خداع النفس ... و ... شفاء النفس (مقال يعود لعام 1973 )
خداع النفس وشفاء النفس موضوع واحد ذو وجهين. والوجه الواحد منه يتناول نواحي متعددة من السلوك البشري تهم الطبيب النفساني والمربي. وخداع النفس سلوك تجارية الإثنان معاً، كما أن شفاء النفس عمل يمارسه الاثنان أيضاً بطرائقها الخاصة. فنقاط بينهما كثيرة. على الرغم من أن هذه المقالة موجهة الى المربين والأساتذة في جميع مراحل الحياة التعليمية والتثقيفية، فما هو المقصود بخداع النفس؟.
إن خلاصة خداع الذات يكمن في قصة النعامة التي تطمر رأسها في الرمل إذا أحست بالخطر وكان من لا يرى لايرى. كذلك الإنسان تصل به الامور الى حالة النعامة دون أن يعي حقيقة عمله فكيف يتم ذلك في نظر علم النفس؟ إن الانسان يتعرض الى عشرات الشدائد والمعضلات في حياته، بعضها بسيط يمكن حلها وتجاوزها وأخرى شديدة لايمكن مواجهتها كما هي فيتعرض الى التوتر والحرج والقلق والاضطراب النفسي وقد لا يجد وسيلة لملاقاة التحدي والتهديد الا بالنسيان الوقتي عن طريق الكبت. الا ان الكبت كالنار المتقدة تحت الرماد. فالكبت ينقل الصراع النفسي الى اللاشعور ويتجاهله مؤقتاً لكن الصراع يبقى في اللاشعور ويصبح عقدة أزلية لا يمكن أن نتحمي من العقل الا بالتعبير عن نفسها بطريقة من الطرق فإذا ما نجحت ورجعت الى مستوى الوعي والشعور كما هي صريحة واضحة عاد الصراع والألم والمرض الى سابق قوته أما اذا رجعت الى الوعي متنكرة بأسلوب مغاير وبشكل آخر فإنها تكون قد ساومت وظهرت بحل جزئي يرفه عن التوتر ويلطف من القلق. وبهذا الحل الجزئي يمكن العقدة من التسلل الى الشعور وتنفذ أغراضها الأصلية دون إيذاء وصراع بل بطريق غير مباشر وهذا هو سر الحيلة النفسية أو (الخدعة النفسية) لأن الحل الوسط أو الاتفاق الجزئي يرضي الطرفين ... الواقع والواجب والأخلاق من ناحية ... والغرائز والأهواء والنزوات من الناحية الأخرى. وبالخدعة النفسية يتحول الكبت من اللاشعور الى الشعور آمناً مطمئناً مقبولاً.
والخدعة النفسية آلية أو وسيلة لعقد أتفاق سلمي بين المقبول والمرفوض بين الشعور واللاشعور أو بين الواقع والخيال. ففي عملية التبرير يقول المثل: "من لا يصل العنب يدعي أنه حامض". أي كلما عجز الإنسان عن تحقيق شيء أو فشل فيه وجد لنفسه المعاذير أو برر عجزه بحجج واهية تخفف عليه وقع الفشل. والطالب الكسول لا ينتقد ذاته بل يتهم استاذه بشتى النواقص التي ادت الى رسوبه. وفي عملية الاسقاط يعكس الفرد مافي جعبته من ميول ورغبات الى الخارج مثل صفحة المرآة فيراها صادرة عن غيره وليست منه. فاذا شك زيد في عمر وكرهه في ضميره قلب الاسقاط الآية وجعله يرى أن عمر هو الذي يشك فيه ويكرهه. والمدرس الفاشل أو الضعيف أو الحاقد يعكس كل ذلك على غيره من طلبة أو زملاء فيراهم يعادونه ويريدون تحطيمه أو يريدون الايقاع به، وهي أوهام نتجت عن عملية الاسقاط.
وفي عملية الابتلاع نجد عكس ذلك أي أن الفرد يمتص ويأخذ من الغير صفاتهم لتكون جزءاً منها وصادرة عنه. فلو أن الآخرين كانوا مذنبين وخاطئين فإن الابتلاع يجعله هو المذنب والمخطئ ومستحق العقاب. ونجد ذلك في الكآبة مثلاً عندما يلوم الانسان نفسه على اعمال لم يرتكبها هو ولم تحدث فعلاً. وفي التسامي تتحول الرغبات الصارخة والميول العدائية أو المنفرة في اللاشعور الى ميول سامية طيبة ومحبوبة. فحب القتل أو الغلبة والسيطرة قد يتسامى الى التخصص في التاريخ أو الانخراط في الجيش أو البروز في الملاكمة والمصارعة، كذلك الصدمات والوحدة والفشل يتسامى به الإنسان الى عمل ديني أو خيري.
وفي الحلم والخيال ينتقل الفرد من الواقع وميدان الكفاح والصراع الى حالة من الاسترخاء ووضع الحلول النظرية والابتعاد عن الناس والواقع الى أن يصل درجة الذهول والعطل الاجتماعي. وفي النكران نجد أن الانسان يتجاهل الوقائع أو يغمض عينيه عنها مثل النعامة وهكذا نجد أن الشاب أو الفتاة المحدودة الذكاء تنكر ضعفها الذهني ولا تتقبل او ترضخ للحقيقة وهي أن سبب رسوبها المستمر في المدرسة هو محدودية قابليتها ويمتد ذلك الى التبرير واتهام المدرسات. وفي الازاحة يحول الانسان عواطفه وأفكاره من الهدف الاصلي والأولي الى ما يشابهه. الشخص الذي يحب إمرأة متزوجة ويدرك أن ذلك عيباً وحراماً وخيانة، يزيح حبه للأم الى حبه لأطفالها فيعطف عليهم ويتابعهم ويشجعهم. والتويض يشبه الازاحة تقريباً فالشخص المصاب بالهزال ولا يستطيع البروز بالرياضة او لا يجتذب اعجاب الزميلات والزملاء لمنظره قد يعوض عن النقص بالبروز في الدروس النظرية او في الكتابة او في الخطابة، أو في القدرة على العمل السياسي أو المحاماة. وفي النكوص يؤدي الصراع بالفرد الى التراجع نحو مراحل سابقة من التطور فالطفل الذي عمره 12 سنة ويصاب بمرض جسمي شديد أو يفقد أحد والديه يتراجع ويتصرف كطفل عمره 5 سنوات فيزيد من دلاله واعتماده على الآخرين ويريد أن ينام بجانب الأم أو الأب وقد يرجع الى التبول في فراشه ليلاً. وفي آلية التشكيل الرجعي نجد عملية معقدة وملتوية للخدعة النفسية. عانس مثلاً تتمنى أن تخطب وتتزوج ولأنها لا تريد الاعتراف بهذه الرغبة الطبيعية أو تراها شيئاً مخالفاً للذوق والأخلاق تقوم بتجنب المجتمع الرجالي وربما تكره الرجال وتنتقدهم واذا صادف أحياناً أن سار رجل وراءها في شارع رجعت الى البيت لتتحدث عن تدهور الاخلاق وكيف أن رجلاً لاحقها وتخلصت منه بصعوبة، بينما رغباتها الحقيقة الدفينة هي أن يلاحقها الرجال فعلاً.
واستطيع أن اجلب امثلة كثيرة من حياتنا اليومية على هذه الخدع النفسية أو ما نسميها بـ(الآليات النفسية الدفاعية). ولنتكلم بصراحة ونقول ما ضرر هذه الوسائل او الحيل؟ الحقيقة أن جميعها مفيدة اذا كانت معتدلة لأنها تحفظ التوازن النفسي وتؤدي الى اطمئنان ذاتي وعمل وانتاج يخلو من الهزات والاضطرابات. فلا ضرر أن يتحول الشخص الاعتدائي العنيف (بالنسامي) الى موسيقار وفنان شهير ولا بأس ان تتحول المرأة الوحيدة الكئيبة (بالازاحة) الى فرد اجتماعي نشيط فتسهم في الجمعيات الخيرية والدفاع المدني والتمريض لنعوض عن وحدتها وصدماتها الخاصة ولامان عان يتحول الكره الى حب وحياد ... ولكن الضرر والخطر عندما تتحول الآليات النفسية الى حيل صرفة ودروع فردية وخدع واهية يؤمن بها الشخص ويتعامل عن طريقها مع الناس الآخرين كالمغرور أو التافه أو الأحمق. الخطر كل الخطر في من يشعر بالنقص والتفاهة فيعوض عنها بالتغطرس والتكبر والظلم ..، وفي ذلك المحروم من العطف أو الأهمية فيجمع النزوة ويتبنى سياسة البخل على غيره من أفراد عائلته أو يضطهد الآخرين بالامراض بالفائدة، وفي ذلك الذي يعشق المتعة والوجاهة والجنس ولكنه يتظاهر بالزهد والتقشف والورع ثم ينتهز أقرب فرصة لكي يشبع شهواته.
كل أنواع السلوك هذه علامات المرض والخلل التي تضر بصاحبها أو بالمجتمع. وخير علاج لها هي "مواجهة الذات ومكاشفتها" لكن كيف؟. قليل من الناس من يتعلم المواجهة وقليل منهم من يصارح ذاته ويقول إنني أفكر وأعمل هكذا لأنني بالحقيقة أحب أو اشتهي أو اكره أو اغار أو اطمع. ولو توصل الإنسان الى هذا المستوى من المواجهة والنضج الفكري لأصبح حكيماً ومبربياً وإمتلك بصيرة تجعل من سيرة حياته نموذجاً للهدوء والراحة والسعادة. الا ان قليلاً من الناس من يضرب في معبد الذات .. أو يواجه نفسه في مرآة الضمير، قلما يعترف كهل مع نفسه أنه كبير ويتظاهر بالشباب والحيوية لجلب انظار الشابات ... وقلما تعترف فتاة جامعية بأنها تغار من زميلاتها لأنها ليست جميلة مثلهن او مجتهدة مثلهن. ويعزى ذلك بالطبع الى أن ما يدور من آليات نفسية يختفي ويتستر وراء اللاشعور في العقل الباطن وفي ميدان التربية والتعليم علينا أن نشجع المواجهة مع الذات فهي الطريق الأسلم نحو صحة عقلية جيدة. ووسائل التربية الحديثة تؤكد على أهمية التوجيه والنوعية والمصارعة والصدق والعطف والعلاقات الخالية من التعقيد والقسوة والامر والنهي. فالتلميذ المثالي هو من صنع المدرس المثالي والاستاذ الذي يتجنب خداع الذات هو الذي ينجح في خلق جيل لا يخدع ذاته ومن هنا تتضح صفات الاستاذ الناجح، الصفات التي ملخصها: أن يعرف الاستاذ نفسه واتجاهاته ونزواته ودوافعه لكي يعرف أياً منها يجب أن يكبح جماحها وأي منها يفيد في توجيه الجيل الجديد وبذلك نتخلص من شوائب العوامل الفردية والشخصية التي تربك وتحرف المنهج السليم في التربية.