آفــــــــــــاق (( نشرت في مجلة الكلية الطبية 1950 )
يقول فولتير: ((إن الذين يكتفون بما يقرأون في المدارس هم الاطفال الذين لا يعرفون ان يتحدثوا إلا مع مربياتهم .. )). وما أكثر الذين يكتفون بما يقرأون في المدارس عندنا ( ) . إنها حقيقة مؤلمة جداً أن يكون الطالب الجامعي وكذلك الطالبة على السواء محدود الأفق ضحل الثقافة لا يعرف الا ما يخص دراسته فقط. إن الحياة ليست الكلية فقط وإن الثقافة ليست المعلومات الدراسية فقط. إن الحياة اوسع من هذا بكثير وإن الفرد الذي يريد ان يتفهم حياته يجب أن يكون أفقه اوسع من دراسته بكثير. أليس من المؤسف أن لا يعرف طالب الطب إلا طبه والهندسة إلا هندسته .. والعسكرية إلا معلوماته الحربية؟ نعم إن من الواجب على الطالب أن يتقن عمله وفنه ولكن من الواجب عليه كذلك أن يدرس حياته ومجتمعه الذي يعيش فيه وأن يدرك ما يجري فيهما.
إن الطالب الجامعي هو عنصر فكري في المجتمع الذي يعيش فيه، والمجتمع المتقدم الناهض يحتاج الى عناصر فكرية ناضجة كل النضوج، واعية كل الوعي.. فالطالب الذي يساهم في تكوين وتوجيه المجتمع الذي يعيش فيه يجب أن يكون ذا عقلية وثقافة تؤهلانه لذلك. ولكن الذي يؤسف له حقاً أن ثقافة الطالب الجامعي لا تتعدى المجلات المصورة والجرائد وأقاصيص الحب والغرام ... أما علوم الاجتماع .. وأما المبادئ الحديثة .. وأما علم النفس .. وأما التيارات الإقتصادية والسياسية .. وأما المدارس الفكرية والفلسفية الحديثة فهي بعيدة عن هواه يكاد ان لا يعرف عنها الا الأسم فقط، فكيف نأمل إذاً أن ينهض مجتمع المتعلمون فيه كالأطفال كما يقول فولتير أن الاحداث العالمية اليوم تدور كلها حول المجتمعات البشرية واندفاعاتها وغاياتها ولم تكن فكرة المجتمع متبلورة واضحة مثلما هي عليه الآن. والنظام الاجتماعي الذي يسري في أية بقعة معينة من الارض ليس مستقلاً بذاته بل هو يؤثر في غيره ويتأثر بغيره .. أي ان المجتمعات المختلفة تتفاعل مع بعضها، فتتفق أو تتنافس ومن محصلة ذلك تتجه الحضارة العالمية والحياة الانسانية وجهة خاصة. وللمجتمع الواحد فوة داخلية تدفعة الى هذا الطريق او ذاك أو الى الامام او الوراء أو بالأحرى أن المجتمع الواحد له عقل ذاتي وإرادة ذاتية وإن هذا العقل يسيّر المجتمع ويقرر طبيعته ويقرر تصرفاته تجاه غيره من المجتمعات وأن تصرفاته تجاه المجتمعات الأخرى لتؤثر في محصلة الاتجاه الحضاري والحياة الإنسانية.
ونفهم من هذا أن المجتمع لأجل أن يكون ذا امكانية واسعة ولأجل أن يكون فعالا وسانداً مع الركاب العالمي يجب أن يكون له عقل واع وأفق واسع يستطيع بهما أن يدرك التيارات التي في داخله والتيارات التي تدور حوله في خضم الحياة البشرية وعندئذ يستطيع أن يسلك سبلاً تجلب له الخير والنفع وتكون في صالح البشرية جمعاء. ومجتمعنا الحاضر في حاجة الى قوة واعية مفكرة توجهه وتدير دفته في خضم عال هائج. والطلاب الجامعيون والمتخرجون منها هم بدون شك يؤلفون أغلبية الطبقة المتعلمة في هذا البلد، فهم المسؤولون عن طبيعة مجتمعهم واتجاهاته. وان هذه المسؤولية تحتم عليهم ان يخرجوا من عالم دراستهم الضيق فيكتنزوا ذخيرة فكرية دسمة ثم ينطلقوا في الحياة الواسعة ليتفهموها وليدركوا ما يسري فيها من أمواج لأنهم هم بحارة السفينة - سفينة مجتمعهم – وعليهم ان يقودوها في وسط اعاصير من البشرية الحائرة ...