دور الأديان السماوية:- إن الاديان السماوية انقذت البشر المهتدين من ضلالة الجهالة وادخلت في قلوبهم الايمان والطمأنينة بعزوها ظواهر الكون والحياة والسلوك البشري إلى القوة الالهية الواحدة وبذلك حاربت الخرافة والوثنية والسحر والدجل.. بل شجعت بصورة مباشرة أو غير مباشرة التفكير العلمي. وكان ذلك واضحاً في الدين الاسلامي الذي لم يتعارض بجوهره مع العلم ولم يدخل في ازمة حقيقية او كبيرة ومع ذلك فإن بعض الافكار والاجتهادات والوقائع –وربما الانحرافات- بعد مرور مرحلة الرسل وحياتهم شجعت الناس على اللجوء إلى الرقي والتعاويذ. ولإيضاح ذلك نذكر مثلاً ما حدث في المسيحية. فالتخلص من الادران والآلام والتوصل إلى الطهر والعفاف جاءت مؤكدة لفكرة الخطيئة الاولى التي انتعشت في المسيحية ودعمها الكاثوليكية بعدئذ بالاعترافات وتوسط القساوسة بين الانسان والرب كما حصلت من رجل الدين في مكانة العراق القديم الذي يساعد على رفع وتخفيف الخطيئة.
وقد ساد في الكنيسة المسيحية مفهوم امكانية طرد الارواح الشريرة من الناس الذين سيطرت عليهم. وقد طرد نفسه من الشياطين بكلمة وامر منه وكان ذلك علامة حلول مملكة الرب وتتبع ذلك قانون كنسي بطرد الشياطين بأسم المسيح. وفي الغرب يحتم القانون الكنسي الحصول على موافقة الكاردينال قبل إجراء التعويذة على المصاب (وليس من الضروري تحصيل الموافقة في حالة العزائم على الامكنة) وقد تسرع وانتظم إجراء طرد الارواح الشريرة في القانون الكنسي منذ عام 1151م.. وهو اعتراف ضمني من الكنيسة بأن عملية طرد الروح تتخللها خطورة او ينتج عنها ضرر للمصاب بالعلة. ولا يشترط في القائم على التعويذة ان يكون رجل دين او قسيساً. اما الاسلام فإنه اكد على ان الانبياء بشر مثلنا وأن محمداً (صلى الله عليه وسلم) ليس ساحراً وأن الثقافة هي استرحام ورجاء من الله عز وجل.. وان الانسان له من العقل ما يميز به الخير والشر.. اما الجن والشياطين فقد ورد ذكرها في القرآن الكريم ومعصيته ابليس وخطيئته الكبرى.. ثم اغواؤه وأعوانه من الجن للإنسان اعادت للفكر البشري ذكرى الأرواح الشريرة واحتمال اضرارها بالانسان والايقاع به فعلاً.
وانتشرت بعدئذ عادة زيارة الاضرحة المقدسة وكذلك تقديم التبرعات والحسنات درءاً لعين الحسود او جلياً للطابع الحسن. وتطور ذلك إلى عقد الاشرطة ونتف الملابس الشخصية على جدران واسوار الاضرحة هنا وهناك، والى تعليق الثلاثة والعلب الصغيرة الحاوية على اوراق مكتوب عليها آيات من الذكر الحكيم او الكلام المقدس تيمناً وبركة، وهكذا نجد من محصلة الجذور الدينية والتاريخية والثقافية والدراسات النفسية والطبية الحديثة التي استعرضناها ان الانسان لجأ إلى الرقي والتعاويذ –وكذا العزائم- لأسباب مختلفة:-
1- الوثنية الجاهلية كما نعرفها بوضوح اكثر في عصر ما قبل الاسلام عندما لجأ الناس إلى الآلهة المختلفة وعبدوها خوفاً او تطيراً أو تفاؤلاً، وأضفوا على الحيوان والجماد قوى سحرية حيوية تكمن فيها من مصائب وخير وشر.
2- التطير والتفاؤل من علامات ورموز واسماء وحيوانات وظواهر تحدث في الحياة اليومية وتتوارثها الاجيال لتصبح مصدر قلق ورهبة وتثير في الانسان نوازع الحذر والدفاع والحيطة سواء بالنذور او بالعبادة والعزائم او بزيادرة الاماكن المقدسة باعداد الرقي والتعاويذ من قبل شخوص متنفذة روحياً أو دينياً او ذوي سمعة شعبية (سحرية).
3- واستمرت هذه الافكار الموروثة على قوتها ونفوذها رغم أن الاسلام حارب التطير واعتبره محمد (صلى الله عليه وسلم) نوعاً من الشرك.
4- ومن هذا التطير والتشاؤم ظلت الخرافات القديمة سائدة بشكل أو بآخر تتزيا بزي العصر وتحتفظ بروح القدم أو البراءة. فالشعور بالأثم والاهتمام بالظواهر الطبيعية الخارقة (الفلكية) والهلع من حوادث معينة كان موجوداً من عهد الفراعنة والبابليين والاشوريين منذ آلاف السنين، وكان الفرد البابلي إذا شعر بخطر موهوم او بمرض هرع إلى الكاهن والمعبد ليقدم القرابين ويطلب البركة والعزائم والرقي والتمائم.
5- الخوف من المرض أو الرغبة في الشفاء لأن المرض النفسي لا يزال من المجاهيل العلمية كما أن المرض الجسمي المستعصي يثير الرهبة والوسوسة ويدفع الانسان إلى الالحاح بالتفكير بأسباب خارقة وغامضة او بعوامل شيطانية وخبيثة مرتبطة بمفاهيم الخير والشر والعقاب والتفكير.
6- وهي وسيلة للهجوم من اجل الدفاع، أي أن التميمة قد يعدها الإنسان ضد غيره لتلبسه بالمشاكل والمضاعفات فينفي شره او ينتقم من عدوه وهنا يبرز دور الدعاة من السحرة والمشعوذين.
7- أو أن التميمة وسيلة تطمينية للإنسان تقيه الكوارث والأزمات –لو حدثت- وتجلب له الخير دون أن يكون مصاباً بشيء في ذلك الحين. وقد يتمادى في هذا المنحنى إلى العمل على إحلال الروح الطيبة فيه بالجذب والتوسل والطقوس الخاصة والتعاويذ.
8- ولا نستغرب حسب نظرية يونج في علم النفس أن الانسان المعاصر قد يحمل كل ما ذكرناه من دوافع ويختزنها في عقل (سلالي- أثري) هو أعمق من اللاشعور الفرويدي.
تفسير نفسي للتعاويذ:- رغم تطرقنا إلى دوافع الانسان للتعلق بالرقي فإنها عسيرة من حيث كيفية عملها وتأثيرها على علم النفس الحديث والطب النفسي، صحيح أن المصائب البشرية والاخطار المحدقة والمرض العقلي والنفسي تدفع الانسان المتحضر في القرن العشرين أحياناً إلى البحث عن الاحتراز والخلاص في تعويذة يستلمها من صانع الرقي، إلا ان علينا تفسير ذلك في ضوء علم النفس الحديث وكيف تنجح الرقي أحياناً في شفاء البعض وهل لذلك نصيب من أي علم معروف لدينا لحد الآن ام نكتفي بذريعة الصدفة؟
1- إن دور الايحاء لا يمكن تجاهله في مفعول التعاويذ، فمعروف في الطبابة ان بعض الأدوية تنجح نفسياً قبل أن تعمل بمفعولها الكيميائي في الجسم، كما أن معاملة الطبيب الانسانية وكلامه الرقيق وعطفه يريح المريض قبل الدواء ويمكن أن تعزي إلى حمل الرقي من قبل الانسان دوراً ايحائياً مطمئناً يبث فيه روح المقاومة والشجاعة واللامبالاة تجاه مسببات القلق وعواقبه الاخرى.
2- إن الرقي والتعاويذ وما يصاحب العزائم من إجراءات وطقوس تضع الانسان في موقف التوجس والترقب والتوتر الذي يؤدي إلى نوع من عملية التطهير او التنفيس، اشبه بالتنفيس خلال الاعترافات الدينية او خلال العلاج النفسي او حفلات الزار والرقص البدائي العنيف عند القبائل القديمة، فالتعويذة تطلق العنان للانفعالات الحبيسة وبذلك يتم الشفاء.
3- وفي اعقاب الحرب العالمية الاولى ثار الجدل بين (بروان) من جهة و (مكدوجل ويوبخ) من جهة اخرىعن كيفية علاج الازدواجية. وكان المثل الذي اصبح مدار النقاش هو (ما ملأ القلب سال من الفم). واتفقوا أن الحادث المؤلم العنيف يؤدي إلى الانشطار أحياناً وأنما يظهر في الحلم كحيوان شرس أو شبح مفيف. واقترح مكدوجل أن يكون العلاج بالتئام وجبر لانشطار وإعادة المزدوج إلى الواحد. وتوصل فرويد إلى هذا الرأي قبله وذلك بتبنيه اسلوب التحليل النفسي في الكشف عن العقد المكبوتة والتطهير. ولعل في آلية واسلوب التعويذة شيئاً من الجبر والالتحام وحلاً لعقدة الكبت -Undoing- كما يبدو.
4- ويمكن القول أن التعويذة تنجح فقط عندما تؤدي إلى نوع من التفاهم والوئام بين الشخص والآخرين الذين كان يشعر نحوهم بالغربة نتيجة شعوره بامتلاك التعويذة، اما انها تطرد الروح الشريرة فهو ما لا يمكن التكهن به والجزم بصحته.
نظرة نقدية للرقي:- وبعد فلا بد أن نتساءل عن موقف الفكري البشري إلى الرقي والتعاويذ وخاصة في حقل علوم النفس والاجتماع والفيزياء. لقد جرت ندوة حول الموضوع في الاذاعة البريطانية عام 1979 شارك فيها اطباء نفسيون وروحانيون وباحثون اجتماعيون ومرضى (مأخوذون) وما سأذكره هنا نتف مما جرى ونتف مما أرى ويراه غيري من المهتمين بالموضوع ولنتناول الموضوع بالمنطق والحياد والعلمية المتيسرة لدينا حسب التدرج التالي:-
1- إن الظواهر الازدواجية والانشطارية في مجال الطب النفسي وذكر الشياطين والجن في الاديان السماوية، والازمات النفسية الحادة، والوسوسة الشديدة، لايمكن أن تمنع الانسان او تمنعه عن التفكير بإحتمال وجودارواح شريرة وطيبة.
2- ان ممارسي الرقي والتعاويذ من الرصينين الخيرين يعتقدون فعلاً بوجود الروح الشريرة ويفرقون بين ما هو روحي وما هو نفسي وماذا في جعبتنا لدحض هذا الادعاء واثبات عدم وجودها؟ حتى العلم يعجز عن تفسير كل ظواهر الكون المعروفة والمدركة من كهرباء ومفناطيس وسرعة وحركة...، أفلا ينطبق ذلك إذن على شخصية الإنسان؟
3- ان التعاويذ نقطة التقاء بين الطب وعلم النفس والدين وما وراء الطبيعة، فهي تؤكد أولاً- وجود الله، وثانياً- وجود كيان غير مادي يدعى بالروح، وثالثاً- ان للأرواح حرية التنقل من مكان إلى آخر. ولو شئنا معرفة اصناف تلك الارواح لجاز ان نقول انها من صنفين:-
أ‌- أرواح صرفة (نقية) كالملائكة والشياطين.
ب‌- أرواح (منسلخة) عن كيان مادي سابق (مخلوق) كإنسان أو حيوان.
وإذا جاز لنا تفسير تنقلها وتواجدها في أماكن مختلفة (ممنوعة وغير ممنوعة) فهي على نوعين:
أ‌- تنقل في أماكن تعاودها وتزورها Haunting وعندئذ يطلق على ذلك المكان بأنه مسكون.
ب‌- تنقل وحلول في انسان او حيوان ... وعندئذ يطلق على ذلك المخلوق بأنه مأخوذ Possessed.
4- وجاء ذكر الروح والأنس والجن والشياطين في القرآن الكريم ولا يمكن أن نطبق المعايير الحسية والعلمية القاصرة المحدودة على قضايا المعرفة والالهية الواسعة العظيمة. كذلك فإن مسألة الحياة بعد الموت ... والبعث ... والآخرة وانسلاخ الروح عن الجسد هي أمور دينية وليست مجرد فلسفية ميتافيزيقية. إذن لا يمكن نفيها أو دحضها.
5- اما موقف الطب النفسي وعلم النفس فواضح تجاه الشعوذة والخرافة والدخل.. ومختبرات العلوم الطبية مشغولة بمحاولة الكشف عن تغيرات كيمياوية وعصبية مسببة للمرض العقلي ودور الوراثة والجينات فيها فلا نتوقع منها أن تستسلم بسهولة وتعزو المرض النفسي إلى الارواح ففي ذلك رجوع إلى نظريات وعقائد قديمة ترعرعت في مراحل غير علمية. إلا أن الشيء المنطقي الوحيد الذي يربط بين علم النفس الحديث وعالم الارواح وغير المحسوسات هو فرع جديد دعي بعلم النفس الجانبي او الخوارق (الباراسايكولوجي) لأنه يبحث في قضايا الاحساس والادراك والافعال غير الاعتيادية كقراءة الافكار (التخاطر) ورؤية الاشياء على أبعاد شاسعة والتنبؤ بالمستقبل وتحريك الجماد عن بعد ... الخ.
6- لذلك يعلق بعض علماء النفس على قضايا الارواح ووجودها بأنها قد تكون ميداناً آخر يشابه الباراسايكولوجي، واننا لا نعرف عنه ما فيه الكفاية ولا يمكننا نفيه قطعاً. فالحقيقة اكبر من حصرها في إطار معرفتنا الحالية، والقوانين المتعارف عليها هي ليست كل القوانين، إن البعد المادي والقياس الحسي ليس البعد الوحيد. وإذا كانت الامراض النفسية والفعلية مسميات وعناوين لأعراض وظواهر فلماذا ألا نعترف بأننا نجهل حقيقة ما يجري داخل العقل ولماذا لا يجوز الحلول الروحي في الشخصيات المزدوجة أو ذوي الوساوس؟
كل هاته الملاحظات النقدية الهادئة يجب أن لا تقلقنا من ناحية ولا تقعدنا عن مواصلة البحث العلمي أو التساهل في محاربة الدجل والخرافة، لأن المنهج العلمي لا يتنكر للظواهر الشاذة أو غير المألوفة فوراً، وانفعالاً ولا يتجاهلها تغابياً وعجزاً ... لكنه ككل تنظيم وتشريع حضاري معاصر يحارب استغلال الانسان بحجة احتمال شيء في خدعة الناس
بالرقي والتعاويذ ولا يمكن ان نسترسل أكثر من هذا... فما هو مجهول اكثر بكثير مما هو معروف ....!