المجاهد البحري عروج

الدكتور محمد موسى الشريف

القسم الأول



لله – تعالى – جنود عظماء يبرزون عندما يأذن الله سبحانه ، في الوقت الذي يشاء ويريد ، لا في الوقت الذي نشاؤه نحن ونريده ، وهؤلاء الجنود يعملون أعمالاً جليلة عظيمة ، وينفع الله – تعالى وجل وعز - بهم نفعاً يتعدى مأمول العباد ، ويكون وراء مطالبهم ، وأكثر من أمانيهم ، وأعظم من طموحاتهم ، ومن هؤلاء الجنود المجاهد البحري العظيم عَرَوج العثماني الذي يعد من أهم القادة البحريين في القرن العاشر الهجري زمن السلطان بايزيد الثاني وابنه سليم الأول ، وإليه الفضل - بعد الله تعالى وجل وعز – في تنظيم حركة الجهاد البحري بعد أن كانت جهوداً فردية مبعثرة.

ولد عَرَوج سنة 875/1470 في جزيرة ميديلي ، وتتبع اليونان اليوم ، واسمها لسبوس ، وقد فتحها السلطان محمد الفاتح رحمه الله تعالى ، وكان أبوه أحد الفرسان الذين استجابوا لأمر السلطان محمد الفاتح للأتراك بالاستيطان في الجزيرة عقب فتحها ، ويسمى يعقوب أغا ، وتزوج امرأة رومية من الجزيرة أنجبت له أربعة أبناء هم إسحق ، وعروج ، وخضر ، وإلياس ، وخضر هذا هو الذي اشتهر بعد ذلك بخير الدين برباروس ، وسآتى على قصته في حلقة أخرى إن شاء الله تعالى.
وحُبب إلى عروج ركوب البحر والتجارة بين البلاد ، واقتنى سفينة تساعده في رحلاته ، فقصد مرة طرابلس الشام مع أخيه الأصغر إلياس فاعترضته سفن فرسان رودس ، وعلى إثر معركة جرت بينهما قتل أخوه إلياس ، وأسر هو وأُخذ إلى رودس مقيداً بالسلاسل فمكث في السجن بضع سنين ، وحاول أخوه بارباروس أن يخلصه من الأسر فأرسل أحد التجار الأوروبيين إلى رودس ليفتديه لكن آسريه لما علموا منزلته بين أهله رفضوا قبول الفدية وضاعفوا من عذابه والأغلال التي تقيده ورموه في زنزانة تحت الأرض ، وفي إحدى الليالي أكثر من مناجاة الله تعالى وبكى ودعا في زنزانته بأن يخلصه الله تعالى حتى غلبه النوم فرأى شيخاً مشرق الوجه قال له :
"يا عروج : لا تحزن بسبب ما أصابك من الأذى في سبيل الإسلام فإن خلاصك قريب".
وفي اليوم التالي أشار أحد قباطنة رودس عليهم بأن يخففوا من تعذيب عروج وخوفهم من العواقب بسبب غضب الأتراك ، فأخرجوه ليعمل في إحدى السفن في البحر ، وفي تلك الأثناء كان الأمير كوركوت أميراً على أنطاليا ، وهو ابن للسلطان بايزيد وأخ للسلطان سليم الأول العثماني ، وكان من عاداته كل سنة أن يفك أسر مائة أسير تركي في سبيل الله وذلك من فرسان جزيرة رودس خاصة ، فاختار الروديسيون مائة أسير لم يكن عروج من بينهم لكنه كان يعمل في التجديف مقيداً في السفينة التي نقلتهم ، فلما رست السفينة في مكان قريب من أنطاليا نزل الأسرى المائة ومعهم مبعوث الأمير كوركوت ، فهبت ريح معاكسة لم تمكن الروديسيين من الإبحار وعم الظلام وانشغل عنه الرديسيون بصيد السمك فاستطاع عروج أن يحل قيوده ويقفز من السفينة ويسبح ناجياً إلى البر فلما وصل سجد شكراً لله تعالى ، ثم استطاع الوصول إلى أنطاليا ، وهنالك وجد بحاراً يملك سفينة يتاجر بها بين الإسكندرية ، وأنطاليا فاشترك معه في إدارة السفينة ووصل إلى الإسكندرية ، وأرسل إلى أخيه خير الدين يبشره بالخلاص من الأسر ، ثم اجتمع به بعد ذلك بعد فراق طويل.

وفي أحد الأيام قال عَرَوج لأخيه :
"لقد رأيت في الليلة الماضية رؤيا صالحة ، رأيت ذلك الشيخ ذا اللحية البيضاء الذي بشرني بالنجاة عندما كنت أسيراً في رودس يقول لي : "يا عروج : توجه إلى الغرب ، إن الله قد كتب لك هناك كثيراً من الغزو والعز والشرف" وهذه الرؤيا جددت عزمه على الجهاد فأوقع بالكفار في مواطن عديدة ، ولما وصل خبر جهاده وجهاد أخيه خير الدين إلى السلطان سليم دعا لهما قائلاً : اللهم بيض وجهي عبديك عَرَوج وخير الدين في الدنيا والآخرة ، اللهم سدد رميتهما ، واخذل أعداءهما ، وانصرهما في البر والبحر" ، وأرسل لهما هدايا كثيرة وسفينتين.

كان البرتغاليون في تلك الأثناء يفسدون المسالك البحرية للمسلمين إلى الهند فيعتدون على سفنهم التجارية ، ويتعرضون للحجاج فيأسرونهم ويقتلونهم ، ويعتدون على السواحل الإسلامية في الهند وشرق افريقيا ، فأراد سلطان المماليك في مصر قانصوه الغوري أن يدرء خطرهم فعين عروج قائداً للأسطول المملوكي لشهرة عروج آنذاك ، وأرسل عروج في ست عشرة سفينة إلى ميناء باياس في خليج الاسكندرون ليحمل من هنالك أخشاباً تساعده على صنع أربعين سفينة تكون نواة للأسطول المملوكي ، لكن الروديسيين علموا بذلك فحاصروا عروج بأسطول كبير دمر سفنه لكنه تمكن من الهرب ، ومن أجل أن ينتقم منهم صنع سفينة متوسطة الحجم صار يغير بها على سواحل رودس ، ولأجل معرفة مدى التوفيق الذي حالفه في صنيعه أسوق نصاً لرئيس دولة رودس ويلقب الأستاذ الأعظم :
"لقد ظهر قرصان يُدعى عَروج رئيس يملك سفنية ذات ثمانية عشر مقعداً لا يكاد ينجو منه أحد ، إنه يقوم بالاستيلاء على أموالنا وإحراق بلادنا ، وكثيراً ما يأسر أطفالنا ويأخذهم إلى طرابلس الشام حيث يبيعهم في أسواقها حتى صرنا لا نقدر على ركوب البحر خوفاً من شره ، لقد كنت حذرتكم وقلت لكم : لا تخرجوا هذا التركى من الزنزانة من تحت الأرض لكنكم لم تسمعوا قولي فأخرجتموه وجعلتموه جدافاً في السفينة ، هيا اذهبوا وتخلصوا منه بسرعة" ، فبحث عنه الروديسيون في كل مكان إلى أن وجدوا سفينته راسية في أحد المراسي فأحرقوها ، لكن عروج تمكن من الهرب إلى أنطاليا ، وأخذوا سفينة عروج إلى ميناء رودس وأعلنوا فرحين أنها سفينة عروج ، لكن الأستاذ الأعظم صرخ بغيظ : "نعم هذه السفينة لعروج لكنه ليس موجوداً فيها".

كان لعروج صديق يُدعى بيالة بيه فشفع له لدى الأمير كوركوت أخي السلطان سليم أن يعوضه سفينة أخرى ففعل الأمير ، وأعطاه بيالة سفنية ثانية هدية ، وأسوق النص المبين لجهاد عروج فقد قال بيالة للأمير :
"إن عروج رئيس عبد من عبيدكم المجاهدين ، وهو يقوم بمجاهدة الكفار ليلاً ونهاراً. لقد انتصر عليهم في معارك كثيرة غير أنه فقد سفينته وهو يرغب في أن تتفضلوا عليه بسفينة يغزو عليها" استلم عروج السفينتين وصار يجاهد بهما الكفار في البحر الأبيض المتوسط ، وتعرض لسفن البندقية فاستفاد منها غنائم كثيرة من الأموال والأسرى والطعام ومواد البناء والحيوانات ، وجدد صلته بسلطان مصر واعتذر له عن احتراق المراكب فعذره السلطان وأكرمه.

وصار عروج يبيع الغنائم في موانئ تونس واتصل بملكها الذي أكرمه وأخاه خير الدين وسمح لهما ببيع غنائمها في موانئ تونس على أن يكون للدولة ثمن الغنائم وجعلا ميناء حلق الوادي في تونس مقرهما الرئيس ، واستمر الأخوان في جهادهما البحري يذيقان الكفار الألم الموجع وقد عبر عن ذلك بعضهم بقوله :
"لقد ظهر تركيان اسمهما عَرَوج وخير الدين خضر ، يجب أن نسحق هاتين الحيتين قبل أن تتحولا إلى تنين ، علينا أن نمحو اسميهما من على وجه الأرض ، إننا إذا أتحنا لهما الفرصة سوف يسببان لنا متاعب كثيرة" وانتشر جهاد عروج في سواحل اسبانيا والبندقية وجنوة وفرنسا ، وتعرض لسفن كل دولة لا تربطها معاهدة مع الدولة العثمانية.

ويكفي عروج شرفاً أنه استطاع بغزواته تلك في البحر أن يؤمن كثيراً من سفن الحجاج البحرية ويردع الأوروبيين المجرمين الذين كانوا كثيراً ما يعترضون سفن الحجاج ويأسرونهم ويبيعونهم رقيقاً ، أو يقتلونهم ، واستمر أخوه على هذا المسار بعد استشهاد عروج فحمى الله - تعالى - بهما الحجاج إلى بيت الله الحرام.

ومما صنعه عروج ويكتب له بمداد من نور – إن شاء الله تعالى – أنه وأخاه خير الدين وبعض رؤساء البحر العثمانيين نقلوا مئات الآلاف من مسلمي الأندلس سراً إلى سواحل شمال افريقيا ، وأنقذوهم من استعباد الاسبان لهم ومنعهم إياهم من إظهار شعائر دينهم وشرائعه ، واستطاع بفضل الله تعالى أن ينقل قرابة 70 ألف مسلم من الأندلس إلى الجزائر ، فازدهرت الجزائر لمهارة الأندلسيين المنتقلين إليها في فنونهم وصناعاتهم.

والمؤرخون الصليبيون يسمون عروج وأخاه ومن معهم قراصنة ، وحاشاهم فما كانوا قراصنة ، فالقراصنة يسرقون ويقتلون لأجل المال ، بل كانوا غزاة مجاهدين ، سعوا لتخليص بلاد المسلمين في شمال أفريقيا من الاحتلال الإسباني ، وتخليص الأندلسيين المضطهدين من الأسر ، فهل هذه الأفعال أفعال قراصنة ، لكن القراصنة الحقيقين كانوا من الأوروبيين الذين ملأوا البحر الأبيض المتوسط شراً وسرقة ونهباً وقتلاً ، ولكن ما الحيلة في المؤرخين الصليبيين وإخوانهم المستشرقين الذي يحرصون على أن يصفونا بما هو بهم ألصق وأولى ، ولا ننسى المثل العربي : "رمتني بدائها وانسلت".

يتبع

عن موقع التاريخ