصيات، أشياء حميمة.
منذ زمن طويل، و أكسول يبحث عن عبرات لا تأتي. ينساب عبر النافذة عطر النجوم و المد و الجزر. عبر النافذة شفرات لا حصر لها كانت قد استعملت.
أراد أكسول أن يتركوه لحاله، العينان اللتان يحمل الآن تستعطفان. كان يعرف جيدا أن في الخارج رداء الغروب الأقرب للنهار ينتظر هابطا على الشرم. وأن الأمواج الصغيرة سيكون لها ألق يتراوح ما بين الوردي و الأزرق الغامق.
وصل أكسول الضفة بصعوبة، و قد أصيب بجروح في أكثر من موضع إلى أن غطاه الماء.
عاد الغسق إلى حالاته الأولى، شعر بها أكسول في وضوح. هو الآن ، يسبح من الحسن إلى الأحسن. يذهب و يعود، و يقضي وقتا طويلا في الماء و يستطيع تأمل المدى الشاسع، اللعب مثل سمكة حقيقية، التخلص من كل السنوات المنصرمة. عندئذ، انسابت خلسة ذكرى نشأت خارج ذاته. و قرر أن يبحث عنها جدفا بالذراعين قليلا، لكنه لم يجد الذراعين. و سابحا في تموج، اقترب من الساحل. أبصر المنشآت البشرية، النساء و الأطفال في أعمالهم اليومية.
كان أكسول سيد حركاته. هذا العالم لم يعد ينتمي إليه.
ــــــــــــــــــــــــــــ
ماتيلدي بيانكي 1932ـ ....
شاعرة و روائية و كاتبة قصة قصيرة من مواليد مونتيفيديو بالأوروغواي.
أصدرت ـ حسب المصدر المتوفر لدي ـ ثمانية دواوين شعرية، و روايتين،و مجموعة قصصية واحدة.
غارسيا ماركيث/ يوم من هذه الأيام
يوم من هذه الأيام
غابرييل غارسيا ماركيث(كولومبيا)
تـ: عبد الحميد الغرباوي
حل يوم الإثنين دافئا،بلا مطر..
و كالطيور في تبكيرها، فتح "أوربليو أسكوفار"؛طبيب أسنان لا يحمل شهادة علمية تؤهله لمزاولة مهنة التطبيب؛ عيادته في الساعة السادسة.
أخرج من الدولاب الزجاجي بضعة أسنان ما زالت في قوالبها الكلسية، وعلى المنضدة، وضع مجموعة من الأدوات في ترتيب حسب حجمها كما لو كان يهيئها لعرض.
كان يرتدي قميصا مخططا بلا ياقة، مسدودا من العنق بمشبك ذهبي، و سروالا بحمالات.
كان مستقيم القامة، نحيفا، لا ينسجم مظهره مع المهنة التي يزاولها،و كانت حالته توحي بأنه رجل أصم.
و حين أكمل ترتيب الأدوات على المنضدة، جذب المثقاب ناحية كرسي العمليات وجلس لصقل الأسنان الاصطناعية، كان يبدو شارد الذهن، لا يفكر في ما يقوم به من عمل، بيد أنه كان يواصل عمله بشكل آلي و متقن و قدمه تضغط على عتلة المثقاب دون توقف.
في الساعة الثامنة، توقف لحظة عن العمل و نظر إلى السماء من النافذة، فرأى صقرين يجففان نفسيهما تحت أشعة الشمس على إفريز سطح البيت المجاور. و ما لبث أن عاد إلى مواصلة عمله متوقعا في خاطره نزول أمطار قبل موعد الغداء.
قطع عليه تركيزه صوت ابنه الحاد البالغ من العمر إحدى عشر سنة :
ـ بابا
ـ ماذا؟
ـ العمدة يريد أن يعرف إن كنت مستعدا لخلع ضرسه.
ـ قل له إنني غير موجود.
و واصل صقل سن ذهبية. رفعها أمام ناظريه وراح يتفحصها بعينين نصف مغلقتين.
و عاد صوت ابنه آتيا من غرفة الانتظار الصغيرة:
ـ يقول العمدة إنك موجود، لأنه يسمع صوتك..
واصل الطبيب يتفحص السن دون أن يرد، و حين أنهى عمله، وضع السن على المنضدة ثم قال:
ـ الأفضل أن يسمع
و أعاد تشغيل المثقاب مرة أخرى، ثم أخرج من علبة في خزانة بضعة قطع مُلزم بإتمامها، وراح يباشر عمله صقلا و تعديلا.
ـ بابا
ـ ماذا؟
سأله دون أن تتغير ملامح وجهه..
ـ يقول العمدة إنك إذا لم تخلع له ضرسه فسوف يطلق النار عليك.
و دون تسرع، و بحركة تتسم بالهدوء الشديد، توقف عن تشغيل المثقاب، دفعه بعيدا عن كرسي العمليات، و جذب الدرج الأسفل للمنضدة إلى آخره، كان بالدرج مسدس، و قال لابنه:
ـ حسن، قل له أن يدخل و يطلق النار علي.
و دفع الكرسي في مواجهة الباب، واضعا يده على حافة الدرج.
ظهر العمدة عند المدخل، كان خده الأيسر حليقا، أما الثاني فكان متورما لم يحلق زغبه منذ خمسة أيام.
قرأ الطبيب في عينيه الباردتين ليال طويلة من الوجع و الأرق. أغلق الطبيب الدرج بأطراف أصابعه، و قال في لطف:
ـ اجلس.
قال العمدة:
ـ صباح الخير
فرد الطبيب ببرودة:
ـ صباح الخير
و بينما انهمك الطبيب في تعقيم أدوات إجراء العملية، أسند العمدة رأسه على مسند الكرسي فأحس بقليل من الراحة، و أنفاسه تطلق بخارا في فضاء العيادة التي كانت متواضعة: كرسي خشبي عتيق، مثقاب بدواسة، و دولاب زجاجي يحتوي على قناني خزفية. و يقابل الكرسي نافذة تغطيها ستارة لا يتجاوز ارتفاعها الكتف. و عندما أحس العمدة بدنو الطبيب منه، شد على عقبيه و فتح فمه.
أدار أوربليو أسكوفار رأس العمدة ناحية الضوء. و بعد أن تفحص السن الملتهبة، أغلق فك العمدة محاذرا و قال:
ـ الخلع لابد أن يتم بدون مخدر
ـ و لماذا؟
ـ لوجود قيح.
نظر العمدة في عيني الطبيب، ثم قال أخيرا محاولا الابتسام:
ـ حسنا
و لم يرد الطبيب على ابتسامة العمدة، و بالمقابل حمل إناء الأدوات المعقمة وضعه على المنضدة و راح يخرجها من الماء الفوار بملقط صغير.
كان الطبيب يتحرك على مهل كما لو أنه ليس في عجلة من أمره. ثم دفع المبصقة بطرف حذائه، و ذهب ليغسل يديه في المغسلة.
فعل كل ذلك دون أن ينظر إلى العمدة، إلا أن هذا الأخير لم يحد عينيه عنه و لو للحظة.
كان الأمر يتعلق بضرس عقل. و ما لبث الطبيب أن وسع ما بين قدميه، و أمسك الضرس بالكلاب الساخن. تشبت العمدة بذراعي الكرسي، و شد على قدميه بكل قوة، و هو يشعر بفراغ بارد في كليتيه، بيد أنه لم يصدر عنه أي صوت . لم يتحرك من الطبيب سوى رسغه فقط، و دون ما حقد أو ضغينة، بل برفق تشوبه المرارة، قال للعمدة:
ـ الآن ستدفع ثمن قتلانا العشرين.
شعر العمدة بانسحاق في فكه كانسحاق العظام، و فاضت عيناه بالدموع. لكنه لم يتنفس إلى أن أحس بأن الضرس قد اقتلع، ثم رآه من خلال الدموع.
بدا عليه استغراب كبير من الآلام التي عانى منها على مدى الخمسة أيام الفائتة، إلى حد أنه عجز عن فهم ذاك العذاب.
انحنى العمدة على المبصقة لاهثا يتصبب عرقا،فك أزرار سترته الرسمية، و مد يده إلى جيب سرواله ليخرج منديلا، فناوله الطبيب قطعة قماش نظيفة قائلا له:
ـ امسح دموعك.
كان العمدة يرتعش و هو يمسح دموعه. و بينما كان الطبيب يغسل يديه، كان العمدة يتأمل السقف المتداعي يتدلى منه نسيج عنكبوت مغبر و قد علقت به حشرات ميتة. عاد الطبيب و هو يجفف يديه.
قال للعمدة:
ـ خذ لك غرغرة ماء مالح، ثم اذهب إلى الفراش.
نهض العمدة واقفا،و سلم بتحية عسكرية باردة، ثم تحرك في اتجاه الباب و هو يجر ساقيه، دون أن يغلق أزرار سترته، و قرب الباب قال:
ـ ابعث بالفاتورة.
ـ إلى من؟.. إليك أم إلى مكتب البلدية؟
لم يلتفت إليه العمدة، بل قال و هو يغلق الباب خلفه:
ـ لافرق.
إيربيرتو ساليس (البرتغال)/ الثـــأر
الثـــــــأر
إيربيرتو ساليس
* (البرتغال)
نقلها إلى اللغة العربية: عبد الحميد الغرباوي
بعد مراسم الدفن، جمعت المرأة أبناءها الخمسة حولها، كما لو أنها تحاول و إياهم عمل المستحيل لإعادة استحضار زوجها جواوو فلورو الذي أغتيل أول أمس.
بيد أن هذه المواساة الحزينة لم تقو سوى يقينها بأنها أصبحت و بمعية أبنائها الخمسة بلا أب. و أجهشت باكية.
و من الخارج أتى نداء:
ـ هل من أحد هنا؟..
ردت باكية:
ـ من هناك؟
ـ شخص يريد لكم الخير.
مسحت عينيها بأسفل التنورة التي تنزل إلى ما تحت الركبتين، و ذهبت لتعرف من يكون ذاك الشخص. رجل ذو قامة فارعة، و لحية بيضاء، يقف قرب فجوة أحدثها الباب الذي لم يكن مغلقا.
كان ذاك الشخص هو الكولونيل أورينسيو. جاء شخصيا ليقدم لها دعم العدالة، و كذلك ليعلن لها أنه لن يدخر جهدا داخل الكفر، واعدا إياها أن ينفذ مهمته: الذي يقتل يجب أن يموت.
لا، المرأة لا تريد انتقاما. يكفي ما سال من دماء. لقد فوضت أمرها لله.
ـ لكن، باسم الرب أتيت إلى هنا، قال الرجل. المجرم في الأسر. و عليه الآن أن يؤدي من حياته ثمن قتله المرحوم جواوو فلورو، صاحب الروح الطاهرة، و الذي مات بريئا.
ـ لست سوى أرملة بائسة، أنّت المرأة. لدي خمسة أطفال هم في حاجة إلى رعاية .
أعرف كولونيل أورينسيو مدى ما لديك من نفوذ و قوة. لكن و أرجوك ألا تعتبر طلبي إساءة إليك: ليس استعمال هذا النفوذ هو الذي سيساعد أطفالي.ليس الثأر هو الذي سيمكنني من إعالتهم.
ـ ليس هناك علاقة بين الاثنين، قال الكولونيل. أطفال الراحل جواوو فلورو لن يموتوا جوعا، بفضل الرب، على الأقل ما دمت على قيد الحياة. لكن القرار اتخذ: سيُثأر لجواوو فلورو، لأن ذلك هو الذي يجب أن يحدث.عندي سلفا الشخص الذي سيقوم بهذه المهمة.
و رفع يده مودعا:
ليرعاك الرب، سيدتي إيرنيستينا !
ثم فرقع أصابعه مثيرا انتباه كلب ضخم أشهب تبعه حالا وفي صمت، ابتعد على الطريق الذي يحاذي الحاجز و توارى خلف أجمة أشجار ذات أغصان مشذبة.
كان جواوو فلورو بريئا. لم تكن له علاقة بسرقة الأبقار. يا للرجل التعس ! أي رغبة تلك التي دفعته ذلك اليوم ليذهب إلى المدينة.
فكرة واحدة كانت تشغل بورسينو، مالك الأبقار، و يدافع عنها ألا و هي أن الحق إلى جانبه: كان يريد أن ترد إليه بهيمته،هذا كل ما في الأمر، كانت بقرة جيدة، و كانت تحمل علامة.
و حتى لو لم تكن كذلك، فإنها كانت تعتبر واحدة من قطيعه، هذا كل شيء: لكل واحد ما كسب.
انطلق الجدال في السوق. ارتفعت درجة حرارة بورسينو ، فدفع جواوو فلورو، ثم و قد فقد كل سيطرة على نفسه، و مدفوعا برغبة في سفك الدماء و القتل، انتهى به المطاف إلى أن يطعنه بخنجره في بطنه لمرات ثلاث، من تحت إلى فوق و بكل ما أوتي من قوة.
سقط جواوو فلورو على الأرض. لكنه تلقى طعنة رابعة، و هذه كانت في القلب، لتصفيه تصفية نهائية.
" إنسان جبان و دنيء" قال الكولونيل أورينسيو في داخله، بينما هو يسير، مسترجعا ما نقله إليه شاهدان كانا حاضرين لحظة الحادث: القروي بيدرو بولينو و ابنه، شخصان يُشهد لهما بالاستقامة، و هما محل ثقة ، و يستحيل أن يكذبا. و هما اللذان حضرا وقائع الحادث كلها، و كان أن ثارت ثائرتهم.
و بورسينو؟ هل بقي هناك، ذاك النذل؟ هل فر هاربا؟
فر إلى مركز البوليس، و هناك سلم نفسه للعدالة. لم يكن له خيار ثان. السجن كان المكان الوحيد الذي يضمن الأمان لحياته ، ذلك لأنه يعرف الآن، و الرب وحده يعرف كيف نسي في سورة غضبه: أن جواوو فلورو يتمتع بحماية الكولونيل أورينسيو.
عاد الكولونيل أورينسيو إلى بيته و استدعى الرجل الذي اختاره للمهمة:
ـ حاول العثور على وسيلة ليُقبض عليك. و حين تصير في السجن، وفي اللحظة المناسبة، تخلص من بورسينو، لكن افعل بسرعة. لقد قتل جواوو فلورو دون سبب ، و عليه أن يؤدي ثمن ما تسبب فيه من أدى. الذي يقتل يجب أن يموت. بعد ذلك سأعمل على إخراجك من السجن. أم أن لديك شك في ما لدي من نفوذ.
بيزيكا، هكذا يلقب الرجل المكلف بالمهمة، ملون ، ذو أنف شامخ، لم يكن لديه شك في ذلك. من يكن تحت حماية الكولونيل أورينسيو لا يظل في السجن و لو بسبب قتل. يكفي أن يمثل أمام المحكمة، ثم يطلق سراحه بعد ذلك. كان الكولونيل أورينسيو ذا نفوذ كبير، و حين يقدم وعدا، فلا بد أن يفي به .
ـ عندما تصبح حرا، سأسلمك النصف الآخر، تابع الكولونيل. و الآن يمكنك أن تنصرف. اذهب، و اعمل على أن تجد وسيلة ليُقبض عليك.
طبعا، عليه أن يجد طريقة ليُقبض عليه، لأنه إذا لم يودع السجن، فلن يتمكن من الدخول، و إذا لم يتمكن من الدخول، فلن يتمكن من الاقتراب من بورسينو و القضاء عليه.
اختلق فوضى في ملهى للقمار. لكن و لا أحد استدعى البوليس للقبض عليه. فقط تصايحوا:
ـ أخرجوه من هنا !
و بعدها مباشرة، أخذوا بيزيكا من رقبته و رموا به إلى الخارج، مغلقين خلفه الباب. خبط على الباب، مهددا بتحطيمه. و في النهاية توقف عن الاستفزاز. أولئك الذين كانوا يلعبون في الداخل لم يحركوا ساكنا.
الوحيد الذي تحرك، كان هو بيزيكا، الذي توجه إلى بار. طلب قنينة "كشاسا"، معلنا أنه لن يؤدي ثمنها، مصمما على أن يصل إلى هدفه: إحداث الفوضى، و دخول السجن. لكنهم أحضروا له الشراب، لأن رجلا انبثق من حيث لا يدري ، قائلا بهدوء، و بنبرة ودية:
حسنا، أنا الذي أؤدي الثمن.
و بالإضافة إلى القنينة الأولى، قنينة أخرى، و اثنتين أخريين، الأخيرة سعتها لترا بالتمام و الكمال. و في خضم " الكشاسا"، لم تحدث المشاحنة التي كان على بيزيكا أن يحدثها ، تحولت إلى صداقة. حتى أن جنديا من الكتيبة كان يتواجد في عين المكان انظم إليهما، و شاركهما الشراب.
أغلق البار أبوابه، و العديد من السكارى توزعوا عبر الدروب. و في أول ركن من الزقاق، و بينما كان بيزيكا يتلفظ بكلمات نابية، تذكر فجأة أمر الكولونيل أورينسيو.
"حاول أن تجد وسيلة للقبض عليك".
بداية، و لحظة التذكر، خيل إليه أنه يسمع صوتا قادما من بعيد، لكن مباشرة بعد ذلك، خيل إليه أن هناك من يصرخ قرب أذنه.
لم يضيع وقتا.
لمح عاهرة على الجانب الآخر من الزقاق، أسفل عامود نور. اقترب منها،كما لو أنه يريد منها شيئا آخر، و طعنها بسكين طعنتين ـ الواحدة تلو الأخرى. في هذه المرة، كان يجب القبض عليه.
أطلقت الفتاة صرخة مرعبة و سقطت مترنحة على الرصيف. كان أشخاص قد تجمعوا، أقبل جنديان و قادا بيزيكا إلى السجن.
صرح ، أثناء الاستنطاق:
أردت فقط أن أخدش ذراعها بسكيني. لكنها تحركت خطأ فأصابها النصل إصابة بليغة حد الإدماء.
ـ تحركت خطأ، هه؟ قال وكيل الأمن. حسنا، لتعلم أنك قتلت الفتاة. إنها الجريمة الأكثر دناءة التي لم نشهد مثلها أبدا هنا.
و وضع السكين في الدرج كي يقدمه يوم المحاكمة.
أودع بيزيكا السجن، أخيرا سيجد بورسينو. أسبوعان بعد ذلك، ، وذات ليلة، و بينما كان بورسينو يغط في نوم هادئ، جذب منه بيزيكا حزامه و طوق به عنقه ، ثم شنقه. أطلق بورسينو أنة مختنقة، لكنها كانت من القوة ما جعل بقية السجناء يستيقظون. كانوا أربعة و، غضبا مما رأوه، دفعوا بيزيكا إلى ركن الجدار و بواسطة ملاءة ، شنقوه بدوره.
في الصباح الباكر، عثر حارس السجن على الميتين.
ولا تزال التحريات جارية.
الكولونيل أورانسيو، عندما علم بما حدث، قال للذي حمل له الخبر:
ـ لقد نال النهاية التي يستحقها.
ـ من؟ سأل الرجل. بورسينو أم بيزيكا؟
رفع الكولونيل عينيه إلى السماء، و أجاب بهدوء، بعد أن صنع بأصابعه في الهواء إشارة صليبه:
ـ الاثنان. كل واحد منهما يشبه الآخر.
ـــــــــــــــــــــــــــ
* من مواليد باهيا عام 1917.صحفي ، ناشر، روائي و قصصي. تحصّل على الكثير من الجوائز الأدبية.عضو الأكاديمية البرازيلية للآداب. من بين أعماله نذكر: حكايات عادية (1966)، و روايته " أوجه الزمن" صدرت بالفرنسية سنة 1991.