حيوانات طليقة تستفز البصرة


كاظم فنجان الحمامي

تعيش ضواحي البصرة ومناطقها السكنية مفارقات ديموغرافية عجيبة تجعلنا نتساءل: هل نحن ننتمي فعلاً إلى المدينة المتحضرة, التي ينبغي أن تكون متناغمة مع هويتها المينائية والثقافية والتاريخية ؟. أم ننتمي إلى المدينة المحتضرة في مستنقعات الانتهاكات الحيوانية السافرة ؟. . .
نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
لقد تزايدت أعداد الكلاب السائبة, والقطط الضالة, والأغنام الطليقة, والأبقار المنفلتة, والجرذان الليلية الشرسة, وتحولت شوارع البصرة وأزقتها وفضاءاتها المفتوحة إلى أوكار قذرة للكلاب والقطط, وحظائر عشوائية للأبقار والأغنام, وأحواض آسنة للجواميس النازحة من الأهوار, وملاذ للحمير المتسرحة من الخدمة, حتى صار من المألوف مشاهدة تجمعاتها وقطعانها وهي تجوب المدينة وتعبث بها, غير عابئة بما تسببه من نقل للأمراض, وتهديد للسكان, وتشويه للمناظر العامة, وعرقلة لسير المركبات, وأضرار متعددة الأوجه. .
فعلى الرغم من تذمر الناس وخوفهم من هذا الزحف الحيواني المريع, وعلى الرغم من مزاعم بلدية البصرة بمصادرة المواشي والأغنام المتسكعة في أزقة المدينة وشوارعها, وعلى الرغم من مزاعمها المتكررة بالقضاء على المراعي العشوائية في مركز المدينة, وعلى الرغم من احتجاجات مديرية بيئة البصرة, وعلى الرغم من نداءاتنا التحذيرية المتكررة ظلت الأوضاع على ما هي عليه, وتكررت مواكب المواشي وهي تجوب شارع الوطني وشارع الاستقلال والكورنيش من المناظر اليومية الاعتيادية. .
نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
والانكي من ذلك كله إن الجواميس البرية الضخمة صارت تتهادى في مشيتها المتثاقلة وسط الأحياء المأهولة بالسكان, وتتجول على هواها بين القاعات الدراسية لأكاديمية الخليج العربي للدراسات البحرية, بينما تسللت الحمير الهائمة على وجهها إلى محرمات المؤسسات الحكومية, واستوطنت الكلاب المريضة في الحفر والخرائب والبنايات المهجورة, نراها أحيانا تغمر جسدها في مياه الصرف الصحي, ثم تخرج لتنشر الفضلات والملوثات في كل مكان, تعود بعد ذلك لتفتش عن غذائها في مكبات القمامة المكشوفة. .
حيوانات متوحشة تثير الخوف والهلع في نفوس الناس, وتهدد أطفالهم وشيوخهم, لا نعرف حتى الآن من أين أتت ؟, وكيف تكاثرت ؟. يقول أحد الظرفاء إنها تكاثرت بالانشطار, ويقول آخر إنها وجدت الملاذ الآمن في ظل الإهمال والتغاضي والتدهور الصحي, وفي ظل غياب المعالجات الجذرية الحاسمة. . .
ظاهرة تمثلت بانتشار الكلاب والقطط والجرذان, التي اجتاحت البصرة وسجلت أولى أرقامها القياسية عام 1980, ثم تفاقمت بعد عام 2003 لتتجاوز الحدود المتوقعة, وتدخل مرحلة جديدة بتسلل قطعان الأغنام والماعز والأبقار والثيران إلى وسط المدينة لترعى وحدها أمام منازل السكان, أو بالقرب من المدارس والدوائر الرسمية, أو تتجول في الأسواق الشعبية لتتناول الخضروات الفاسدة والفاكهة المتعفنة. .
كانت الكلاب الضالة تفرض سيطرتها على الشوارع المظلمة, إما اليوم فهي تبسط نفوذها على مملكتها في وضح النهار على عكس المتعارف عليه في السابق, بيد أن الملفت للانتباه إنها لم تعد تسير فرادى, بل في تجمعات مكشوفة, وكأنها تريد إبلاغنا رسالة مفادها: الشارع شارعنا وعلى المتضرر اللجوء إلى بلدية البصرة, أو اللجوء إلى مؤسسات الوقاية الصحية, ولسنا مغالين إذا قلنا إنها باتت تفرض حظرا للتجوال من الغروب إلى الشروق في بعض المناطق الفقيرة, واعتاد أصحاب السيارات على الاستيقاظ صباحاً ليشاهدوا عصابات الكلاب وهي نائمة فوق سياراتهم, ولا يخلو عملها هذا من قضاء حاجتها فوق أسقف المركبات, من دون أن يجرؤ الناس على صرفها والتخلص منها بقذفها بالحجارة, أو بتخويفها بإشارة باليد, أو بإصدار الأصوات العالية, فكلاب اليوم لا تخشى المواطن, ولا تخاف منه. .
نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
قبل بضعة أيام شاهدت كلباً يقيم في أعرق بناية حكومية بالبصرة, فالتقطت له الصور التوثيقية, وكانت من أغرب الصور التي تعكس تردي المستوى الصحي والرقابي, أحيانا تتسل الكلاب الجائعة إلى حدائق بيوتنا من باب الكراج, أو عن طريق القفز فوق السياج, لتمارس هوايتها المحببة في التفتيش عن طعامها في صفائح القمامة, وأحيانا تقتحم مطابخ ربات البيوت بحثا عن الطعام. .
واعتاد الناس على سماع نباحها الجماعي والمنفرد بعد منتصف الليل بأصوات مرعبة تخيف الأطفال, وتزعج الكبار, فتستفز الناس, وتنتهك راحتهم. .
قديما كانت شعبة الوقاية الصحية في البصرة تواصل غاراتها المتكررة لمطاردة الكلاب الضالة فتتخلص منها بالطرق الشائعة في مدن العالم المتحضر, وكانت تواصل حملاتها لمكافحة الجرذان, بينما كانت مفارز شرطة المرور تمنع تحرك قطعان الأغنام والماعز في شوارع المدينة, إما الثيران والجواميس فلا يمكن مشاهدتها إلا في بيئتها الطبيعية في جوف الأهوار, لكنها اليوم ابتعدت كثيراً عن بيئتها, واستوطنت في غفلة من الزمن على ضفاف شط العرب, أو شط البصرة, أو عند مقتربات الموانئ, وانتقلت إلى الفاو, وبين الزبير وأم قصر, وتكاثرت على شكل تجمعات هائلة تهدد الملاحة في الممرات المخصصة للسفن المترددة على الموانئ العراقية في (أبي الفلوس) أو (المعقل), وشوهدت أكثر من مرة عند مقتربات ميناء (خور الزبير), وتتواجد أحياناً عند محرمات معامل الحديد والصلب, ومعامل الأسمدة الكيماوية (القديمة والحديثة) والبتروكيماويات. .
فلا تستغرب بعد الآن إذا رأيتها تتفسح على أرصفة كورنيش البصرة, أو تتجول في شارع المغايز, أو ربما تشاهدها وهي تدخن الأركيلة في كازينو البدر. .
والله يستر من الجايات