العشق عند الشيخ احمد الخاني ..مموزين أنموذجاً

العشق عند الشيخ احمد الخاني
مموزين أنموذجاً

احمد الخاني ؛ شاعر كبير ، برع في علوم الفقه والفلسفة والتصوف والادب ، وهو واحد من علماء الكورد الذين نظموا الشعر في اللغات العربية والتركية والفارسية والكوردية .
ولد في (خان) التابعة لولاية (هكاري) جنوب شرقي تركيا عام 1650 م .
تلقى احمد خاني علومه الابتدائية في الكتاتيب والجوامع على ايدي شيوخ زمانه ، ثم في المدارس التي كانت قائمة آنذاك في المدن الكبيرة ، مثل : (تبريز)و(بدليس).
ظهرت عليه علائم النبوغ مبكرة وهو لم يتجاوز الربيع الرابع عشر من عمره .وسعياً وراء المزيد من العلم؛ زار مدناً كثيرة ، وتجول فيها ، وأقام في مرابعها ردحاً من الزمن ، مثل الشام ومصر . فاطلع على علوم عصره ، فجمع بين الادب ولاسيما الشعر ، وبين الفقه والتصوف ، فذاعت شهرته مقرونة بالثقافة الواسعة والمعرفة العميقة في الامور الادبية والفلسفية والدينية ، فأصبح يشار اليه بالبنان ؛ شاعراً ومفكراً وفيلسوفاً ومتصوفاً .
توفي (احمد الخاني) سنة 1706 م ، ودفن في (بايزيد ) .
وكان الاستاذ سعيد النورسي يقضي معظم اوقاته عند ضريح الشيخ (احمد الخاني) وخاصة عند الليالي ، علماً ان الناس يتهيبون من دخوله نهاراً ، ولهذا كان الناس يقولون : انه حظي بفيض من (احمد الخاني) ويسندون وضعه هذا الى كرامة الشيخ (1).
له مؤلفات ودواوين ، منها :

(1)نوبهار (الربيع الجديد) للصغار ، وهو اول قاموس ( عربي – كوردي) ، أنشأه على هيأة شعر للاطفال لسهولة حفظه ، لحاجة الاطفال الى تعلم اللغة العربية ، لكونها لغة القرآن أولاً ، وانها اللغة المقررة في المدارس والجوامع ثانياً .
(2) عقيدة الايمان ، تفسير للعقيدة : وهي قصيدة شعرية باللغة الكوردية ، نظمها في (70) بيتاً من الشعر .
(3)عقيدة الاسلام .
(4) قصائد موسومة ب ( قصة يوسف وزليخا ).
(5) ممو زين : تعتبر من اروع أعماله الادبية ، وهي ملحمة تراجيدية شعرية تروي قصة عاشقين وهما (مم) و (زين) ، وتضم (2661) بيتاً . وهي بمثابة ملحمة (روميو وجيوليت) و(مجنون وليلى)و (كافكا وملينا ) .
تُرجمت الى العديد من اللغات مثل : العربية والفارسية الارمنية والتركية والروسية وغيرها ، وأنتشرت بين الآداب العالمية ، وذاع صيتها في الشرق والغرب .

تتمحور ملحمة (مموزين) : حول (مم)؛ الشاب العاشق الفقير و(زين)؛ شقيقة الحاكم، وما في الملحمة من عشق ووجود حضاري تتعدد اوجهه ، وتنساب الملحمة شعراً غزلياً راقياً ،وتساؤلات الانسان عن أصله ودنياه وآخرته، تتكاثر الامثال والحِكم والحياتية الصافية لواقع الحياة في ابيات شعرية محكمة منثورة الدر لتحكي لنا أعاجيب الفن الشعري المعمق في تأثيره الروحي حدث ذلك في جزيرة (بوتان) المعروفة اليوم باسم (جزيرة ابن عمر) ، تلك التي تقع على شاطىء دجلة .
وتنتهي الملحمة بشكل مأساوي ؛ (مم) الفقير و(زين) الاميرة ، التي لم يكن (مم) في مستواها ولا نسبها . وعندما علم أخوها أمير جزيرة بوتان بقصة حبها لمم ، غضب واعتقل (مم) واودعه السجن، ثم اضطر الامير لإطلاق سراحه والموافقة على زواجه من (زين) ، لكن قراره جاء بعد فوات الآوان ، فقد مات( مم) العاشق ، ولحقت به (زين) بعد أيام .
لقد كانت قصة (مم) و (زين) ضحيتي نار الحب والغرام .
يقول الخاني في ملحمته :
" سأزيح للناس الحجاب عن قلب ذلك المسكين الذي كواه الحب المستعر وسحقه الكيد والحقد ، وعن قلب تلك البريئة الطاهرة طهارة المزن بين السحب . تلك التي أذابها الشقاء واعتصرتها يد الظلم كما تعتصر الوردة الناعمة في كف غليظة قاسية وعسى أن يتلطف الناقدون لسفري هذا في نقدهم ، فهو وإن لم يبلغ درجة الكمال ولكنه طفلي الغالي ... عزيز الى نفسي ،مدلل عند قلبي ، جميل في عيني . وهو بستان وإن كان قد يرى بين ثماره ما هو فج غير يانع ، غير أنها حديقة فؤادي وأزهار فكري ولبي . وحسبهما من جهدي ما قدمت ، وحسبي منها ما أثمرت" .
يقول الاستاذ محمد فتح الله كولن :
" من الصعب جداً شرح العشق بالكلمات .. بل قد يكون هذا مستحيلاً ، لذا كان القسم الاكبر من شروح العشق شروحاً لظواهره المنعكسة على الخارج وليس العشق نفسه ، ذلك لأنه حال ، ولا يعلم هذه الحال الا صاحبها " (2).
وفلسفة الخاني في العشق يرسمها في ملحمته (مم)و(زين) في صور العشق وتجليه في المخلوقات ، ويعرضه داءً وبلاءً يحل على البشر ، وجزماً بانه دربٌ واجبٌ سلوكه . وانه من أسباب السعادة والخير ، ومن أسباب خلق الانسان ، فهو الفضيلة الخاصة الخالصة .
والعشق ؛مسلك خطير، وموطىء زلق ، وبحر لجيّ ، وعالم العشاق مليءٌ بالآلام والآمال، محفوف بالمخاطر والاهوال ، واهل العشق يعانون من ويلاته ، ويلاقون من مرارته ، ذلك لان العشق داءٌ دوي تنوب معه الارواح ، ولا يقع معه الارتياح ، فمن ركب بحره وتلاعبت به أمواجه كان الى الهلاك ادنى منه الى السلامة .
وقد استحدثت كلمة (العشق) عن المحبة بين العبد والرب . وجرى كلام اهل العشق حوله نظماً ونثراً كما في تائية عمر بن الفارض ، وديوان الملا احمد الجزري ، واشعار رابعة العدوية .
والعشق (لغة) : تجاوز حدّ المحبة (3)
وقد سئل بعض الحكماء عن العشق فقال : شغل قلب فارغ(4).
والعشق عند افلاطون هو : حركة النفس الفارغة(5).
وعند ارسطو : جهل عارض صادف قالباً خالياً لا شغل له من تجارة ولا صناعة )(6).
وفي الأثر : ( من عشق فعف ثم مات مات شهيداً )(7).
ومن اسباب تسطير هذه الملحمة ؛ هي إظهار جمال العشق ، واثبات كماله ، فالعشق مرآة تظهر تجليات الله سبحانه وتعالى ، وهو كالشمس ذات ضياء .
يقول بديع الزمان سعيد النورسي :
" ان ما يخفق به قلب الكون من حبّ جاد وعشق صادق يدل على معشوق دائم باقٍ "(8).
ويقول شيخ مدرسة العشق ( يونس أمره ) :
( ما حيلة الشيخ معي ان لم تكن جذبة العشق )(9).
نعم ليس في الناس اكثر قلقاً واضطراباً ممن يحترق بالعشق، ويئن بالشوق ، ولكن في الوقت نفسه لا أسعد منه (10).
وفي خاتمة ملحمته والاعتبار منها يقول خاني :
يا إلهي : لا تحرم قلبي إذ يختفي وجيبه وتسكن دقاته من نصيب وافر من العشق والتعلق بهذا الجمال الباقي والسر العظيم ..
والعشق ، كأي حال من الاحوال ، له حالات مجازية وحالات حقيقية ، والسائر في طريق العشق المجازي ينقلب عنده العشق الى الحقيقي عندما يلاقي محبوبه الازلي والابدي ، وعندها يتصفى قلبه ويصقل ، لان القلب مرآة الصمد ، ويلاقي الروح محبوبه الحقيقي .
ويختم ملحمته بهذه المناجاة الرائعة :
أي رب :
إنك لتعلم أن " الخاني " الضعيف إنما هو في قبضتك مثل هذا القلم المقيد المعذور . قلبه في يدك ، وجوارحه ملك لتصرفك .. أنت الآمر القوي وهو المأمور الضعيف . أنت المالك الغني وهو المملوك الفقير . ولئن كنت قد منحته يا مولاي في شؤونه بعض تصرف أو اختيار ، فلقد فوض ذلك أيضا إليك ، وتجرد من كل اختياره وتصرفه لسلطانك وأمرك . فهو بكل ما أوليته - سواء كان علما أم قلما أم عملا - ملك لأمرك ووقف لتصرفك وإرادتك . وهو وحقك يا مولاي لا يفرق بين نفع له وضر ، ولا يملك لنفسه سعيا إلى خير أو تجنبا عن شر وهو على كل ما لطخه من صفحات كثيرة بمداد القبائح والآثام ، ليس له دونك من غرض أو قصد ، وليس له بغيرك أي طاقة أو حول كل ما سطرته يا إلهي من أول سطر في صحائف حياتي إلى أخره إنما هو نتيجة خطك وتقديرك ، وإنها لسطور كثيرة قد حوت سجل ثلاثين عاماً من عمري الذي مضى ...

الهوامش
(1) السيرة الذاتية ، بديع الزمان سعيد النورسي، اعداد وترجمة احسان قاسم الصالحي ،دار سوزلر ، استانبول 1994.
(2) الموازين، محمد فتح الله كولن ، دار النيل ، القاهرة ، ص136.
(3) معجم مقاييس اللغة، ابن فارس ، ج4 ص 321 .
(4) بهجة المجالس، ابن عبدالبر ، ج 2 ص81 .
(5) روضة المحبين، ابن القيم الجوزية ، ص153 .
(6) روضة المحبين، ابن القيم الجوزية، ص154 .
(7) السيوطي، جامع الاحاديث ج21 ص65 ، الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد،ج12 ص479.
(8) الكلمات ،بديع الزمان سعيد النورسي ، الكلمة 33 ، النافذة 26 .
(9) التلال الزمردية، محمد فتح الله كولن ، دار النيل ، القاهرة ،ص225
(10)التلال الزمردية، محمد فتح الله كولن ،ص221