الرقي والتعاويذ
القديم يتجدد ( مقال نشر في مجلة العربي الكويتية 1980 )
الرقي والتعاويذ وسائل وحيل غير طبية مختلفة الانواع والأساليب يستعين بها الانسان لدرء المخاطر والأذى عنه، أو لتخفيف معاناته وعذابه من أمراض نفسية أو خبيثة، أو لوقايته من أرواح شريرة وقوى ضارة يتوقع حدوثها أو حلولها فيه والسيطرة على افكاره وسلوكه إستناداً الى عقيدة موغلة في البدائية والقدم هي أن المآزق واضطرابات وانحرافات السلوك والفكر والشعور وحتى الآلام الجسمية والشفاء تعزى الى ارواح شريرة تحيط بالمصاب وتهيمن عليه وتجعله عاجزاً لاحول له ولا طول إلا اذا جاتهته قوى اخرى تكمن في تعويذة او طلسم او نميمة يعدها ويصفها شخص ذو نفوذ ديني أو سحري بدعي بصانع التعاويذ يعمل على طرد وإبعاد تلك الأرواح المؤذية بعد صراع قد يطول أو يقصر. ويلاحظ القارئ أنني راعيت الدقة في التعريف للأسباب والنواحي التالية:-
1- إن الرقي وسائل روحية غير طبية أو غير علمية، اذ لم تدخل لحد الآن في عداد العلاجات الطبية والنفسية المعترف لها ولأنها تستخدم لعلاج شتى الاضطرابات بما في ذلك الضعف الجنسي والعشق.
2- وأنها مختلفة الانواع لأنها كثيرة وتتراوح من مجرد دعاء وكلام وسطور مباركة ومقدمة الى اعقد العمليات النمظمة المحيرة بما في ذلك من طقوس ومراسيم.
3- وأنها ملجأ جذاب ومهم في الوقت ذاته للإنسان الذي يعتبره صحنه الموهوم عند الأخطار والأمراض أو الشعور بمداهمتها فهي إذن لا تقتصر على المرضى من البشر ولا تقتصر على الشخص المهدد بل قد تعد وتحاك ضده من قبل الاعداء والحساد أو تعمل له دون علمه من قبل ذويه ومعارفه حرصاً عليه وشفاء له.
4- وأن من يصنع التعويذة والتميمة شخص مختص أو خبير مؤهل بالوراثة العائلية أو بالتعلم المهني الخاص أو بالممارسة الروحية، الدينية فيكتسب مكانة ونفوذاً خرافياً ساحراً قد لا يتعمده هو أو لا يرغب فيه اذا كان من نوادر من يقوم بالتعاويذ للخير والاحسان ولوجه الله تعالى لا يبتغي جزاءً ولا شكورا، في المدلول اللغوي نقول:-
عاذ به عوذاً، أي التجأ اليه واعتصم به
وأعاذه بالله: حصنه به وبأسمائه
والعوذة: هي التميمة وجمعها عوذ وتمائم
وعوذه: علق عليه العوذة
والرقية: يرقي بها الإنسان من فزع أو جنون
فالرقي والتعاويذ والتمائم إذن حماية وحرز وتحصينات للإنسان ضد شيء مؤذ أو خطير أو مرض جسيم.
جذور وتاريخ:- لعل تاريخ الرقي والتعاويذ قديم جداً لأنها ظهرت قبل الطب القديم بزمن بعيد ثم عاصرته وزاملته وتداخلت معه في أحلاف ثنائية من صداقة وتعاون أو فترات من غض النظر والهدنة والترقب وعدم التحرش، ثم واجهت علم الطب والأطباء والفلاسفة والفقهاء بمواقف وأزمات عصيبة تخللها سجال ونزاع وعداء سائر وإلى يومنا هذا عندما ظهرت بوادر وعلائم جديدة واحاديث خافتة هامة حول إمكانية صحة أو معقولية التعاويذ كما سنتطرق اليه. ولكن كيف بدأت الرقي ولماذا؟ هذا ما لم يدون بدقة كالأحداث التاريخية إلا أن دراسة الحياة الاجتماعية كما كشفت عنها الإثارة والحفريات والدراسات الانتربولوجية والتاريخية والدراسات الثقافية القديمة والحديثة (الانتولوجية Ethnology) القت الضوء على سلوك الانسان القديم ومعتقداته والاطر الاجتماعية والدينية والروحية التي كانت سائدة بين المجموعات المتفرقة من البشر بشكل قبائل صغيرة منتشرة هنا وهناك في ارجاء المعمورة –ولا تزال موجودة- في افريقيا وجزر آسيا الجنوبية وقد تبين أن الرقي والتعاويذ احتلت جزءاً مهماً من السلوك البشري وأفكاره عن الكون والموت والحياة والمرض والجريمة (الخطيئة).
فعندما كان الانسان يدقق في نفسه وفي الكون الغامض المخيف وفي الاخطار التي لا تحصى المحيطة به، كان يجاهد لمعرفة علة الوجود وسر الخليقة ويبحث عن تفسيرات لها. وكانت المجاهيل أمامه كثيرة تعد بالمئات والآلاف إلا أن ما كان يصدمه هو المرض بشتى أنواعه: المرض الجسمي والمرض العقلي وما يحيط بهما من معاني الموت والحياة والخلود والعدم. وهكذا تحتم افتراض وجود القوى الاخرى خارج ارادة الانسان وحسه وقواه. ولما كانت تلك القوى غير مرئية ولا محسوسة فقد أصبحت ظواهر روحية غامضة فما صمموا أن تكون ملموسة أو مرئية شبهوها بالنصب والتماثيل ذات التعابير والأشكال الرمزية القريبة لتكون أستعارة ومجازاً لصورة أو روح الآلهة. والطوطمية ارتبطت بفكرة الخطيئة والحرمات التي آمنت بها بعض القبائل البدائية. والطوطم هو نبات أو حيوان أو شيء جامد (بشكل نصب أو تمثال) يتخذه تلك القبيلة رمزاً وشعاراً مميزاً لها (كأعلام الدول أو الفرق الرياضية المعاصرة) اعتقاداً منها أنه يذكر القبيلة بالمحرمات وأسباب الشر والخطيئة كما أنه يذود عن الفرد كل خطر طالما التزم بتقاليد القبيلة.
وكانت معرفة الكهنة بعلم الهيئة أو الفلك واستعانتهم بالنجوم لاستجلاء الحوادث الطبيعية قد شجعتهم على استطلاع المستقبل والمصير عموماً لأن الظواهر ساعدتهم على معرفة الحوادث الطبيعية من مواسم وفيضانات وكسوف وخسوف وكوارث أخرى. وأصبح علم الفلك باباً إلى علم التنجيم وفي خدمته، وهكذا انسلخ التنجيم من الفلك وأصبح فناً مستقلاً بأيدي الكهنة وقراء المستقبل، واكتسب التنجيم نفوذاً واحتراماً بين عامة الناس لأنه فتح نافذة على المجهول أو هكذا تصوروا. وما يتصوره الإنسان من استقراء المجهول يبث فيه روح الطمأنينة ويهدي من قلقه ومخاوفه. وهكذا نستطيع أن نربط بين الفكر البدائي للطوطمية وكاهن المعبد والعراق وقرابينها التي يطلبناها والعلاجات والتعاويذ، والمنجم والساحر الذي يستطلع النجوم ليعرف المستقبل ويحترز من الكوارث فأصبح السحر صفة خاصة بين المتطببين والدجالين الدهاة. وانفصم السحر عن المعبد وأصبح صفة مدنية، وانتشرت الساحرات في اوروبا كما ذكرنا وتولين اعداد الرقي والتعاويذ والادوية الغريبة والطقوس المذهلة للإيقاع بالناس المساكين والبسطاء الحيارى. وما لبث الوعي العلمي والتنوير ورجال الدين أن شنوا حملة كاسحة لتطهير اوربا من السحرة، وراح نتيجة تلك الحملات المعقبة مئات الضحايا بحكم العدالة العاجلة أو الخاطئة إلا أن مفهوم السحر والرقي والاساليب الروحية بقيت مغروسة وراسخة في الفكر البشري بصور سالبة أو باهتة حتى عادت بشكل موجات شاذة وإجراءات عنيدة من ممارسة السحر والنزق والدعارة والادمان كما حصل لدى جماعات الخنافس، والهيبز في اوربا وأمريكا، وظهر بين تلك الجماعات رؤساء إدعوا السحر والقوى الخارقة.
ويبدو من كل ما تقدم أن الرقي وجدت لتطهير الانسان المريض من الروح الشريرة التي حلت فيه وسببت مرضه او لتطهيره ووقايته من الأثم والخطيئة التي تلبس بهما ولكن الأثم والدنس لم يكونا واضحي المعالم ومحدين. وسنرى كيف اختلطت المشاعر البدائية بالعقائد الوثنية ثم بالتفاسير الدينية ثم بالتفاسير والظواهر المرضية والطبيعية الاخرى لتجعل من معنى الشر والاثم والخطيئة مبهماً ومتشابكاً مبدد الملامح. كان الاجداد المسيحيون مثلاً يتهيئون لصلاة يوم الأحد ويتطهرون حتى بأخذ العقاقير المسهلة والملينة للأمعاء وتنظيف بطونهم من الاوساخ. وكان إذا طال الاباز في الجسم يعتقدون أنه ربما ينتقل من الجسم إلى الرأس فيؤذي الدماغ. وكان يظن أن الانثى تتخلص من الادران بالحيض الشهري.
ظواهر انشطارية:- ومما يدفع بالإنسان إلى التعلق بالرقي والتعاويذ حدوث ظواهر نفسية طبية غريبة، كإزدواج الشخصية أو انشطارها الوقتي خلال برهة سريعة من الزمن، ففي الطب النفسي هناك ظاهرة معروفة تدعى بتبدد الواقع والشخصية أو (إختلال الانية) تحدث في كثير من امراض المصاب والرهاب والذهان. والمثال التالي يوضح ماهو المقصود بها:- يذكر أحد المرضى بلسانه ((... كان هناك شخصان ورأيت نفسي لوحدها في المرآة ولم يكن لها وجههي... كنت أنا وليس أنا ... والذي تكلم لم يكن أنا بل شخصاً آخر... وكنت انظر ولم تكن ذاتي الصغيرة قادرة على التحكم في ذاتي الأخرى المنشغلة بازعاج الآخرين... كان موقفاً رهيباً ...)). مثل هذه الظواهر ورؤية الذات مواجهة وكأنها شخصية مستقلة متكاملة خارجياً تتخذ مظهراً أشد في حالات معينة من نوبات الصرع ومرض الفصام (الشيننروفرنيا). وقد قتل مصاب بالفصام شخصاً غريباً لم يكن يعرفه قط وقال أنه رأى نفسه في ذلك القتيل فأراد أن يقضي عليها فيه. كذلك رأي (دوريان جراي) في قصة اوسكار وايلد نفسه الشريرة في اللوحة أمامه وكأنها تهجم عليه فمزقها ليقضى على ذاته. ويصور (دوستويفسكي) في الاخوة كاراما زوف الازدواجية على لسان (ايفان) وهو يخاطب زائره الشيطاني ..((.. لم أكن اعتبرك حقيقياً ولو لبرهة فأنت كذبة.. وأنت علني.. انت شبح.. لا اعرف كيف احطمك ويخيفني أن اتحملك اكثر من هذا انت وهم انت تجسيد لنفسي.. وبالتحديد ارذل واحمل جزء مني..)) ثم يعود ايفان ليخبر الوسيط معقباً لكنه انا نفسي.. كل ماهو أساسي ومحتقر ومتفسخ في ذاتي. ومعظم الذين كتبوا عن شخصيات مزدوجة أو منشطرة في قصصهم وانتاجهم الأدبي كانوا قد مروا بتجارب ذاتية حقيقية مشابهة مثل دوستويفسكي المصاب بالصرع وسندينديبرج المتفوق صاحب القوى الروحية الاستجلائية كما يتضح ذلك في روايته (الجحيم Inferno) وادجار ألان بو المدمن على الافيون.
إن تلك الظواهر المتداولة ومعاناة عدد من الناس لها وفي الأخص رؤية الانسان لشبح او ظل ذاته أشاع الأعتقاد الشعبي بأنها من علامات الموت أو أن الشبح الثاني المنشطر والمشابه للذات يجب أن يموت وقد يتم القتل فعلاً. أما للذات الأصلية أو للخيالية.. أو أن يكتفي الإنسان باللجوء إلى الرقي والتعاويذ لأنه ايقن أن شبحاً أو روحاً لابد موجودة وتسكن فيه وإلا لما غادرته.
ومرض الوسوسة:- أو الحصر القثري Compulsive obsessive هو أحد أمراض العصاب الذي يصور لنا بوضوح تأثير الشعور بالاثم وعلاقة ذلك بالطقوس والرقي والتعاويذ. وتتلخص الأعراض بأن المريض تداوره أفكار تسلطية غريبة وسيئة وشاذة رغماً عنه، أو يندفع للقيام بأعمال وتصرفات يعتقد أنها سخيفة ولا مبرر لها. ورغم ذلك لا يجد مناصاً من تنفيذها على سخافتها كان يضحك في مجلس عزاء او ترتفع في ذهنه قطعة من اغنية لعبد الحليم حافظ وهو في قاعة المحاضرات، او يلمس اعمدة الكهرباء وهو في طريقه إلى دائرته، او يغسل يديه كلما لمس كتاباً او صافح يداً غريبة.. وقد يغسلها ثلاثاً أو خمساً أو عشراً أو عشرين مرة قبل أن يطمأن ويشعر بالراحة. وهنالك اعراض اكثر وأشد غرابة والمهم في هذا ان التفسير النفسي (الديناميكي) لمثل هذه الاعراض انها ردود أفعال احترازية دفاعية يقوم بها المريض ليشعر بالأمن والراحة ضد شعود دفين (مكبوت) بالخطر أو الأثم. وقد يتولد هذا الشعور بالذنب منذ الطفولة لا شعورياً إلى العقل الباطن إما لأن ترتبيته الوالدين كانت قاسية متزمتة ومركزة على النظافة والوقاية من الاوساخ والتطهر الشديد بعد أي عمل او تواليت، او لأن عقاب الوالدين لهفوة بسيطة بولغ فيه إلى حدود القسوة والعصبية أو لأن العادات السائدة في البيت جامدة صارمة (حرفية) مقننة بحيث يجد الطفل نفسه وقد كبر وأصبح رجلاً ولا يزال يشعر بالذنب لأدنى سبب وأي قول أو فعل يتوهم أنه مخالف للعرف والتقاليد او يجرح شعور الاخرين.
وهكذا تبدأ الوسائل الدفاعية النفسية في مرض الوسواس لتحميه من شدة عذاب الضمير. او من الشرور والاخطاء فيلجاً إلى تلك الافكار والافعال والطقوس المرضية التي ذكرناها وإلى تعليق التعاويذ في رقبته او على باب داره او إحدى حاجياته أو استخدام اشياء منفرة وعتيقة كحذاء ممزق أو نعل فرس أو صورة عين أو رقي يعدها له متطبب أو شيخ او سيد أو رجل دين وكلها وسائل دفاعية رمزية تعوض له عن شعور دفين بالخطيئة او بإتيان فعل حرام غير حقيقي او مبالغ فيه. أو درءاً لعين الحسود. ونلاحظ أن عملية طرد الارواح الشريرة والوقاية من غضب الآلهة الناقمة بالطقوس والرقي والتعاويذ كان يقابلها منذ القدم عمليات التملك Possession من قبل الآلهة والارواح الطاهرة الخيرة. أي أن الجماعات البشرية البدائية وحتى بعض الناس المتحضرين والمنتمين إلى فرق دينية مسيحية تقوم بطقوس خاصة من موسيقى ورقص وتصفيق وترتيل وصياح لأجل حلول الروح المطببة في الفرد (سواء أكان مريضاً ام شخصاً سوياً يتوق إلى المزيد من التطهر والتسامي..) ويلقب الشخص الذي تحل فيه الروح الطيبة (بالمأخوذ).
ولا تزال تجري هذه الطقوس بين قبائل جنوبي السودان وفي جزر هاييتي وترينداد وفي كينيا وزامبيا والبرازيل والولايات المتحدة حيث ينتهي الاحتفال الديني بالذهول والاعتماد والارتخاء والاستلقاء على الأرض ثم الافاقة في حالة نشاط وفعالية وشعور بالصحة والعافية والطهر أي الخلاص من الادران وامتلاك الروح الطيبة. وتجري إلى يومنا هذا في مقاطعة (كارولينا الشمالية) في امريكا طقوس ملامسة وتناول الافاعي واللعب فيها –وبعضها سامة- اعتقاداً بما جاء في (انجيل مرقس) من أن الايمان يحمي الانسان من الشر.