بايسكل سِكل سِكل



كاظم فنجان الحمامي

كنا نلعب في صغرنا لعبة مستحدثة لم تكن معروفة عندنا في العراق قبل الحرب العالمية الأولى, أو لم تكن معروفة قبل ابتكار الدراجة الهوائية (البايسكل), لعبة صبيانية نركب فيها الدراجات الصغيرة ذات العجلات الثلاث, فنردد أهزوجة شعبية تقول كلماتها:
بايسكل سكل سكل
بايسكل غير شكل
ثم دارت الأهلة دورتها, وتغيرت الأحوال من حال إلى حال, حتى جاء اليوم الذي صار فيه البايسكل من ضمن مشتريات البرلماني العراقي, وكانت معظم بايسكلات البرلمان مستوردة من ألمانيا, فاستبشرنا خيراً, وحمدنا الله وشكرناه على تواضع رجال البرلمان, ونزولهم إلى الشارع بدراجاتهم الهوائية الألمانية, وكنا نظن أنهم سيتخلون نهائياً عن عجلاتهم المصفحة وسياراتهم المدرعة, وسيمتطون سروج الدراجات الهوائية مقتفين أثر الزعيم الصيني الراحل (ماو تسي تونغ), الذي قاد مسيرة الدراجات الهوائية في بلاده ليعبر عن بساطته وتضامنه مع الفقراء, وليؤسس نهضة عمالية كانت فيها الدراجات الهوائية هي الوسائل الرخيصة الأمينة السريعة للتنقل اليومي بين البيت ومكان العمل, أو أنهم سيحاولون تقليد الزعيم الهندي الراحل (المهاتما غاندي) الذي كان ملكاً للدراجات الشعبية في شبه القارة الهندية. .

قال قائل من جماعتنا أنهم تأثروا بدراجة الزعيم الهولندي (مارك روتتي), فالرجل هولندي الأصل والتربية, لا يصوم شهر رمضان, ولا يزكي أمواله, ولا يصلي الصلوات الخمس في أوقاتها, لكنه رجل بسيط متواضع لا تفارقه الابتسامة, يتنقل بدراجته الهوائية من والى مقر عمله, يطوف بها في شوارع المدينة ملتزماً بقوانين المرور, مراعياً لشروط السلامة البيئية, لا يخشى أحد, ولا يعترضه متطفل, يغادر منزله صباحاً, فيتفحص إطارات دراجته الهوائية بنفسه, ثم يركبها بثقة ونشاط, لينطلق بها نحو مقر عمله من دون أن يصدر أي ضجيج, ومن دون أن ترافقه المواكب الاستفزازية المدججة بالسلاح, ومن دون أن يختبئ خلف زجاجها المظلل, ومن دون أن يحيط نفسه بأفواج من ذوي الرؤوس الحليقة والعضلات المفتولة, ومن دون أن ترافقه كوكبة من المركبات الحديثة ذات الدفع الرباعي, وناقل الحركة الخماسي, والأنوار السداسية, و(أم سبع عيون), ومن دون أن يتعمد السير عكس الاتجاهات النظامية. رجل يحترم الناس ويحترمونه, يتبادل معهم التحيات الصباحية ملوحا بيده, يتفقد أحوالهم, ويستطلع مشاكلهم من دون وسيط وبلا تكلف. .

وقال آخر من جماعتنا أن معظمهم من المعجبين برئيس الوزراء البريطاني (ديفيد كاميرون), ودراجته الهوائية التي صارت عنده أسهل وانفع وأسرع في التنقل, ولا تكلفه شيئاً, يصطحب زوجته بدراجتها الهوائية ليذهبا معاً إلى الأسواق الشعبية, يتمتع بحريته الشخصية بين عامة الناس, يمارس حياته الطبيعية بلا حراس, ولا رجال أمن, ولا بودي غارد, ولا يتبعه الانتهازيون والوصوليون, ولا تسمع أهازيجهم الولائية المستنسخة (بالروح بالدم نفديك يا كاميرون), فالرجل يزور الأسواق الشعبية بدراجته, ويتجول بمفرده, ويتعامل معه الناس مثلما يتعاملون مع بعضهم البعض, من دون حواجز ولا موانع ولا فوارق وظيفية أو طبقية. .

وقال المتندرون: أن أعضاء البرلمان سيركبون الدراجات على طريقة الرئيس الأمريكي (أوباما), أو الرئيس الفرنسي المراهق (ساركوزي), أو فلاديمير بوتين, أو جورج بوش الصغير, فالتقليد سيد الإعجاب. .

وقال قائل من مشجعي النوادي الانجليزية لكرة القدم: أنه يرى أن مجموعة كبيرة من جماعتنا سيركبون البايسكلات, ويتجولون في الملاعب الخضراء على طريقة الملياردير (رومان أبراموفتش) مالك نادي تشيلسي الانجليزي. .
وطارت بنا الظنون في فضاءات عالم الفن, فتخيلنا جماعتنا وهم يركبون البايسكلات, ويرددون أغنية كارم محمود (عالبسكليتة), التي غناها عام 1950 مع الفنانة شادية:
شوفي الجمال ده يا بسكليتة
وحدة وحدة يا بسكليتة
من الساعة وحدة للساعة ستة
يا بسكليتة
وكانت من كلمات أبو السعود الأبياري, وألحان عزت الجاهلي, وربما يرددون معاً أغنية فيروز الصغيرة (عالبسكليتة):

لكن ظنوننا ذهبت في مهب الريح, واتضح لنا في نهاية المطاف أن البرلمان العراقي أشترى تلك الدراجات ليوزعها على السعاة, حتى يضمن توزيع البريد الوارد, واستلام البريد الصادر على الطريقة الشائعة بأوربا في القرن التاسع عشر الميلادي أيام الفيلسوف البولندي الراحل (جاك بريجه بيده), وصدق من قال: (عرب وين ؟؟, طنبورة وين ؟؟). . . .